و من خطبة له عليه السّلام
بَعَثَهُ بِالنُّورِ الْمُضِيءِ وَ الْبُرْهَانِ الْجَلِيِّ- وَ الْمِنْهَاجِ الْبَادِي وَ الْكِتَابِ الْهَادِي- أُسْرَتُهُ خَيْرُ أُسْرَةٍ وَ شَجَرَتُهُ خَيْرُ شَجَرَةٍ- أَغْصَانُهَا مُعْتَدِلَةٌ وَ ثِمَارُهَا مُتَهَدِّلَةٌ-مَوْلِدُهُ بِمَكَّةَ وَ هِجْرَتُهُ بِطَيْبَةَ عَلَا بِهَا ذِكْرُهُ وَ امْتَدَّ مِنْهَا صَوْتُهُ- أَرْسَلَهُ بِحُجَّةٍ كَافِيَةٍ وَ مَوْعِظَةٍ شَافِيَةٍ وَ دَعْوَةٍ مُتَلَافِيَةٍ- أَظْهَرَ بِهِ الشَّرَائِعَ الْمَجْهُولَةَ- وَ قَمَعَ بِهِ الْبِدَعَ الْمَدْخُولَةَ- وَ بَيَّنَ بِهِ الْأَحْكَامَ الْمَفْصُولَةَ- فَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دَيْناً تَتَحَقَّقْ شِقْوَتُهُ- وَ تَنْفَصِمْ عُرْوَتُهُ وَ تَعْظُمْ كَبْوَتُهُ- وَ يَكُنْ مَآبُهُ إِلَى الْحُزْنِ الطَّوِيلِ وَ الْعَذَابِ الْوَبِيلِ- وَ أَتَوَكَّلُ عَلَى اللَّهِ تَوَكُّلَ الْإِنَابَةِ إِلَيْهِ- وَ أَسْتَرْشِدُهُ السَّبِيلَ الْمُؤَدِّيَةَ إِلَى جَنَّتِهِ- الْقَاصِدَةَ إِلَى مَحَلِّ رَغْبَتِهِ: أُوصِيكُمْ عِبَادَ اللَّهِ بِتَقْوَى اللَّهِ وَ طَاعَتِهِ- فَإِنَّهَا النَّجَاةُ غَداً وَ الْمَنْجَاةُ أَبَداً- رَهَّبَ فَأَبْلَغَ وَ رَغَّبَ فَأَسْبَغَ- وَ وَصَفَ لَكُمُ الدُّنْيَا وَ انْقِطَاعَهَا- وَ زَوَالَهَا وَ انْتِقَالَهَا- فَأَعْرِضُوا عَمَّا يُعْجِبُكُمْ فِيهَا لِقِلَّةِ مَا يَصْحَبُكُمْ مِنْهَا- أَقْرَبُ دَارٍ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ وَ أَبْعَدُهَا مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ- فَغُضُّوا عَنْكُمْ عِبَادَ اللَّهِ غُمُومَهَا وَ أَشْغَالَهَا- لِمَا قَدْ أَيْقَنْتُمْ بِهِ مِنْ فِرَاقِهَا وَ تَصَرُّفِ حَالَاتِهَا- فَاحْذَرُوهَا حَذَرَ الشَّفِيقِ النَّاصِحِ وَ الْمُجِدِّ الْكَادِحِ- وَ اعْتَبِرُوا بِمَا قَدْ رَأَيْتُمْ مِنْ مَصَارِعِ الْقُرُونِ قَبْلَكُمْ- قَدْ تَزَايَلَتْ أَوْصَالُهُمْ- وَ زَالَتْ أَبْصَارُهُمْ وَ أَسْمَاعُهُمْ- وَ ذَهَبَ شَرَفُهُمْ وَ عِزُّهُمْ- وَ انْقَطَعَ سُرُورُهُمْ وَ نَعِيمُهُمْ- فَبُدِّلُوا بِقُرْبِ الْأَوْلَادِ فَقْدَهَا- وَ بِصُحْبَةِ الْأَزْوَاجِ مُفَارَقَتَهَا- لَا يَتَفَاخَرُونَ وَ لَا يَتَنَاسَلُونَ- وَ لَا يَتَزَاوَرُونَ وَ لَا يَتَحَاوَرُونَ- فَاحْذَرُوا عِبَادَ اللَّهِ حَذَرَ الْغَالِبِ لِنَفْسِهِ- الْمَانِعِ لِشَهْوَتِهِ النَّاظِرِ بِعَقْلِهِ- فَإِنَّ الْأَمْرَ وَاضِحٌ وَ الْعَلَمَ قَائِمٌ- وَ الطَّرِيقَ جَدَدٌ وَ السَّبِيلَ قَصْدٌ
اللغة
أقول: اسرته: أهله.
و المتهدّلة: المتدلّية.
و طيبة: اسم للمدينة سمّاها به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قد كان اسمها يثرب، و روى أنّ يزيد بن معاوية سمّاها خيبة.
و تلافيت الشيء: استدركته.
و الكبوة: العثرة.
و الوبيل: المهلك.
و الكدح: السعى و العمل.
و خلاصة الفصل ذكر ممادح النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. ثمّ الموعظة الحسنة و التنفير عن الدنيا.
و النور المضيء نور النبوّة، و البرهان الجلىّ المعجزات و الآيات الموضحة لنبوّته، و المنهاج البادى هو شريعته و دينه الواضح، و الكتاب الهادى القرآن لهديه إلى سبيل الجنّة، و ظاهر كون اسرته خير الاسرة. و لفظ الشجرة مستعار لأصله، و ظاهر كون قريش أفضل العرب، و لفظ الأغصان مستعار لأشخاص بيته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كعليّ و أولاده و زوجته و أعمامه و إخوانه، و اعتدال هذه الأغصان تقاربهم في الفضل و الشرف، و ثمارها مستعار لفضائلهم العلميّة و العمليّة، و تهدّلها كناية عن ظهورها و كثرتها و سهولة الانتفاع بها، و ذكر مولده بمكّة و حجرته بالمدينة في معرض مدحته لشرف مكّة بالبيت العتيق و شرف المدينة بأهلها حيث آووه و نصروه حين هاجر إليها فعلا بها ذكره و انتشرت فيها صيته و امتدّت دعوته، و لأنّه هاجر إليها و هي بلدة مجدب قليل الخصب ضعيف الأهل مع غلبة خصومه و قوّة المشركين عليه في ذلك الوقت. ثمّ إنّه مع ذلك علا بها ذكره و انتشرت فيها صيته فكان ذلك من آيات نبوّته أيضا، و الحجّة الكافية ما جاء به من الآيات الّتي قهر بها أعداء اللّه، و الموعظة الشافية ما اشتمل عليه القرآن العظيم و السنّة الكريمة من الوعد و الوعيد و ضرب الأمثال و التذكير بالقرون الماضية و الآراء المحمودة الجاذبة للناس في أرشد الطرق إلى جناب ربّهم، و كفى بها شفاء للقلوب من أدواء الجهل، و الدعوة المتلافية فإنّه استدرك بها ما فسد من نظام الخلق و تلافى بها ما هلك من قلوبهم و أسوّد من ألواح نفوسهم، و الشرائع المجهولة طرايق دينه و قوانين شريعته الّتي لم يكن ليهتدى إليها إلّا بظهوره، و البدع ما كانت عليه أهل الجاهليّة من الآثام و الفساد في الأرض، و الأحكام المفصولة ما فصّله و بيّنه لنا من أحكام دين الإسلام الّذي من ابتغى غيره دينا ضلّ عن سواء طريق النجاة فتحقّقت شقوته في الآخرة و انفصمت عروته: أى انقطع متمسّك النجاة في يده فعظمت عثرته في سفره إلى الآخرة و كان مرجعه إلى الحزن الطويل على ما فرّط في جنب اللّه و مصيره إلى العذاب المهلك في دار البوار.
ثمّ أنشأ يتوكّل على اللّه توكّل المنيب إليه: أى الملتفت بقلبه عن غيره المسلّم بجميع اموره إليه، و يسأله الإرشاد إلى سبيله القاصدة إلى جنّته الّتي هي محلّ الرغبة إليه. ثمّ عقّب بالموعظة فبدء بالوصيّة بتقوى اللّه و طاعته و أطلق عليها لفظ النجاة مجازا إطلاقا لاسم المسبّب على السبب المادّى لكونها معدّة لإفاضة النجاة من عذاب يوم القيامة. و قيل: النجاة الناقة الّتي ينجى عليها فاستعار لفظها للطاعة لأنّها كالمطيّة ينجو بها المطيع من العطب، و لفظ المنجاة إذ هي محلّ النجاة دائما، و الضمير في رهّب و رغّب للّه: أى فأبلغ في وعيده و أسبغ الترغيب فاتمه و وصف الدنيا بالاوصاف الموجبه للرغبه عنها. ثم امر عليه السلام بالإعراض عن زينتها، و علّل حسن ذلك الإعراض بقلّة ما يستصحب الإنسان منها إلى الآخرة، و أراد الإعراض بالقلب الّذي هو الزهد الحقيقيّ، و إنّما قال: لقلّة ذلك و لم يقل لعدمه لأنّ السالكين لابدّ أن يستصحبوا منها شيئا و هو ما يكتسبه أحدهم من الكمالات إلى الآخرة لكن القدر الّذي يكتسبه المترفون من الكمالات إذا قصدوا بأموالهم و سائر زينة الحياة الدنيا الوصول إلى اللّه تعالى قليل نور، و مع ذلك فهم في غاية الخطر من مزلّة القدم في كلّ حركة و تصرّف بخلاف أمر القشف الّذين اقتصروا منها على مقدار الضرورة البدنيّة، و يحتمل أن يريد بالقليل الّذي يصحبهم منها كالكفن و نحوه، و إنّما كانت أقرب دار من سخط اللّه و أبعدها من إطاعة اللّه لأنّ الميل فيها إلى اللهو و اللعب و الاستمتاع بزينتها المستلزم لسخط اللّه أغلب من الانتفاع بها في سلوك سبيل اللّه. و قوله: فغضّوا. أى فكفّوا عن أنفسكم الغمّ لأجلها و الاشتغال بها لما تيقّنتم من فراقها لأنّ الغمّ إنّما ينبغي أن يوجّه نحو ما يبقى. ثمّ حذّر منها حذر الشفيق على نفسه الناصح المجدّ الكادح لها. ثمّ أخذ في الأمر باعتبار ما هو مشاهد من مصارع القرون الماضية و أحوالها الخالية من تفرّق أوصالهم و زوال أسماعهم و أبصارهم إلى سائر ما عدّده من الأحوال الّتي نزلت بهم و استبدلوها من الأحوال الدنيويّة الّتي كانوا عليها. ثمّ حذّر منها حذر الغالب لنفسه الأمّارة بالسوء الناظر بعين عقله مقابح شهوته المانع لها عن العبور إلى حدّ الإفراط من فضيلة العفّة فإنّ أمر الدنيا و الآخرة واضح لمن اعتبر حالهما، و علم الشريعة الهادي إلى الحقّ قائم، و الطريق إلى اللّه سهل مستقيم قاصد: أى فلا يكن أمركم عليكم غمّة.
شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 3 ، صفحهى 289