و من خطبة له عليه السّلام
القسم الأول
وَ أَسْتَعِينُهُ عَلَى مَدَاحِرِ الشَّيْطَانِ وَ مَزَاجِرِهِ- وَ الِاعْتِصَامِ مِنْ حَبَائِلِهِ وَ مَخَاتِلِهِ وَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ وَ نَجِيبُهُ وَ صَفْوَتُهُ- لَا يُؤَازَى فَضْلُهُ وَ لَا يُجْبَرُ فَقْدُهُ- أَضَاءَتْ بِهِ الْبِلَادُ بَعْدَ الضَّلَالَةِ الْمُظْلِمَةِ- وَ الْجَهَالَةِ الْغَالِبَةِ وَ الْجَفْوَةِ الْجَافِيَةِ- وَ النَّاسُ يَسْتَحِلُّونَ الْحَرِيمَ- وَ يَسْتَذِلُّونَ الْحَكِيمَ- يَحْيَوْنَ عَلَى فَتْرَةٍ وَ يَمُوتُونَ عَلَى كَفْرَةٍ ثُمَّ إِنَّكُمْ مَعْشَرَ الْعَرَبِ أَغْرَاضُ بَلَايَا قَدِ اقْتَرَبَتْ- فَاتَّقُوا سَكَرَاتِ النِّعْمَةِ وَ احْذَرُوا بَوَائِقَ النِّقْمَةِ- وَ تَثَبَّتُوا فِي قَتَامِ الْعِشْوَةِ وَ اعْوِجَاجِ الْفِتْنَةِ- عِنْدَ طُلُوعِ جَنِينِهَا وَ ظُهُورِ كَمِينِهَا- وَ انْتِصَابِ قُطْبِهَا وَ مَدَارِ رَحَاهَا- تَبْدَأُ فِي مَدَارِجَ خَفِيَّةٍ وَ تَئُولُ إِلَى فَظَاعَةٍ جَلِيَّةٍ- شِبَابُهَا كَشِبَابِ الْغُلَامِ وَ آثَارُهَا كَآثَارِ السِّلَامِ- يَتَوَارَثُهَا الظَّلَمَةُ بِالْعُهُودِ أَوَّلُهُمْ قَائِدٌ لِآخِرِهِمْ- وَ آخِرُهُمْ مُقْتَدٍ بِأَوَّلِهِمْ يَتَنَافَسُونَ فِي دُنْيَا دَنِيَّةٍ- وَ يَتَكَالَبُونَ عَلَى جِيفَةٍ مُرِيحَةٍ- وَ عَنْ قَلِيلٍ يَتَبَرَّأُ التَّابِعُ مِنَ الْمَتْبُوعِ- وَ الْقَائِدُ مِنَ الْمَقُودِ فَيَتَزَايَلُونَ بِالْبَغْضَاءِ- وَ يَتَلَاعَنُونَ عِنْدَ اللِّقَاءِ- ثُمَّ يَأْتِي بَعْدَ ذَلِكَ طَالِعُ الْفِتْنَةِ الرَّجُوفِ- وَ الْقَاصِمَةِ الزَّحُوفِ فَتَزِيغُ قُلُوبٌ بَعْدَ اسْتِقَامَةٍ- وَ تَضِلُّ رِجَالٌ بَعْدَ سَلَامَةٍ- وَ تَخْتَلِفُ الْأَهْوَاءُ عِنْدَ هُجُومِهَا- وَ تَلْتَبِسُ الْآرَاءُ عِنْدَ نُجُومِهَا- مَنْ أَشْرَفَ لَهَا قَصَمَتْهُ وَ مَنْ سَعَى فِيهَا حَطَمَتْهُ- يَتَكَادَمُونَ فِيهَا تَكَادُمَ الْحُمُرِ فِي الْعَانَةِ- قَدِ اضْطَرَبَ مَعْقُودُ الْحَبْلِ وَ عَمِيَ وَجْهُ الْأَمْرِ- تَغِيضُ فِيهَا الْحِكْمَةُ وَ تَنْطِقُ فِيهَا الظَّلَمَةُ- وَ تَدُقُّ أَهْلَ الْبَدْوِ بِمِسْحَلِهَا- وَ تَرُضُّهُمْ بِكَلْكَلِهَا يَضِيعُ فِي غُبَارِهَا الْوُحْدَانُ- وَ يَهْلِكُ فِي طَرِيقِهَا الرُّكْبَانُ تَرِدُ بِمُرِّ الْقَضَاءِ- وَ تَحْلُبُ عَبِيطَ الدِّمَاءِ وَ تَثْلِمُ مَنَارَ الدِّينِ- وَ تَنْقُضُ عَقْدَ الْيَقِينِ- يَهْرُبُ مِنْهَا الْأَكْيَاسُ وَ يُدَبِّرُهَا الْأَرْجَاسُ- مِرْعَادٌ مِبْرَاقٌ كَاشِفَةٌ عَنْ سَاقٍ تُقْطَعُ فِيهَا الْأَرْحَامُ- وَ يُفَارَقُ عَلَيْهَا الْإِسْلَامُ بَرِيئُهَا سَقِيمٌ وَ ظَاعِنُهَا مُقِيمٌ
اللغة
أقول: المداحر: جمع مدحر. و هي الامور الّتي بها يدحر: أى يطرد. و مخاتلها: محالّ غروره الّتي يخيّل إلى الناس بها و يوهمهم أنّها نافعة. و البوائق:جمع بائقة، و هي الداهية. و القتام بفتح القاف: الغبار. و العشوة بكسر العين: الأمر على غير بيان و وضوح. و الفظاعة: تجاوز الأمر الشديد الحدّ و المقدار. و السلام بالكسر: الحجارة الصمّ واحدها سلمة بكسر السين. و المريحة: المنتنة. و يتزايلون: يتفارقون. و نجومها: طلوعها. و أشرف لها: أى انتصب لدفعها. و التكادم: التعاضّ بأدنى الفم. و العانة: القطيع من حمر الوحش. و المسحل: المبرد، و المسحل: حلقة تكون في طرف شكيمة اللجام مدخلة في مثلها. و الوحدان: جمع واحد. و العبيط: الخالص الطرىّ.
المعنى
و صدّر هذا الفصل باستعانة اللّه تعالى على ما يدحر الشيطان و يزجر به. و ذلك هو العبادات و الأعمال الصالحة المستلزمة لطرده و زجره و تطويعه، و على الاعتصام من حبائله و مخاتله. و هي الشهوات و اللذّات الدنيويّة، و استعار لها لفظ الحبايل و هي أشراك الصايد لمشابهتها إيّاها في استلزام الحصول فيهما للبعد عن السلامة و الحصول في العذاب، و من ممادح الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كونه نجيبا للّه: أى مختارا، و روى نجيّه، و صفوة له من خلقه لا يوازى فضله: أى لا يحصل مثله في أحد.
إذ كان كماله في قوّتيه النظريّة و العمليّة غير مدرك لأحد من الخلق، و من كان كذلك لم يجبر فقده إلّا بقيام مثله من الناس، و إذ لا مثل له فيهم فلا جبران لفقده. و قوله: أضاءت به البلاد بعد الضلالة. أى ضلالة الكفر، و وصفها بالظلمة لعدم الاهتداء فيها للحقّ. و الوصف مستعار، و كذلك وصف الإضاءة به مستعار لاهتداء الخلق به في معاشهم و معادهم، و إسناد الإضاءة إلى البلاد مجاز. أو الجهالة الغالبة على أكثر الخلق، و أراد الجهل بالطريق إلى اللّه تعالى و بكيفيّة نظام المعاش ممّا بيّنه هو و كشفه بشريعته. و الجفوة الجافية يريد غلظة العرب و ما كانوا عليه من قساوة القلوب و سفك الدماء، و وصفها بما اشتقّ منها مبالغة و تأكيدا لها، و أراد الجفوة القويّة. و الناس يستحلّون الحريم الواو للحال و العامل أضاءت و يستذلّون الحكيم، و ظاهر من عادة العرب إلى الآن استذلال من عقل منهم و حلم عن الغارة و النهب و إثارة الفتن، و استنهاضه بنسبته إلى الجبن و الضعف. و يحيون على فترة: أى على حالة انقطاع الوحى و الرسل، و تلك حال انقطاع الخير و موت النفوس بداء الجهل. و يموتون على كفرة و هي الفعلة من الكفر لأهل كلّ قرن حيث لا هادى لهم. ثمّ أخذ عليه السّلام في إنذار السامعين باقتراب حوادث الوقايع المستقبلة الّتي يرمون بها كما يرمى الغرض بالسهام، و استعار لفظ الغرض لهم، و لمّا كانت الفتن الحادثة كتدمير قوم و إهلاكهم مثلا بحسب استعدادهم لذلك و كان أكبر الأسباب المعدّة له هي الغفلة عن ذكر اللّه بالانهماك في نعم الدنيا و لذّاتها استعار للغفلات لفظ السكرات.
ثمّ أمر باتّقائها، و حذّر من دواهي النقمات بسبب كفران النعم. ثمّ أمر بالتثبّت أو التبيّن على الروايتين عند اشتباه الامور عليهم و ظهور الشبهة المثيرة للفتن كشبهة قتل عثمان الّتي نشأت منها وقايع الجمل و صفّين و الخوارج، و استعار لفظ القتام لذلك الأمر المشتبه، و وجه المشابهة كون ذلك الأمر ممّا لا يهتدى فيه خائضوه كما لا يهتدى القائم في القتام عند ظهوره و خوضه، و اعوجاج الفتنة إتيانها على غير وجهها، و لفظ الجنين يحتمل أن يكون حقيقة: أى عند طلوع ما اجتنّ منها و خفى عليكم، و كذلك كمينها: أى ما كمن منها و استتر، و يحتمل أن يكون استعارة، و عنّى بقطبها من تدور عليه من البغاة المنافرين استعارة. و انتصابه: قيامه لذلك الأمر، و كذلك استعار لفظ مدار الرحى لدورانها على من تدور عليه من أنصار ذلك القطب و عسكره الّذين تدور عليهم الفتنة. ثمّ أخبر أنّها تبدء في مدارج خفيّة، و أراد بالمدارج صدور من ينوى القيام فيها و يقصد [يعقد على خ] إثارتها، و كان هذا إشارة إلى فتنة بنى أميّة، و قد كان مبدأها شبهة قتل عثمان، و لم يكن أحد من الصحابة يتوهّم خصوصيّة هذه الفتنة و إنّما كانوا علموا من الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حدوث وقايع و فتن غير معيّنة الأزمان، و لا من يثيرها و يكون قطبا لها. فخفاء مدارجها كتمان معاوية و طلحة و الزبير و غيرهم لامورهم و ما عزموا عليه من إقامة الفتنة و الطمع في الملك و الدولة حتّى آل ذلك الطمع إلى الامور القطعيّة الواضحة بعد الخفاء، و استعار لفظ الشباب لقيامها و ظهورها في الناس، و وجه المشابهة السرعة في الظهور و لذلك أكّدها بتشبيه ذلك الظهور بشباب الغلام: أى في السرعة، و مع سرعتها لها آثار في هدم الإسلام كآثار الحجارة الصلب في الجلد، و وجه الشبه إفسادها للبين و لنظام المسلمين كإفساد الحجر ما يقع عليه بالرضّ و الكسر، و أشار بالظلمة الّتي يتوارثونها إلى بنى اميّة بعهد الأب لابنه إلى آخرهم، و ذكر قود أوّلهم لآخرهم إلى النار و الدخول في الظلم و الضلالة و إثارة تلك الفتن، و استعار لفظ القود لتهيئة الأوّل منهم أسباب الملك لمن بعده و اقتداء آخرهم بأوّلهم في ذلك، و ضمير المفعول في يتوارثونها يرجع إلى تلك الفتنة. ثمّ أشار إلى صفة حالهم في إثارة تلك الفتن و توارثها و هي المنافسة في الدنيا الدنيّة في نظر العقلاء، و استعار لفظ التكالب لمجاذبة بعضهم لبعض عليها كالمجاذبة بين الكلاب على الميتة. و استعار لها لفظ الجيفة، و رشّح بذكر المريحة للتنفير عنها، و وجهها كونها مستلزمة لأذى طالبها مهروبا منها العقلاء كالهرب من الجيفة المنتنة و الانزواء عنها. ثمّ أخبر بانقضائها عن قليل، و كنّى عن ذلك بتبرّء التابع من المتبوع و القايد من المقود: أى يتبرّء كلّ من الفريقين من الآخر كما قال تعالى «إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا»«». و قوله «قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً»«» و ذلك التبرّء قيل عند ظهور الدولة العباسيّة فإنّ العادة جارية بتبرّء الناس من الولاة المعزولين خصوصا عند الخوف ممّن تولّى عزل اولئك أو قتلهم فيتباينون بالبغضاء إذ لم تكن الفتهم و محبّتهم إلّا لغرض دنياوىّ زال، و يتلاعنون عند اللقاء. و قيل ذلك يوم القيامة. قوله: و عن قليل. إلى قوله: عند اللقاء. جملة اعتراضيّة مؤكّد بها معنى تعجبّه منهم فكأنّه قال: إنّهم على تكالبهم عليها عن قليل يتبرّء بعضهم من بعض، و ذلك أدعى لهم إلى ترك التكالب عليها.
و قوله: ثمّ يأتي بعد ذلك طالع الفتنة الرجوف، و كان هذه الفتنة هى فتنة التتار إذ الدائره فيها على العرب. و قال بعض الشارجين: بل ذلك إشارة إلى الملحمة الكائنة في آخر الزّمان كفتنة الدّجال، و كنّى عن أهوالها و اضطراب أمر الإسلام فيها بكونها رجوفا: أى كثيرة الرجف، و طالعها مقدّماتها و أوائلها، و كنّى بقصمها عن إهلاك الخلق فيها، و استعار لها لفظ الزحوف ملاحظة لشبهها بالرجل الشجاع كثير الزحف في الحرب إلى أقرانه: أي يمشي إليهم قدما. ثمّ شرع في بيان أفعال تلك الفتنة بالناس من إزاغة قلوب قوم عن سبيل اللّه تعالى بعد استقامتها عليه، و ضلال رجال: أي هلاكهم في الآخرة بالمعاصي بعد سلامة منها، و اختلاف الأهواء عن إرادة اللّه بهجومها، و التباس الآراء الصحيحة بالفاسدة عند ظهورها على الناس فلا يعرفون وجه المصلحة من غيره، و من يطلع إلى مقاومتها و سعى في دفعها هلك، و استعار لفظ التكادم إمّا لمغالبة مشيرى هذه الفتنة بعضهم لبعض أو مغالبتهم لغيرهم، و شبّه ذلك بتكادم الحمر في العانة، و وجه التشبيه المغالبة مع الإيماء: أى خلعهم ربق التكليف من أعناقهم و كثرة غفلتهم عمّا يراد بهم في الآخرة، و استعار معقود الحبل لما كان انبرم من دولة الإسلام و استعار لفظ الحبل للدين، و كنّى باضطرابه عن عدم استقرار قواعد الدين عند ظهور أوّل هذه الفتنة، و عمى وجه هذا الأمر: أى عدم الاهتداء إلى وجه المصلحة، و أشار بالحكمة الّتى تغيض فيها إلى الحكمة الخلقيّة الّتى عليها مدار الشريعة و تعليمها، و استعار لفظ الغيض لعدم ظهورها و الانتفاع بها و ينطق فيها الظلمة بالأمر و النهى، و ما يقتضيه آراؤهم الخارجة عن العدل، و استعار لفظ المسحل لما تؤذى به العرب و أهل البادية، و وجه المشابهة اشتراك المبرد أو شكيمة اللجام و ما تؤذى به العرب من هذه الفتنة في الإيذاء فكأنّها شجاع ساق عليهم فدقّهم بشكيمة فرسه أو نحو ذلك، و كذلك استعار لفظ الكلكل لما يدهم البدو منها ملاحظة لشبهها بالناقة التي برك على الشيء فتستحقه.
و قوله: يضيع في غبارها الوحدان و يهلك في طريقها الركبان. كناية عن عظمتها: أي لا يقاومها أحد و لا يخلص منها الوحدان و الركبان، و لفظ الغبار مستعار للقليل اليسير من حركة أهلها: أى أنّ القليل من الناس إذا أرادوا دفعها هلكوا في غبارها من دون أن يدخلوا في غمارها، و أمّا الركبان و كنّى بهم عن الكثير من الناس فإنّهم يهلكون في طريقها و عند خوضها، و قيل: أراد بالوحدان فضلاء الوقت. إذ يقال: فلان واحد وقته، و بالغبار الشبه الّتى تغطى الحقّ عن أعينهم، و يكون الركبان كناية عن الجماعة أهل القوّة، و إذا كان هؤلاء يهلكون في طريقها: أى عند الخوض لغمراتها فكيف بغيرهم، و كنّى بمرّ القضاء عن القتل و الأسر و نحوهما، و ظاهر كون المواردات الموذية أو النافعة واردة عن القضاء الإلهىّ معلومة الكون، و كذلك استعار وصف الحلب لها ملاحظة لشبهها بالناقة، و كنّى بذلك عن سفك الدماء فيها، و منار الدين أعلامه و هم علماؤه و يحتمل أن يريد قوانينه الكلّيّة، و ثلمها عبارة عن قتل العلماء و هدم قواعد الدين و ترك العمل به، و عقد اليقين هو الاعتقاد الموصل إلى علم اليقين أو إلى عين اليقين و هو اعتقاد الشريعة و إيصال ذلك إلى جوار اللّه تعالى و القرب منه و نقضه هو ترك العمل على وفقه من تغيّره و تبدّله، و الأكياس الهاربون منها هم العلماء و أهل العقول السليمة و كلّ هذه الإشارات معلومة من فتنة من ذكرنا، و ظاهر كونهم أرجاس النفوس يرجس الشيطان أنجاسها بالهيئات البدنيّة، و الملكات الرديئة أنجاس الأبدان بحكم الشريعة، و كنّى عن شدّتها و كونها محلّ المخاوف بوصف المرعاد و المبراق المستعارين ملاحظة لشبهها بالسحابة كثيرة البروق و الرعود بوصف كشفها عن ساق عن إقبالها مجرّدة كالمشمّر للحرب أو لأمر مهمّ، و ظاهر كونها تقطع فيها الأرحام و يفارق عليها الإسلام، و أشار بريّها إلى من يعتقد في هذه الدولة أنّه ذو صلاح برىء من المعاصى و الآثام مع كونه ليس كذلك. إذ من الظاهر أنّ السالم في هذه الفتنة من معصية اللّه قليل بل أقلّ من القليل، و لعلّه عند الاستقراء لا يوجد، و أشار بظاعنها إلى من يعتقد أنّه متخلّف عنها و غير داخل فيها و ظاهر كونه غير منحرف عنها، و يحتمل أن يريد أنّ من ارتحل عنها خوفا لا ينجو منها، و باللّه التوفيق.
القسم الثاني منها:
بَيْنَ قَتِيلٍ مَطْلُولٍ وَ خَائِفٍ مُسْتَجِيرٍ- يَخْتِلُونَ بِعَقْدِ الْأَيْمَانِ وَ بِغُرُورِ الْإِيمَانِ- فَلَا تَكُونُوا أَنْصَابَ الْفِتَنِ وَ أَعْلَامَ الْبِدَعِ- وَ الْزَمُوا مَا عُقِدَ عَلَيْهِ حَبْلُ الْجَمَاعَةِ- وَ بُنِيَتْ عَلَيْهِ أَرْكَانُ الطَّاعَةِ- وَ اقْدَمُوا عَلَى اللَّهِ مَظْلُومِينَ وَ لَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ ظَالِمِينَ- وَ اتَّقُوا مَدَارِجَ الشَّيْطَانِ وَ مَهَابِطَ الْعُدْوَانِ- وَ لَا تُدْخِلُوا بُطُونَكُمْ لُعَقَ الْحَرَامِ- فَإِنَّكُمْ بِعَيْنِ مَنْ حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَعْصِيَةَ- وَ سَهَّلَ لَكُمْ سُبُلَ الطَّاعَةِ
اللغة
أقول: يقال: طلّ دم فلان فهو مطلول: إذا هدر و لم يطلب به. و يختلون: يخدعون، و اللعق: جمع لعقة، و هي اسم لما تناوله الملعقة مرّة.
المعنى
فقوله: بين قتيل. إلى قوله: مستجير. يشبه أن يكون صفة حال المتمسّكين بالدين في زمان الفتنة الاولى. و قوله: يختلون. إلى قوله: و بغرور الإيمان. صفة حال استجلاب هؤلاء المقتولين: أي أنّهم يخدعون بإعطاء الأقسام و العهود الكاذبة و ذلك كخداع الحسين عليه السّلام عن نفسه و أصحابه، روي يختلون بالبناء للفاعل فيكون وصف حال أهل الفتنة و أتباعهم. ثمّ أخذ في نهى السامعين أن يكونوا أنصارا للفتن الّتي يدركونها، و أعلاما للبدع: أي رؤساء يشار إليهم فيها، و يقتدي بهم كما يشار إلى الأعلام البيّنة و يقتدي بها، و في الخبر كن في الفتنة كابن لبون لا ظهر فيركب و لا ضرع فيحلب.
و قوله: و أقدموا على اللّه مظلومين. ليس المراد منه الأمر بالانظلام فإنّ ذلك طرف التفريط من فضيلة العدالة، و هي رذيلة بل المراد إنّكم إذا كانت لكم مكنة من الظلم فلا تظلموا و لو استلزم ترك الظلم انظلامكم و هو كسر للنفوس عن رذيلة الظلم خصوصا نفوس العرب فإنّها أكثر تطاولا إلى الظلم و أمنع عن قبول الانظلام و الانفعال عنه و إن استلزم الظلم كما أشار إليه العربيّ.
و من لم يذد عن حوضه بسهامه يهدم و من لا يظلم القوم يظلم و مدارج الشيطان: طرقه، و هي الرذائل الّتي يحسّنها و يقود إليه، و كذلك مهابط العدوان محالّة الّتي يهبط فيها. و هي من طرق الشيطان أيضا، و لعق الحرام كناية عمّا يكتسبه الإنسان من الدنيا و متاعها على غير الوجه الشرعىّ، و نبّه، باللعق على قلتها و حقارتها بالنسبة الى متاع الاخرة و نبه على وجوب الانتهاء عمّا نهى عنه بقوله: فإنّكم بعين من حرّم عليكم. إلى آخره يقال: فلان من فلان بمرآ و مسمع و بعين منه إذا كان مطّلعا على أمره: أي فإنّ الّذي حرّم عليكم المعصية و أوجب عليكم طاعته مطّلع عليكم و عالم بما تفعلون، و ذلك أردع لهم من النهى المجرّد، و لفظ العين مجاز في العلم.
شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 3 ، صفحهى 221