177 و من خطبة له ع
انْتَفِعُوا بِبَيَانِ اللَّهِ وَ اتَّعِظُوا بِمَوَاعِظِ اللَّهِ- وَ اقْبَلُوا نَصِيحَةَ اللَّهِ- فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْذَرَ إِلَيْكُمْ بِالْجَلِيَّةِ وَ أَخَذَ عَلَيْكُمُ الْحُجَّةَ- وَ بَيَّنَ لَكُمْ مَحَابَّهُ مِنَ الْأَعْمَالِ وَ مَكَارِهَهُ مِنْهَا- لِتَتَّبِعُوا هَذِهِ وَ تَجْتَنِبُوا هَذِهِ- فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ص كَانَ يَقُولُ- إِنَّ الْجَنَّةَ حُفَّتْ بِالْمَكَارِهِ- وَ إِنَّ النَّارَ حُفَّتْ بِالشَّهَوَاتِ- وَ اعْلَمُوا أَنَّهُ مَا مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ شَيْءٌ إِلَّا يَأْتِي فِي كُرْهٍ- وَ مَا مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ شَيْءٌ إِلَّا يَأْتِي فِي شَهْوَةٍ- فَرَحِمَ اللَّهُ امْرَأً نَزَعَ عَنْ شَهْوَتِهِ وَ قَمَعَ هَوَى نَفْسِهِ- فَإِنَّ هَذِهِ النَّفْسَ أَبْعَدُ شَيْءٍ مَنْزِعاً- وَ إِنَّهَا لَا تَزَالُ تَنْزِعُ إِلَى مَعْصِيَةٍ فِي هَوًى- وَ اعْلَمُوا عِبَادَ اللَّهِ أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يُمْسِي وَ لَا يُصْبِحُ- إِلَّا وَ نَفْسُهُ ظَنُونٌ عِنْدَهُ- فَلَا يَزَالُ زَارِياً عَلَيْهَا وَ مُسْتَزِيداً لَهَا- فَكُونُوا كَالسَّابِقِينَ قَبْلَكُمْ وَ الْمَاضِينَ أَمَامَكُمْ- قَوَّضُوا مِنَ الدُّنْيَا تَقْوِيضَ الرَّاحِلِ وَ طَوَوْهَا طَيَّ الْمَنَازِلِ أعذر إليكم- أوضح عذره في عقابكم إذا خالفتم أوامره- و الجلية اليقين- و إنما أعذر إليهم بذلك- لأنه مكنهم من العلم اليقيني بتوحيده و عدله- و أوجب عليهم ذلك في عقولهم- فإذا تركوه ساغ في الحكمة تعذيبهم و عقوبتهم- فكأنه قد أبان لهم عذره أن لو قالوا لم تعاقبنا- . و محابه من الأعمال هي الطاعات التي يحبها- و حبه لها إرادة وقوعها من المكلفين- و مكارهه من الأعمال القبائح التي يكرهها منهم- و هذا الكلام حجة لأصحابنا على المجبرة- و الخبر الذي رواه ع مروي في كتب المحدثين- و هو قول رسول الله ص حجبت الجنة بالمكاره و حفت النار بالشهوات- و من المحدثين من يرويه حفت فيهما- و ليس منهم من يرويه حجبت في النار- و ذلك لأن لفظ الحجاب- إنما يستعمل فيما يرام دخوله- و ولوجه لمكان النفع فيه- و يقال حجب زيد عن مأدبة الأمير- و لا يقال حجب زيد عن الحبس- .
ثم ذكر ع أنه لا طاعة إلا في أمر تكرهه النفس- و لا معصية إلا بمواقعة أمر تحبه النفس و هذا حق- لأن الإنسان ما لم يكن متردد الدواعي لا يصح التكليف- و إنما تتردد الدواعي إذا أمر بما فيه مشقة- أو نهي عما فيه لذة و منفعة- . فإن قلت أ ليس قد أمر الإنسان بالنكاح و هو لذة- قلت ما فيه من ضرر الإنفاق- و معالجة أخلاق النساء يربي على اللذة الحاصلة فيه مرارا- . ثم قال ع رحم الله امرأ نزع عن شهوته أي أقلع- . و قمع هوى نفسه أي قهره- . ثم قال فإن هذه النفس أبعد شيء منزعا أي مذهبا- قال أبو ذؤيب
و النفس راغبة إذا رغبتها
و إذا ترد إلى قليل تقنع
و من الكلامالمروي عنه ع و يروى أيضا عن غيره أيها الناس إن هذه النفوس طلعة- فإلا تقدعوها تنزع بكم إلى شر غاية- . و قال الشاعر-
و ما النفس إلا حيث يجعلها الفتى
فإن أطمعت تاقت و إلا تسلت
ثم قال ع نفس المؤمن ظنون عنده- الظنون البئر التي لا يدرى أ فيها ماء أم لا- فالمؤمن لا يصبح و لا يمسي إلا و هو على حذر من نفسه- معتقدا فيها التقصير و التضجيع في الطاعة- غير قاطع على صلاحها و سلامة عاقبتها- . و زاريا عليها عائبا زريت عليه عبت- . ثم أمرهم بالتأسي بمن كان قبلهم- و هم الذين قوضوا من الدنيا خيامهم أي نقضوها- و طووا أيام العمر كما يطوي المسافر منازل طريقه: وَ اعْلَمُوا أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ هُوَ النَّاصِحُ الَّذِي لَا يَغُشُّ- وَ الْهَادِي الَّذِي لَا يُضِلُّ وَ الْمُحَدِّثُ الَّذِي لَا يَكْذِبُ- وَ مَا جَالَسَ هَذَا الْقُرْآنَ أَحَدٌ إِلَّا قَامَ عَنْهُ بِزِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ- زِيَادَةٍ فِي هُدًى أَوْ نُقْصَانٍ مِنْ عَمًى- وَ اعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى أَحَدٍ بَعْدَ الْقُرْآنِ مِنْ فَاقَةٍ- وَ لَا لِأَحَدٍ قَبْلَ الْقُرْآنِ مِنْغِنًى- فَاسْتَشْفُوهُ مِنْ أَدْوَائِكُمْ- وَ اسْتَعِينُوا بِهِ عَلَى لَأْوَائِكُمْ- فَإِنَّ فِيهِ شِفَاءً مِنْ أَكْبَرِ الدَّاءِ- وَ هُوَ الْكُفْرُ وَ النِّفَاقُ وَ الْغَيُّ وَ الضَّلَالُ- فَاسْأَلُوا اللَّهَ بِهِ وَ تَوَجَّهُوا إِلَيْهِ بِحُبِّهِ- وَ لَا تَسْأَلُوا بِهِ خَلْقَهُ- إِنَّهُ مَا تَوَجَّهَ الْعِبَادُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمِثْلِهِ- وَ اعْلَمُوا أَنَّهُ شَافِعٌ مُشَفَّعٌ وَ قَائِلٌ مُصَدَّقٌ- وَ أَنَّهُ مَنْ شَفَعَ لَهُ الْقُرْآنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُفِّعَ فِيهِ- وَ مَنْ مَحَلَ بِهِ الْقُرْآنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صُدِّقَ عَلَيْهِ- فَإِنَّهُ يُنَادِي مُنَادٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ- أَلَا إِنَّ كُلَّ حَارِثٍ مُبْتَلًى فِي حَرْثِهِ وَ عَاقِبَةِ عَمَلِهِ- غَيْرَ حَرَثِةِ الْقُرْآنِ- فَكُونُوا مِنْ حَرَثَتِهِ وَ أَتْبَاعِهِ- وَ اسْتَدِلُّوهُ عَلَى رَبِّكُمْ وَ اسْتَنْصِحُوهُ عَلَى أَنْفُسِكُمْ- وَ اتَّهِمُوا عَلَيْهِ آرَاءَكُمْ وَ اسْتَغِشُّوا فِيهِ أَهْوَاءَكُمْ غشه يغشه بالضم غشا خلاف نصحه- و اللأواء الشدة- . و شفع له القرآن شفاعة بالفتح- و هو مما يغلط فيه العامة فيكسرونه- و كذلك تبعت كذا بكذا أتبعته مفتوح أيضا- .
و محل به إلى السلطان قال عنه ما يضره- كأنه جعل القرآن يمحل يوم القيامة عند الله بقوم- أي يقول عنهم شرا و يشفع عند الله لقوم- أي يثني عليهم خيرا- . و الحارث المكتسب و الحرث الكسب- و حرثة القرآن المتاجرون به الله- . و استنصحوه على أنفسكم- أي إذا أشار عليكم بأمر- و أشارت عليكم أنفسكم بأمر يخالفه- .فاقبلوا مشورة القرآن دون مشورة أنفسكم- و كذلك معنى قوله- و اتهموا عليه آراءكم و استغشوا فيه أهواءكم
فصل في القرآن و ذكر الآثار التي وردت بفضله
و اعلم أن هذا الفصل- من أحسن ما ورد في تعظيم القرآن و إجلاله- و قد قال الناس في هذا الباب فأكثروا- . و من الكلام المروي عن أمير المؤمنين ع في ذكر القرآن أيضا مارواه ابن قتيبة في كتاب عيون الأخبار عنه ع أيضا و هو مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة- ريحها طيب و طعمها طيب- و مثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن- كمثل التمرة طعمها طيب و لا ريح لها- و مثل الفاجر الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة- ريحها طيب و طعمها مر- و مثل الفاجر الذي لا يقرأ القرآن مثل الحنظلة طعمها مر- و ريحها منتنةو قال الحسن رحمه الله قراء القرآن ثلاثة- رجل اتخذه بضاعة فنقله من مصر إلى مصر- يطلب به ما عند الناس- و رجل حفظ حروفه و ضيع حدوده- و استدر به الولاة و استطال به على أهل بلاده- و قد كثر الله هذا الضرب من حملة القرآن- لا كثرهم الله- و رجل قرأ القرآن فبدأ بما يعلم من دواء القرآن- فوضعه على داء قلبه فسهر ليله- و انهملت عيناه و تسربل بالخشوع و ارتدى بالحزن- فبذاك و أمثاله يسقى الناس الغيث- و ينزل النصر و يدفع البلاء- و الله لهذا الضرب من حملة القرآن أعز- و أقل من الكبريت الأحمروفي الحديث المرفوع إن من تعظيم جلال الله إكرام ذي الشيبة في الإسلام- و إكرام الإمام العادل و إكرام حملة القرآنوفي الخبر المرفوع أيضا لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو- فإني أخاف أن يناله العدو- . و كانت الصحابة تكره بيع المصاحف و تراه عظيما- و كانوا يكرهون أن يأخذ المعلم على تعليم القرآن أجرا- . وكان ابن عباس يقول إذا وقعت في آل حم- وقعت في روضات دمثات أتأنق فيهنو قال ابن مسعود لكل شيء ديباجة و ديباجة القرآن آل حمقيل لابن عباس أ يجوز أن يحلى المصحف بالذهب و الفضة- فقال حليته في جوفهوقال النبي ص أصفر البيوت جوف صفر من كتاب الله
– و قال الشعبي إياكم و تفسير القرآن- فإن الذي يفسره إنما يحدث عن الله- .
الحسن رحمه الله رحم الله امرأ عرض نفسه و عمله على كتاب الله فإن وافق حمد الله و سأله الزيادة- و إن خالف أعتب و راجع من قريب- . حفظ عمر بن الخطاب سورة البقرة فنحر و أطعم- .وفد غالب بن صعصعة على علي ع و معه ابنه الفرزدق- فقال له من أنت فقال غالب بن صعصعة المجاشعي- قال ذو الإبل الكثيرة قال نعم- قال ما فعلت إبلك- قال أذهبتها النوائب و ذعذعتها الحقوق- قال ذاك خير سبلها-
ثم قال يا أبا الأخطل من هذا الغلام معك- قال ابني و هو شاعر- قال علمه القرآن فهو خير له من الشعر- فكان ذلك في نفس الفرزدق حتى قيد نفسه- و آلى ألا يحل قيده حتى يحفظ القرآن- فما حله حتى حفظه و ذلك قوله-
و ما صب رجلي في حديد مجاشع
مع القد إلا حاجة لي أريدها
قلت تحت قوله ع يا أبا الأخطل- قبل أن يعلم أن ذلك الغلام ولده و أنه شاعر سر غامض- و يكاد يكون إخبارا عن غيب فليلمح- . الفضيل بن عياض- بلغني أن صاحب القرآن إذا وقف على معصية- خرج القرآن من جوفه فاعتزل ناحية و قال أ لهذا حملتني- . قلت و هذا القول على سبيل المثل- و التخويف من مواقعة المعاصي لمن يحفظ القرآن- .أنس قال قال لي رسول الله ص يا ابن أم سليم- لا تغفل عن قراءة القرآن صباحا و مساء- فإن القرآن يحيي القلب الميت- و ينهى عن الفحشاء و المنكر- .
كان سفيان الثوري إذا دخل شهر رمضان ترك جميع العبادة- و أقبل على قراءة القرآن من المصحف- .كعب الأحبار قال الله تعالى لموسى ع- مثل كتاب محمد في الكتب مثل سقاء فيه لبن- كلما مخضته استخرجت منه زبدا- . أسلم الخواص كنت أقرأ القرآن- فلا أجد له حلاوة فقلت لنفسي يا أسلم- اقرأ القرآن كأنك تسمعه من رسول الله ص- فجاءت حلاوة قليلة- فقلت اقرأه كأنك تسمعه من جبرئيل ع فازدادت الحلاوة- فقلت اقرأه كأنك تسمعه من الله عز و جل حين تكلم به- فجاءت الحلاوة كلها- .
بعض أرباب القلوب- إن الناس يجمزون في قراءة القرآن ما خلا المحبين- فإن لهم خان إشارات إذا مروا به نزلوا- يريد آيات من القرآن يقفون عندها فيفكرون فيها- .في الحديث المرفوع ما من شفيع من ملك و لا نبي و لا غيرهما- أفضل من القرآنوفي الحديث المرفوع أيضا من قرأ القرآن ثم رأى أن أحدا أوتي أفضل مما أوتي- فقد استصغر عظمة اللهوجاء في بعض الآثار إن الله تعالى خلق بعض القرآن قبل أن يخلق آدم- و قرأه على الملائكة- فقالوا طوبى لأمة ينزل عليها هذا- و طوبى لأجواف تحمل هذا- و طوبى لألسنة تنطق بهذا
وقال النبي ص إن القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد- قيل يا رسول الله و ما جلاؤها- قال قراءة القرآن و ذكر الموت
وعنه ع ما أذن الله لشيء أذنه لنبي حسن الترنم بالقرآنوعنه ع إن ربكم لأشد أذنا إلى قارئ القرآن- من صاحب القينة إلى قينته
وعنه ع أنت تقرأ القرآن ما نهاك- فإذا لم ينهك فلست تقرؤهابن مسعود رحمه الله ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذ الناس نائمون- و بنهاره إذ الناس مفطرون- و بحزنه إذ الناس يفرحون- و ببكائه إذ الناس يضحكون- و بخشوعه إذ الناس يختالون- و ينبغي لحامل القرآن أن يكون سكيتا زميتا لينا- و لا ينبغي أن يكون جافيا و لا مماريا- و لا صياحا و لا حديدا و لا صخابا- .
بعض السلف- إن العبد ليفتتح سورة فتصلي عليه حتى يفرغ منها- و إن العبد ليفتتح سورة فتلعنه حتى يفرغ منها- قيل كيف ذاك قال إذا أحل حلالها- و حرم حرامها صلت عليه و إلا لعنته- .ابن مسعود أنزل الله عليهم القرآن ليعملوا به- فاتخذوا دراسته عملا- إن أحدهم ليقرأ القرآن من فاتحته- إلى خاتمته ما يسقط منه حرفا- و قد أسقط العمل بهابن عباس لأن أقرأ البقرة و آل عمران أرتلهما و أتدبرهما- أحب إلي من أن أقرأ القرآن كله هذرمة- .
ثابت البناني كابدت في القرآن عشرين سنة- و تنعمت به عشرين سنةالْعَمَلَ الْعَمَلَ ثُمَّ النِّهَايَةَ النِّهَايَةَ- وَ الِاسْتِقَامَةَ الِاسْتِقَامَةَ ثُمَّ الصَّبْرَ الصَّبْرَ وَ الْوَرَعَ الْوَرَعَ- إِنَّ لَكُمْ نِهَايَةً فَانْتَهُوا إِلَى نِهَايَتِكُمْ- وَ إِنَّ لَكُمْ عَلَماً فَاهْتَدُوا بِعَلَمِكُمْ- وَ إِنَّ لِلْإِسْلَامِ غَايَةً فَانْتَهُوا إِلَى غَايَتِهِ- وَ اخْرُجُوا إِلَى اللَّهِ مِمَّا افْتَرَضَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَقِّهِ- وَ بَيَّنَ لَكُمْ مِنْ وَظَائِفِهِ- أَنَا شَاهِدٌ لَكُمْ وَ حَجِيجٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْكُمْ- أَلَا وَ إِنَّ الْقَدَرَ السَّابِقَ قَدْ وَقَعَ- وَ الْقَضَاءَ الْمَاضِيَ قَدْ تَوَرَّدَ- وَ إِنِّي مُتَكَلِّمٌ بِعِدَةِ اللَّهِ وَ حُجَّتِهِ- قَالَ اللَّهُ جَلَّ ذِكْرُهُ- إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا- تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَ لا تَحْزَنُوا- وَ أَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِالَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ- وَ قَدْ قُلْتُمْ رَبُّنَا اللَّهُ فَاسْتَقِيمُوا عَلَى كِتَابِهِ- وَ عَلَى مِنْهَاجِ أَمْرِهِ وَ عَلَى الطَّرِيقَةِ الصَّالِحَةِ مِنْ عِبَادَتِهِ- ثُمَّ لَا تَمْرُقُوا مِنْهَا وَ لَا تَبْتَدِعُوا فِيهَا- وَ لَا تُخَالِفُوا عَنْهَا- فَإِنَّ أَهْلَ الْمُرُوقِ مُنْقَطَعٌ بِهِمْ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ النصب على الإغراء- و حقيقته فعل مقدر أي الزموا العمل- و كرر الاسم لينوب أحد اللفظين عن الفعل المقدر- و الأشبه أن يكون اللفظ الأول هو القائم مقام الفعل- لأنه في رتبته- أمرهم بلزوم العمل ثم أمرهم بمراعاة العاقبة و الخاتمة- و عبر عنها بالنهاية- و هي آخر أحوال المكلف التي يفارق الدنيا عليها- إما مؤمنا أو كافرا أو فاسقا- و الفعل المقدر هاهنا راعوا- و أحسنوا و أصلحوا و نحو ذلك- . ثم أمرهم بالاستقامة و أن يلزموها و هي أداء الفرائض- .
ثم أمرهم بالصبر عليها و ملازمته و بملازمة الورع- . ثم شرع بعد هذا الكلام المجمل في تفصيله فقال- إن لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم- و هذالفظ رسول الله ص أيها الناس إن لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم- و إن لكم غاية فانتهوا إلى غايتكم- و المراد بالنهاية و الغاية- أن يموت الإنسان على توبة من فعل القبيح- و الإخلال بالواجب- . ثم أمرهم بالاهتداء بالعلم المنصوب لهم- و إنما يعني نفسه ع- . ثم ذكر أن للإسلام غاية و أمرهم بالانتهاء إليها- و هي أداء الواجبات و اجتناب المقبحات- .
ثم أوضح ذلك بقوله- و اخرجوا إلى الله مما افترض عليكم من حقه- و بين لكممن وظائفه- فكشف بهذا الكلام معنى الغاية التي أجملها أولا- ثم ذكر أنه شاهد لهم و محاج يوم القيامة عنهم- و هذا إشارة إلى قوله تعالى- يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ- . و حجيج فعيل بمعنى فاعل و إنما سمى نفسه حجيجا عنهم- و إن لم يكن ذلك الموقف موقف مخاصمة لأنه إذا شهد لهم- فكأنه أثبت لهم الحجة فصار محاجا عنهم- . قوله ع ألا و إن القدر السابق قد وقع- يشير به إلى خلافته- . و هذه الخطبة من أوائل الخطب- التي خطب بها أيام بويع بعد قتل عثمان- و في هذا إشارة إلى أن رسول الله ص قد أخبره- أن الأمر سيفضى إليه منتهى عمره و عند انقضاء أجله- .
ثم أخبرهم أنه سيتكلم بوعد الله تعالى- و محجته على عباده في قوله- إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا… الآية- و معنى الآية أن الله تعالى وعد الذين أقروا بالربوبية- و لم يقتصروا على الإقرار- بل عقبوا ذلك بالاستقامة أن ينزل عليهم الملائكة- عند موتهم بالبشرى- و لفظة ثم للتراخي- و الاستقامة مفضلة على الإقرار باللسان- لأن الشأن كله في الاستقامة و نحوها قوله تعالى- إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ- ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا- أي ثم ثبتوا على الإقرار و مقتضياته- و الاستقامة هاهنا- هي الاستقامة الفعلية شافعة للاستقامة القولية- و قد اختلف فيه قول أمير المؤمنين ع و أبي بكر- فقال أمير المؤمنين ع أدوا الفرائض- و قال أبو بكر استمروا على التوحيد- .
و روي أن أبا بكر تلاها و قال ما تقولون فيها- فقالوا لم يذنبوا فقال حملتم الأمر على أشده- فقالوا قل قال لم يرجعوا إلى عبادة الأوثان- و رأي أبي بكر في هذا الموضع إن ثبت عنه- يؤكد مذهب الإرجاء- و قول أمير المؤمنين ع يؤكد مذهب أصحابنا- . وروى سفيان بن عبد الله الثقفي قال قلت يا رسول الله أخبرني بأمر أعتصم به- فقال قل لا إله إلا الله ثم استقم- فقلت ما أخوف ما تخافه علي فقال هذا- و أخذ بلسان نفسه صو تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ عند الموت- أو في القبر أو عند النشور- . و أَلَّا تَخافُوا أن بمعنى أي- أو تكون خفيفة من الثقيلة- و أصله أنه لا تخافوا و الهاء ضمير الشأن- .
و قد فسر أمير المؤمنين الاستقامة المشترطة في الآية- فقال قد أقررتم بأن الله ربكم استقيموا على كتابه- و على منهاج أمره و على الطريقة الصالحة من عبادته- . لا تمرقوا منها مرق السهم إذا خرج من الرمية مروقا- . و لا تبتدعوا لا تحدثوا ما لم يأت به الكتاب و السنة- . و لا تخالفوا عنها تقول خالفت عن الطريق أي عدلت عنها- . قال فإن أهل المروق منقطع بهم بفتح الطاء- انقطع بزيد بضم الهمزة فهو منقطع به- إذا لم يجد بلاغا و وصولا إلى المقصد:
ثُمَّ إِيَّاكُمْ وَ تَهْزِيعَ الْأَخْلَاقِ وَ تَصْرِيفَهَا- وَ اجْعَلُوا اللِّسَانَ وَاحِداً وَ لْيَخْزُنِ الرَّجُلُ لِسَانَهُ- فَإِنَّ هَذَا اللِّسَانَ جَمُوحٌ بِصَاحِبِهِ- وَ اللَّهِ مَا أَرَى عَبْداً يَتَّقِي تَقْوَى تَنْفَعُهُ حَتَّى يَخْتَزِنَ لِسَانَهُ- وَ إِنَّ لِسَانَ الْمُؤْمِنِ مِنْ وَرَاءِ قَلْبِهِ- وَ إِنَّ قَلْبَ الْمُنَافِقِ مِنْ وَرَاءِ لِسَانِهِ- لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِكَلَامٍ تَدَبَّرَهُ فِي نَفْسِهِ- فَإِنْ كَانَ خَيْراً أَبْدَاهُ وَ إِنْ كَانَ شَرّاً وَارَاهُ- وَ إِنَّ الْمُنَافِقَ يَتَكَلَّمُ بِمَا أَتَى عَلَى لِسَانِهِ- لَا يَدْرِي مَا ذَا لَهُ وَ مَا ذَا عَلَيْهِ- وَ لَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ص- لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ- وَ لَا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ- فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَلْقَى اللَّهَ سُبْحَانَهُ- وَ هُوَ نَقِيُّ الرَّاحَةِ مِنْ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَ أَمْوَالِهِمْ- سَلِيمُ اللِّسَانِ مِنْ أَعْرَاضِهِمْ فَلْيَفْعَلْ تهزيع الأخلاق تغييرها- و أصل الهزع الكسر- أسد مهزع يكسر الأعناق و يرض العظام- و لما كان المتصرف بخلقه- الناقل له من حال قد أعدم سمته الأولى- كما يعدم الكاسر صورة المكسور- اشتركا في مسمى شامل لهما- فاستعمل التهزيع في الخلق للتغيير و التبديل مجازا- . قوله و اجعلوا اللسان واحدا- نهى عن النفاق و استعمال الوجهين- . قال و ليخزن الرجل لسانه أي ليحبسه- فإن اللسان يجمح بصاحبه فيلقيه في الهلكة- .
ثم ذكر أنه لا يرى التقوى نافعة إلا مع حبس اللسان- قال فإن لسان المؤمن وراء قلبه- و قلب الأحمق وراء لسانه و شرح ذلك و بينه- . فإن قلت المسموع المعروف- لسان العاقل من وراء قلبه- و قلب الأحمق وراء لسانه- كيف نقله إلى المؤمن و المنافق- . قلت لأنه قل أن يكون المنافق إلا أحمق- و قل أن يكون العاقل إلا مؤمنا- فلأكثرية ذلك استعمل لفظ المؤمن و أراد العاقل- و لفظ المنافق و أراد الأحمق- . ثم روى الخبر المذكور عن النبي ص و هو مشهور- .
ثم أمرهم بالاجتهاد في أن يلقوا الله تعالى- و كل منهم نقي الراحة من دماء المسلمين و أموالهم- سليم اللسان من أعراضهم- وقد قال النبي ص إنما المسلم من سلم المسلمون من لسانه و يده- فسلامتهم من لسانه سلامة أعراضهم- و سلامتهم من يده سلامة دمائهم و أموالهم- و انتصاب تهزيع على التحذير- و حقيقته تقدير فعل- و صورته جنبوا أنفسكم تهزيع الأخلاق- فإياكم قائم مقام أنفسكم- و الواو عوض عن الفعل المقدر- و أكثر ما يجيء بالواو و قد جاء بغير واو في قول الشاعر-
إياك إياك المراء فإنه
إلى الشر دعاء و للشر جالب
و كان يقال ينبغي للعاقل أن يتمسك بست خصال- فإنها من المروءة- أن يحفظ دينه و يصون عرضه و يصل رحمه و يحمي جاره- و يرعى حقوق إخوانه و يخزن عن البذاء لسانه- وفي الخبر المرفوع من كفي شر قبقبه و ذبذبه و لقلقه دخل الجنة- .فالقبقب البطن و الذبذب الفرج و اللقلق اللسان- .
و قال بعض الحكماء- من علم أن لسانه جارحة من جوارحه أقل من اعتمالها- و استقبح تحريكها- كما يستقبح تحريك رأسه أو منكبه دائما: وَ اعْلَمُوا عِبَادَ اللَّهِ أَنَّ الْمُؤْمِنَ يَسْتَحِلُّ الْعَامَ- مَا اسْتَحَلَّ عَاماً أَوَّلَ وَ يُحَرِّمُ الْعَامَ مَا حَرَّمَ عَاماً أَوَّلَ- وَ أَنَّ مَا أَحْدَثَ النَّاسُ لَا يُحِلُّ لَكُمْ شَيْئاً- مِمَّا حُرِّمَ عَلَيْكُمْ- وَ لَكِنَّ الْحَلَالَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ وَ الْحَرَامَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ- فَقَدْ جَرَّبْتُمُ الْأُمُورَ وَ ضَرَّسْتُمُوهَا- وَ وُعِظْتُمْ بِمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ وَ ضُرِبَتِ الْأَمْثَالُ لَكُمْ- وَ دُعِيتُمْ إِلَى الْأَمْرِ الْوَاضِحِ فَلَا يَصَمُّ عَنْ ذَلِكَ إِلَّا أَصَمُّ- وَ لَا يَعْمَى عَنْهُ إِلَّا أَعْمَى- وَ مَنْ لَمْ يَنْفَعْهُ اللَّهُ بِالْبَلَاءِ وَ التَّجَارِبِ- لَمْ يَنْتَفِعْ بِشَيْءٍ مِنَ الْعِظَةِ وَ أَتَاهُ التَّقْصِيرُ مِنْ أَمَامِهِ- حَتَّى يَعْرِفَ مَا أَنْكَرَ وَ يُنْكِرَ مَا عَرَفَ- فَإِنَّ النَّاسَ رَجُلَانِ مُتَّبِعٌ شِرْعَةً وَ مُبْتَدِعٌ بِدْعَةً- لَيْسَ مَعَهُ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بُرْهَانُ سُنَّةٍ وَ لَا ضِيَاءُ حُجَّةٍ يقول إن الأحكام الشرعية- لا يجوز بعد ثبوت الأدلة عليها من طريق النص- أن تنقض باجتهاد و قياس- بل كل ما ورد به النص تتبع مورد النص فيه- فما استحللته عاما أول فهو في هذا العام حلال لك- و كذلك القول في التحريم- و هذا هو مذهب أكثر أصحابنا- أن النص مقدم على القياس- و قد ذكرناه في كتبنا في أصول الفقه- . و أول هاهنا لا ينصرف لأنه صفة على وزن أفعل- .
و قال إن ما أحدث الناس لا يحل لكم شيئا مما حرم عليكم- أي ما أحدثوه من القياس و الاجتهاد- و ليس هذا بقادح في القياس- و لكنه مانع من تقديمه على النص و هكذا يقول أصحابنا- . قوله و ضرستموها بالتشديد- أي أحكمتموها تجربة و ممارسة- يقال قد ضرسته الحرب و رجل مضرس- . قوله فلا يصم عن ذلك إلا أصم- أي لا يصم عنه إلا من هو حقيق أن يقال عنه إنه أصم- كما تقول ما يجهل هذا الأمر إلا جاهل- أي بالغ في الجهل- .
ثم قال من لم ينفعه الله بالبلاء- أي بالامتحان و التجربة لم تنفعه المواعظ- و جاءه النقص من بين يديه- حتى يتخيل فيما أنكره أنه قد عرفه- و ينكر ما قد كان عارفا به- و سمى اعتقاد العرفان و تخيله عرفانا على المجاز- . ثم قسم الناس إلى رجلين- إما متبع طريقة و منهاجا أو مبتدع ما لا يعرف- و ليس بيده حجة فالأول المحق و الثاني المبطل- . و الشرعة المنهاج و البرهان الحجة: فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَعِظْ أَحَداً بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ- فَإِنَّهُ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ وَ سَبَبُهُ الْأَمِينُ- وَ فِيهِ رَبِيعُ الْقَلْبِ وَ يَنَابِيعُ الْعِلْمِ- وَ مَا لِلْقَلْبِ جَلَاءٌ غَيْرُهُ مَعَ أَنَّهُ قَدْ ذَهَبَ الْمُتَذَكِّرُونَ- وَ بَقِيَ النَّاسُونَ أَوِ الْمُتَنَاسُونَ- فَإِذَا رَأَيْتُمْ خَيْراً فَأَعِينُوا عَلَيْهِ- وَ إِذَا رَأَيْتُمْ شَرّاً فَاذْهَبُوا عَنْهُ- فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ص كَانَ يَقُولُ- يَا ابْنَ آدَمَ اعْمَلِ الْخَيْرَ وَ دَعِ الشَّرَّ- فَإِذَا أَنْتَ جَوَادٌ قَاصِدٌ
إنما جعله حبل الله- لأن الحبل ينجو من تعلق به من هوة- و القرآن ينجو من الضلال من يتعلق به- . و جعله متينا أي قويا لأنه لا انقطاع له أبدا- و هذه غاية المتانة و القوة- . و متن الشيء بالضم أي صلب و قوي- و سببه الأمين مثل حبله المتين- و إنما خالف بين اللفظين على قاعدة الخطابة- . و فيه ربيع القلب- لأن القلب يحيا به كما تحيا الأنعام برعي الربيع- . و ينابيع العلم- لأن العلم منه يتفرع كما يخرج الماء من الينبوع- و يتفرع إلى الجداول- و الجلاء بالكسر مصدر جلوت السيف- يقول- لا جلاء لصدأ القلوب من الشبهات و الغفلات إلا القرآن- . ثم قال إن المتذكرين قد ذهبوا و ماتوا- و بقي الناسون الذين لا علوم لهم- أو المتناسون الذين عندهم العلوم- و يتكلفون إظهار الجهل لأغراض دنيوية تعرض لهم- و روي و المتناسون بالواو- .
ثم قال أعينوا على الخير إذا رأيتموه- بتحسينه عند فاعله و بدفع الأمور المانعة عنه- و بتسهيل أسبابه و تسنية سبله- و إذا رأيتم الشر فاذهبوا عنه- و لا تقاربوه و لا تقيموا أنفسكم في مقام الراضي به- الموافق على فعله ثم روى لهم الخبر- . و الجواد القاصد السهل السير- لا سريع يتعب بسرعته و لا بطيء يفوت الغرض ببطئه: أَلَا وَ إِنَّ الظُّلْمَ ثَلَاثَةٌ- فَظُلْمٌ لَا يُغْفَرُ وَ ظُلْمٌ لَا يُتْرَكُ- وَ ظُلْمٌ مَغْفُورٌ لَا يُطْلَبُ- فَأَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي لَا يُغْفَرُ فَالشِّرْكُ بِاللَّهِ- قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ- وَ أَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي يُغْفَرُ- فَظُلْمُ الْعَبْدِ نَفْسَهُ عِنْدَ بَعْضِ الْهَنَاتِ- وَ أَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي لَا يُتْرَكُ- فَظُلْمُ الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ بَعْضاً- الْقِصَاصُ هُنَاكَ شَدِيدٌ لَيْسَ هُوَ جَرْحاً بِاْلمُدَى- وَ لَا ضَرْباً بِالسِّيَاطِ وَ لَكِنَّهُ مَا يُسْتَصْغَرُ ذَلِكَ مَعَهُ- فَإِيَّاكُمْ وَ التَّلَوُّنَ فِي دِينِ اللَّهِ- فَإِنَّ جَمَاعَةً فِيمَا تَكْرَهُونَ مِنَ الْحَقِّ- خَيْرٌ مِنْ فُرْقَةٍ فِيمَا تُحِبُّونَ مِنَ الْبَاطِلِ- وَ إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يُعْطِ أَحَداً بِفُرْقَةٍ خَيْراً مِمَّنْ مَضَى- وَ لَا مِمَّنْ بَقِيَ- يَا أَيُّهَا النَّاسُ- طُوبَى لِمَنْ شَغَلَهُ عَيْبُهُ عَنْ عُيُوبِ النَّاسِ- وَ طُوبَى لِمَنْ لَزِمَ بَيْتَهُ وَ أَكَلَ قُوتَهُ- وَ اشْتَغَلَ بِطَاعَةِ رَبِّهِ وَ بَكَى عَلَى خَطِيئَتِهِ- فَكَانَ مِنْ نَفْسِهِ فِي شُغُلٍ وَ النَّاسُ مِنْهُ فِي رَاحَةٍ قسمع الظلم ثلاثة أقسام- أحدها ظلم لا يغفر و هو الشرك بالله- أي أن يموت الإنسان مصرا على الشرك- و يجب عند أصحابنا أن يكون أراد الكبائر- و إن لم يذكرها لأن حكمها حكم الشرك عندهم- .
و ثانيها الهنات المغفورة و هي صغائر الذنوب- هكذا يفسر أصحابنا كلامه ع- . و ثالثها ما يتعلق بحقوق البشر بعضهم على بعض- فإن ذلك لا يتركه الله هملا- بل لا بد من عقاب فاعله- و إنما أفرد هذا القسم مع دخوله في القسم الأول- لتميزه بكونه متعلقا بحقوق بني آدم بعضهم على بعض- و ليس الأول كذلك- . فإن قلت لفظه ع مطابق للآية- و هي قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ- وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ- و الآية و لفظه ع صريحان في مذهب المرجئة- لأنكم إذا فسرتم قوله لمن يشاء- بأن المراد به أرباب التوبة قيل لكم- فالمشركون هكذا حالهم يقبل الله توبتهم- و يسقط عقاب شركهم بها- فلأي معنى خصص المشيئة بالقسم الثاني و هو ما دون الشرك- و هل هذا إلا تصريح بأن الشرك لا يغفر لمن مات عليه- و ما دونه من المعاصي إذا مات الإنسان عليه- لا يقطع له بالعقاب و لا لغيره بل أمره إلى الله- .
قلت الأصوب في هذا الموضع- ألا يجعل قوله لمن يشاء معنيا به التائبون- بل نقول- المراد أن الله لا يستر في موقف القيامة من مات مشركا- بل يفضحه على رءوس الأشهاد كما قال تعالى- وَ يَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ- . و أما من مات على كبيرة من أهل الإسلام- فإن الله تعالى يستره في الموقف و لا يفضحه بين الخلائق- و إن كان من أهل النار- و يكون معنى المغفرة في هذه الآية الستر- و تغطية حال العاصي في موقف الحشر- و قد يكون من أهل الكبائر- ممن يقر بالإسلاملعظيم كبائره جدا- فيفضحه الله تعالى في الموقف كما يفضح المشرك- فهذا معنى قوله وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ- . فأما الكلام المطول في تأويلات هذه الآية- فمذكور في كتبنا الكلامية- .
و اعلم أنه لا تعلق للمرجئة و لا جدوى عليهم من عموم لفظ الآية- لأنهم قد وافقونا على أن الفلسفي غير مغفور له و ليس بمشرك- فإذا أراد بقوله تعالى- إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ- و من جرى مجرى المشركين قيل لهم و نحن نقول- إن الزاني و القاتل يجريان مجرى المشركين- كما أجريتم الفلاسفة مجرى المشركين- فلا تنكروا علينا ما لم تنكروه على أنفسكم- . ثم ذكر ع أن القصاص في الآخرة شديد- ليس كما يعهده الناس من عقاب الدنيا الذي هو ضرب السوط- و غايته أن يذوق الإنسان طعم الحديد- و هو معنى قوله جرحا بالمدى جمع مدية و هي السكين- بل هو شيء آخر عظيم لا يعبر النطق عن كنهه و شدة نكاله و ألمه
فصل في الآثار الواردة في شديد عذاب جهنم
قال الأوزاعي في مواعظه للمنصور
روي لي عن رسول الله ص لو أن ثوبا من ثياب أهل النار- علق بين السماء و الأرض لأحرق أهل الأرض قاطبة- فكيف بمن يتقمصه- و لو أن ذنوبا من حميم جهنم صب على ماء الأرض كله- لأجنه حتى لا يستطيع مخلوق شربه- فكيف بمن يتجرعه- و لو أن حلقة من سلاسل النار وضعت على جبل- لذاب كما يذوب الرصاص- فكيف بمن يسلك فيها و يرد فضلها على عاتقه وروى أبو هريرة عن النبي ص لو كان في هذا المسجد مائة ألف أو يزيدون- و أخرج إليهم رجل من النار فتنفس و أصابهم نفسه- لأحرق المسجد و من فيه وروي أن رسول الله ص قال لجبريل- ما لي لا أرى ميكائيل ضاحكا- قال إن ميكائيل لم يضحك منذ خلقت النار و رآهاوعنه ص لما أسري بي سمعت هدة- فسألت جبريل عنها فقال حجر أرسله الله من شفير جهنم- فهو يهوي منذ سبعين خريفا حتى بلغ الآن فيهوروي عن النبي ص في قوله تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَ هُمْ فِيها كالِحُونَ- قال تتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه- و تسترخي شفته السفلى حتى تضرب سرتهوروى عبيد بن عمير الليثي عنه ع لتزفرن جهنم زفرة لا يبقى ملك و لا نبي- إلا خر مرتعدة فرائصه- حتى إن إبراهيم الخليل ليجثو على ركبتيه فيقول- يا رب إني لا أسألك إلا نفسيأبو سعيد الخدري مرفوعا لو ضربت جبال الدنيا بمقمع من تلك المقامع الحديد- لصارت غبارا- .
الحسن البصري قال- الأغلال لم تجعل في أعناق أهل النار- لأنهم أعجزوا الرب- و لكن إذا أصابهم اللهب أرسبتهم في النار- ثم خر الحسن صعقا و قال و دموعه تتحادر- يا ابن آدم نفسك نفسك- فإنما هي نفس واحدة إن نجت نجوت- و إن هلكت لم ينفعك من نجا- . طاوس أيها الناس- إن النار لما خلقت طارت أفئدة الملائكة- فلما خلقتم سكنت- .
مطرف بن الشخير- إنكم لتذكرون الجنة- و إن ذكر النار قد حال بيني و بين أن أسأل الله الجنة- . منصور بن عمار يا من البعوضة تقلقه و البقة تسهره- أ مثلك يقوى على وهج السعير- أو تطيق صفحة خده لفح سمومها- و رقة أحشائه خشونة ضريعها- و رطوبة كبده تجرع غساقها- . قيل لعطاء السلمي- أ يسرك أن يقال لك- قع في جهنم فتحرق فتذهب- فلا تبعث أبدا لا إليها و لا إلى غيرها- فقال و الله الذي لا إله إلا هو لو سمعت أن يقال لي- لظننت أني أموت فرحا قبل أن يقال لي ذلك- . الحسن و الله ما يقدر العباد قدر حرها- روينا لو أن رجلا كان بالمشرق و جهنم بالمغرب- ثم كشف عن غطاء واحد منها لغلت جمجمته- و لو أن دلوا من صديدها صب في الأرض- ما بقي على وجهها شيء فيه روح إلا مات- . كان الأحنف يصلي صلاة الليل و يضع المصباح قريبا منه- فيضع إصبعه عليه و يقول يا حنيف- ما حملك على ما صنعت يوم كذا حتى يصبح
فصل في العزلة و الاجتماع و ما قيل فيهما
ثم نهاهم ع عن التفرق في دين الله- و هو الاختلاف و الفرقة- ثم أمرهم باجتماع الكلمة و قال- إن الجماعة في الحق المكروه إليكم- خير لكم من الفرقة في الباطل المحبوب عندكم- فإن الله لم يعط أحدا خيرا بالفرقة- لا ممن مضى و لا ممن بقي- .و قد تقدم ذكر ما ورد عن النبي ص في الأمر بلزوم الجماعة- و النهي عن الاختلاف و الفرقة- . ثم أمر ع بالعزلة و لزوم البيت و الاشتغال بالعبادة- و مجانبة الناس و متاركتهم- و اشتغال الإنسان بعيب نفسه عن عيوبهم- .
و قد ورد في العزلة أخبار و آثار كثيرة- و اختلف الناس قديما و حديثا فيها- ففضلها قوم على المخالطة و فضل قوم المخالطة عليها- . فممن فضل العزلة سفيان الثوري- و إبراهيم بن أدهم و داود الطائي- و الفضيل بن عياض و سليمان الخواص و يوسف بن أسباط- و بشر الحافي و حذيفة المرعشي- و جمع كثير من الصوفية- و هو مذهب أكثر العارفين- و قول المتألهين من الفلاسفة- . و ممن فضل المخالطة على العزلة ابن المسيب و الشعبي- و ابن أبي ليلى و هشام بن عروة و ابن شبرمة- و القاضي شريح و شريك بن عبد الله و ابن عيينة و ابن المبارك- .
فأما كلام أمير المؤمنين ع- فيقتضي عند إمعان النظر فيه أن العزلة خير لقوم- و أن المخالطة خير لقوم آخرين- على حسب أحوال الناس و اختلافهم- . و قد احتج أرباب المخالطة يقول الله تعالى- فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً- و بقوله وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَ اخْتَلَفُوا و هذا ضعيف لأن المراد بالآية- تفرق الآراء و اختلاف المذاهب في أصول الدين- و المرادبتأليف القلوب- و بالأخوة عدم الإحن و الأحقاد بينهم- بعد استعار نارها في الجاهلية- و هذا أمر خارج عن حديث العزلة- . و احتجوابقول النبي ص المؤمن إلف مألوف و لا خير فيمن لا يألف و لا يؤلف- و هذا أيضا ضعيف- لأن المراد منه ذم سوء الخلق و الأمر بالرفق و البشر- فلا يدخل تحته الإنسان الحسن الخلق- الذي لو خولط لألف و ألف- و إنما يمنعه من المخالطة طلب السلامة من الناس- .
و احتجوا بقوله- من شق عصا المسلمين فقد خلع ربقة الإسلام عن عنقه- و هذا ضعيف أيضا لأنه مختص بالبغاة- و المارقين عن طاعة الإمام- فلا يتناول أهل العزلة الذين هم أهل طاعة للأئمة- إلا أنهم لا يخالطون الناس- . و احتجوا بنهيه ص عن هجر الإنسان أخاه فوق ثلاث- و هذا ضعيف لأن المراد منه النهي عن الغضب و اللجاج- و قطع الكلام و السلام لثوران الغيظ- فهذا أمر خارج عن الباب الذي نحن فيه- . و احتجوابأن رجلا أتى جبلا يعبد فيه- فجاء أهله إلى رسول الله ص فنهاه و قال له- إن صبر المسلم في بعض مواطن الجهاد يوما واحدا- خير له من عبادة أربعين سنة- .
و هذا ضعيف لأنه إنما كان ذلك في ابتداء الإسلام- و الحث على جهاد المشركين- . و احتجوا بماروي عنه ص أنه قال الشيطان ذئب- و الناس كالغنم يأخذ القاصية و الشاذة- إياكم و الشعاب و عليكم بالعامة و الجماعة و المساجد- و هذا ضعيف لأن المراد به من اعتزل الجماعة و خالفها- .
و احتج من رجح العزلة و آثرها على المخالطة- بالآثار الكثيرة الواردة في ذلك- نحو قول عمر خذوا بحظكم من العزلة- . و قول ابن سيرين العزلة عبادة- . و قول الفضيل كفى بالله محبوبا و بالقرآن مؤنسا- و بالموت واعظا اتخذ الله صاحبا و دع الناس جانبا- . و قال ابن الربيع الزاهد لداود الطائي عظني- فقال صم عن الدنيا و اجعل فطرك للآخرة- و فر من الناس فرارك من الأسد- . و قال الحسن كلمات أحفظهن من التوراة قنع ابن آدم فاستغنى و اعتزل الناس فسلم- ترك الشهوات فصار حرا ترك الحسد فظهرت مروءته- صبر قليلا فتمتع طويلا- . و قال وهب بن الورد بلغنا أن الحكمة عشرة أجزاء- تسعة منها الصمت و العاشر في العزلة عن الناس- . و قال يوسف بن مسلم لعلي بن بكار- ما أصبرك على الوحدة و كان قد لزم البيت- فقال كنت و أنا شاب أصبر على أشد من هذا- كنت أجالس الناس و لا أكلمهم- . و قال الثوري هذا وقت السكوت و ملازمة البيوت- . و قال بعضهم- كنت في سفينة و معنا شاب علوي- فمكث معنا سبعا لا نسمع له كلاما- فقلنا له قد جمعنا الله و إياك منذ سبع- و لا نراك تخالطنا و لا تكلمنا- فأنشد
قليل الهم لا ولد يموت
و ليس بخائف أمرا يفوت
قضى وطر الصبا و أفاد علما
فغايته التفرد و السكوت
و أكبر همه مما عليه
تناجز من ترى خلق و قوت
قال النخعي لصاحب له تفقه ثم اعتزل- . و كان مالك بن أنس الفقيه يشهد الجنائز- و يعود المرضى و يعطي الإخوان حقوقهم- ثم ترك واحدا واحدا من ذلك إلى أن ترك الجميع- و قال ليس يتهيأ للإنسان أن يخبر بكل عذر له- . و قيل لعمر بن عبد العزيز- لو تفرغت لنا- فقال ذهب الفراغ فلا فراغ إلا عند الله تعالى- .
و قال الفضيل بن عياض- إني لأجد للرجل عندي يدا- إذا لقيني ألا يسلم علي و إذا مرضت ألا يعودني- . و قال الداراني- بينا ابن خثيم جالس على باب داره- إذ جاء حجر فصك وجهه فسجد و جعل يمسح الدم و يقول- لقد وعظت يا ربيع ثم قام فدخل الدار- فما جلس بعد ذلك على بابه حتى مات- . و كان سعد بن أبي وقاص و سعيد بن زيد- قد لزما بيوتهما بالعقيق- فلم يكونا يأتيان المدينة لا لحاجة لهما و لا لغيرهما- حتى ماتا بالعقيق- .
قال بشر أقلل من معرفة الناس- فإنك لا تدري ما تكون يوم القيامة- فإن تكن فضيحة كان من يعرفك أقل- . و أحضر بعض الأمراء حاتما الأصم فكلمه- ثم قال له أ لك حاجة قال نعم ألا تراني و لا أراك- . و قيل للفضيل إن ابنك يقول- لوددت أني في مكان أرى الناس و لا يرونني- فبكى الفضيل و قال يا ويح علي أ لا أتمها- فقال و لا أراهم- .
و من كلام الفضيل أيضا- من سخافة عقل الرجل كثرة معارفه- . و قد جاء في الأحاديث المرفوعة ذكر العزلة و فضلها-نحو قوله ع لعبد الله بن عامر الجهني- لما سأله عن طريق النجاة- فقال له ليسعك بيتك أمسك عليك دينك- و ابك على خطيئتكو قيل له ص أي الناس أفضل- فقال رجل معتزل في شعب من الشعاب- يعبد ربه و يدع الناس من شرهوقال ع إن الله يحب التقي النقي الخفي
ذكر فوائد العزلة
و في العزلة فوائد منها الفراغ للعبادة- و الذكر و الاستئناس بمناجاة الله عن مناجاة الخلق- فيتفرغ لاستكشاف أسرار الله تعالى- في أمر الدنيا و الآخرة و ملكوت السماوات و الأرض- لأن ذلك لا يمكن إلا بفراغ و لا فراغ مع المخالطة- و لذلك كان رسول الله ص في ابتداء أمره- يتبتل في جبل حراء و يعتزل فيه حتى أتته النبوة- . و قيل لبعض الحكماء- ما الذي أرادوا بالخلوة و العزلة- فقال دوام الفكر و ثبات العلوم في قلوبهم- ليحيوا حياة طيبة و يموتوا موتا طيبا- . و قيل لبعضهم- ما أصبرك على الوحدة فقال لست وحدي- أنا جليس ربي إذا شئت أن يناجيني قرأت كتابه- و إذا شئت أن أناجيه صليت- .
و قال سفيان بن عيينة- لقيت إبراهيم بن أدهم في بلاد الشام- فقلت له يا إبراهيمتركت خراسان- فقال ما تهنأت بالعيش إلا هاهنا- أفر بديني من شاهق إلى شاهق- فمن رآني قال موسوس أو حمال- . و قيل للحسن يا أبا سعيد- هاهنا رجل لم نره قط جالسا إلا وحده خلف سارية- فقال الحسن إذا رأيتموه فأخبروني- فنظروا إليه ذات يوم- فقالوا للحسن و أشاروا إليه- فمضى نحوه و قال له- يا عبد الله لقد حببت إليك العزلة- فما يمنعك من مجالسة الناس- قال أمر شغلني عنهم- قال فما يمنعك أن تأتي هذا الرجل الذي يقال له الحسن- فتجلس إليه قال أمر شغلني عن الناس و عن الحسن- قال و ما ذلك الشغل يرحمك الله- قال إني أمسي و أصبح بين نعمة و ذنب- فأشغل نفسي بشكر الله على نعمه- و الاستغفار من الذنب- فقال الحسن أنت أفقه عندي يا عبد الله من الحسن- فالزم ما أنت عليه- .
و جاء هرم بن حيان إلى أويس فقال له ما حاجتك- قال جئت لآنس بك- قال ما كنت أعرف أحدا يعرف ربه فيأنس بغيره- . و قال الفضيل إذا رأيت الليل مقبلا فرحت به- و قلت أخلو بربي و إذا رأيت الصبح أدركني- استرجعت كراهية لقاء الناس- و أن يجيء إلي من يشغلني عن ربي- . و قال مالك بن دينار- من لم يأنس بمحادثة الله عن محادثة المخلوقين- فقد قل علمه و عمي قلبه و ضاع عمره- . و قال بعض الصالحين- بينا أنا أسير في بعض بلاد الشام- إذا أنا بعابد خارج من بعض تلك الجبال- فلما نظر إلي تنحى إلى أصل شجرة و تستر بها- فقلت سبحان الله أ تبخل علي بالنظر إليك- فقال يا هذا إني أقمت في هذا الجبل دهرا طويلا- أعالج قلبي في الصبر عن الدنيا و أهلها- فطال في ذلك تعبي و فني عمري- ثم سألت الله تعالى-ألا يجعل حظي من أيامي في مجاهدة قلبي فقط- فسكنه الله عن الاضطراب و آلفه الوحدة و الانفراد- فلما نظرت إليك و تريدني- خفت أن أقع في الأمر الأول فأعود إلى ألف المخلوقين- فإليك عني فإني أعوذ من شرك برب العارفين- و حبيب التائبين ثم صاح وا غماه من طول المكث في الدنيا ثم حول وجهه عني- ثم نفض يده و قال إليك عني يا دنيا- لغيري فتزيني و أهلك فغري ثم قال سبحان من أذاق العارفين من لذة الخدمة- و حلاوة الانقطاع إليه ما ألهى قلوبهم عن ذكر الجنان- و الحور الحسان فإني في الخلوة آنس بذكر الله- و أستلذ بالانقطاع إلى الله ثم أنشد-
و إني لأستغشي و ما بي نعسة
لعل خيالا منك يلقى خياليا
و أخرج من بين البيوت لعلني
أحدث عنك النفس في السر خاليا
و قال بعض العلماء- إنما يستوحش الإنسان من نفسه- لخلو ذاته عن الفضيلة- فيتكثر حينئذ بملاقاة الناس- و يطرد الوحشة عن نفسه بهم- فإذا كانت ذاته فاضلة طلب الوحدة- ليستعين بها على الفكرة و يستخرج العلم و الحكمة- و كان يقال الاستئناس بالناس من علامات الإفلاس- . و منها التخلص بالعزلة عن المعاصي- التي يتعرض الإنسان لها غالبا بالمخالطة- و هي الغيبة و الرياء و ترك الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر- و سرقة الطبع بعض الأخلاق الرديئة- و الأعمال الخبيثة من الغير- .
أما الغيبة فإن التحرز منها مع مخالطة الناس- صعب شديد لا ينجو من ذلك إلا الصديقون- فإن عادة أكثر الناس التمضمض بأعراض من يعرفونه- و التنقل بلذةذلك- فهي أنسهم الذي يستريحون إليه في الجلوة و المفاوضة- فإن خالطتهم و وافقت أثمت- و إن سكت كنت شريكا فالمستمع أحد المغتابين- و إن أنكرت تركوا ذلك المغتاب و اغتابوك- فازدادوا إثما على إثمهم- . فأما الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر- فإن من خالط الناس لا يخلو عن مشاهدة المنكرات- فإن سكت عصى الله- و إن أنكر تعرض بأنواع من الضرر- و في العزلة خلاص عن ذلك- و في الأمر بالمعروف إثارة للخصام- و تحريك لكوامن ما في الصدور- و قال الشاعر-
و كم سقت في آثاركم من نصيحة
و قد يستفيد الظنة المتنصح
و من تجرد للأمر بالمعروف ندم عليه في الأكثر- كجدار مائل يريد الإنسان أن يقيمه وحده- فيوشك أن يقع عليه- فإذا سقط قال يا ليتني تركته مائلا- نعم لو وجد الأعوان حتى يحكم ذلك الحائط و يدعمه استقام- و لكنك لا تجد القوم أعوانا- على الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر- فدع الناس و انج بنفسك- . و أما الرياء فلا شبهة أن من خالط الناس داراهم- و من داراهم راءاهم و من راءاهم كان منافقا- و أنت تعلم أنك إذا خالطت متعاديين- و لم تلق كل واحد منهما بوجه يوافقه- صرت بغيضا إليهما جميعا- و إن جاملتهما كنت من شرار الناس و صرت ذا وجهين- و أقل ما يجب في مخالطة الناس- إظهار الشوق و المبالغة فيه- و ليس يخلو ذلك عن كذب- إما في الأصل- و إما في الزيادة بإظهار الشفقة بالسؤال عن الأحوال- فقولك كيف أنت و كيف أهلك- و أنت في الباطن فارغ القلب عن همومه نفاق محض- . قال السري السقطي- لو دخل علي أخ فسويت لحيتي بيدي لدخوله- خشيت أن أكتب في جريدة المنافقين- .
كان الفضيل جالسا وحده في المسجد- فجاء إليه أخ له فقال ما جاء بك قال المؤانسة- قال هي و الله بالمواحشة أشبه- هل تريد إلا أن تتزين لي و أتزين لك- و تكذب لي و أكذب لك- إما أن تقوم عني و إما أن أقوم عنك- . و قال بعض العلماء- ما أحب الله عبدا إلا أحب ألا يشعر به خلقه- .
و دخل طاوس على هشام بن عبد الملك- فقال كيف أنت يا هشام فغضب و قال- لم لم تخاطبني بإمرة المؤمنين- قال لأن جميع الناس ما اتفقوا على خلافتك- فخشيت أن أكون كاذبا- . فمن أمكنه أن يحترز هذا الاحتراز فليخالط الناس- و إلا فليرض بإثبات اسمه في جريدة المنافقين إن خالطهم- و لا نجاة من ذلك إلا بالعزلة- . و أما سرقة الطبع من الغير فالتجربة تشهد بذلك- لأن من خالط الأشرار اكتسب من شرهم- و كلما طالت صحبة الإنسان لأصحاب الكبائر- هانت الكبائر عنده- و في المثل فإن القرين بالمقارن يقتدي- . و منها الخلاص من الفتن- و الحروب بين الملوك و الأمراء على الدنيا- .
روى أبو سعيد الخدري عن النبي ص أنه قال يوشك أن يكون خير مال المسلم غنيمات- يتبع بها شعاف الجبال و مواضع القطر- يفر بدينه من الفتنوروى عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله ص ذكر الفتن فقال- إذا رأيت الناس قد مرجت عهودهم و خفت أمانتهم- و كانوا هكذا و شبك بأصابعه فقلت ما تأمرني- فقال الزم بيتك و املك عليك لسانك- و خذ ما تعرف و دع ما تنكر- و عليك بأمر الخاصة و دع عنك أمر العامة
وروى ابن مسعود عنه ص أنه قال سيأتي على الناس زمان لا يسلم لذي دين دينه- إلا من فر من قرية إلى قرية- و من شاهق إلى شاهق كالثعلب الرواغ- قيل و متى ذلك يا رسول الله- قال إذا لم تنل المعيشة إلا بمعاصي الله سبحانه- فإذا كان ذلك الزمان- كان هلاك الرجل على يد أبويه- فإن لم يكن له أبوان فعلى يد زوجته و ولده- و إن لم يكن فعلى يد قرابته- قالوا كيف ذلك يا رسول الله- قال يعيرونه بالفقر و ضيق اليد- فيكلفونه ما لا يطيقه- حتى يورده ذلك موارد الهلكة
وروى ابن مسعود أيضا أنه ص ذكر الفتنة فقال الهرج- فقلت و ما الهرج يا رسول الله- قال حين لا يأمن المرء جليسه- قلت فبم تأمرني يا رسول الله إن أدركت ذلك الزمان- قال كف نفسك و يدك و ادخل دارك- قلت أ رأيت إن دخل علي داري قال ادخل بيتك- قلت إن دخل علي البيت قال ادخل مسجدك و اصنع هكذا- و قبض على الكوع و قل ربي الله حتى تموت- .
و منها الخلاص من شر الناس- فإنهم يؤذونك تارة بالغيبة- و تارة بسوء الظن و التهمة- و تارة بالاقتراحات و الأطماع الكاذبة- التي يعسر الوفاء بها- و تارة بالنميمة و الكذب مما يرونه منك من الأعمال- و الأقوال مما لا تبلغ عقولهم كنهه- فيدخرون ذلك في نفوسهم عدة- لوقت ينتهزون فيه فرصة الشر- و من يعتزلهم يستغن عن التحفظ لذلك- . و قال بعض الحكماء لصاحبه- أعلمك شعرا هو خير لك من عشرة آلاف درهم و هو-
اخفض الصوت إن نطقت بليل
و التفت بالنار قبل المقال
ليس للقول رجعة حين يبدو
بقبيح يكون أو بجمال
و من خالط الناس لا ينفك من حاسد و طاعن- و من جرب ذلك عرف- . ومن الكلام المأثور عن علي ع اخبر تقلهقال الشاعر-
من حمد الناس و لم يبلهم
ثم بلاهم ذم من يحمد
و صار بالوحدة مستأنسا
يوحشه الأقرب و الأبعد
و قيل لسعد بن أبي وقاص أ لا تأتي المدينة- قال ما بقي فيها إلا حاسد نعمة أو فرح بنقمة- . و قال ابن السماك- كتب إلينا صاحب لنا أما بعد- فإن الناس كانوا دواء يتداوى به- فصاروا داء لا دواء لهم ففر منهم فرارك من الأسد- . و كان بعض الأعراب يلازم شجرة و يقول- هذه نديمي و هو نديم فيه ثلاث خصال- إن سمع لم ينم علي و إن تفلت في وجهه احتمل- و إن عربدت عليه لم يغضب فسمع الرشيد هذا الخبر- فقال قد زهدني سماعه في الندماء- .
و كان بعضهم يلازم الدفاتر و المقابر- فقيل له في ذلك- قال لم أر أسلم من الوحدة و لا أوعظ من قبر- و لا أمتع من دفتر- . و قال الحسن مرة- إني أريد الحج فجاء إلي ثابت البناني- و قال بلغني أنك تريد الحج فأحببت أن نصطحب- فقال الحسن دعنا نتعاشر بستر الله- إني أخاف أن نصطحب فيرى بعضنا من بعض ما نتماقت عليه- . و قال بعض الصالحين- كان الناس ورقا لا شوك فيه- فالناس اليوم شوك لا ورق فيه- . و قال سفيان بن عيينة- قال لي سفيان الثوري- في اليقظة في حياته و في المنام بعد وفاته- أقلل معرفة الناس فإن التخلص منهم شديد- و لا أحسبني رأيت ما أكره إلا ممن عرفت- .
و قال بعضهم جئت إلى مالك بن دينار- و هو قاعد وحده و عنده كلب رابض قريبا منه- فذهبت أطرده فقال دعه فإنه لا يضر و لا يؤذي- و هو خير من الجليس السوء- . و قال أبو الدرداء- اتقوا الله و احذروا الناس- فإنهم ما ركبوا ظهر بعير إلا أدبروه- و لا ظهر جواد إلا عقروه- و لا قلب مؤمن إلا أخربوه- . و قال بعضهم أقلل المعارف- فإنه أسلم لدينك و قلبك و أخف لظهرك- و أدعى إلى سقوط الحقوق عنك- لأنه كلما كثرت المعارف كثرت الحقوق- و عسر القيام بالجميع- . و قال بعضهم إذا أردت النجاة فأنكر من تعرف- و لا تتعرف إلى من لا تعرف- . و منها أن في العزلة بقاء الستر على المروءة- و الخلق و الفقر و سائر العورات- و قد مدح الله تعالى المستترين فقال- يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ- . و قال الشاعر-
و لا عار أن زالت عن الحر نعمة
و لكن عارا أن يزول التجمل
و ليس يخلو الإنسان في دينه و دنياه- و أفعاله عن عورات يتقين و يجب سترها- و لا تبقى السلامة مع انكشافها- و لا سبيل إلى ذلك إلا بترك المخالطة- . و منها أن ينقطع طمع الناس عنك- و ينقطع طمعك عن الناس- أما انقطاع طمع الناس عنك ففيه نفع عظيم- فإن رضا الخلق غاية لا تدرك- لأن أهون حقوق الناس و أيسرها حضور الجنازة- و عيادة المريض و حضور الولائم و الإملاكات- و في ذلك تضييع الأوقات و التعرض للآفات- ثم يعوق عن بعضها العوائق و تستثقل فيها المعاذير- و لا يمكن إظهار كل الأعذار- فيقول لك قائل إنك قمت بحق فلان- و قصرت في حقي و يصير ذلك سبب عداوة- فقد قيل إن من لم يعد مريضا في وقت العيادة- يشتهي موته خيفة من تخجيله إياه إذا برأ من تقصيره- فأما من يعم الناس كلهم بالحرمان فإنهم يرضون كلهم عنه- و متى خصص وقع الاستيحاش و العتاب- و تعميمهم بالقيام بجميع الحقوق- مما لا قدرة عليه للمتجرد ليله و نهاره- فكيف من له مهم يشغله ديني أو دنيوي- . و من كلام بعضهم كثرة الأصدقاء زيادة الغرماء- . و قال الشاعر-
عدوك من صديقك مستفاد
فلا تستكثرن من الصحاب
فإن الداء أكثر ما تراه
يكون من الطعام أو الشراب
و أما انقطاع طمعك عنهم ففيه أيضا فائدة جزيلة- فإن من نظر إلى زهرة الدنيا و زخرفها تحرك حرصه- و انبعث بقوة الحرص طمعه- و أكثر الأطماع يتعقبها الخيبة فيتأذى الإنسان بذلك- و إذا اعتزل لم يشاهد- و إذا لم يشاهد لم يشته و لم يطمع- و لذلك قال الله تعالى لنبيه ص- وَ لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً- مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وقال ع انظروا إلى من دونكم- و لا تنظروا إلى من هو فوقكم- فإنه أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم- .
و قال عون بن عبد الله كنت أجالس الأغنياء- فلا أزال مغموما أرى ثوبا أحسن من ثوبي- و دابة أفره من دابتي- فجالست الفقراء فاسترحت – . و خرج المزني صاحب الشافعي- من باب جامع الفسطاط بمصر و كان فقيرا مقلا- فصادف ابن عبد الحكم قد أقبل في موكبه- فبهره ما رأى من حاله و حسن هيأته فتلا قوله تعالى- وَ جَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَ تَصْبِرُونَ- ثم قال نعم أصبر و أرضى- . المعتزل عن الناس في بيته لا يبتلى بمثل هذه الفتن- فإن من شاهد زينة الدنيا- إما أن يقوى دينه و يقينه فيصبر- فيحتاج إلى أن يتجرع مرارة الصبر- و هو أمر من الصبر- أو تنبعث رغبته فيحتال في طلب الدنيا- فيهلك دنيا و آخرة- أما في الدنيا فبالطمع الذي في أكثر الأوقات- يتضمن الذل المعجل- و أما في الآخرة فلإيثاره متاع الدنيا على ذكر الله- و التقرب إليه و لذلك قال الشاعر-
إذا كان باب الذل من جانب الغنى
سموت إلى العلياء من جانب الفقر
أشار إلى أن الطمع يوجب في الحال ذلا- . و منها الخلاص من مشاهدة الثقلاء- و الحمقى و معاناة أخلاقهم- فإن رؤية الثقيل هي العمى الأصغر- قيل للأعمش بم عمشت عيناك قال بالنظر إلى الثقلاء- . و دخل على أبي حنيفة رحمه الله فقال له- روينا في الخبر أن من سلب كريمتيه عوضه الله ما هو خير منهما- فما الذي عوضك- قال كفاني رؤية ثقيل مثلك يمازحه- . و قال الشافعي رحمه الله- ما جالست ثقيلا إلا وجدت الجانب الذي يليه من بدني- كأنه أثقل علي من الجانب الآخر- . و هذه المقاصد و إن كان بعضها دنيويا- إلا أنها تضرب في الدين بنصيب- و ذلك لأنمن تأذى برؤية ثقيل لم يلبث أن يغتابه و يثلبه- و ذلك فساد في الدين و في العزلة السلامة عن جميع ذلك- .
و اعلم أن كلام أمير المؤمنين ع تختلف مناهجه- فقد رجح العزلة في هذا الفصل على المخالطة- و نهى عن العزلة في موضع آخر- سيأتي ذكره في الفصل الذي أوله- أنه دخل على العلاء بن زياد الحارثي عائدا- و يجب أن يحمل ذلك- على أن من الناس من العزلة خير له من المخالطة- و منهم من هو بالضد من ذلك- و قد قال الشافعي قريبا من ذلك- قال ليونس بن عبد الأعلى صاحبه- يا يونس الانقباض عن الناس مكسبة للعداوة- و الانبساط إليهم مجلبة لقرناء السوء- فكن بين المنقبض و المنبسط- .
فإذا أردت العزلة- فينبغي للمعتزل أن ينوي بعزلته- كف شره عن الناس أولا- ثم طلب السلامة من شر الأشرار ثانيا- ثم الخلاص من آفة القصور عن القيام بحقوق المسلمين ثالثا- ثم التجرد بكنه الهمة بعبادة الله تعالى رابعا- فهذه آداب نيته- ثم ليكن في خلوته مواظبا على العلم و العمل- و الذكر و الفكر ليجتني ثمرة العزلة- و يجب أن يمنع الناس عن أن يكثروا غشيانه و زيارته- فيتشوش وقته- و أن يكف نفسه عن السؤال عن أخبارهم و أحوالهم- و عن الإصغاء إلى أراجيف الناس و ما الناس مشغولون به- فإن كل ذلك ينغرس في القلب حتى ينبعث على الخاطر و البال- وقت الصلاة و وقت الحاجة إلى إحضار القلب- فإن وقوع الأخبار في السمع كوقوع البذر في الأرض- لا بد أن ينبت و تتفرع عروقه و أغصانه- و إحدى مهمات المعتزل- قطع الوساوس الصارفة عن ذكر الله- و لا ريب أن الأخبار ينابيع الوساوس و أصولها- . و يجب أن يقنع باليسير من المعيشة- و إلا اضطره التوسع إلى الناس و احتاج إلى مخالطتهم- .
و ليكن صبورا على ما يلقاه من أذى الجيران- إذ يسد سمعه عن الإصغاء- إلى ما يقول فيه من أثنى عليه بالعزلة- و قدح فيه بترك المخالطة- فإن ذلك لا بد أن يؤثر في القلب و لو مدة يسيرة- و حال اشتغال القلب به- لا بد أن يكون واقفا عن سيره في طريق الآخرة- فإن السير فيها إما يكون بالمواظبة على ورد- أو ذكر مع حضور قلب- و إما بالفكر في جلال الله و صفاته- و أفعاله و ملكوت سماواته- و إما بالتأمل في دقائق الأعمال و مفسدات القلب- و طلب طرق التخلص منها- و كل ذلك يستدعي الفراغ- و لا ريب أن الإصغاء إلى ما ذكرناه يشوش القلب- .
و يجب أن يكون للمعتزل أهل صالح أو جليس صالح- لتستريح نفسه إليه ساعة عن كد المواظبة- ففي ذلك عون له على بقية الساعات- و ليس يتم للإنسان الصبر على العزلة- إلا بقطع الطمع عن الدنيا- و ما الناس منهمكون فيه- و لا ينقطع طمعه إلا بقصر الأمل- و ألا يقدر لنفسه عمرا طويلا- بل يصبح على أنه لا يمسي و يمسي على أنه لا يصبح- فيسهل عليه صبر يوم- و لا يسهل عليه العزم على صبر عشرين سنة- لو قدر تراخي أجله- و ليكن كثير الذكر للموت و وحدة القبر- مهما ضاق قلبه من الوحدة- و ليتحقق أن من لم يحصل في قلبه من ذكر الله- و معرفته ما يأنس به- فإنه لا يطيق وحشة الوحدة بعد الموت- و أن من أنس بذكر الله و معرفته فإن الموت لا يزيل أنسه- لأن الموت ليس يهدم محل الأنس و المعرفة- بل يبقى حيا بمعرفته و أنسه فرحا بفضل الله عليه- قال سبحانه وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً- بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ- فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ- . و كل من يجرد نفسه في ذات الله- فهو شهيد مهما أدركه الموت- فالمجاهد من جاهد نفسه و هواه كما صرح به ع- وقال لأصحابه رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر- فالجهاد الأصغر محاربة المشركين- و الجهاد الأكبر جهاد النفس- . و هذا الفصل في العزلة- نقلناه على طوله من كلام أبي حامد الغزالي- في إحياء علوم الدين- و هذبنا منه ما اقتضت الحال تهذيبه
شرح نهج البلاغة(ابن أبي الحديد) ج 10