و من كلام له عليه السّلام
القسم الأول
لِيَتَأَسَّ صَغِيرُكُمْ بِكَبِيرِكُمْ- وَ لْيَرْأَفْ كَبِيرُكُمْ بِصَغِيرِكُمْ- وَ لَا تَكُونُوا كَجُفَاةِ الْجَاهِلِيَّةِ- لَا فِي الدِّينِ يَتَفَقَّهُونَ وَ لَا عَنِ اللَّهِ يَعْقِلُونَ- كَقَيْضِ بَيْضٍ فِي أَدَاحٍ- يَكُونُ كَسْرُهَا وِزْراً وَ يُخْرِجُ حِضَانُهَا شَرّاً
اللغة
أقول: قيض البيض: كسره. تقول: قضت البيضة: كسرتها،
و انقاضت: تصدّعت من غير كسر، و تقّيضت: تكسّرت فلقا.
و الأداح: جمع ادحىّ افعول من الدحوو هو الموضع الّذي تفرخ فيه النعامة.
المعنى
و قد أمر عليه السّلام صغيرهم بالتأسّى بكبيرهم لأنّ الكبير أكثر تجربة و علما و أكيس و أحزم فكان بالقدوة أولى، و أمر كبيرهم أن يرؤف بصغيرهم لأنّ الصغير بمظنّة الضعف و أهل لأن يرحم و يعذر لقلّة عقليّته للامور، و إنّما بدء بأمر الصغير لأنّه أحوج إلى التأديب. و الغاية من هذا الأمر انتظام امورهم و حصول الفتهم بما أمرهم به. ثمّ نهاهم أن يشبهوا جفاة الجاهليّة في عدم تفقّههم في الدين و عدم عقليّتهم لأوامر اللّه فيشبهون إذن ببيض الأفاعي في أعشاشها، و وجه الشبه أنّها إن كسرها كاسر أثم لتأذّى الحيوان به، و قيل: لأنّه يظنّ القطا فيأثم كاسره و إن لم يكسر يخرج حضانها شرّا إذ تخرج أفعى قاتلا فكذلك هؤلاء إذا أشبهوا جفاة الجاهليّة لا يحلّ لأحد أذاهم و إهانتهم لحرمة ظاهر الإسلام عليهم و إن أهملوا و تركوا على ما هم عليه من الجهل و قلّة الأدب خرجوا شياطين. و باللّه التوفيق.
القسم الثاني و منه
افْتَرَقُوا بَعْدَ أُلْفَتِهِمْ وَ تَشَتَّتُوا عَنْ أَصْلِهِمْ- فَمِنْهُمْ آخِذٌ بِغُصْنٍ أَيْنَمَا مَالَ مَالَ مَعَهُ- عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَيَجْمَعُهُمْ لِشَرِّ يَوْمٍ لِبَنِي أُمَيَّةَ- كَمَا تَجْتَمِعُ قَزَعُ الْخَرِيفِ- يُؤَلِّفُ اللَّهُ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَجْمَعُهُمْ رُكَاماً كَرُكَامِ السَّحَابِ- ثُمَّ يَفْتَحُ اللَّهُ لَهُمْ أَبْوَاباً- يَسِيلُونَ مِنْ مُسْتَثَارِهِمْ كَسَيْلِ الْجَنَّتَيْنِ- حَيْثُ لَمْ تَسْلَمْ عَلَيْهِ قَارَةٌ- وَ لَمْ تَثْبُتْ عَلَيْهِ أَكَمَةٌ- وَ لَمْ يَرُدَّ سَنَنَهُ رَصُّ طَوْدٍ وَ لَا حِدَابُ أَرْضٍ- يُذَعْذِعُهُمُ اللَّهُ فِي بُطُونِ أَوْدِيَتِهِ- ثُمَّ يَسْلُكُهُمْ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ- يَأْخُذُ بِهِمْ مِنْ قَوْمٍ حُقُوقَ قَوْمٍ- وَ يُمَكِّنُ لِقَوْمٍ فِي دِيَارِ قَوْمٍ- وَ ايْمُ اللَّهِ لَيَذُوبَنَّ مَا فِي أَيْدِيهِمْ بَعْدَ الْعُلُوِّ وَ التَّمْكِينِ- كَمَا تَذُوبُ الْأَلْيَةُ عَلَى النَّارِ أَيُّهَا النَّاسُ لَوْ لَمْ تَتَخَاذَلُوا عَنْ نَصْرِ الْحَقِّ- وَ لَمْ تَهِنُوا عَنْ تَوْهِينِ الْبَاطِلِ لَمْ يَطْمَعْ فِيكُمْ مَنْ لَيْسَ مِثْلَكُمْ- وَ لَمْ يَقْوَ مَنْ قَوِيَ عَلَيْكُمْ- لَكِنَّكُمْ تِهْتُمْ مَتَاهَ بَنِي إِسْرَائِيلَ- وَ لَعَمْرِي لَيُضَعَّفَنَّ لَكُمُ التِّيهُ مِنْ بَعْدِي أَضْعَافاً- بِمَا خَلَّفْتُمُ الْحَقَّ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ- وَ قَطَعْتُمُ الْأَدْنَى وَ وَصَلْتُمُ الْأَبْعَدَ- وَ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِنِ اتَّبَعْتُمُ الدَّاعِيَ لَكُمْ- سَلَكَ بِكُمْ مِنْهَاجَ الرَّسُولِ وَ كُفِيتُمْ مَئُونَةَ الِاعْتِسَافِ- وَ نَبَذْتُمُ الثِّقْلَ الْفَادِحَ عَنِ الْأَعْنَاقِ
اللغة
أقول: القزع: قطع السحاب المتفرّقة.
و مستثارهم: موضع ثورانهم.
و القارّة: المستقرّ الثابت من الأرض.
و الأكمة: التلّ. و الحداب: جمع حدب و هو ما ارتفع من الأرض.
و الذعذعة بالذال المعجمة مرّتين: التفريق.
و تهنوا. تضعفوا.
و توهين الباطل: إضعافه.
و الفادح: المثقل.
المعنى
و الإشارة في هذا الفصل إلى أصحابه، و أصلهم الّذي تشتّتوا عنه هو عليه السّلام، و افتراقهم بعد الفتهم هو افتراقهم إلى خوارج و غيرهم بعد اجتماعهم عليه. و قوله: فمنهم آخذ بغصن. أى يكون منهم من يتمسّك بمن أخلفه بعدى من ذريّة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أينما سلك سلك معه كالشيعة، و تقدير الكلام: و منهم من ليس كذلك. إلّا أنّه استغنى بالقسم الأوّل لدلالته على الثاني. و قوله: على أنّ اللّه تعالى سيجمعهم. أى من كان على عقيدته فينا و من لم يكن لشرّ يوم لبني اميّة، و شبّه جمعه لهم و تأليفه بينهم بجمعه لقزع السحاب في الخريف لتراكمهم بذلك الجمع كتراكم ذلك القزع، و وجه الشبه الاجتماع بعد التفرّق. و الأبواب الّتي يفتحها لهم إشارة إمّا إلى وجوه الآراء الّتي تكون أسباب الغلبة و الانبعاث على الاجتماع أو أعمّ منها كساير الأسباب للغلبة من إعانة بعضهم لبعض بالأنفس و الأموال و غير ذلك، و استعار لخروجهم لفظ السيل، و شبّهه بسيل جنّتى مأرب و هما جنّتا سبأ المحكىّ عنها في القرآن الكريم «فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَ بَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ»«» الآية، و وجه الشبه الشدّة في الخروج و إفساد ما يأتون إليه كقوّة ذلك السيل حيث لم يسلم عليه مرتفع من الأرض، و لم يردّ طريقه و جريه جبل مرصوص: أى شديد الالتصاق. ثمّ قال: يذعذعهم اللّه في بطون أوديته ثمّ يسلكهم ينابيع في الأرض، و هو من ألفاظ القرآن، و المراد كما أنّ اللّه ينزّل من السماء ماء فيكنّه في أعماق الأرض ثمّ يظهر منها ينابيع إلى ظاهرها كذلك هؤلاء القوم يفرّقهم اللّه في بطون الأودية و غوامض الأرض ثمّ يظهرهم بعد الاختفاء فيأخذ بهم من قوم حقوق آخرين، و يمكّن قوما من ملك قوم و ديارهم. ثمّ أقسم ليذوبنّ ما في أيدى بني اميّة بعد علوّهم و تمكّنهم كما تذوب الألية على النار، و وجه الشبه الفناء و الاضمحلال. و مصداق هذه الأخبار ما كان من أمر الشيعة الهاشميّة و اجتماعها على إزالة ملك بني اميّة من كان منهم ثابتا على ولاء عليّ و أهل بيته و من حاد منهم عن ذلك في أواخر أيّام مروان الحمار عند ظهور الدعوة الهاشميّة. ثمّ عاد إلى توبيخ السامعين بالإشارة إلى سبب الطمع فيهم ممّن دونهم في القوّة و المنزلة و قوّته عليهم، و الإشارة إلى معاوية و أصحابه، و ذلك السبب هو تخاذلهم عن نصرة الحقّ و تضاعفهم عن إضعاف الباطل، و هو في معرض التوبيخ و اللائمة لهم. ثمّ شبّه تيههم بمتاه بني إسرائيل، و وجه الشبه لحوق الضعف و المذلّة و المسكنة لهم حيث لم يجتمعوا على العمل بأوامر اللّه فرماهم بالتيه و ضرب عليهم الذلّة و المسكنة. ثمّ أخبرهم بعاقبة أمرهم في التخاذل، و هو إضعاف التيه و التفرّق بعده لالتفاتهم عن الحقّ و مقاطعة بعضهم له مع دنوّه و قربه من الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و وصلهم لمعاوية و غيره مع بعده عنه. ثمّ أخذ في إرشادهم و جذبهم إلى اتّباعه. فقال: إنّ اتّبعتم الداعى- و عنى نفسه- سلك بكم منهاج الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و طريقه، و كفيتم مئونة الاعتساف في طرق الضلال، و ألقيتم ثقل الأوزار في الآخرة عن أعناق نفوسكم. و ظاهر كونهم فادحة. و يحتمل أن يريد بالثقل الفادح الأيّام مع ما يلحقهم في الدنيا من الخطوب الفادحة بسبب عصيان الأنام و الخروج عن أمره. و باللّه التوفيق.
شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 3 ، صفحهى 315