و من خطبة له عليه السّلام
القسم الأول
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَا تُوَارِي عَنْهُ سَمَاءٌ سَمَاءً- وَ لَا أَرْضٌ أَرْضاً
المعنى
أقول: حمد اللّه تعالى باعتبار إحاطة علمه بالسماوات و الأرضين، و استلزم ذلك تنزيهه تعالى عن وصف المخلوقين. إذ كانوا في إدراكهم لبعض الأجرام السماويّة و الأرضيّة محجوبين عمّا ورائها، و علمه تعالى هو المحيط بالكلّ الّذي لا يحجبه السواتر و لا تخفى عليه السرائر.
القسم الثاني منها
وَ قَدْ قَالَ قَائِلٌ إِنَّكَ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ يَا ابْنَ أَبِي طَالِبٍ لَحَرِيصٌ- فَقُلْتُ بَلْ أَنْتُمْ وَ اللَّهِ لَأَحْرَصُ وَ أَبْعَدُ وَ أَنَا أَخَصُّ وَ أَقْرَبُ- وَ إِنَّمَا طَلَبْتُ حَقّاً لِي وَ أَنْتُمْ تَحُولُونَ بَيْنِي وَ بَيْنَهُ- وَ تَضْرِبُونَ وَجْهِي دُونَهُ- فَلَمَّا قَرَّعْتُهُ بِالْحُجَّةِ فِي الْمَلَإِ الْحَاضِرِينَ- هَبَّ كَأَنَّهُ بُهِتَ لَا يَدْرِي مَا يُجِيبُنِي بِهِ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَعْدِيكَ عَلَى قُرَيْشٍ وَ مَنْ أَعَانَهُمْ- فَإِنَّهُمْ قَطَعُوا رَحِمِي وَ صَغَّرُوا عَظِيمَ مَنْزِلَتِيَ- وَ أَجْمَعُوا عَلَى مُنَازَعَتِي أَمْراً هُوَ لِي- ثُمَّ قَالُوا أَلَا إِنَّ فِي الْحَقِّ أَنْ تَأْخُذَهُ وَ فِي الْحَقِّ أَنْ تَتْرُكَهُ
المعنى
أقول: هذا الفصل من خطبة يذكر فيها عليه السّلام ما جرى له يوم الشورى بعد مقتل عمر، و الّذي قال له هذا القول هو سعد بن أبى وقّاص مع روايته فيه: أنت منّى بمنزلة هرون من موسى. و هو محلّ التعجّب. فأجابه بقوله: بل أنتم و اللّه أحرص و أبعد: أى أحرص على هذا الأمر و أبعد من استحقاقه. و هو في صورة احتجاج بقياس ضمير من الشكل الأوّل مسكت للقائل صغراه ما ذكر، و تقدير كبراه: و كلّ من كان أحرص على هذا الأمر و أبعد منه فليس له أن يعيّر الأقرب إليه بالحرص عليه. و قوله: و أنا أخصّ و أقرب. صغرى قياس ضمير احتجّ به على أولويّته بطلب هذا الأمر، و تقدير كبراه: و كلّ من كان أخصّ و أقرب إلى هذا الأمر فهو أولى بطلبه، و روى أنّ هذا الكلام قاله يوم السقيفة، و أنّ الّذي قال له: إنّك على هذا الأمر لحريص. هو أبى عبيدة بن الجرّاح، و الرواية الاولى أظهر و أشهر. و روى عوض بهت هبّ: أى انبته كأنّه كان غافلا ذاهلا عن الحجّة فاستيقظ من غفلته. ثمّ أخذ في استعانة اللّه تعالى على قريش و من أعانهم عليه، و شكا امورا: منها قطع رحمه فإنّهم لم يراعو قربه من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و منها تصغير عظيم منزلته بعدم التفاتهم إلى ما ورد من النصوص النبويّة في حقّه، و منها اتّفاقهم على منازعته أمر الخلافة الّذي يرى أنّه أحقّ به منهم. و قوله: ثمّ قالوا: إلى آخره. أى إنّهم لم يقتصروا على أخذ حقّى ساكتين عن دعوى كونه حقّا لهم و لكنّهم أخذوه مع دعواهم أنّ الحقّ لهم، و أنّه يجب عليّ أن أترك المنازعة فيه. فليتهم أخذوه معترفين أنّه حقّ لى فكانت المصيبة أهون، و روى نأخذه و نتركه بالنون في الكلمتين، و عليه نسخة الرضى- رضوان اللّه عليه- و المراد إنّا نتصرّف فيه كما نشاء بالأخذ و الترك دونك، و هذه شكاية ظاهرة لا تأويل فيها.
القسم الثالث منها في ذكر أصحاب الجمل:
فَخَرَجُوا يَجُرُّونَ حُرْمَةَ رَسُولِ اللَّهِ ص- كَمَا تُجَرُّ الْأَمَةُ عِنْدَ شِرَائِهَا- مُتَوَجِّهِينَ بِهَا إِلَى الْبَصْرَةِ- فَحَبَسَا نِسَاءَهُمَا فِي بُيُوتِهِمَا- وَ أَبْرَزَا حَبِيسَ رَسُولِ اللَّهِ ص لَهُمَا وَ لِغَيْرِهِمَا- فِي جَيْشٍ مَا مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلَّا وَ قَدْ أَعْطَانِي الطَّاعَةَ- وَ سَمَحَ لِي بِالْبَيْعَةِ طَائِعاً غَيْرَ مُكْرَهٍ- فَقَدِمُوا عَلَى عَامِلِي بِهَا- وَ خُزَّانِ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ وَ غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِهَا- فَقَتَلُوا طَائِفَةً صَبْراً وَ طَائِفَةً غَدْراً- فَوَاللَّهِ لَوْ لَمْ يُصِيبُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ- إِلَّا رَجُلًا وَاحِداً مُعْتَمِدِينَ لِقَتْلِهِ- بِلَا جُرْمٍ جَرَّهُ لَحَلَّ لِي قَتْلُ ذَلِكَ الْجَيْشِ كُلِّهِ- إِذْ حَضَرُوهُ فَلَمْ يُنْكِرُوا- وَ لَمْ يَدْفَعُوا عَنْهُ بِلِسَانٍ وَ لَا بِيَدٍ- دَعْ مَا إِنَّهُمْ قَدْ قَتَلُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ- مِثْلَ الْعِدَّةِ الَّتِي دَخَلُوا بِهَا عَلَيْهِمْ
اللغة
أقول: جرّه: جناه.
و مقصود الفصل إظهار عذره في قتال أصحاب الجمل.
و ذكر لهم ثلاث كبائر من الذنوب تستلزم إباحة قتالهم و قتلهم:
الاولى: خروجهم بحرمة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و حبيسه يجرّونها كما تجرّ الأمة عند شرائها مع حبسهما لنسائهما و محافظتهما عليهنّ، و ضمير التثنية في حبسا لطلحة و الزبير، و وجه الشبه انتهاك الحرمة و نقصانها في إخراجها، و في ذلك جرأة على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و روى عكرمة عن ابن عبّاس أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال يوما لنسائه و هنّ عنده جميعا: ليت شعرى أيتكنّ صاحبة الجمل الأرب تنبحها كلاب الحوؤب يقتل عن يمينها و شمالها قتلى كثير كلّهم في النار و تنجو بعد ما كادت، و روى حبيب بن عمير قال: لمّا خرجت عايشة و طلحة و الزبير من مكّة إلى البصرة طرقت ماء الحوؤب- و هو ماء لبنى عامر بن صعصعة- فنبحتهم الكلاب فنفرت صعاب إبلهم. فقال قائل منهم: لعن اللّه الحوؤب فما أكثر كلابها. فلمّا سمعت عايشة ذكر الحوؤب قالت: أ هذا ماء الحوؤب قال: نعم. قالت: ردّونى. فسئلوها ما شأنها و ما بدء لها. قالت: إنّى سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: كأنّى بكلاب الحوؤب قد نبحت بعض نسائى ثمّ قال لى: يا حميراء إيّاك أن تكونيها. فقال الزبير: مهلا يرحمك اللّه فإنّا قد جزنا ماء الحوؤب بفراسخ كثيرة. فقالت: أ عندك من يشهد بأنّ هذه الكلاب النابحة ليست على ماء الحوؤب فلفّف لها الزبير و طلحة و طلبا خمسين أعرابيّا جعلا لهم جعلا فحلفوا لها و شهدوا أنّ هذا الماء ليس بماء الحوؤب. فكانت هذه أوّل شهادة زور علمت في الإسلام. فسارت عايشة لوجهها. فأمّا قوله في الخبر: و تنجو بعد ما كادت. فقالت الإماميّة: معناه تنجو من القتل بعد ما كادت أن تقتل، و قال المعتذرون لها معناه تنجو من النار بالتوبة بعد ما كادت أن تدخلها بما فعلت.
الثانية: نكثهم لبيعته
و خروجهم عليه بعد الطاعة في جماعة ما منهم إلّا من أخذ بيعته.
الثالثة: قتلهم لعامله بالبصرة و خزّان بيت مال المسلمين بها بعض صبرا
أى بعد الأسر و بعض غدرا: أى بعد إعطائهم الأمان. و خلاصة القصّة ما روى أنّ طلحة و الزبير و عايشة لمّا انتهوا في مسيرهم إلى حفر أبى موسى قريب البصرة كتبوا إلى عثمان بن حنيف الأنصارىّ، و هو يومئذ عامل عليّ على البصرة: أنّ أخل لنا دار الأمارة. فلمّا قرأ كتابهم بعث إلى الأحنف بن قيس و إلى حكيم بن جبلّة العبدىّ فاقرء هما الكتاب. فقال الأحنف: إنّهم إن حاولوا بهذا الطلب بدم عثمان و هم الّذين أكّبوا على عثمان و سفكوا دمه فأراهم و اللّه لا يزايلونا حتّى يلقوا العداوة بيننا و يسفكوا دماءنا، و أظنّهم سيركبون منك خاصّة ما لا قبل لك به، و الرأى إن تتأهّب لهم بالنهوض إليهم في من معك من أهل البصرة فإنّك اليوم الوالى عليهم و أنت فيهم مطاع فسر إليهم بالناس و بادرهم قبل أن يكونوا معك في دار واحدة فيكون الناس لهم أطوع منهم لك. و قال حكيم: مثل ذلك. فقال عثمان بن حنيف: الرأى ما رأيتما لكنّى اكره الشرّ و أن أبدأهم به و أرجو العافية و السلامة إلى أن يأتيني كتاب أمير المؤمنين و رأيه فأعمل به. فقال له حكيم: فاذن لى حتّى أسير إليهم بالناس فإن دخلوا في طاعة أمير المؤمنين و إلّا نابذتهم إلى سواء. فقال عثمان: و لو كان ذلك لى لسرت إليهم بنفسى. فقال حكيم: أمّا و اللّه لئن دخلوا عليك هذا المصر لينتقلنّ قلوب كثير من الناس إليهم و ليزيلنّك عن مجلسك هذا، و أنت أعلم.
فأبى عثمان. ثمّ كتب عليّ عليه السّلام إلى عثمان بن حنيف لمّا بلغه مسير القوم إلى البصرة: من عبد اللّه عليّ أمير المؤمنين إلى عثمان بن حنيف أمّا بعد فإنّ البغاة عاهدوا اللّه ثمّ نكثوا و توجّهوا إلى مصرك و ساقهم الشيطان لطلب ما لا يرضى اللّه به، و اللّه أشدّ بأسا و أشدّ تنكيلا فإذا قدموا عليك فادعهم إلى الطاعة و الرجوع إلى الوفاء بالعهد و الميثاق الّذي فارقونا عليه فإن أجابوا فأحسن جوارهم ما داموا عندك، و إن أبوا إلّا التمسّك بحبل النكث و الخلاف فناجزهم القتال حتّى يحكم اللّه بينك و بينهم و هو خير الحاكمين، و كتبت كتابى هذا من الربذة و أنا معجّل السير إليك إنشاء اللّه، و كتب عبيد اللّه بن أبى رافع في صفر سنة ستّ و ثلاثين. فلمّا وصل الكتاب إلى عثمان بعث أبا الاسود الدؤلىّ و عمران بن الحصين إليهم فدخلا على عايشة فسألاها عمّا جاء بهم. فقالت لهما: ألقيا طلحة و الزبير. فقاما و ألقيا الزبير فكلّماه فقال: جئنا لنطلب بدم عثمان و ندعو الناس أن يردّوا أمر الخلافة شورى ليختار الناس لأنفسهم. فقالا له: إنّ عثمان لم يقتل بالبصرة لتطلبا دمه فيها، و أنت تعلم قتلة عثمان و أين هم، و إنّك و صاحبك و عايشة كنتم أشدّ الناس عليه و أعظمهم إغراء بدمه فأقيدوا أنفسكم، و أمّا إعادة أمر الخلافة شورى فكيف و قد بايعتم عليّا طائعين غير مكرهين، و أنت يا أبا عبد اللّه لم يبعد العهد بقيامك دون هذا الرجل يوم مات رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أنت آخذ قائم سيفك تقول: ما أحد أحقّ بالخلافة منه.
و امتنعت من بيعة أبى بكر. فأين ذلك الفعل من هذا القول فقال لهما: اذهبا إلى طلحة. فقاما إلى طلحه فوجداه خشن الملمس شديد العريكة قوىّ العزم في إثارة الفتنة. فانصرفا إلى عثمان بن حنيف فأخبراه بما جرى، و قال له أبو الأسود: يا ابن حنيف قد أتيت فانفر و طاعن القوم و جالد و اصبر و أبرز لهما مستلئما و شمّر. فقال ابن حنيف: أى و الحرمين لأفعلنّ، و أمر مناديه فنادى في الناس: السلاح السلاح. فاجتمعوا إليه و أقبلوا حتّى انتهوا إلى المربد. فملأ مشاة و ركبانا فقام طلحة فأشار إلى الناس بالسكوت ليخطب فسكتوا بعد جهد فقال: أمّا بعد فإنّ عثمان بن عفّان كان من أهل السابقة و الفضيلة و من المهاجرين الأوّلين الّذين رضى اللّه عنهم و رضوا عنه، و نزل القرآن ناطقا بفضلهم و أحد الأئمّة الوالين عليكم بعد أبى بكر و عمر صاحبى رسول اللّه و قد كان أحدث أحداثا نقمناها عليه فأتيناه و استعتبناه فأعتبنا فعدا عليه امرؤ ابتزّ هذه الامّة أمرها غصبا بغير رضى و لا مشورة فقتله و ساعده على ذلك قوم غير أتقياء و لا أبرار فقتل محرما بريئا تائبا، و قد جئتناكم أيّها النّاس نطلب بدمه و ندعوكم إلى الطلب بدمه فإن نحن أمكننا اللّه قتلهم قتلناهم به و جعلنا هذا الأمر شورى بين المسلمين و كانت خلافته رحمة للامّة جميعا فإنّ كلّ من أخذ الأمر من غير رضى العامّة و لا مشورة منها ابتزازا كان ملكه ملكا عضوضا و حدثا كبيرا. ثمّ قام الزبير فتكلّم بمثل كلام طلحة. فقام إليهما ناس من أهل البصرة فقالوا لهما: ألم تبايعا عليّا فيمن بايعه ففيم بايعتما ثمّ نكثتما.
فقالا: ما بايعناه و ما لأحد في أعناقنا بيعة و إنّما استكرهنا على بيعته. فقال ناس: قد صدقا و نطقا بالصواب، و قال آخرون: ما صدقا و لا أصابا. حتّى ارتفعت الأصوات فأقبلت عايشة على جملها فنادت بصوت مرتفع أيّها الناس أقلّوا الكلام و اسكتوا. فسكت الناس لها.
فقالت: إنّ أمير المؤمنين عثمان قد كان غيّر و بدّل. ثمّ لم يزل يغسل ذلك بالتوبة حتّى قتل مظلوما تائبا و إنّما نقموا عليه ضربه بالسوط و تأميره الشبّان و حمايته موضع الغمامة فقتلوه محرما في حرمة الشهر، و حرمة البلد ذبحا كما يذبح الجمل، ألا و إنّ قريشا رمت غرضها بنبالها و أدمت أفواهها بأيديها و ما نالت بقتلها إيّاه شيئا و لا سلكت به سبيلا قاصدا أما و اللّه ليرونها بلايا عقيمة تنبه النائم و تقيم الجالس، و ليسلطنّ عليهم قوم لا يرحمونهم، يسومونهم سوء العذاب. أيّها الناس إنّه ما بلغ من ذنب عثمان ما يستحلّ به دمه مصّتموه كما يماصّ الثوب الرحيض، ثمّ عدوتم عليه فقتلتموه بعد توبته و خروجه من ذنبه و بايعتم ابن أبى طالب بغير مشورة من الجماعة ابتزازا و غصبا، أ ترانى أغضب لكم من سوط عثمان و لسانه و لا أغضب لعثمان من سيوفكم. ألا إنّ عثمان قتل مظلوما فاطلبوا قتلته فإذا ظفرتم بهم فاقتلوهم، ثمّ اجعلوا الأمر شورى بين الرهط الّذين اختارهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب و لا يدخل فيهم من شرك في دم عثمان. قال: فماج الناس و اختلطوا فمن قايل يقول: القول ما قالت، و من قائل يقول: و ما هي من هذا الأمر إنّما هي امرأة مأمورة بلزوم بيتها.
و ارتفعت الأصوات و كثر اللغط حتّى تضاربوا بالنعال و ترامو بالحصا. ثمّ تمايزوا فرقتين فرقة مع عثمان بن حنيف و فرقة مع طلحة و الزبير. ثمّ أقبلا من المربد يريدان عثمان بن حنيف فوجدوه و أصحابه قد أخذوا بأفواه السكك فمضوا حتّى انتهوا إلى مواضع الدبّاغين فاستقبلهم أصحاب ابن حنيف فشجرهم طلحة و الزبير و أصحابهما بالرماح فحمل عليهم حكيم بن جبلّة فلم يزل هو و أصحابه يقاتلونهم حتّى أخرجوهم من جميع السكك، و رماهم النساء من فوق البيوت بالأحجار فأخذوا إلى مقبرة بنى مازن فوقفوا بها مليّا حتّى ثابت إليهم خيلهم، ثمّ أخذوا على مسنّاة البصرة حتّى انتهوا إلى الرابوقة. ثمّ أتوا سبخة دار الرزق فنزلوها فأتاهما عبد اللّه بن حكيم التميمىّ لمّا نزلا السبخة بكتب كتباها إليه فقال لطلحة: يا أبا محمّد أما هذه كتبك إلينا. فقال: بلى. فقال: فكنت أمس تدعونا إلى خلع عثمان و قتله حتّى إذا قتلته أتيتنا ثائرا بدمه، فلعمرى ما هذا رأيك و لا تريد إلّا هذه الدنيا. مهلا إذا كان هذا رأيك قبلت من علىّ ما عرض عليك من البيعة فبايعته طائعا راضيا ثمّ نكثت بيعتك و جئتنا لتدخلنا في فتنتك. فقال: إنّ عليّا دعانى إلى بيعته بعد ما بايع الناس فعلمت أنّى لو لم أقبل ما عرضه عليّ لا يتمّ لى ثمّ يغرى بى من معه. ثمّ أصبحا من غد فصفّا للحرب و خرج إليهما عثمان في أصحابه فناشدهما اللّه و الإسلام و أذكرهما بيعتهما ثلاثا. فشتماه شتما قبيحا و ذكرا امّة.
فقال للزبير: أما و اللّه لو لا صفيّة و مكانها من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فإنّها أذرتك إلى الظلّ، و إنّ الأمر بينى و بينك يا ابن الصعبة يعنى طلحة أعظم من القول لأعلمتكما من أمركما ما يسوئكما. اللّهمّ إنّى قد أعذرت إلى هذين الرجلين. ثمّ حمل عليهم فاقتتل الناس قتالا شديدا. ثمّ تحاجزوا و اصطلحوا على أن يكتب بينهم كتاب صلح.
فكتب: هذا ما اصطلح عليه عثمان بن حنيف الأنصارىّ و من معه من المؤمنين من شيعة عليّ بن أبي طالب و طلحة و الزبير و من معهما من المؤمنين و المسلمين من شيعتهما أنّ لعثمان بن حنيف الأنصارىّ دار الأمارة و الرحبة و المسجد و بيت المال و المنبر، و أنّ لطلحة و الزبير و من معهما أن ينزلوا حيث شاءوا من البصرة و لا يضارّ بعضهم بعضا في طريق و لا سوق و لا فرضة و لا مشرعة و لا مرفق حتّى يقدم أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب فإن أحبّوا دخلوا فيما دخلت فيه الأمّة و إنّ أحبّوا ألحق كلّ قوم بهواهم و ما أحبّوا من قتال أو سلم أو خروج أو إقامة، و على الفريقين بما كتبوا عهد اللّه و ميثاقه و أشدّ ما أخذه على نبىّ من أنبيائه من عهد و ذمّة. و ختم الكتاب، و رجع عثمان حتّى دخل دار الأمارة و أمر أصحابه أن يلحقوا بأهلهم و يداووا جراحاتهم فمكثوا كذلك أيّاما. ثمّ خاف طلحة و الزبير من مقدم عليّ عليه السّلام و هما على تلك القلّة و الضعف فراسلوا القبائل يدعونهم إلى الطلب بدم عثمان و خلع علىّ عليه السّلام فبايعهم على ذلك الأزد و ضبّة و قيس غيلان كلّها إلّا الرجل و الرجلين من القبيلة كرهوا أمرهم فتواروا عنهم، و بايعهما هلال بن وكيع بمن معه من بنى عمرو ابن تميم و أكثر بنى حنظلة و بنى دارم. فلمّا استوسق لهما أمرهما خرجا في ليلة مظلمة ذات ريح و مطر في أصحابهما، و قد ألبسوهم الدروع، و ظاهروا فوقها بالثياب فانتهوا إلى المسجد وقت صلاة الفجر و قد سبقهم عثمان بن حنيف إليه و اقيمت الصلاة فتقدّم عثمان ليصلّى بهم فأخّره أصحاب طلحة و الزبير، و قدّموا الزبير فجاءت الشرط- حرس بيت المال- و أخّروا الزبير و قدّموا عثمان فغلبهم أصحاب الزبير فقدّموه و أخّروا عثمان فلم يزالوا كذلك حتّى كادت الشمس أن تطلع فصاح بهم أهل المسجد ألا تتّقون اللّه أصحاب محمّد قد طلعت الشمس فغلب الزبير فصلّى بالناس فلمّا انصرف من صلاته صاح بأصحابه المتسلّحين أن خذوا عثمان فأخذوه بعد أن تضارب هو و مروان بن الحكم بسيفهما فلمّا اسر ضرب ضرب الموت و نتفت حاجباه و أشفار عينيه و كلّ شعرة في رأسه و وجهه، و أخذوا السيالحة و هم سبعون رجلا فانطلقوا بهم و بعثمان بن حنيف إلى عايشة فأشارت إلى أحد أولاد عثمان أن اضرب عنقه فإنّ الأنصار قتلت أباك و أعانت على قتله. فنادى عثمان يا عايشة و يا طلحة و يا زبير إنّ أخى سهل بن حنيف خليفة عليّ بن أبى طالب على المدينة و أقسم باللّه إن قتلتمونى ليضعنّ السيف في بنى أبيكم و أهليكم و رهطكم فلا يبقى منكم أحدا.
فكفّوا عنه و خافوا من قوله فتركوه، و أرسلت عايشة إلى الزبير أن اقتل السيالحة فإنّه قد بلغنى الّذي صنعوا بك قبل. فذبحهم و اللّه كما يذبح الغنم. ولى ذلك عبد اللّه ابنه و هم سبعون رجلا، و بقيت منهم بقيّة متمسّكون ببيت المال قالوا: لا نسلّمه حتّى يقدم أمير المؤمنين. فسار إليهم الزبير في جيش ليلا و أوقع بهم و أخذ منهم خمسين أسيرا فقتلهم صبرا. فحكى أنّ القتلى من السيالحة يومئذ أربع مأئة رجل، و كان غدر طلحة و الزبير بعثمان بن حنيف بعد غدرهم في بيعة عليّ غدرا في غدر، و كانت السيالحة أوّل قوم ضربت أعناقهم من المسلمين صبرا، و خيّروا عثمان بن حنيف بين أن يقيم أو يلحق بعليّ فاختار الرحيل فخلّوا سبيله فلحق بعليّ عليه السّلام فلمّا رآه بكى و قال له شيخ و جئتك أمردا. فقال عليّ عليه السّلام: إنّا للّه و إنّا إليه راجعون قالها ثلاثا. فذلك معنى قوله: فقدموا على عاملى بها و خزّان بيت مال المسلمين.
إلى آخره. ثمّ أقسم عليه السّلام إنّهم لو لم يصيبوا أى يقتلوا من المسلمين إلّا رجلا واحدا متعمّدين قتله بغير ذنب جناه لحلّ له قتل ذلك الجيش كلّه، و- إن- زايدة.
فإن قلت: المفهوم من هذا الكلام تعليل جواز قتله لذلك الجيش كلّه بعدم إنكارهم للمنكر فهل يجوز قتل من لم ينكر المنكر قلت: أجاب الشارح عبد الحميد بن أبى الحديد عنه. فقال: إنّه تجوّز قتلهم لأنّهم اعتقدوا ذلك القتل مباحا مع أنّه ممّا حرّمه اللّه فجرى ذلك مجرى اعتقادهم لإباحة الزنا و شرب الخمر.
و أجاب القطب الراوندىّ بأنّ جواز قتلهم لدخولهم في عموم قوله تعالى «إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا»«» الآية و إنّ هؤلاء القوم قد حاربوا رسول اللّه لقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: حربك يا عليّ حربى، و سعوا في الأرض بالفساد، و اعترض المجيب الأوّل عليه. فقال: الإشكال إنّما هو في تحليله لقتل الجيش المذكور لكونه لم ينكر على من قتل رجلا واحدا من المسلمين فالتعليل بعدم إنكار المنكر لا بعموم الآية.
و أقول: الجواب الثاني أسدّ، و الأوّل ضعيف. لأنّ القتل و إن وجب على من اعتقد إباحة ما علم تحريمه من الدين ضرورة كشرب الخمر و الزنا فلم قلت إنّه يجب على من اعتقد إباحة ما علم تحريمه من الدين بالتأويل كقتل هؤلاء القوم لمن قتلوا و خروجهم لما خرجوا له فإنّ جميع ما فعلوه كان بتأويل لهم و إن كان معلوم الفساد.
فظهر الفرق بين اعتقاد حلّ الخمر و الزنا و بين اعتقاد هؤلاء لإباحة ما فعلوه، و أمّا الاعتراض على الجواب الثاني فضعيف أيضا. لأنّ له أن يقول: إنّ قتل المسلم الّذي لا ذنب له عمدا إذا صدر من بعض الجيش و لم ينكر الباقون مع تمكّنهم و حضورهم كان ذلك قرينة دالّة على الرضا من جميعهم، و الراضى بالقتل شريك القاتل خصوصا إذا كان معروفا بصحبته و الاتّحاد به كاتّحاد بعض الجيش ببعض. فكان خروج ذلك الجيش على الإمام العادل محاربة للّه و رسوله، و قتلهم لعامله و خزّان بيت مال المسلمين و نهبهم له و تفريق كلمة أهل المصر و فساد نظامهم سعى في الأرض بالفساد، و ذلك عين مقتضى الآية. و قوله: دع. إلى آخره.
أى لو كان من قتلوه من المسلمين واحدا لحلّ لى قتلهم فكيف و قد قتلوا منهم عدّة مثل عدّتهم الّتي دخلوا بها البصرة. و- ما- بعد- دع- زايدة، و المماثلة هنا في الكثرة. و صدق عليه السّلام فإنّهم قتلوا من أوليائه و خزّان بيت المال بالبصرة خلقا كثيرا كما ذكرناه على الوجه الّذي ذكره بعض غدرا و بعض صبرا. و باللّه التوفيق.
شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحرانی)، ج 3 ، صفحهى 329