و من كلام له عليه السّلام في ذكر أهل البصرة
كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَرْجُو الْأَمْرَ لَهُ- وَ يَعْطِفُهُ عَلَيْهِ دُونَ صَاحِبِهِ- لَا يَمُتَّانِ إِلَى اللَّهِ بِحَبْلٍ- وَ لَا يَمُدَّانِ إِلَيْهِ بِسَبَبٍ- كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَامِلُ ضَبٍّ لِصَاحِبِهِ- وَ عَمَّا قَلِيلٍ يُكْشَفُ قِنَاعُهُ بِهِ- وَ اللَّهِ لَئِنْ أَصَابُوا الَّذِي يُرِيدُونَ- لَيَنْتَزِعَنَّ هَذَا نَفْسَ هَذَا- وَ لَيَأْتِيَنَّ هَذَا عَلَى هَذَا- قَدْ قَامَتِ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ فَأَيْنَ الْمُحْتَسِبُونَ- فَقَدْ سُنَّتْ لَهُمُ السُّنَنُ وَ قُدِّمَ لَهُمُ الْخَبَرُ- وَ لِكُلِّ ضَلَّةٍ عِلَّةٌ وَ لِكُلِّ نَاكِثٍ شُبْهَةٌ- وَ اللَّهِ لَا أَكُونُ كَمُسْتَمِعِ اللَّدْمِ- يَسْمَعُ النَّاعِيَ وَ يَحْضُرُ الْبَاكِيَ
اللغة
أقول: متّ إليه بكذا: أى تقرّب إليه به. و الضبّ: الحقد و الغلّ. و المحتسبون: طالبون الأجر و الثواب. و اللدم: ضرب الصدر باليد فعل الحزين،
المعنى
و الضمير في منهما راجع إلى طلحة و الزبير، و الأمر: أمر الخلافة، و ذلك حين خرجا إلى البصرة مع عائشة، و يعطفه إليه: يجذبه إلى نفسه و يزعم أنّه أحقّ به من صاحبه. و قوله: لا يمتّان. إلى قوله: بسبب. أى لا حجّة يعتذران إلى اللّه تعالى بها في قتالهما له عليه السّلام و هلاك المسلمين فيما بينهم.
و قوله: كلّ واحد منهما حامل ضبّ لصاحبه. أى في صدره غلّ عليه و عمّا قليل يظهر و ينكشف، و استعار لفظ القناع لظاهره الساتر لباطنه، و ذلك مثل يضرب لمن ينافق صاحبه و يظهر له الصداقة مع حسده و عقوقه له في الباطن. و العرب تضرب بالضبّ المثل في العقوق. فيقال: أعقّ من ضبّ. و ذلك أنّه ربّما يأكل حسوله. ثمّ أقسم لئن أصابوا بغيتهم لينزعنّ هذا و ليأتينّ عليه: أى يسعى كلّ منهم في قتل صاحبه، و هذا ممّا لا شكّ فيه فإنّ العادة جارية بعدم قيام الأمر برئيسين معا، و سرّه أنّ الطباع البشريّة متشاحّة على الكمال و يتفاوت ذلك التشاحّ بحسب تفاوت ذلك الكمال في تصوّر قوّته و ضعفه و لا شيء في نفوس طالبى الدنيا أعظم من الملك خصوصا في نفس من يعتقد أنّه يقدر على تحصيل الآخرة فيه أيضا فإنّ تحصيل الدنيا و الآخرة هي أكمل الكمالات المطلوبة للإنسان. و لا شيء يقاوم هذا المطلوب في النفوس. فهي تسعى في تحصيله بكلّ ممكن من قتل الولد و الوالد و الأخ. و لذلك قيل: الملك عقيم. و قد نقل عن هذين الرجلين الاختلاف قبل إصابتهما و قبل وقوع الحرب فاختلفا في الأحقّ بالتقديم في الصلاة فأقامت عايشة محمّد بن طلحة و عبد اللّه بن الزبير يصلّى هذا يوما و هذا يوما إلى أن ينقضي الحرب. ثمّ إنّ عبد اللّه بن الزبير ادّعى أنّ عثمان نصّ عليه بالخلافة يوم الدار و احتجّ على ذلك باستخلافه له في الصلاة، و احتجّ تارة بنصّ صريح ادّعاه. و طلب طلحة أن يسلّم الناس عليه بالإمرة و أدلى إليها بالسميّة، و أدلى الزبير بأختها أسماء. فأمرت الناس أن يسلّموا عليهما بالإمرة، و اختلفا في تولّى القتال فطلبه كلّ واحد منهما أوّلا ثمّ نكل عنه. و أحوالهم في ذلك ظاهرة. فقوله: قد قامت الفئة الباغية. إشارة إليهم و هم الناكثون الّذين نقل فيما سبق فيهم الخبر: امرت أن اقاتل الناكثين و القاسطين و المارقين.
و قوله: فأين المحتسبون و قد سنّت لهم السنن.
أى أين طالبو الثواب من اللّه بعد وضوح الطريق، و روى: فأين المحسنون. و قوله: و قدّم لهم الخبر. أى أخبرهم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن خروج فئة باغية و ناكثة و مارقة. فبالحريّ أن يحذر هؤلاء أن يكونوا ممّن أخبر عنهم. و قوله: و لكلّ ضلّة علّة. أى لكلّ خروج عن سبيل اللّه علّة. و أشار إلى خروج هذه الفرقة عن الدين.
و تلك العلّة هي البغى و الحسد، و كذلك لكلّ ناكث شبهة تغطّى عين بصيرته عن النظر إلى وجه الحقّ كطلبهم بدم عثمان. و قوله: و اللّه لا أكون. إلى آخره. أقسم أنّه لا يكون كذلك: أى إنّه بعد سماعه لغلبة هؤلاء و جلبهم عليه و تهديدهم إيّاه لا ينام عنهم و يصبر لهم حتّى يوافوه فيكون في الغرور كمن يسمع الضرب و البكاء الّذي هو مظنّة الخطر ثمّ لا يصدّق حتّى يجيء لمشاهدة الحال و يحضر الباكي و قد كان الأولى به أن يكتفى بذلك السماع لظهور دلالته و يأخذ في الاستعداد للعدوّ و الحرب منه.
شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 3 ، صفحهى 205