و من كلام له عليه السّلام بعد ما بويع بالخلافة،
و قد قال له قوم من الصحابه: لو عاقبت قوما ممن أجلب على عثمان فقال عليه السّلام: يَا إِخْوَتَاهْ إِنِّي لَسْتُ أَجْهَلُ مَا تَعْلَمُونَ- وَ لَكِنْ كَيْفَ لِي بِقُوَّةٍ وَ الْقَوْمُ الْمُجْلِبُونَ- عَلَى حَدِّ شَوْكَتِهِمْ يَمْلِكُونَنَا وَ لَا نَمْلِكُهُمْ- وَ هَا هُمْ هَؤُلَاءِ قَدْ ثَارَتْ مَعَهُمْ عِبْدَانُكُمْ- وَ الْتَفَّتْ إِلَيْهِمْ أَعْرَابُكُمْ- وَ هُمْ خِلَالَكُمْ يَسُومُونَكُمْ مَا شَاءُوا- وَ هَلْ تَرَوْنَ مَوْضِعاً لِقُدْرَةٍ عَلَى شَيْءٍ تُرِيدُونَهُ- إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ أَمْرُ جَاهِلِيَّةٍ- وَ إِنَّ لِهَؤُلَاءِ الْقَوْمِ مَادَّةً- إِنَّ النَّاسَ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ إِذَا حُرِّكَ عَلَى أُمُورٍ- فِرْقَةٌ تَرَى مَا تَرَوْنَ وَ فِرْقَةٌ تَرَى مَا لَا تَرَوْنَ- وَ فِرْقَةٌ لَا تَرَى هَذَا وَ لَا ذَاكَ- فَاصْبِرُوا حَتَّى يَهْدَأَ النَّاسُ وَ تَقَعَ الْقُلُوبُ مَوَاقِعَهَا- وَ تُؤْخَذَ الْحُقُوقُ مُسْمَحَةً- فَاهْدَءُوا عَنِّي وَ انْظُرُوا مَا ذَا يَأْتِيكُمْ بِهِ أَمْرِي- وَ لَا تَفْعَلُوا فَعْلَةً تُضَعْضِعُ قُوَّةً وَ تُسْقِطُ مُنَّةً- وَ تُورِثُ وَهْناً وَ ذِلَّةً وَ سَأُمْسِكُ الْأَمْرَ مَا اسْتَمْسَكَ- وَ إِذَا لَمْ أَجِدْ بُدّاً فَآخِرُ الدَّوَاءِ الْكَيُّ
اللغة
أقول: أجلب عليه: جمع.
و شوكتهم: قوّتهم.
و العبدان بتشديد الدال و تخفيفها و كسر العين و ضمّها: جمع عبد.
و التفّت: انضمّت.
و يسومونكم: يكلّفونكم.
و مسمحة: مسهلة،
المعنى
و الألف في إخوتاه هي المنقلبة عن ياء النفس المضاف إليه، و الهاء للسكت.
و اعلم أنّ هذا الكلام اعتذار منه عليه السّلام في تأخير القصاص عن قتلة عثمان. و قوله: إنّي لست أجهل ما تعملون. دليل على أنّه كان ذلك في نفسه، و حاصل هذا العذر عدم التمكّن كما ينبغي، و لذلك قال: و كيف لى بقوّة و القوم على حدّ شوكتهم. و صدقه عليه السّلام ظاهر فإنّ أكثر أهل المدينة كانوا من المجلبين عليه، و كان من أهل مصر و من الكوفة خلق عظيم حضروا من بلادهم و قطعوا المسافة البعيدة لذلك و انضمّ إليها أعراب أجلاف من البادية و عبدان المدينة. فكانوا في غاية من شدّة الشوكة حال اجتماعهم، و ثاروا ثورة واحدة، و لذلك قال: و القوم مجلبون. إلى قوله: يسومونكم ما شاءوا. و روى أنّه عليه السّلام جمع الناس و وعظهم. ثمّ قال: لتقم قتلة عثمان فقام الناس بأسرهم إلّا القليل، و كان ذلك الفعل منه استشهادا على صدق قوله عليه السّلام: و القوم على حدّ شوكتهم. و مع تحقّق هذه الحال لا يبقى له موضع قدرة على شيء من أمرهم. ثمّ قال على سبيل قطع لجاج الطالبين مخاطبا لهم: إنّ هذا الأمر أمر الجاهليّة. يريد أمر المجلبين عليه إذ لم يكن قتلهم إيّاه بمقتضى الشريعة. إذ الصادر عنه من الأحداث لا يجب فيها قتل. و إنّ لهؤلاء القوم مادّة: أى معينين و ناصرين. ثمّ قسّم حال الناس على تقدير الشروع في أمر القصاص إلى ثلاثة أقسام، و هو احتجاج منه على الطالبين و تضعيف لرأيهم بقياس ضمير من الشكل الأوّل مركّب من شرطيّتين متّصلتين صغراهما قوله: إنّ هذا الأمر إذا حرّك كان الناس فيه على امور، و تقدير الكبرى و إذا كان الناس فيه على امور لم يتمكّن من إتمامه و فعله.
فينتج أنّ هذا الأمر إذا حرّك لا يتمّ فعله. ثمّ عدّ تلك الامور، و هى أنّ فرقة ترى كونه مصيبا كما رأى الطالبون، و فرقة ترى أنّه مخطئ و هم أنصار المقتصّ منهم، و فرقة لا ترى هذا و لا ذاك بل تتوقّف كما جرى ذلك في أمر التحكيم. ثمّ أمرهم بالصبر إلى غاية هدوء الناس. إذ بيّن لهم أنّه لا مصلحة في تحريك الأمر حينئذ فإنّ الحقوق عند هدوء الناس و استقرار القلوب أسهل مأخذا. و قوله: فاهدءوا عنّى و انظروا ما ذا يأتيكم به من أمرى. يدلّ على ترصّده و انتظاره للفرصة من هذا الأمر. ثمّ خوّفهم من الاستعجال بفعل يضعف شوكة الدين و يورث وهنه فإنّه لو شرع في عقوبة الناس و القبض عليهم لم يؤمن من تجدّد فتنة اخرى أعظم من الأولى، و هو غالب الظنّ. فكان الأصوب في التدبير و الّذي يقتضيه العقل و الشرع الإمساك إلى حين سكون الفتنة و تعرّق اولئك الشعوب و رجوع كلّ قوم إلى بلادهم، و ربّما كان عليه السّلام ينتظر مع ذلك أن يحضر بنو عثمان للطلب بدمه، و يعيّنون قوما بأعيانهم بعضهم للقتل و بعضهم للحصار كما جرت عادة المتظلّمين إلى الإمام ليتمكّن من العمل بحكم اللّه. فلم يقع الأمر كذلك، و عصى معاوية و أهل الشام و التجأ إليه ورثة عثمان، و فارقوا حوزة أمير المؤمنين عليه السّلام و لم يطلبوا القصاص طلبا شرعيّا، و إنّما طالبوه مغالبة، و جعلها معاوية عصبيّة جاهليّة، و لم يأت أحد منهم الأمر من بابه، و قيل: ذلك ما كان من أمر طلحة و الزبير و نقضهما للبيعة و نهبهما أموال المسلمين بالبصرة و قتلهما للصالحين من أهلها، و كلّ تلك الامور الّتي جرت مانعة للإمام عن التصدىّ للقصاص، و لذلك قال عليه السّلام لمعاوية في بعض كلامه: فأمّا طلبك بدم عثمان فادخل في الطاعة و حاكم القوم إلىّ أحملك و إيّاهم على كتاب اللّه و سنّة رسوله.
فأمّا قوله: و سأمسك الأمر ما استمسك. إلى آخره. فاعلم أنّ هذا الكلام إنّما صدر عنه عليه السّلام بعد إكثار القول عليه في أمر عثمان و اضطراب الأمر من قبل طلحة و الزبير و نكثهما للبيعة بسبب هذه الشبهة مع كونهما من أكابر الصحابة، و تشتّت قلوب كثير من المسلمين عنه. فحينئذ أشار بعض الصحابة بأخذ القصاص من قتلة عثمان تسكينا لفتنة طلحة و الزبير و معاوية لغلبة الظنّ حينئذ بمخالفته و اضطراب أمر الشام فقال الكلام: أى قد أبديت هذا العذر فإن لم يقبلوا منّى فسأمسك الأمر: أى أمر الخلافة بجهدى فإذا لم أجد بدّا: أى من قتال من يبغى و ينكث فآخر الدواء الكىّ: أى الحرب و القتال لأنّها الغاية الّتي ينتهى أمر العصاة إليها و مداواة أمراض قلوبهم كما تنتهى مداواة المريض إلى أن يكوى. و باللّه التوفيق.
شرح نهج البلاغة(ابن ميثم)، ج 3 ، صفحهى 321