137 و من كلام له ع في شأن طلحة و الزبير
وَ اللَّهِ مَا أَنْكَرُوا عَلَيَّ مُنْكَراً- وَ لَا جَعَلُوا بَيْنِي وَ بَيْنَهُمْ نِصْفاً- وَ إِنَّهُمْ لَيَطْلُبُونَ حَقّاً هُمْ تَرَكُوهُ وَ دَماً هُمْ سَفَكُوهُ- فَإِنْ كُنْتُ شَرِيكَهُمْ فِيهِ فَإِنَّ لَهُمْ نَصِيبَهُمْ مِنْهُ- وَ إِنْ كَانُوا وَلُوهُ دُونِي فَمَا الطَّلِبَةُ إِلَّا قِبَلَهُمْ- وَ إِنَّ أَوَّلَ عَدْلِهِمْ لَلْحُكْمُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ- وَ إِنَّ مَعِي لَبَصِيرَتِي مَا لَبَسْتُ وَ لَا لُبِسَ عَلَيَّ- وَ إِنَّهَا لَلْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ فِيهَا الْحَمَأُ وَ الْحُمَّةُ- وَ الشُّبْهَةُ الْمُغْدَفَةُ وَ إِنَّ الْأَمْرَ لَوَاضِحٌ- وَ قَدْ زَاحَ الْبَاطِلُ عَنْ نِصَابِهِ- وَ انْقَطَعَ لِسَانُهُ عَنْ شَغْبِهِ- وَ ايْمُ اللَّهِ لَأُفْرِطَنَّ لَهُمْ حَوْضاً أَنَا مَاتِحُهُ- لَا يَصْدُرُونَ عَنْهُ بِرِيٍّ- وَ لَا يَعُبُّونَ بَعْدَهُ فِي حِسْيٍ النصف الإنصاف قال الفرزدق-
و لكن نصفا لو سببت و سبني
بنو عبد شمس من قريش و هاشم
و هو على حذف المضاف أي ذا نصف- أي حكما منصفا عادلا يحكم بيني و بينهم- و الطلبة بكسر اللام ما طلبته من شيء- و لبست على فلان الأمر و لبس عليه الأمر- كلاهما بالتخفيف- .
و الحمأ الطين الأسود قال سبحانه- مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ- و حمة العقرب سمتها- أي في هذه الفئة الباغية الضلال و الفساد و الضرر- و إذا أرادت العرب أن تعبر عن الضلال و الفساد قالت الحمء- مثله الحمأة بالتاء- و من أمثالهم ثأطة مدت بماء- يضرب للرجل يشتد موقه و جهله و الثأطة الحمأة- و إذا أصابها الماء ازدادت فسادا و رطوبة- .
و يروى فيها الحما بألف مقصورة و هو كناية عن الزبير- لأن كل ما كان بسبب الرجل فهم الأحماء واحدهم حما- مثل قفا و أقفاء- و ما كان بسبب المرأة فهم الأخاتن- فأما الأصهار فيجمع الجهتين جمعا- و كان الزبير ابن عمة رسول الله ص- و قد كان النبي ص أعلم عليا- بأن فئة من المسلمين تبغي عليه أيام خلافته- فيها بعض زوجاته و بعض أحمائه- فكنى علي ع عن الزوجة بالحمة و هي سم العقرب- و يروى و الحمء يضرب مثلا لغير الطيب و لغير الصافي- و ظهر أن الحمء الذي أخبر النبي ص بخروجه- مع هؤلاء البغاة هو الزبير ابن عمته- و في الحمأ أربع لغات حما مثل قفا و حمء مثل كمء- و حمو مثل أبو و حم مثل أب- .
قوله ع و الشبهة المغدفة أي الخفية- و أصله المرأة تغدف وجهها بقناعها أي تستره- و روي المغدفة بكسر الدال من أغدف الليل أي أظلم- . و زاح الباطل أي بعد و ذهب و أزاحه غيره- . و عن نصابه عن مركزه و مقره- و منه قول بعض المحدثين- .
قد رجع الحق إلى نصابه
و أنت من دون الورى أولى به
– و الشغب بالتسكين تهييج الشر- شغب الحقد بالفتح شغبا- و قد جاء بالتحريك في لغة ضعيفة و ماضيها شغب بالكسر- .و لأفرطن لهم حوضا أي لأملأن- يقال أفرطت المزادة أي ملأتها و غدير مفرط أي ملآن- . و الماتح بنقطتين من فوق المستقي من فوق- و بالياء مالئ الدلاء من تحت- و العب الشرب بلا مص كما تشرب الدابة- وفي الحديث الكباد من العب و الحسي ماء كامن في رمل يحفر عنه فيستخرج و جمعه أحساء- .
يقول ع- و الله ما أنكروا علي أمرا هو منكر في الحقيقة- و إنما أنكروا ما الحجة عليهم فيه لا لهم- و حملهم على ذلك الحسد- و حب الاستئثار بالدنيا و التفضيل في العطاء- و غير ذلك مما لم يكن أمير المؤمنين ع يراه- و لا يستجيزه في الدين- قال و لا جعلوا بيني و بينهم نصفا- يعني وسيطا يحكم و ينصف- بل خرجوا عن الطاعة بغتة- و إنهم ليطلبون حقا تركوه- أي يظهرون أنهم يطلبون حقا بخروجهم إلى البصرة- و قد تركوا الحق بالمدينة- .
قال و دما هم سفكوه يعني دم عثمان- و كان طلحة من أشد الناس تحريضا عليه- و كان الزبير دونه في ذلك- . روي أن عثمان قال- ويلي على ابن الحضرمية يعنى طلحة- أعطيته كذا و كذا بهارا ذهبا- و هو يروم دمي يحرض على نفسي- اللهم لا تمتعه به و لقه عواقب بغيه- . و روى الناس الذين صنفوا في واقعة الدار- أن طلحة كان يوم قتل عثمان مقنعا بثوب- قد استتر به عن أعين الناس- يرمي الدار بالسهام- و رووا أيضا- أنه لما امتنع على الذين حصروه الدخول من باب الدار- حملهم طلحة إلى دار لبعض الأنصار- فأصعدهم إلى سطحها- و تسوروا منها على عثمان داره فقتلوه- .
و رووا أيضا أن الزبير كان يقول- اقتلوه فقد بدل دينكم- فقالوا إن ابنك يحامي عنه بالباب- فقال ما أكره أن يقتل عثمان و لو بدئ بابني- إن عثمان لجيفة على الصراط غدا- . و قال مروان بن الحكم يوم الجمل- و الله لا أترك ثأري و أنا أراه- و لأقتلن طلحة بعثمان فإنه قتله- ثم رماه بسهم فأصاب مأبضه فنزف الدم حتى مات- .
ثم قال ع إن كنت شريكهم في دم عثمان- فإن لهم نصيبهم منه- فلا يجوز لهم أن يطلبوا بدمه و هم شركاء فيه- و إن كانوا ولوه دوني فهم المطلوبون إذن به لا غيرهم- . و إنما لم يذكر القسم الثالث- و هو أن يكون هو ع وليه دونهم- لأنه لم يقل به قائل- فإن الناس كانوا على قولين في ذلك- أحدهما أن عليا و طلحة و الزبير مسهم لطخ من عثمان- لا بمعنى أنهم باشروا قتله- بل بمعنى الإغراء و التحريض- و ثانيهما أن عليا ع بريء من ذلك- و أن طلحة و الزبير غير بريئين منه- .
ثم قال و إن أول عدلهم للحكم على أنفسهم يقول- إن هؤلاء خرجوا و نقضوا البيعة- و قالوا إنما خرجنا للأمر بالمعروف و النهي عن المنكر- و إظهار العدل و إحياء الحق و إماتة الباطل- و أول العدل أن يحكموا على أنفسهم- فإنه يجب على الإنسان أن يقضي على نفسه ثم على غيره- و إذا كان دم عثمان قبلهم- فالواجب أن ينكروا على أنفسهم قبل إنكارهم على غيرهم- .
قال و إن معي لبصيرتي أي عقلي- ما لبست على الناس أمرهم و لا لبس الأمر علي- أي لم يلبسه رسول الله ص علي بل أوضحه لي و عرفنيه- . ثم قال و إنها للفئة الباغية- لام التعريف في الفئة تشعر بأن نصا قد كان عنده- أنه ستخرج عليه فئة باغية- و لم يعين له وقتها و لا كل صفاتها- بل بعض علاماتها- فلما خرج أصحاب الجمل- و رأى تلك العلامات موجودة فيهم قال- و إنها للفئة الباغية أي و إن هذه الفئة- أي الفئة التي وعدت بخروجها علي- و لو لا هذا لقال و إنها لفئة باغية على التنكير- .
ثم ذكر بعض العلامات فقال إن الأمر لواضح- كل هذا يؤكد به عند نفسه و عند غيره- أن هذه الجماعة هي تلك الفئة الموعود بخروجها- و قد ذهب الباطل و زاح و خرس لسانه بعد شغبه- . ثم أقسم ليملأن لهم حوضا هو ماتحه- و هذه كناية عن الحرب و الهيجاء- و ما يتعقبهما من القتل و الهلاك- لا يصدرون عنه بري- أي ليس كهذه الحياض الحقيقية التي إذا وردها الظمآن- صدر عن ري و نقع غليله- بل لا يصدرون عنه إلا و هم جزر السيوف- و لا يعبون بعده في حسي لأنهم هلكوا- فلا يشربون بعده البارد العذب- . و كان عمرو بن الليث الصفار أمير خراسان- أنفذ جيشا لمحاربة إسماعيل بن أحمد الساماني- فانكسر ذلك الجيش و عادوا إلى عمرو بن الليث- فغضب و لقي القواد بكلام غليظ- فقال له بعضهم أيها الأمير- إنه قد طبخ لك مرجل عظيم- و إنما نلنا منه لهمة يسيرة و الباقي مذخور لك- فعلام تتركه اذهب إليهم فكله- فسكت عمرو بن الليث عنه و لم يجب- .
و مرادنا من هذه المشابهة و المناسبة بين الكنايتين: مِنْهُ- فَأَقْبَلْتُمْ إِلَيَّ إِقْبَالَ الْعُوذِ الْمَطَافِيلِ عَلَى أَوْلَادِهَا- تَقُولُونَ الْبَيْعَةَ الْبَيْعَةَ- قَبَضْتُ كَفِّي فَبَسَطْتُمُوهَا- وَ نَازَعْتُكُمْ يَدِي فَجَاذَبْتُمُوهَا- اللَّهُمَّ إِنَّهُمَا قَطَعَانِي وَ ظَلَمَانِي- وَ نَكَثَا بَيْعَتِي وَ أَلَّبَا النَّاسَ عَلَيَّ- فَاحْلُلْ مَا عَقَدَا وَ لَا تُحْكِمْ لَهُمَا مَا أَبْرَمَا- وَ أَرِهِمَا الْمَسَاءَةَ فِيمَا أَمَّلَا وَ عَمِلَا- وَ لَقَدِ اسْتَثَبْتُهُمَا قَبْلَ الْقِتَالِ- وَ اسْتَأْنَيْتُ بِهِمَا أَمَامَ الْوِقَاعِ- فَغَمَطَا النِّعْمَةَ وَ رَدَّا الْعَافِيَةَ العوذ النوق الحديثات النتاج- الواحدة عائذ مثل حائل و حول- و قد يقال ذلك للخيل و الظباء- و يجمع أيضا على عوذان مثل راع و رعيان- و هذه عائذة بينة العئوذ- و ذلك إذا ولدت عن قريب- و هي في عياذها أي بحدثان نتاجها- .
و المطافيل جمع مطفل- و هي التي زال عنها اسم العياذ و معها طفلها- و قد تسمى المطافيل عوذا إلى أن يبعد العهد بالنتاج مجازا- و على هذا الوجه قال أمير المؤمنين إقبال العوذ المطافيل- و إلا فالاسمان معا لا يجتمعان حقيقة- و إذا زال الأول ثبت الثاني- . قوله و ألبا الناس علي أي حرضا- يقال حسود مؤلب- .
و استثبتهما بالثاء المعجمة بثلاث- طلبت منهما أن يثوبا أي يرجعا- و سمي المنزل مثابة لأن أهله ينصرفون في أمورهم ثم يثوبون إليه- و يروى و لقد استتبتهما- أي طلبت منهما أن يتوبا إلى الله- من ذنبهما في نقض البيعة- . و استأنيت بهما من الإناءة و الانتظار- . و الوقاع بكسر الواو مصدر واقعتهم في الحرب وقاعا- مثل نازلتهم نزالا و قاتلتهم قتالا- . و غمط فلان النعمة إذا حقرها و أزرى بها غمطا- و يجوز غمط النعمة بالكسر و المصدر غير محرك- و يقال إن الكسر أفصح من الفتح- .
يقول ع- إنكم أقبلتم مزدحمين كما تقبل النوق إلى أولادها- تسألونني البيعة فامتنعت عليكم- حتى علمت اجتماعكم فبايعتكم- ثم دعا علي على طلحة و الزبير- بعد أن وصفهما بالقطيعة و النكث و التأليب عليه- بأن يحل الله تعالى ما عقدا- و ألا يحكم لهما ما أبرما- و أن يريهما المساءة فيما أملا و عملا- . فأما الوصف لهما بما وصفهما به- فقد صدق ع فيه و أما دعاؤه فاستجيب له- و المساءة التي دعا بها- هي مساءة الدنيا لا مساءة الآخرة- فإن الله تعالى قد وعدهما على لسان رسوله بالجنة- و إنما استوجباها بالتوبة- التي ينقلها أصحابنا رحمهم الله في كتبهم عنهما- و لولاها لكانا من الهالكين
شرح نهج البلاغة(ابن أبي الحديد) ج 9