174 و من خطبة له ع
أَمِينُ وَحْيِهِ وَ خَاتَمُ رُسُلِهِ- وَ بَشِيرُ رَحْمَتِهِ وَ نَذِيرُ نِقْمَتِهِ- أَيُّهَا النَّاسُ- إِنَّ أَحَقَّ النَّاسِ بِهَذَا الْأَمْرِ أَقْوَاهُمْ عَلَيْهِ- وَ أَعْلَمُهُمْ بِأَمْرِ اللَّهِ فِيهِ- فَإِنْ شَغَبَ شَاغِبٌ اسْتُعْتِبَ فَإِنْ أَبَى قُوتِلَ- وَ لَعَمْرِي لَئِنْ كَانَتِ الْإِمَامَةُ لَا تَنْعَقِدُ- حَتَّى تَحْضُرَهَا عَامَّةُ النَّاسِ مَا إِلَى ذَلِكَ سَبِيلٌ- وَ لَكِنْ أَهْلُهَا يَحْكُمُونَ عَلَى مَنْ غَابَ عَنْهَا- ثُمَّ لَيْسَ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَرْجِعَ وَ لَا لِلْغَائِبِ أَنْ يَخْتَارَ- أَلَا وَ إِنِّي أُقَاتِلُ رَجُلَيْنِ- رَجُلًا ادَّعَى مَا لَيْسَ لَهُ وَ آخَرَ مَنَعَ الَّذِي عَلَيْهِ صدر الكلام في ذكر رسول الله ص و يتلوه فصول- .
أولها أن أحق الناس بالإمامة أقواهم عليها- و أعلمهم بحكم الله فيها- و هذا لا ينافي مذهب أصحابنا البغداديين- في صحة إمامة المفضول- لأنه ما قال إن إمامة غير الأقوى فاسدة- و لكنه قال إن الأقوى أحق- و أصحابنا لا ينكرون أنه ع أحق ممن تقدمه بالإمامة- مع قولهم بصحة إمامة المتقدمين- لأنه لا منافاة بين كونه أحق و بين صحة إمامة غيره- .
فإن قلت- أي فرق بين أقواهم عليه و أعلمهم بأمر الله فيه- قلت أقواهم أحسنهم سياسة- و أعلمهم بأمر الله أكثرهم علما- و إجراء للتدبير بمقتضى العلم- و بين الأمرين فرق واضح- فقد يكون سائسا حاذقا و لا يكون عالما بالفقه- و قد يكون سائسا فقيها- و لا يجري التدبير على مقتضى علمه و فقهه- .
و ثانيها أن الإمامة لا يشترط في صحة انعقادها- أن يحضرها الناس كافة- لأنه لو كان ذلك مشترطا- لأدى إلى ألا تنعقد إمامة أبدا- لتعذر اجتماع المسلمين من أطراف الأرض- و لكنها تنعقد بعقد العلماء- و أهل الحل و العقد الحاضرين- ثم لا يجوز بعد عقدها لحاضريها- أن يرجعوا من غير سبب يقتضي رجوعهم- و لا يجوز لمن غاب عنها أن يختار غير من عقد له- بل يكون محجوجا بعقد الحاضرين- مكلفا طاعة الإمامة المعقود له- و على هذا جرت الحال في خلافة أبي بكر و عمر و عثمان- و انعقد إجماع المسلمين عليه- و هذا الكلام تصريح بصحة مذهب أصحابنا- في أن الاختيار طريق إلى الإمامة- و مبطل لما تقوله الإمامية من دعوى النص عليه- و من قولهم لا طريق إلى الإمامة سوى النص أو المعجز- .
و ثالثها- أن الخارج على الإمام يستعتب أولا بالكلام و المراسلة- فإن أبى قوتل و هذا هو نص الكتاب العزيز- وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما- فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى- فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ- .
و رابعها أنه يقاتل أحد رجلين- إما رجلا ادعى ما ليس له- نحو أن يخرج على الإمام من يدعي الخلافة لنفسه- و إما رجلا منع ما عليه- نحو أن يخرج على الإمام رجل لا يدعي الخلافة- و لكنه يمتنع من الطاعة فقط- . فإن قلت الخارج على الإمام مدع الخلافة لنفسه- مانع ما عليه أيضا لأنه قد امتنع من الطاعة- فقد دخل أحد القسمين في الآخر- .
قلت لما كان مدعي الخلافة قد اجتمع له أمران- إيجابي و سلبي فالإيجابي دعواه الخلافة- و السلبي امتناعه من الطاعة- كان متميزا ممن لم يحصل له إلا القسم السلبي فقط- و هو مانع الطاعة لا غير- فكان الأحسن في فن علم البيان- أن يشتمل اللفظ على التقسيم الحاضر للإيجاب و السلب- فلذلك قال إما مدعيا ما ليس له أو مانعا ما هو عليه:
أُوصِيكُمْ عِبَادَ اللَّهِ بِتَقْوَى اللَّهِ- فَإِنَّهَا خَيْرُ مَا تَوَاصَى الْعِبَادُ بِهِ- وَ خَيْرُ عَوَاقِبِ الْأُمُورِ عِنْدَ اللَّهِ- وَ قَدْ فُتِحَ بَابُ الْحَرْبِ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَ أَهْلِ الْقِبْلَةِ- وَ لَا يَحْمِلُ هَذَا الْعَلَمَ إِلَّا أَهْلُ الْبَصَرِ وَ الصَّبْرِ- وَ الْعِلْمِ بِمَوَاقِعِ الْحَقِّ- فَامْضُوا لِمَا تُؤْمَرُونَ بِهِ وَ قِفُوا عِنْدَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ- وَ لَا تَعْجَلُوا فِي أَمْرٍ حَتَّى تَتَبَيَّنُوا- فَإِنَّ لَنَا مَعَ كُلِّ أَمْرٍ تُنْكِرُونَهُ غِيَراً- أَلَا وَ إِنَّ هَذِهِ الدُّنْيَا الَّتِي أَصْبَحْتُمْ تَتَمَنَّوْنَهَا- وَ تَرْغَبُونَ فِيهَا وَ أَصْبَحَتْ تُغْضِبُكُمْ وَ تُرْضِيكُمْ- لَيْسَتْ بِدَارِكُمْ وَ لَا مَنْزِلِكُمُ الَّذِي خُلِقْتُمْ لَهُ- وَ لَا الَّذِي دُعِيتُمْ إِلَيْهِ- أَلَا وَ إِنَّهَا لَيْسَتْ بِبَاقِيَةٍ لَكُمْ وَ لَا تَبْقَوْنَ عَلَيْهَا- وَ هِيَ وَ إِنْ غَرَّتْكُمْ مِنْهَا فَقَدْ حَذَّرَتْكُمْ شَرَّهَا- فَدَعُوا غُرُورَهَا لِتَحْذِيرِهَا وَ أَطْمَاعَهَا لِتَخْوِيفِهَا- وَ سَابِقُوا فِيهَا إِلَى الدَّارِ الَّتِي دُعِيتُمْ إِلَيْهَا- وَ انْصَرِفُوا بِقُلُوبِكُمْ عَنْهَا- وَ لَا يَخِنَّنَّ أَحَدُكُمْ خَنِينَ الْأَمَةِ عَلَى مَا زُوِيَ عَنْهُ مِنْهَا- وَ اسْتَتِمُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ بِالصَّبْرِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ- وَ الْمُحَافَظَةِ عَلَى مَا اسْتَحْفَظَكُمْ مِنْ كِتَابِهِ- أَلَا وَ إِنَّهُ لَا يَضُرُّكُمْ تَضْيِيعُ شَيْءٍ مِنْ دُنْيَاكُمْ- بَعْدَ حِفْظِكُمْ قَائِمَةَ دِينِكُمْ-أَلَا وَ إِنَّهُ لَا يَنْفَعُكُمْ بَعْدَ تَضْيِيعِ دِينِكُمْ شَيْءٌ- حَافَظْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِ دُنْيَاكُمْ- أَخَذَ اللَّهُ بِقُلُوبِنَا وَ قُلُوبِكُمْ إِلَى الْحَقِّ- وَ أَلْهَمَنَا وَ إِيَّاكُمُ الصَّبْرَ لم يكن المسلمون قبل حرب الجمل- يعرفون كيفية قتال أهل القبلة- و إنما تعلموا فقه ذلك من أمير المؤمنين ع- .
و قال الشافعي- لو لا علي لما عرف شيء من أحكام أهل البغي- . قوله ع و لا يحمل هذا العلم إلا أهل البصر و الصبر- و ذلك لأن المسلمين عظم عندهم حرب أهل القبلة و أكبروه- و من أقدم عندهم عليه أقدم على خوف و حذر- فقال ع إن هذا العلم ليس يدركه كل أحد- و إنما له قوم مخصوصون- . ثم أمرهم بالمضي عند ما يأمرهم به- و بالانتهاء عما ينهاهم عنه- و نهاهم عن أن يعجلوا بالحكم على أمر ملتبس- حتى يتبين و يتضح- . ثم قال إن عندنا تغييرا لكل ما تنكرونه من الأمور- حتى يثبت أنه يجب إنكارها و تغييرها- أي لست كعثمان أصر على ارتكاب ما أنهى عنه- بل أغير كل ما ينكره المسلمون- و يقتضي الحال و الشرع تغييره- .
ثم ذكر أن الدنيا التي تغضب الناس و ترضيهم- و هي منتهى أمانيهم و رغبتهم ليست دارهم- و إنما هي طريق إلى الدار الآخرة- و مدة اللبث في ذلك الطريق يسيرة جدا- . و قال إنها و إن كانت غرارة- فإنها منذرة و محذرة لأبنائها بما رأوه- من آثارها فيسلفهم و إخوتهم و أحبائهم- و مناداتها على نفسها بأنها فاعلة بهم- ما فعلت بأولئك من الفناء و فراق المألوف- . قال فدعوا غرورها لتحذيرها- و ذلك لأن جانب تحذيرها- أولى بأن يعمل عليه من جانب غرورها- لأن غرورها إنما هو بأمر سريع مع التصرم و الانقضاء- و تحذيرها إنما هو لأمر جليل عظيم- فإن الفناء المعجل محسوس- و قد دل العقل و الشرائع كافة- على أن بعد ذلك الفناء سعادة و شقاوة- فينبغي للعاقل أن يحذر من تلك الشقاوة- و يرغب في تلك السعادة- و لا سبيل إلى ذلك إلا برفض غرور الدنيا- على أنه لو لم يكن ذلك- لكان الواجب على أهل اللب و البصيرة رفضها- لأن الموجود منها خيال فإنه أشبه شيء بأحلام المنام- فالتمسك به و الإخلاد إليه حمق- .و الخنين صوت يخرج من الأنف عند البكاء- و أضافه إلى الأمة- لأن الإماء كثيرا ما يضربن فيبكين و يسمع الخنين منهن- و لأن الحرة تأنف من البكاء و الخنين- و زوي قبض- .
ثم ذكر أنه لا يضر المكلف فوات قسط من الدنيا- إذا حفظ قائمة دينه- يعني القيام بالواجبات و الانتهاء عن المحظورات- و لا ينفعه حصول الدنيا كلها بعد تضييعه دينه- لأن ابتياع لذة متناهية بلذة غير متناهية- يخرج اللذة المتناهية من باب كونها نفعا- و يدخلها في باب المضار- فكيف إذا انضاف إلى عدم اللذة غير المتناهية- حصول مضار و عقوبات غير متناهية أعاذنا الله منها
شرح نهج البلاغة(ابن أبي الحديد) ج 9