138 و من خطبة له ع يومئ فيها إلى ذكر الملاحم
يَعْطِفُ الْهَوَى عَلَى الْهُدَى- إِذَا عَطَفُوا الْهُدَى عَلَى الْهَوَى- وَ يَعْطِفُ الرَّأْيَ عَلَى الْقُرْآنِ- إِذَا عَطَفُوا الْقُرْآنَ عَلَى الرَّأْيِ هذا إشارة إلى إمام يخلقه الله تعالى في آخر الزمان- و هو الموعود به في الأخبار و الآثار- و معنى يعطف الهوى- يقهره و يثنيه عن جانب الإيثار و الإرادة- عاملا عمل الهدى- فيجعل الهدى قاهرا له و ظاهرا عليه- . و كذلك قوله و يعطف الرأي على القرآن- أي يقهر حكم الرأي و القياس- و العمل بغلبة الظن عاملا عمل القرآن- . و قوله إذا عطفوا الهدى و إذا عطفوا القرآن- إشارة إلى الفرق المخالفين لهذا الإمام المشاقين له- الذين لا يعملون بالهدى بل بالهوى- و لا يحكمون بالقرآن بل بالرأي:
مِنْهَا- حَتَّى تَقُومَ الْحَرْبُ بِكُمْ عَلَى سَاقٍ بَادِياً نَوَاجِذُهَا- مَمْلُوءَةً أَخْلَافُهَا حُلْواً رَضَاعُهَا عَلْقَماً عَاقِبَتُهَا- أَلَا وَ فِي غَدٍ وَ سَيَأْتِي غَدٌ بِمَا لَا تَعْرِفُونَ- يَأْخُذُ الْوَالِي مِنْ غَيْرِهَا عُمَّالَهَا عَلَى مَسَاوِئِ أَعْمَالِهَا- وَ تَخْرُجُ لَهُ الْأَرْضُ أَفَالِيذَ كَبِدِهَا- وَ تُلْقِي إِلَيْهِ سِلْماً مَقَالِيدَهَا- فَيُرِيكُمْ كَيْفَ عَدْلُ السِّيرَةِ- وَ يُحْيِي مَيِّتَ الْكِتَابِ وَ السُّنَّةِ الساق الشدة- و منه قوله تعالى يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ- . و النواجذ أقصى الأضراس- و الكلام كناية عن بلوغ الحرب غايتها- كما أن غاية الضحك أن تبدو النواجذ- . قوله مملوءة أخلافها- و الأخلاف للناقة حلمات الضرع واحدها خلف- و كذلك و قوله حلوا رضاعها علقما عاقبتها- قد أخذه الشاعر فقال-
الحرب أول ما تكون فتية
تسعى بزينتها لكل جهول
حتى إذا اشتعلت و شب ضرامها
عادت عجوزا غير ذات حليل
شمطاء جزت رأسها و تنكرت
مكروهة للشم و التقبيل
و هو الرضاع بالفتح و الماضي رضع بالكسر مثل سمع سماعا- و أهل نجد يقولون رضع بالفتح يرضع بالكسر رضعا- مثل ضرب يضرب ضربا و أنشدوا-
و ذموا لنا الدنيا و هم يرضعونها
أفاويق حتى ما يدر لها ثعل
بكسر الضاد
فصل في الاعتراض و إيراد مثل منه
و قوله ألا و في غد تمامه يأخذ الوالي- و بين الكلام جملة اعتراضية- و هي قوله و سيأتي غد بما لا تعرفون- و المراد تعظيم شأن الغد الموعود بمجيئه- و مثل ذلك في القرآن كثير نحو قوله تعالى- فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ- وَ إِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ- إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ- فقوله تعالى إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ- هو الجواب المتلقى به قوله- فَلا أُقْسِمُ- و قد اعترض بينهما قوله- وَ إِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ- و اعترض بين هذا الاعتراض قوله لَوْ تَعْلَمُونَ- لأنك لو حذفته لبقي الكلام على إفادته- و هو قوله و إنه لقسم عظيم- و المراد تعظيم شأن ما أقسم به من مواقع النجوم- و تأكيد إجلاله في النفوس- و لا سيما بقوله لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ- .
و من ذلك قوله تعالى- وَ يَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ- وَ لَهُمْ ما يَشْتَهُونَ- فقوله سُبْحانَهُ اعتراض و المراد التنزيه- و كذلك قوله تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ- ف لَقَدْ عَلِمْتُمُ اعتراض- و المراد به تقرير إثبات البراءة من تهمة السرقة- . و كذلك قوله وَ إِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ- وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَمُفْتَرٍ- فاعترض بين إذا و جوابها بقوله وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ- فكأنه أراد أن يجيبهم عن دعواهم فجعل الجواب اعتراضا- .
و من ذلك قوله- وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ- حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَ فِصالُهُ فِي عامَيْنِ- أَنِ اشْكُرْ لِي وَ لِوالِدَيْكَ- فاعترض بقوله- حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَ فِصالُهُ فِي عامَيْنِ- بين وَصَّيْنَا و بين الموصى به- و فائدة ذلك إذكار الولد بما كابدته أمه- من المشقة في حمله و فصاله- . و من ذلك قوله- وَ إِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها- وَ اللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ- فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها- فقوله وَ اللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ- اعتراض بين المعطوف و المعطوف عليه- و المراد أن يقرر في أنفس السامعين- أنه لا ينفع البشر كتمانهم- و إخفاؤهم لما يريد الله إظهاره- . و من الاعتراض في الشعر قول جرير-
و لقد أراني و الجديد إلى بلى
في موكب بيض الوجوه كرام
فقوله و الجديد إلى بلى اعتراض- و المراد تعزيته نفسه عما مضى من تلك اللذات- . و كذلك قول كثير
لو أن الباخلين و أنت منهم
رأوك تعلموا منك المطالا
فقوله و أنت منهم اعتراض- و فائدته ألا تظن أنها ليست باخلة- .
و من ذلك قول الشاعر-
فلو سألت سراة الحي سلمى
على أن قد تلون بي زماني
لخبرها ذوو أحساب قومي
و أعدائي فكل قد بلاني
بذبي الذم عن حسبي و مالي
و زبونات أشوس تيحان
و إني لا أزال أخا حروب
إذا لم أجن كنت مجن جاني
فقوله
على أن قد تلون بي زماني
اعتراض- و فائدته الإخبار عن أن السن قد أخذت منه- و تغيرت بطول العمر أوصافه- . و من ذلك قول أبي تمام-
رددت رونق وجهي في صحيفته
رد الصقال بهاء الصارم الخذم
و ما أبالي و خير القول أصدقه
حقنت لي ماء وجهي أم حقنت دمي
فقولهو خير القول أصدقهاعتراض- و فائدته إثبات صدقه في دعواه أنه لا يبالي أيهما حقن- . فأما قول أبي تمام أيضا-
و إن الغنى لي إن لحظت مطالبي
من الشعر إلا في مديحك أطوع
فإن الاعتراض فيه هو قولهإلا في مديحك- و ليس قولهإن لحظت مطالبياعتراضا- كما زعم ابن الأثير الموصلي- لأن فائدة البيت معلقة عليه- لأنه لا يريد أن الغنىلي على كل حال أطوع من الشعر- و كيف يريد هذا و هو كلام فاسد مختل- بل مراده أن الغنى لي بشرط أن تلحظ مطالبي من الشعر أطوع لي- إلا في مديحك- فإن الشعر في مديحك أطوع لي منه- و إذا كانت الفائدة معلقة بالشرط المذكور لم يكن اعتراضا- و كذلك وهم ابن الأثير أيضا في قول إمرئ القيس-
فلو أن ما أسعى لأدنى معيشة
كفاني و لم أطلب قليل من المال
و لكنما أسعى لمجد مؤثل
و قد يدرك المجد المؤثل أمثالي
فقال إن قوله و لم أطلب اعتراض و ليس بصحيح- لأن فائدة البيت مرتبطة به- و تقديره لو سعيت لأن آكل و أشرب لكفاني القليل- و لم أطلب الملك فكيف يكون قوله- و لم أطلب الملك اعتراضا- و من شأن الاعتراض أن يكون فضلة ترد لتحسين و تكملة- و ليست فائدته أصلية- . و قد يأتي الاعتراض و لا فائدة فيه- و هو غير مستحسن نحو قول النابغة-
يقول رجال يجهلون خليقتي
لعل زيادا لا أبا لك غافل
فقوله لا أبا لك اعتراض لا معنى تحته هاهنا- و مثله قول زهير
سئمت تكاليف الحياة و من يعش
ثمانين حولا لا أبا لك يسأم
فإن جاءت لا أبا لك تعطي معنى يليق بالموضع- فهي اعتراض جيد نحو قول أبي تمام-عتابك عني لا أبا لك و اقصدي- . فإنه أراد زجرها و ذمها لما أسرفت في عتابه- .و قد يأتي الاعتراض على غاية من القبح و الاستهجان- و هو على سبيل التقديم و التأخير- نحو قول الشاعر-
فقد و الشك بين لي عناء
بوشك فراقهم صرد فصيح
تقديره فقد بين لي صرد يصيح بوشك فراقهم و الشك عناء- فلأجل قوله و الشك عناء بين قد و الفعل الماضي- و هو بين عد اعتراضا مستهجنا- و أمثال هذا للعرب كثير- . قوله ع يأخذ الوالي من غيرها عمالها على مساوئ أعمالها- كلام منقطع عما قبله- و قد كان تقدم ذكر طائفة من الناس ذات ملك و أمره- فذكر ع أن الوالي يعني الإمام- الذي يخلقه الله تعالى في آخر الزمان- يأخذ عمال هذه الطائفة على سوء أعمالهم- و على هاهنا متعلقة بيأخذ التي هي بمعنى يؤاخذ- من قولك أخذته بذنبه و آخذته و الهمز أفصح- .
و الأفاليذ جمع أفلاذ و أفلاذ جمع فلذ- و هي القطعة من الكبد- و هذا كناية عن الكنوز التي تظهر للقائم بالأمر- و قد جاء ذكر ذلك في خبر مرفوع في لفظة- و قاءت له الأرض أفلاذ كبدها- و قد فسر قوله تعالى وَ أَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها- بذلك في بعض التفاسير- . و المقاليد المفاتيح: مِنْهَا- كَأَنِّي بِهِ قَدْ نَعَقَ بِالشَّامِ- وَ فَحَصَ بِرَايَاتِهِ فِي ضَوَاحِي كُوفَانَ- فَعَطَفَ عَلَيْهَا عَطْفَ الضَّرُوسِ- وَ فَرَشَ الْأَرْضَ بِالرُّءُوسِ- قَدْ فَغَرَتْ فَاغِرَتُهُ وَ ثَقُلَتْ فِي الْأَرْضِ وَطْأَتُهُ بَعِيدَ الْجَوْلَةِ عَظِيمَ الصَّوْلَةِ-وَ اللَّهِ لَيُشَرِّدَنَّكُمْ فِي أَطْرَافِ الْأَرْضِ- حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْكُمْ إِلَّا قَلِيلٌ كَالْكُحْلِ فِي الْعَيْنِ- فَلَا تَزَالُونَ كَذَلِكَ- حَتَّى تَئُوبَ إِلَى الْعَرَبِ عَوَازِبُ أَحْلَامِهَا- فَالْزَمُوا السُّنَنَ الْقَائِمَةَ وَ الآْثَارَ الْبَيِّنَةَ- وَ الْعَهْدَ الْقَرِيبَ الَّذِي عَلَيْهِ بَاقِي النُّبُوَّةِ- وَ اعْلَمُوا أَنَّ الشَّيْطَانَ- إِنَّمَا يُسَنِّي لَكُمْ طُرُقَهُ لِتَتَّبِعُوا عَقِبَهُ هذا إخبار عن عبد الملك بن مروان- و ظهوره بالشام و ملكه بعد ذلك العراق- و ما قتل من العرب فيها أيام عبد الرحمن بن الأشعث- و قتله أيام مصعب بن الزبير- .
و نعق الراعي بغنمه بالعين المهملة- و نغق الغراب بالغين المعجمة- و فحص براياته هاهنا مفعول محذوف- تقديره و فحص الناس براياته أي نحاهم و قلبهم يمينا و شمالا- . و كوفان اسم الكوفة و ضواحيها ما قرب منها من القرى- و الضروس الناقة السيئة الخلق تعض حالبها- قال بشر بن أبي خازم-
عطفنا لهم عطف الضروس من الملا
بشهباء لا يمشي الضراء رقيبها
و قوله و فرش الأرض بالرءوس- غطاها بها كما يغطى المكان بالفراش- . و فغرت فاغرته كأنه يقول فتح فاه- و الكلام استعارة و فغر فعل يتعدى و لا يتعدى- و ثقلت في الأرض وطأته كناية عن الجور و الظلم- . بعيد الجولة استعارة أيضا- و المعنى أن تطواف خيوله و جيوشه في البلاد- أو جولان رجاله في الحرب على الأقران طويل جدا- لا يتعقبه السكون إلا نادرا- . و بعيد منصوب على الحال و إضافته غير محضة- .
و عوازب أحلامها ما ذهب من عقولها- عزب عنه الرأي أي بعد- . و يسني لكم طرقه أي يسهل- و العقب بكسر القاف مؤخر القدم و هي مؤنثة- . فإن قلت فإن قوله حتى تئوب- يدل على أن غاية ملكه- أن تئوب إلى العرب عوازب أحلامها- و عبد الملك مات في ملكه و لم يزل الملك عنه- بأوبة أحلام العرب إليها- فإن فائدة حتى إلى و هي موضوعة للغاية- . قلت إن ملك أولاده ملكه أيضا- و ما زال الملك عن بني مروان- حتى آبت إلى العرب عوازب أحلامها- و العرب هاهنا بنو العباس- و من اتبعهم من العرب أيام ظهور الدولة- كقحطبة بن شبيب الطائي و ابنيه حميد و الحسن- و كبني رزتني بتقديم الراء المهملة- الذين منهم طاهر بن الحسين و إسحاق بن إبراهيم المصعبي- و عداد هم في خزاعة و غيرهم من العرب من شيعة بني العباس- و قد قيل إن أبا مسلم أيضا عربي أصله- و كل هؤلاء و آبائهم كانوا مستضعفين – مقهورين مغمورين في دولة بني أمية- لم ينهض منهم ناهض و لا وثب إلى الملك واثب- إلى أن أفاء الله تعالى إلى هؤلاء- ما كان عزب عنهم من إبائهم و حميتهم- فغاروا للدين و المسلمين من جور بني مروان و ظلمهم- و قاموا بالأمر- و أزالوا تلك الدولة التي كرهها الله تعالى و أذن في انتقالها- .
ثم أمرهم ع بأن يلزموا بعد زوال تلك الدولة الكتاب و السنة- و العهد القريب الذي عليه باقي النبوة- يعني عهده و أيامه ع- و كأنه خاف من أن يكون بإخباره لهم- بأن دولة هذا الجبار ستنقضي- إذا آبت إلى العرب عوازب أحلامها- كالأمر لهم باتباع ولاة الدولة الجديدة في كل ما تفعله- فاستظهر عليهم بهذه الوصية و قال لهم- إذا ابتذلت الدولة فالزموا الكتاب و السنة- و العهد الذي فارقتكم عليه
شرح نهج البلاغة(ابن أبي الحديد) ج 2