163 و من كلام له ع لبعض أصحابه
و قد سأله كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام و أنتم أحق به- فقال ع: يَا أَخَا بَنِي أَسَدٍ إِنَّكَ لَقَلِقُ الْوَضِينِ- تُرْسِلُ فِي غَيْرِ سَدَدٍ- وَ لَكَ بَعْدُ ذِمَامَةُ الصِّهْرِ وَ حَقُّ الْمَسْأَلَةِ- وَ قَدِ اسْتَعْلَمْتَ فَاعْلَمْ- أَمَّا الِاسْتِبْدَادُ عَلَيْنَا بِهَذَا الْمَقَامِ- وَ نَحْنُ الْأَعْلَوْنَ نَسَباً وَ الْأَشَدُّونَ بِالرَّسُولِ ص نَوْطاً- فَإِنَّهَا كَانَتْ أَثَرَةً شَحَّتْ عَلَيْهَا نُفُوسُ قَوْمٍ- وَ سَخَتْ عَنْهَا نُفُوسُ آخَرِينَ- وَ الْحَكَمُ اللَّهُ وَ الْمَعْوَدُ إِلَيْهِ يَوْمُ الْقِيَامَةِ-
وَ دَعْ عَنْكَ نَهْباً صِيحَ فِي حَجَرَاتِهِ
وَ لَكِنْ حَدِيثاً مَا حَدِيثُ الرَّوَاحِلِ
وَ هَلُمَّ الْخَطْبَ فِي ابْنِ أَبِي سُفْيَانَ- فَلَقَدْ أَضْحَكَنِي الدَّهْرُ بَعْدَ إِبْكَائِهِ- وَ لَا غَرْوَ وَ اللَّهِ- فَيَا لَهُ خَطْباً يَسْتَفْرِغُ الْعَجَبَ وَ يُكْثِرُ الْأَوَدَ- حَاوَلَ الْقَوْمُ إِطْفَاءَ نُورِ اللَّهِ مِنْ مِصْبَاحِهِ- وَ سَدَّ فَوَّارِهِ مِنْ يَنْبُوعِهِ- وَ جَدَحُوا بَيْنِي وَ بَيْنَهُمْ شِرْباً وَبِيئاً- فَإِنْ تَرْتَفِعْ عَنَّا وَ عَنْهُمْ مِحَنُ الْبَلْوَى- أَحْمِلْهُمْ مِنَ الْحَقِّ عَلَى مَحْضِهِ وَ إِنْ تَكُنِ الْأُخْرَى- فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ- إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ الوضين بطان القتب و حزام السرج- و يقال للرجل المضطرب في أموره إنه لقلق الوضين- و ذلك أن الوضين إذا قلق- اضطرب القتب أو الهودج أو السرج و من عليه- . و يرسل في غير سدد- أي يتكلم في غير قصد و في غير صواب- و السدد و الاستداد الاستقامة و الصواب- و السديد الذي يصيب السدد و كذلك المسد- و استد الشيء أي استقام- . و ذمامة الصهر بالكسر أي حرمته هو الذمام- قال ذو الرمة-
تكن عوجة يجزيكها الله عنده
بها الأجر أو تقضى ذمامة صاحب
و يروى ماتة الصهر أي حرمته و وسيلته- مت إليه بكذا- و إنما قال ع له و لك بعد ذمامة الصهر- لأن زينب بنت جحش زوج رسول الله ص كانت أسدية- و هي زينب بنت جحش بن رباب بن يعمر- بن صبرة بن مرة بن كثير بن غنم- بن دودان بن أسد بن خزيمة- و أمها أمية بنت عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف- فهي بنت عمة رسول الله ص- و المصاهرة المشار إليها هي هذه- . و لم يفهم القطب الراوندي ذلك فقال في الشرح- كان أمير المؤمنين ع قد تزوج في بني أسد و لم يصب- فإن عليا ع لم يتزوج في بني أسد البتة- و نحن نذكر أولاده- أما الحسن و الحسين- و زينب الكبرى و أم كلثوم الكبرى- فأمهم فاطمة بنت سيدنا رسول الله ص- و أما محمد فأمه خولة بنت إياس بن جعفر من بني حنيفة- و أما أبو بكر و عبد الله- فأمهما ليلى بنت مسعود النهشلية من تميم- و أما عمر و رقية فأمهما سبية من بني تغلب- يقال لها الصهباء سبيت في خلافة أبي بكر- و إمارة خالد بن الوليد بعين التمر- و أما يحيى و عون فأمهما أسماء بنت عميس الخثعمية- و أما جعفر و العباس و عبد الله و عبد الرحمن- فأمهم أم البنين بنت حزام بن خالد- بن ربيعة بن الوحيد من بني كلاب- و أما رملة و أم الحسن- فأمهما أم سعيد بنت عروة بن مسعود الثقفي- و أما أم كلثوم الصغرى و زينب الصغرى- و جمانة و ميمونة و خديجة و فاطمة و أم الكرام- و نفيسة و أم سلمة و أم أبيها و أمامة بنت علي ع- فهن لأمهات أولاد شتى فهؤلاء أولاده- و ليس فيهم أحد من أسدية- و لا بلغنا أنه تزوج في بني أسد و لم يولد له- و لكن الراوندي يقول ما يخطر له و لا يحقق- .
و أما حق المسألة- فلأن للسائل على المسئول حقا حيث أهله- لأن يستفيد منه- . و الاستبداد بالشيء التفرد به- و النوط الالتصاق- و كانت أثرة أي استئثارا بالأمر و استبدادا به- قال النبي ص للأنصار ستلقون بعدي أثرة- . و شحت بخلت و سخت جادت- و يعني بالنفوس التي سخت نفسه و بالنفوس التي شحت- أما على قولنا فإنه- يعني نفوس أهل الشورى بعد مقتل عمر- و أما على قول الإمامية فنفوس أهل السقيفة- و ليس في الخبر ما يقتضي صرف ذلك إليهم- فالأولى أن يحمل على ما ظهر عنه من تألمه- من عبد الرحمن بن عوف و ميله إلى عثمان- . ثم قال إن الحكم هو الله- و إن الوقت الذي يعود الناس كلهم إليه هو يوم القيامة- و روي يوم بالنصب على أنه ظرف- و العامل فيه المعود على أن يكون مصدرا- . و أما البيت فهو لإمرئ القيس بن حجر الكندي- و روي أن أمير المؤمنين ع لم يستشهد إلا بصدره فقط- و أتمه الرواة
حديث عن إمرئ القيس
و كان من قصة هذا الشعر- أن إمرأ القيس لما تنقل في أحياء العرب بعد قتل أبيه- نزل على رجل من جديلة طيئ يقال له طريف بن ملء- فأجاره و أكرمه و أحسن إليه فمدحه و أقام عنده- ثم إنه لم يوله نصيبا في الجبلين أجأ و سلمى- فخاف ألا يكون له منعة- فتحول و نزل على خالد بن سدوس بن أصمع النبهاني- فأغارت بنو جديلة على إمرئ القيس- و هو في جوار خالد بن سدوس فذهبوا بإبله- و كان الذي أغار عليه منهم باعث بن حويص- فلما أتى إمرأ القيس الخبر ذكر ذلك لجاره- فقال له أعطني رواحلك ألحق عليها القوم- فأرد عليك إبلك ففعل- فركب خالد في إثر القوم حتى أدركهم- فقال يا بني جديلة أغرتم على إبل جاري- فقالوا ما هو لك بجار قال بلى و الله و هذه رواحله- قالوا كذلك قال نعم فرجعوا إليه فأنزلوه عنهن- و ذهبوا بهن و بالإبل- و قيل بل انطوى خالد على الإبل فذهب بها- فقال إمرؤ القيس-
دع عنك نهبا صيح في حجراته
و لكن حديثا ما حديث الرواحل
كان دثارا حلقت بلبونه
عقاب تنوفى لا عقاب القواعل
تلعب باعث بذمة خالد
و أودى دثار في الخطوب الأوائل
و أعجبني مشي الحزقة خالد
كمشي أتان حلئت بالمناهل
أبت أجأ أن تسلم العام جارها
فمن شاء فلينهض لها من مقاتل
تبيت لبوني بالقرية أمنا
و أسرحها غبا بأكناف حائل
بنو ثعل جيرانها و حماتها
و تمنع من رماة سعد و نائل
تلاعب أولاد الوعول رباعها
دوين السماء في رءوس المجادل
مكللة حمراء ذات أسرة
لها حبك كأنها من وصائل
دثار اسم راع كان لإمرئ القيس- و تنوفى و القواعل جبال- و الحزقة القصير الضخم البطن- و اللبون الإبل ذوات الألبان- و القرية موضع معروف بين الجبلين- و حائل اسم موضع أيضا و سعد و نائل حيان من طيئ- و الرباع جمع ربع و هو ما نتج في الربيع- و المجادل القصور- و مكللة يرجع إلى المجادل مكللة بالصخر- و الأسرة الطريق و كذلك الحبك- و الوصائل جمع وصيلة- و هو ثوب أمغر الغزل فيه خطوط- و النهب الغنيمة و الجمع النهاب- و الانتهاب مصدر انتهبت المال- إذا أبحته يأخذه من شاء- و النهبى اسم ما أنهب و حجراته نواحيه- الواحدة حجرة مثل جمرات و جمرة- و صيح في حجراته صياح الغارة- و الرواحل جمع راحلة- و هي الناقة التي تصلح أن ترحل- أي يشد الرحل على ظهرها و يقال للبعير راحلة- و انتصب حديثا بإضمار فعل- أي هات حديثا أو حدثني حديثا- و يروى و لكن حديث- أي و لكن مرادي أو غرضي حديث فحذف المبتدأ- و ما هاهنا يحتمل أن تكون إبهامية- و هي التي إذا اقترنت باسم نكرة زادته إبهاما و شياعا- كقولك أعطني كتابا ما تريد أي كتاب كان- و يحتمل أن تكون صلة مؤكدة كالتي في قوله تعالى- فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَ كُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ- فأما حديث الثاني فقد ينصب و قد يرفع- فمن نصب أبدله من حديث الأول- و من رفع جاز أن يجعل ما موصولة بمعنى الذي- و صلتها الجملة أي الذي هو حديث الرواحل- ثم حذف صدر الجملة- كما حذف في تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ- و يجوز أن تجعل ما استفهامية بمعنى أي- .
ثم قال و هلم الخطب هذا يقوي رواية من روى عنه- أنه ع لم يستشهد إلا بصدر البيت- كأنه قال دع عنك ما مضى- و هلم ما نحن الآن فيه من أمر معاوية- فجعل هلم ما نحن فيه من أمر معاوية- قائما مقام قول إمرئ القيس-و لكن حديثا ما حديث الرواحل- . و هلم لفظ يستعمل لازما و متعديا- فاللازم بمعنى تعال- قال الخليل أصله لم من قولهم لم الله شعثه أي جمعه- كأنه أراد لم نفسك إلينا أي اجمعها و اقرب منا- و جاءت ها للتنبيه قبلها و حذفت الألف لكثرة الاستعمال- و جعلت الكلمتان كلمة واحدة- يستوي فيها الواحد و الاثنان و الجمع- و المؤنث و المذكر في لغة أهل الحجاز- قال سبحانه وَ الْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا- و أهل نجد يصرفونها فيقولون للاثنين هلما- و للجمع هلموا و على ذلك- و قد يوصل إذا كان لازما باللام- فيقال هلم لك و هلم لكما كما قالوا هيت لك- و إذا قيل لك هلم إلى كذا أي تعال إليه- قلت لا أهلم مفتوحة الألف و الهاء مضمومة الميم- فأما المتعدية فهي بمعنى هات- تقول هلم كذا و كذا قال الله تعالى هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ- و تقول لمن قال لك ذلك- لا أهلمه أي لا أعطيكه- يأتي بالهاء ضمير المفعول ليتميز من الأولى- .
يقول ع و لكن هات ذكر الخطب فحذف المضاف- و الخطب الحادث الجليل- يعني الأحوال- التي أدت إلى أن صار معاوية منازعا في الرئاسة- قائما عند كثير من الناس مقامه- صالحا لأن يقع في مقابلته و أن يكون ندا له- . ثم قال فلقد أضحكني الدهر بعد إبكائه- يشير إلى ما كان عنده من الكآبة لتقدم من سلف عليه- فلم يقنع الدهر له بذلك- حتى جعل معاوية نظيرا له- فضحك عمما تحكم به الأوقات- و يقتضيه تصرف الدهر و تقلبه- و ذلك ضحك تعجب و اعتبار- . ثم قال و لا غرو و الله أي و لا عجب و الله- . ثم فسر ذلك فقال يا له خطبا يستفرغ العجب- أي يستنفده و يفنيه- يقول قد صار العجب لا عجب- لأن هذا الخطب استغرق التعجب- فلم يبق منه ما يطلق عليه لفظ التعجب- و هذا من باب الإغراق و المبالغة في المبالغة- كما قال أبو الطيب-
أسفي على أسفي الذي دلهتني
عن علمه فبه علي خفاء
و شكيتي فقد السقام لأنه
قد كان لما كان لي أعضاء
و قال ابن هاني المغربي-
قد سرت في الميدان يوم طرادهم
فعجبت حتى كدت ألا أعجبا
و الأود العوج- . ثم ذكر تمالؤ قريش عليه فقال- حاول القوم إطفاء نور الله من مصباحه- يعني ما تقدم من منابذة طلحة و الزبير و أصحابهما له- و ما شفع ذلك من معاوية و عمرو و شيعتهما- و فوار الينبوع ثقب البئر- . قوله و جدحوا بيني و بينهم شربا- أي خلطوه و مزجوه و أفسدوه- . و الوبيء ذو الوباء و المرض- و هذا استعارة كأنه جعل الحال التي كانت بينه و بينهم- قد أفسدها القوم و جعلوها مظنة الوباء و السقم- كالشرب الذي يخلط بالسم أو بالصبر فيفسد و يوبئ- .
ثم قال فإن كشف الله تعالى هذه المحن- التي يحصل منها ابتلاء الصابرين و المجاهدين- و حصل لي التمكن من الأمر- حملتهم على الحق المحض الذي لا يمازجه باطل- كاللبن المحض الذي لا يخالطه شيء من الماء- و إن تكن الأخرى- أي و إن لم يكشف الله تعالى هذه الغمة و مت أو قتلت- و الأمور على ما هي عليه من الفتنة و دولة الضلال- فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ- و الآية من القرآن العزيز- . و سألت أبا جعفر يحيى بن محمد العلوي نقيب البصرة- وقت قراءتي عليه عن هذا الكلام- و كان رحمه الله على ما يذهب إليه من مذهب العلوية- منصفا وافر العقل- فقلت له من يعني ع بقوله- كانت أثرة شحت عليها نفوس قوم- و سخت عنها نفوس آخرين- و من القوم الذين عناهم الأسدي بقوله- كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام و أنتم أحق به- هل المراد يوم السقيفة أو يوم الشورى- فقال يوم السقيفة- فقلت إن نفسي لا تسامحني- أن أنسب إلى الصحابة عصيان رسول الله ص و دفع النص- فقال و أنا فلا تسامحني أيضا نفسي- أن أنسب الرسول ص إلى إهمال أمر الإمامة- و أن يترك الناس فوضى سدى مهملين- و قد كان لا يغيب عن المدينة إلا و يؤمر عليها أميرا- و هو حي ليس بالبعيد عنها- فكيف لا يؤمر و هو ميت لا يقدر على استدراك ما يحدث- .
ثم قال ليس يشك أحد من الناس- أن رسول الله ص كان عاقلا كامل العقل- أما المسلمون فاعتقادهم فيه معلوم- و أما اليهود و النصارى و الفلاسفة- فيزعمون أنه حكيم تام الحكمة سديد الرأي- أقام ملة و شرع شريعة- فاستجد ملكا عظيما بعقله و تدبيره- و هذا الرجل العاقل الكامل يعرف طباع العرب و غرائزهم- و طلبها بالثارات و الذحول و لو بعد الأزمان المتطاولة- و يقتل الرجل من القبيلة رجلا من بيت آخر-فلا يزال أهل ذلك المقتول- و أقاربه يتطلبون القاتل ليقتلوه- حتى يدركوا ثارهم منه- فإن لم يظفروا به قتلوا بعض أقاربه و أهله- فإن لم يظفروا بأحدهم قتلوا واحدا- أو جماعة من تلك القبيلة به- و إن لم يكونوا رهطه الأدنين- و الإسلام لم يحل طبائعهم- و لا غير هذه السجية المركوزة في أخلاقهم- و الغرائز بحالها- فكيف يتوهم لبيب أن هذا العاقل الكامل وتر العرب- و على الخصوص قريشا- و ساعده على سفك الدماء و إزهاق الأنفس- و تقلد الضغائن ابن عمه الأدنى و صهره- و هو يعلم أنه سيموت كما يموت الناس- و يتركه بعده و عنده ابنته- و له منها ابنان يجريان عنده مجرى ابنين- من ظهره حنوا عليهما و محبة لهما- و يعدل عنه في الأمر بعده- و لا ينص عليه و لا يستخلفه- فيحقن دمه و دم بنيه و أهله باستخلافه- أ لا يعلم هذا العاقل الكامل- أنه إذا تركه و ترك بنيه و أهله سوقة و رعية- فقد عرض دماءهم للإراقة بعده- بل يكون هو ع هو الذي قتله و أشاط بدمائهم- لأنهم لا يعتصمون بعده بأمر يحميهم-
و إنما يكونون مضغة للأكل و فريسة للمفترس- يتخطفهم الناس و تبلغ فيهم الأغراض- فأما إذا جعل السلطان فيهم و الأمر إليهم- فإنه يكون قد عصمهم- و حقن دماءهم بالرئاسة التي يصولون بها- و يرتدع الناس عنهم لأجلها- و مثل هذا معلوم بالتجربة- أ لا ترى أن ملك بغداد أو غيرها من البلاد- لو قتل الناس و وترهم- و أبقى في نفوسهم الأحقاد العظيمة عليه- ثم أهمل أمر ولده و ذريته من بعده- و فسح للناس أن يقيموا ملكا من عرضهم و واحدا منهم و جعل بنيه سوقة كبعض العامة- لكان بنوه بعده قليلا بقاؤهم سريعا هلاكهم- و لوثب عليهم الناس ذوو الأحقاد و الترات من كل جهة- يقتلونهم و يشردونهم كل مشرد- و لو أنه عين ولدا من أولاده للملك- و قام خواصه و خدمه و خوله بأمره بعده- لحقنت دماء أهلبيته- و لم تطل يد أحد من الناس إليهم لناموس الملك- و أبهة السلطنة و قوة الرئاسة و حرمة الإمارة- .
أ فترى ذهب عن رسول الله ص هذا المعنى- أم أحب أن يستأصل أهله و ذريته من بعده- و أين موضع الشفقة على فاطمة العزيزة عنده- الحبيبة إلى قلبه- . أ تقول إنه أحب أن يجعلها كواحدة من فقراء المدينة- تتكفف الناس و أن يجعل عليا المكرم المعظم عنده- الذي كانت حاله معه معلومة- كأبي هريرة الدوسي و أنس بن مالك الأنصاري- يحكم الأمراء في دمه و عرضه و نفسه و ولده- فلا يستطيع الامتناع- و على رأسه مائة ألف سيف مسلول- تتلظى أكباد أصحابها عليه- و يودون أن يشربوا دمه بأفواههم- و يأكلوا لحمه بأسنانهم- قد قتل أبناءهم و إخوانهم و آباءهم و أعمامهم- و العهد لم يطل و القروح لم تتقرف- و الجروح لم تندمل- . فقلت له لقد أحسنت فيما قلت- إلا أن لفظه ع يدل على أنه لم يكن نص عليه- أ لا تراه يقول و نحن الأعلون نسبا- و الأشدون بالرسول نوطا- فجعل الاحتجاج بالنسب و شدة القرب- فلو كان عليه نص لقال عوض ذلك- و أنا المنصوص علي المخطوب باسمي- .
فقال رحمه الله- إنما أتاه من حيث يعلم لا من حيث يجهل- أ لا ترى أنه سأله- فقال كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام- و أنتم أحق به فهو إنما سأل عن دفعهم عنه- و هم أحق به من جهة اللحمة و العترة- و لم يكن الأسدي يتصور النص و لا يعتقده- و لا يخطر بباله لأنه لو كان هذا في نفسه- لقال له لم دفعك الناس عن هذا المقام- و قد نص عليك رسول الله ص و لم يقل له هذا- و إنما قال كلاما عاما لبني هاشم كافة-كيف دفعكم قومكم عن هذا و أنتم أحق به- أي باعتبار الهاشمية و القربى- فأجابه بجواب أعاد قبله- المعنى الذي تعلق به الأسدي بعينه- تمهيدا للجواب فقال- إنما فعلوا ذلك مع أنا أقرب إلى رسول الله ص من غيرنا- لأنهم استأثروا علينا و لو قال له أنا المنصوص علي- و المخطوب باسمي في حياة رسول الله ص لما كان قد أجابه- لأنه ما سأله هل أنت منصوص عليك أم لا- و لا هل نص رسول الله ص بالخلافة على أحد أم لا- و إنما قال لم دفعكم قومكم عن الأمر- و أنتم أقرب إلى ينبوعه و معدنه منهم- فأجابه جوابا ينطبق على السؤال و يلائمه أيضا- فلو أخذ يصرح له بالنص- و يعرفه تفاصيل باطن الأمر لنفر عنه- و اتهمه و لم يقبل قوله و لم ينجذب إلى تصديقه- فكان أولى الأمور في حكم السياسة و تدبير الناس- أن يجيب بما لا نفرة منه و لا مطعن عليه فيه
شرح نهج البلاغة(ابن أبي الحديد) ج 9