164 و من خطبة له ع
الْحَمْدُ لِلَّهِ خَالِقِ الْعِبَادِ وَ سَاطِحِ الْمِهَادِ- وَ مُسِيلِ الْوِهَادِ وَ مُخْصِبِ النِّجَادِ- لَيْسَ لِأَوَّلِيَّتِهِ ابْتِدَاءٌ وَ لَا لِأَزَلِيَّتِهِ انْقِضَاءٌ- هُوَ الْأَوَّلُ وَ لَمْ يَزَلْ وَ الْبَاقِي بِلَا أَجَلٍ- خَرَّتْ لَهُ الْجِبَاهُ وَ وَحَّدَتْهُ الشِّفَاهُ- حَدَّ الْأَشْيَاءَ عِنْدَ خَلْقِهِ لَهَا إِبَانَةً لَهُ مِنْ شَبَهِهَا- لَا تُقَدِّرُهُ الْأَوْهَامُ بِالْحُدُودِ وَ الْحَرَكَاتِ- وَ لَا بِالْجَوَارِحِ وَ الْأَدَوَاتِ لَا يُقَالُ لَهُ مَتَى- وَ لَا يُضْرَبُ لَهُ أَمَدٌ بِ حَتَّى- الظَّاهِرُ لَا يُقَالُ مِمَّ وَ الْبَاطِنُ لَا يُقَالُ فِيمَ- لَا شَبَحٌ فَيُتَقَصَّى وَ لَا مَحْجُوبٌ فَيُحْوَى- لَمْ يَقْرُبْ مِنَ الْأَشْيَاءِ بِالْتِصَاقٍ- وَ لَمْ يَبْعُدْ عَنْهَا بِافْتِرَاقٍ- وَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ عِبَادِهِ شُخُوصُ لَحْظَةٍ- وَ لَا كُرُورُ لَفْظَةٍ وَ لَا ازْدِلَافُ رَبْوَةٍ- وَ لَا انْبِسَاطُ خُطْوَةٍ فِي لَيْلٍ دَاجٍ- وَ لَا غَسَقٍ سَاجٍ يَتَفَيَّأُ عَلَيْهِ الْقَمَرُ الْمُنِيرُ- وَ تَعْقُبُهُ الشَّمْسُ ذَاتُ النُّورِ فِي الْأُفُولِ وَ الْكُرُورِ- وَ تَقْلِيبِ الْأَزْمِنَةِ وَ الدُّهُورِ- مِنْ إِقْبَالِ لَيْلٍ مُقْبِلٍ وَ إِدْبَارِ نَهَارٍ مُدْبِرٍ- قَبْلَ كُلِّ غَايَةٍ وَ مُدَّةِ وَ كُلِّ إِحْصَاءٍ وَ عِدَّةٍ- تَعَالَى عَمَّا يَنْحَلُهُ الْمُحَدِّدُونَ مِنْ صِفَاتِ الْأَقْدَارِ- وَ نِهَايَاتِ الْأَقْطَارِ وَ تَأَثُّلِ الْمَسَاكِنِ- وَ تَمَكُّنِ الْأَمَاكِنِ- فَالْحَدُّ لِخَلْقِهِ مَضْرُوبٌ وَ إِلَى غَيْرِهِ مَنْسُوبٌ- لَمْ يَخْلُقِ الْأَشْيَاءَ مِنْ أُصُولٍ أَزَلِيَّةٍ- وَ لَا مِنْ أَوَائِلَ أَبَدِيَّةٍ- بَلْ خَلَقَ مَا خَلَقَ فَأَقَامَ حَدَّهُ- وَ صَوَّرَ فَأَحْسَنَ صُورَتَهُ- لَيْسَ لِشَيْءٍ مِنْهُ امْتِنَاعٌ وَ لَا لَهُ بِطَاعَةِ شَيْءٍ انْتِفَاعٌ- عِلْمُهُ بِالْأَمْوَاتِ الْمَاضِينَ كَعِلْمِهِ بِالْأَحْيَاءِ الْبَاقِينَ- وَ عِلْمُهُ بِمَا فِي السَّمَاوَاتِ الْعُلَى- كَعِلْمِهِ بِمَا فِي الْأَرَضِينَ السُّفْلَى المهاد هنا هو الأرض و أصله الفراش و ساطحه باسطه- و منه تسطيح القبور خلاف تسنيمها- و منه أيضا المسطح- للموضع الذي يبسط فيه التمر ليجفف- .
و الوهاد جمع وهدة و هي المكان المطمئن- و مسيلها مجرى السيل فيها- و النجاد جمع نجد و هو ما ارتفع من الأرض- و مخصبها مروضها و جاعلها ذوات خصب
مباحث كلامية
و اعلم أنه ع أورد في هذه الخطبة- ضروبا من علم التوحيد- و كلها مبنية على ثلاثة أصول- . الأصل الأول أنه تعالى واجب الوجود لذاته- و يتفرع على هذا الأصل فروع- أولها أنه ليس لأوليته ابتداء- لأنه لو كان لأوليته ابتداء لكان محدثا- و لا شيء من المحدث بواجب الوجود- لأن معنى واجب الوجود أن ذاته لا تقبل العدم- و يستحيل الجمع بين قولنا هذه الذات محدثة- أي كانت معدومة من قبل و هي في حقيقتها لا تقبل العدم- .
و ثانيها أنه ليس لأزليته انقضاء- لأنه لو صح عليه العدم لكان لعدمه سبب- فكان وجوده موقوفا على انتفاء سبب عدمه- و المتوقف على غيره يكون ممكن الذات- فلا يكون واجب الوجود- . و قوله ع هو الأول لم يزل و الباقي بلا أجل- تكرار لهذين المعنيين السابقين على سبيل التأكيد- و يدخل فيه أيضا قوله- لا يقال له متى و لا يضرب له أمد بحتى- لأن متى للزمان و واجب الوجود يرتفع عن الزمان- و حتى للغاية و واجب الوجود لا غاية له- . و يدخل أيضا فيه قوله- قبل كل غاية و مدة و كل إحصاء و عدة- .
و ثالثها أنه لا يشبه الأشياء البتة- لأن ما عداه إما جسم أو عرض أو مجرد- فلو أشبه الجسم أو العرض لكان إما جسما أو عرضا- ضرورة تساوي المتشابهين المتماثلين في حقائقهما- . و لو شابه غيره من المجردات- مع أن كل مجرد غير ممكن لكان ممكنا- و ليس واجب الوجود بممكن- فيدخل في هذا المعنى قوله ع- حد الأشياء عند خلقه لها إبانة له من شبهها- أي جعل المخلوقات ذوات حدود ليتميز هو سبحانه عنها- إذ لا حد له فبطل أن يشبهه شيء منها- و دخل فيه قوله ع- لا تقدره الأوهام بالحدود و الحركات و لا بالجوارح- .
و الأدوات جمع أداة و هي ما يعتمد به- و دخل فيه قوله الظاهر فلا يقال مم- أي لا يقال من أي شيء ظهر و الباطن فلا يقال فيم أي لا يقال فيما ذا بطن- و يدخل فيه قوله لا شبح فيتقصى- و الشبح الشخص و يتقصى يطلب أقصاه- . و يدخل فيه قوله و لا محجوب فيحوى- و قوله لم يقرب من الأشياء بالتصاق- و لم يبعد عنها بافتراق- لأن هذه الأمور كلها من خصائص الأجسام- و واجب الوجود لا يشبه الأجسام و لا يماثلها- . و يدخل فيه قوله ع- تعالى عما ينحله المحددون من صفات الأقدار- أي مما ينسبه إليه المشبهة- و المجسمة من صفات المقادير و ذوات المقادير- .
و نهايات الأقطار أي الجوانب- . و تأثل المساكن مجد مؤثل أي أصيل- و بيت مؤثل أي معمور- و كأن أصل الكلمة أن تبنى الدار بالأثل- و هو شجر معروف- و تمكن الأماكن ثبوتها و استقرارها- . و قوله فالحد لخلقه مضروب و إلى غيره منسوب- و قوله و لا له بطاعة شيء انتفاع- لأنه إنما ينتفع الجسم الذي يصح عليه الشهوة و النفرة- كل هذا داخل تحت هذا الوجه- . الأصل الثاني أنه تعالى عالم لذاته فيعلم كل معلوم- و يدخل تحت هذا الأصل قوله ع- لا تخفى عليه من عباده شخوص لحظة- أن تسكن العين فلا تتحرك و لا كرور لفظة أي رجوعها- . و لا ازدلاف ربوة- صعود إنسان أو حيوان ربوة من الأرض- و هي الموضع المرتفع- و لا انبساط خطوة في ليل داج أي مظلم- . و لا غسق ساج أي ساكن- . ثم قال يتفيأ عليه القمر المنير- هذا من صفات الغسق و من تتمة نعته- و معنى يتفيأ عليه يتقلب ذاهبا- و جائيا في حالتي أخذه في الضوء إلى التبدر- و أخذه في النقص إلى المحاق- .
و قوله و تعقبه أي و تتعقبه فحذف إحدى التاءين- كما قال سبحانه الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ- أي تتوفاهم- و الهاء في و تعقبه ترجع إلى القمر- أي و تسير الشمس عقبه في كروره- و أفوله أي غيبوبته- و في تقليب الأزمنة و الدهور- من إقبال ليل و إدبار نهار- .
فإن قلت إذا كان قوله يتفيأ عليه القمر المنير- في موضع جر لأنه صفة غسق- فكيف تتعقب الشمس و القمر مع وجود الغسق- و هل يمكن اجتماع الشمس و الغسق- قلت لا يلزم من تعقب الشمس للقمر ثبوت الغسق- . بل قد يصدق تعقبها له و يكون الغسق معدوما- كأنه ع قال لا يخفى على الله حركة في نهار و لا ليل- يتفيأ عليه القمر و تعقبه الشمس- أي تظهر عقيبه فيزول الغسق بظهورها- .
و هذا التفسير الذي فسرناه- يقتضي أن يكون حرف الجر و هو في التي في قوله- في الكرور متعلقا بمحذوف- و يكون موضعه نصبا على الحال أي و تعقبه كارا و آفلا- و يدخل تحته أيضا قوله ع- علمه بالأموات الماضين كعلمه بالأحياء الباقين- و علمه بما في السماوات العلا- كعلمه بما في الأرضين السفلى- .
الأصل الثالث أنه تعالى قادر لذاته- فكان قادرا على كل الممكنات- و يدخل تحته قوله لم يخلق الأشياء من أصول أزلية- و لا من أوائل أبدية بل خلق ما خلق فأقام حده- و صور ما صور فأحسن صورته- و الرد في هذا على أصحاب الهيولى- و الطينة التي يزعمون قدمها- . و يدخل تحته قوله ليس لشيء امتناع- لأنه متى أراد إيجاد شيء أوجده- و يدخل تحته قوله خرت له الجباه أي سجدت- و وحدته الشفاه يعني الأفواه- فعبر بالجزء عن الكل مجازا- و ذلك لأن القادر لذاته- هو المستحق للعبادة لخلقه أصول النعم- كالحياة و القدرة و الشهوة- .
و اعلم أن هذا الفن هو الذي بان به أمير المؤمنين ع- عن العرب في زمانه قاطبة-و استحق به التقدم و الفضل عليهم أجمعين- و ذلك لأن الخاصة التي يتميز بها الإنسان عن البهائم- هي العقل و العلم- أ لا ترى أنه يشاركه غيره من الحيوانات- في اللحمية و الدموية و القوة و القدرة- و الحركة الكائنة على سبيل الإرادة و الاختيار- فليس الامتياز إلا بالقوة الناطقة أي العاقلة العالمة- فكلما كان الإنسان أكثر حظا منها- كانت إنسانيته أتم- و معلوم أن هذا الرجل انفرد بهذا الفن و هو أشرف العلوم- لأن معلومه أشرف المعلومات- و لم ينقل عن أحد من العرب غيره في هذا الفن حرف واحد- و لا كانت أذهانهم تصل إلى هذا- و لا يفهمونه بهذا الفن فهو منفرد فيه- و بغيره من الفنون- و هي العلوم الشرعية مشارك لهم و راجح عليهم- فكان أكمل منهم- لأنا قد بينا أن الأعلم أدخل في صورة الإنسانية- و هذا هو معنى الأفضلية
مِنْهَا- أَيُّهَا الْمَخْلُوقُ السَّوِيُّ وَ الْمَنْشَأُ الْمَرْعِيُّ- فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْحَامِ وَ مُضَاعَفَاتِ الْأَسْتَارِ- . بُدِئْتَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ- وَ وُضِعْتَ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ- إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ وَ أَجَلٍ مَقْسُومٍ- تَمُورُ فِي بَطْنِ أُمِّكَ جَنِيناً لَا تُحِيرُ دُعَاءً وَ لَا تَسْمَعُ نِدَاءً- ثُمَّ أُخْرِجْتَ مِنْ مَقَرِّكَ إِلَى دَارٍ لَمْ تَشْهَدْهَا- وَ لَمْ تَعْرِفْ سُبُلَ مَنَافِعِهَا- فَمَنْ هَدَاكَ لِاجْتِرَارِ الْغِذَاءِ مِنْ ثَدْيِ أُمِّكَ- وَ عَرَّفَكَ عِنْدَ الْحَاجَةِ مَوَاضِعَ طَلَبِكَ وَ إِرَادَتِكَ- هَيْهَاتَ إِنَّ مَنْ يَعْجِزُ عَنْ صِفَاتِ ذِي الْهَيْئَةِ وَ الْأَدَوَاتِ- فَهُوَ عَنْ صِفَاتِ خَالِقِهِ أَعْجَزُ- وَ مِنْ تَنَاوُلِهِ بِحُدُودِ الْمَخْلُوقِينَ أَبْعَدُالسوي المستوي الخلقة غير ناقص- قال سبحانه فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا- و المنشأ مفعول من أنشأ أي خلق و أوجد- و المرعي المحوط المحفوظ- .
و ظلمات الأرحام و مضاعفات الأستار- مستقر النطف- و الرحم موضوعة فيما بين المثانة و المعى المستقيم- و هي مربوطة برباطات على هيئة السلسلة و جسمها عصبي- ليمكن امتدادها و اتساعها وقت الحاجة- إلى ذلك عند الولادة- و تنضم و تتقنص إذا استغني عن ذلك- و لها بطنان ينتهيان إلى فم واحد- و زائدتان يسميان قريني الرحم- و خلف هاتين الزائدتين بيضتا المرأة- و هما أصغر من بيضتي الرجل و أشد تفرطحا- و منهما ينصب مني المرأة إلى تجويف الرحم- و للرحم رقبة منتهية إلى فرج المرأة- و تلك الرقبة من المرأة بمنزلة الذكر من الرجل- فإذا امتزج مني الرجل بمني المرأة في تجويف الرحم- كان العلوق ثم ينمي و يزيد من دم الطمث- و يتصل بالجنين عروق تأتي إلى الرحم فتغذوه- حتى يتم و يكمل- فإذا تم لم يكتف بما تحته من تلك العروق- فيتحرك حركات قوية طلبا للغذاء- فتهتك أربطة الرحم التي قلنا إنها على هيئة السلسلة- و تكون منها الولادة- .
قوله بدئت من سلالة من طين- أي كان ابتداء خلقك من سلالة- و هي خلاصة الطين- لأنها سلت من بين الكدر- و فعالة بناء للقلة كالقلامة و القمامة- . و قال الحسن هي ما بين ظهراني الطين- . ثم قال و وضعت في قرار مكين- الكلام الأول لآدم الذي هو أصل البشر و الثاني لذريته- و القرار المكين الرحم متمكنة في موضعها برباطاتها- لأنها لو كانت متحركة لتعذر العلوق- .
ثم قال إلى قدر معلوم و أجل مقسوم- إلى متعلقة بمحذوف كأنه قال منتهيا إلى قدر معلوم- أي مقدرا طوله و شكله إلى أجل مقسوم مدة حياته- . ثم قال تمور في بطن أمك أي تتحرك- لا تحير أي لا ترجع جوابا أحار يحير- . إلى دار لم تشهدها يعني الدنيا- و يقال أشبه شيء بحال الانتقال من الدنيا- إلى الأحوال التي بعد الموت- انتقال الجنين من ظلمة الرحم إلى فضاء الدنيا- فلو كان الجنين يعقل و يتصور- كان يظن أنه لا دار له إلا الدار التي هو فيها- و لا يشعر بما وراءها- و لا يحس بنفسه إلا و قد حصل في دار لم يعرفها- و لا تخطر بباله فبقي هو كالحائر المبهوت- و هكذا حالنا في الدنيا إذا شاهدنا ما بعد الموت- . و لقد أحسن ابن الرومي في صفة خطوب الدنيا و صروفها بقوله-
لما تؤذن الدنيا به من صروفها
يكون بكاء الطفل ساعة يولد
و إلا فما يبكيه منها و إنها
لأوسع مما كان فيه و أرغد
إذا أبصر الدنيا استهل كأنه
بما سوف يلقى من أذاها يهدد
قال فمن هداك إلى اجترار الغذاء من ثدي أمك- اجترار امتصاص اللبن من الثدي- و ذلك بالإلهام الإلهي- . قال و عرفك عند الحاجة- أي أعلمك بموضع الحلمة عند طلبك الرضاع- فالتقمتها بفمك- .ثم قال هيهات- أي بعد أن يحيط علما بالخالق من عجز عن معرفة المخلوق- قال الشاعر-
رأيت الورى يدعون الهدى
و كم يدعي الحق خلق كثير
و ما في البرايا امرؤ عنده
من العلم بالحق إلا اليسير
خفي فما ناله ناظر
و ما إن أشار إليه مشير
و لا شيء أظهر من ذاته
و كيف يرى الشمس أعمى ضرير
شرح نهج البلاغة(ابن أبي الحديد) ج 9