162 و من خطبة له ع
ابْتَعَثَهُ بِالنُّورِ الْمُضِيءِ وَ الْبُرْهَانِ الْجَلِيِّ- وَ الْمِنْهَاجِ الْبَادِي وَ الْكِتَابِ الْهَادِي- أُسْرَتُهُ خَيْرُ أُسْرَةٍ وَ شَجَرَتُهُ خَيْرُ شَجَرَةٍ- أَغْصَانُهَا مُعْتَدِلَةٌ وَ ثِمَارُهَا مُتَهَدِّلَةٌ- مَوْلِدُهُ بِمَكَّةَ وَ هِجْرَتُهُ بِطَيْبَةَ- عَلَا بِهَا ذِكْرُهُ وَ امْتَدَّ مِنْهَا صَوْتُهُ- أَرْسَلَهُ بِحُجَّةٍ كَافِيَةٍ وَ مَوْعِظَةٍ شَافِيَةٍ وَ دَعْوَةٍ مُتَلَافِيَةٍ- أَظْهَرَ بِهِ الشَّرَائِعَ الْمَجْهُولَةَ- وَ قَمَعَ بِهِ الْبِدَعَ الْمَدْخُولَةَ- وَ بَيَّنَ بِهِ الْأَحْكَامَ الْمَفْصُولَةَ- فَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دَيْناً تَتَحَقَّقْ شِقْوَتُهُ- وَ تَنْفَصِمْ عُرْوَتُهُ وَ تَعْظُمْ كَبْوَتُهُ- وَ يَكُنْ مَآبُهُ إِلَى الْحُزْنِ الطَّوِيلِ وَ الْعَذَابِ الْوَبِيلِ- وَ أَتَوَكَّلُ عَلَى اللَّهِ تَوَكُّلَ الْإِنَابَةِ إِلَيْهِ- وَ أَسْتَرْشِدُهُ السَّبِيلَ الْمُؤَدِّيَةَ إِلَى جَنَّتِهِ- الْقَاصِدَةَ إِلَى مَحَلِّ رَغْبَتِهِ بالنور المضيء أي بالدين أو بالقرآن و أسرته أهله- أغصانها معتدلة- كناية عن عدم الاختلاف بينهم في الأمور الدينية- و ثمارها متهدلة أي متدلية- كناية عن سهولة اجتناء العلم منها- . و طيبة اسم المدينة كان اسمها يثرب- فسماها رسول الله ص طيبة-و مما أكفر الناس به يزيد بن معاوية- أنه سماها خبيثة مراغمة لرسول الله ص- . علا بها ذكره- لأنه ص إنما انتصر و قهر الأعداء بعد الهجرة- و دعوة متلافية- أي تتلافى ما فسد في الجاهلية من أديان البشر- .
قوله و بين به الأحكام المفصولة- ليس يعني أنها كانت مفصولة قبل أن بينها- بل المراد بين به الأحكام التي هي الآن مفصولة عندنا- و واضحة لنا لأجل بيانه لها- . و الكبوة مصدر كبا الجواد إذا عثر فوقع إلى الأرض- و المآب المرجع- و العذاب الوبيل ذو الوبال و هو الهلاك- و الإنابة الرجوع و السبيل الطريق يذكر و يؤنث- و القاصدة ضد الجائرة- فإن قلت لم عدى القاصدة ب إلى- قلت لأنها لما كانت قاصدة- تضمنت معنى الإفضاء إلى المقصد- فعداها ب إلى باعتبار المعنى:
أُوصِيكُمْ عِبَادَ اللَّهِ بِتَقْوَى اللَّهِ وَ طَاعَتِهِ- فَإِنَّهَا النَّجَاةُ غَداً وَ الْمَنْجَاةُ أَبَداً- رَهَّبَ فَأَبْلَغَ وَ رَغَّبَ فَأَسْبَغَ- وَ وَصَفَ لَكُمُ الدُّنْيَا وَ انْقِطَاعَهَا- وَ زَوَالَهَا وَ انْتِقَالَهَا- فَأَعْرِضُوا عَمَّا يُعْجِبُكُمْ فِيهَا لِقِلَّةِ مَا يَصْحَبُكُمْ مِنْهَا- أَقْرَبُ دَارٍ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ وَ أَبْعَدُهَا مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ-فَغُضُّوا عَنْكُمْ عِبَادَ اللَّهِ غُمُومَهَا وَ أَشْغَالَهَا- لِمَا أَيْقَنْتُمْ بِهِ مِنْ فِرَاقِهَا وَ تَصَرُّفِ حَالَاتِهَا- فَاحْذَرُوهَا حَذَرَ الشَّفِيقِ النَّاصِحِ وَ الْمُجِدِّ الْكَادِحِ- وَ اعْتَبِرُوا بِمَا قَدْ رَأَيْتُمْ مِنْ مَصَارِعِ الْقُرُونِ قَبْلَكُمْ- قَدْ تَزَايَلَتْ أَوْصَالُهُمْ- وَ زَالَتْ أَبْصَارُهُمْ وَ أَسْمَاعُهُمْ- وَ ذَهَبَ شَرَفُهُمْ وَ عِزُّهُمْ- وَ انْقَطَعَ سُرُورُهُمْ وَ نَعِيمُهُمْ- فَبُدِّلُوا بِقُرْبِ الْأَوْلَادِ فَقْدَهَا- وَ بِصُحْبَةِ الْأَزْوَاجِ مُفَارَقَتَهَا- لَا يَتَفَاخَرُونَ وَ لَا يَتَنَاسَلُونَ- وَ لَا يَتَزَاوَرُونَ وَ لَا يَتَحَاوَرُونَ- فَاحْذَرُوا عِبَادَ اللَّهِ حَذَرَ الْغَالِبِ لِنَفْسِهِ- الْمَانِعِ لِشَهْوَتِهِ النَّاظِرِ بِعَقْلِهِ- فَإِنَّ الْأَمْرَ وَاضِحٌ وَ الْعَلَمَ قَائِمٌ- وَ الطَّرِيقَ جَدَدٌ وَ السَّبِيلَ قَصْدٌ المنجاة مصدر نجا ينجو نجاة و منجاة- و النجاة الناقة ينجى عليها فاستعارها هاهنا للطاعة و التقوى- كأنها كالمطية المركوبة يخلص بها الإنسان من الهلكة- . قوله رهب فأبلغ الضمير يرجع إلى الله سبحانه- أي خوف المكلفين فأبلغ في التخويف- و رغبهم فأتم الترغيب و أسبغه- ثم أمر بالإعراض عما يسر و يروق من أمر الدنيا- لقلة ما يصحب الناس من ذلك- ثم قال إنها أقرب دار من سخط الله- و هذا نحوقول النبي ص حب الدنيا رأس كل خطيئة- .
قوله فغضوا عنكم عباد الله غمومها- أي كفوا عن أنفسكم الغم لأجلها و الاشتغال بها- يقال غضضت فلانا عن كذا أي كففته- قال تعالى وَ اغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ- قوله فاحذروها حذر الشفيق الناصح- أي فاحذروها على أنفسكم لأنفسكم- كما يحذر الشفيق الناصح على صاحبه- و كما يحذر المجد الكادح أي الساعي من خيبة سعيه- و الأوصال الأعضاء و المحاورة المخاطبة و المناجاة- و روي و لا يتجاورون بالجيم- و العلم ما يتسدل به في المفازة- و طريق جدد أي سهل واضح و السبيل قصد أي مستقيم
شرح نهج البلاغة(ابن أبي الحديد) ج 9