و من خطبة له عليه السّلام في ذكر الملاحم
القسم الأول
يَعْطِفُ الْهَوَى عَلَى الْهُدَى- إِذَا عَطَفُوا الْهُدَى عَلَى الْهَوَى- وَ يَعْطِفُ الرَّأْيَ عَلَى الْقُرْآنِ- إِذَا عَطَفُوا الْقُرْآنَ عَلَى الرَّأْيِ
أقول: الإشارة في هذا الفصل إلى وصف الإمام المنتظر في آخر الزمان الموعود به في الخبر و الأثر.
فقوله: يعطف الهوى على الهدى أى يردّ النفوس الحايرة عن سبيل اللّه المتّبعة لظلمات أهوائها عن طرقها الفاسدة و مذاهبها المختلفة إلى سلوك سبيله و اتّباع أنوار هداه، و ذلك إذا ارتدّت تلك النفوس عن اتّباع أنوار هدى اللّه في سبيله الواضح إلى اتّباع أهوائها في آخر الزمان، و حين ضعفت الشريعة و زعمت أنّ الحقّ و الهدى هو ذلك. و كذلك قوله: و يعطف الرأى على القرآن إذا عطفوا القرآن على الرأى: أى يردّ على كلّ رأى رآه غيره إلى القرآن فيحملهم على ما وافقه منها دون ما خالفه، و ذلك إذا تأوّل الناس القرآن و حملوه على آرائهم و ردّوه إلى أهوائهم كما عليه أهل المذاهب المتفرّقة من فرق الإسلام كلّ على ما خيل إليه، و كلّ يزعم أنّ الحقّ الّذي يشهد به القرآن هو ما رآه و أنّه لا حقّ وراه سواه. و باللّه التوفيق.
القسم الثاني منها:
حَتَّى تَقُومَ الْحَرْبُ بِكُمْ عَلَى سَاقٍ بَادِياً نَوَاجِذُهَا- مَمْلُوءَةً أَخْلَافُهَا حُلْواً رَضَاعُهَا عَلْقَماً عَاقِبَتُهَا- أَلَا وَ فِي غَدٍ وَ سَيَأْتِي غَدٌ بِمَا لَا تَعْرِفُونَ- يَأْخُذُ الْوَالِي مِنْ غَيْرِهَا عُمَّالَهَا عَلَى مَسَاوِئِ أَعْمَالِهَا- وَ تُخْرِجُ لَهُ الْأَرْضُ أَفَالِيذَ كَبِدِهَا- وَ تُلْقِي إِلَيْهِ سِلْماً مَقَالِيدَهَا- فَيُرِيكُمْ كَيْفَ عَدْلُ السِّيرَةِ- وَ يُحْيِي مَيِّتَ الْكِتَابِ وَ السُّنَّةِ
اللغة
أقول: أخلاف الناقة. حلمات ضرعها. و أفاليذ: جمع الجمع لفلذة، و هى القطعة من الكبد و جمعها فلذ.
المعنى
فقوله: حتّى تقوم الحرب بكم على ساق. إلى قوله: عاقبتها. كأنّه غاية لتخاذلهم عن طاعته في أمر الحرب و لقاء العدوّ. كأنّه يقول: إنّكم لا تزالون متخاذلين متقاعدين حتّى يشتدّ العدوّ و يقوم بكم الحرب على ساق. و قيامها على الساق كناية عن بلوغها الغاية في الشدّة، و بدوّ نواجدها كناية عمّا يستلزمه من الشدّة و الأذى، و هو من أوصاف الأسد عند غضبه. لأنّه حاول أن يستعير لها لفظ الأسد فأتى بوصفه.
و قال بعض الشارحين: بدوّ النواجد في الضحك: أى تبلغ بكم الحرب الغاية كما أنّ غاية الضحك أن تبدو النواجد. فهي أقصى الأضراس. فكنّى بذلك عن إقبالها.
قلت: هذا و إن كان محتملا إلّا أنّ الحرب مظنّة إقبال الغضب لا إقبال الضحك. فكان الأوّل أنسب. و كذلك قوله: مملوّة أخلافها. استعارة لوصف الناقة لحال استعداد الحرب و استكمالها عدّتها و رجالها كاستكمال ضرع الناقة اللبن. و قوله: حلوا رضاعها. استعارة لوصف المرضع لها، و كنّى بحلاوة رضاعها عن إقبال أهل النجدة في أوّل الحرب عليها. فكلّ منهم يحبّ أن يناجز قرنه و يستحلى مغالبته كما يستحلى الراضع لبن امّه، و كذلك استعار لفظ العلقم لعاقبتها، و وجه الاستعارة المشابهة بين المرارتين الحسيّة و العقليّة، و المنصوبات الأربعة: باديا، و مملوّة، و حلوا، و علقما. أحوال. و المرفوعات بعد كلّ منها فاعله، و إنّما ارتفع عاقبتها عن علقما مع أنّه اسم صريح لقيامه مقام اسم الفاعل كأنّه قال: مريرة عاقبتها.
و قوله: ألا و في غد. إخبار عن بعض الامور الّتي ستكون. و قوله: و سيأتى غد بما لا تعرفون. المراد به تعظيم شأن الموعود بمجيئه. و بيان لفضيلته عليه السّلام بعلم ما جهلوه.
و هو جملة اعتراضيّة كقوله تعالى «فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ وَ إِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ»«» فقوله: و إنّه لقسم. اعتراض.
و قوله: يأخذ الوالى من غيرها عمّالها. يشبه أن يكون قد سبقه ذكر طائفة من الناس ذات ملك و إمرة فأخبر عليه السّلام أنّ الوالى من غير تلك الطائفة- يؤمى به إلى الإمام المنتظر- يأخذ عمّالها على مساوى أعمالها: أى يؤاخذهم بذنوبهم. و قوله: و تخرج الأرض أفاليذ كبدها. استعار لفظ الكبد لما في الأرض من الكنوز و الخزائن، و وجهها مشابهة الكنوز للكبد في العزّة و الخفاء، و رشّح بذكر الأفاليذ. و قد ورد ذلك في الخبر المرقوع، و من لفظه: و قادت له الأرض أفلاذ كبدها. و فسّر بعضهم قوله تعالى «وَ أَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها» بذلك. فأمّا كيفيّة ذلك الإخراج: فقال بعض المحقّقين: هو إشارة إلى أنّ جميع ملوك الأرض تسلّم إليه مقاليد ممالكها طوعا و كرها و تحمل إليه الكنوز و الذخائر، و أسند الإخراج إلى الأرض مجازا لأنّ المخرج أهلها. و استبعد أن يكون الأرض بنفسها هي المخرجة لكنوزها. و لأهل الظاهر أن يقولوا إنّ المخرج يكون هو اللّه تعالى، و يكون ذلك من معجزات الإمام و لا مانع.
و قوله: و تلقى إليه سلما مقاليدها. أسند أيضا لفظ الإلقاء إلى الأرض مجازا لأنّ الملقى للمقاليد مسالما هو أهل الأرض، و كنّى بذلك عن طاعتهم و انقيادهم أجمعين لأوامره و تحت حكمه، و سلما مصدر سدّ مسدّ الحال. ثمّ أخبر أنّه سيريهم عدل سيرته، و أنّه يحيى ميّت الكتاب و السنّة. و لفظ الميّت استعارة لما ترك منهما فانقطع أثره و الانتفاع به كما ينقطع أثر الميّت.
فإنّ قلت: قوله: و يريكم. يدلّ على أنّ المخاطبين يدركون المخبر عنه و يرون عدله مع أنّكم قلتم أنّه يكون في آخر الزمان فكيف وجه ذلك.
قلت: خطاب الحاضرين من الامّة كالعامّ لكلّ الامّة، و ذلك كسائر خطابات القرآن الكريم مع الموجودين في عصر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فإنّه يتناول الموجودين إلى يوم القيامة ثمّ يخرج المخاطبون بدليل العادة. إذ من عادتهم أن لا تمتدّ أعمارهم إلى وقت ظهوره فبقى الموجودون في زمانه. و باللّه التوفيق.
القسم الثالث منها:
كَأَنِّي بِهِ قَدْ نَعَقَ بِالشَّامِ- وَ فَحَصَ بِرَايَاتِهِ فِي ضَوَاحِي كُوفَانَ- فَعَطَفَ عَلَيْهَا عَطْفَ الضَّرُوسِ- وَ فَرَشَ الْأَرْضَ بِالرُّءُوسِ- قَدْ فَغَرَتْ فَاغِرَتُهُ وَ ثَقُلَتْ فِي الْأَرْضِ وَطْأَتُهُ بَعِيدَ الْجَوْلَةِ عَظِيمَ الصَّوْلَةِ- وَ اللَّهِ لَيُشَرِّدَنَّكُمْ فِي أَطْرَافِ الْأَرْضِ- حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْكُمْ إِلَّا قَلِيلٌ كَالْكُحْلِ فِي الْعَيْنِ- فَلَا تَزَالُونَ كَذَلِكَ- حَتَّى تَئُوبَ إِلَى الْعَرَبِ عَوَازِبُ أَحْلَامِهَا- فَالْزَمُوا السُّنَنَ الْقَائِمَةَ وَ الْآثَارَ الْبَيِّنَةَ- وَ الْعَهْدَ الْقَرِيبَ الَّذِي عَلَيْهِ بَاقِي النُّبُوَّةِ- وَ اعْلَمُوا أَنَّ الشَّيْطَانَ- إِنَّمَا يُسَنِّي لَكُمْ طُرُقَهُ لِتَتَّبِعُوا عَقِبَهُ
اللغة
أقول: نعق الغراب و نعق الراعى بغنمه بالعين و الغين: صاح. و فحص المطر التراب: قلّبه، و الفحص: البحث. و كوفان: اسم للكوفة. و ضواحيها: نواحيها البارزة. و الضروس: الناقة السيّئة الخلق تعضّ حالبها. و فغرت فاغرته: انفتح فوه.
و أكّد الفعل بذكر الفاعل من لفظه. و يسنّى: يسهّل. و العقب بكسر القاف: مؤخّر القدم.
المعنى
و قد أخبر في هذا الفصل أنّه سيظهر رجل بهذه الصفات. قال بعض الشارحين: هو عبد الملك بن مروان، و ذلك لأنّه ظهر بالشام حين جعله أبوه الخليفة من بعده و سار لقتال مصعب بن الزبير إلى الكوفة بعد أن قتل مصعب المختار بن أبي عبيدة الثقفىّ فالتقوا بأرض مسكن- بكسر الكاف- من نواحى الكوفة. ثمّ قتل مصعبا و دخل الكوفة فبايعه أهلها و بعث الحجّاج بن يوسف إلى عبد اللّه بن الزبير بمكّة فقتله و هدم الكعبة، و ذلك سنة ثلاث و سبعين من الهجرة، و قتل خلقا عظيما من العرب في وقايع عبد الرحمن بن الأشعث، و رمى الناس بالحجّاج بن يوسف،
و في الفصل لطايف:
الاولى: أطلق لفظ النعيق
لظهور أوامره و دعوته بالشام مجازا، و كذلك استعار لفظ الفحص لقلبه أهل الكوفة بعضهم على بعض و نقصه لحالاتهم الّتى كانوا عليها. ثمّ شبّه عطفه و حمله عليها بعطف الناقة الضروس، و وجه التشبيه شدّة الغضب و الحنق و الأذى الحاصل منها.
الثانية: فرشه الأرض بالرءوس
كناية عن كثرة قتلة فيها، و ذلك ممّا يشهد به التواريخ. و فغر: فيه استعارة ببعض أوصاف السبع الضارى كنّى به عن شدّة إقدامه على القتل و إقباله على الناس بشدّة الغضب و الأذى، و كذلك ثقل وطأته في الأرض كناية عن شدّة بأسه و تمكّنه في الأرض.
الثالثة: بعد جولته
كناية عن اتّساع ملكه و جولان خيله و رجله في البلاد البعيدة، و بعيد و عظيم حالان، و من روى بالرفع فهما خبرا مبتدأ محذوف.
الرابعة: لمّا فرغ من صفاته العامّة بيّن لهم ما سيفعله معهم
من التشريد و الطرد في أطراف البلاد، و أكّد ذلك بالقسم البارّ، و ذلك إشارة إلى ما فعله عبد الملك و من ولى الأمر من ولده في باقى الصحابة و التابعين، و أحوالهم معهم في الانتقاض و الاحتقار و الطرد و القتل ظاهرة، و شبّه البقيّة منهم بالغبار الّذي يكون في العين من الكحل، و وجه التشبيه الاشتراك في القلّة.
الخامسة: أخبر أنّهم لا يزالون كذلك
أى بالحال الموصوفة مع عبد الملك و من بعده من أولاده حتّى تعود إلى العرب عوازب أحلامها: أى ما كان ذهب من عقولها العمليّة في نظام أحوالهم، و العرب هم بنو العبّاس و من معهم من العرب أيّام ظهور الدولة كقحطبة بن شبيب الطائىّ و ابنيه حميد و الحسن، و كبنى زريق أبى طاهر بن الحسين و إسحاق بن إبراهيم المصعبىّ و من في عدادهم من خزاعة و غيرهم من العرب من شيعة بنى العبّاس. و قيل: إنّ أبا مسلم أصله عربىّ. و كلّ هؤلاء كانوا مستضعفين مقهورين مقمورين في دولة بنى أميّة لهم ينهض منهم ناهض إلى أن أفاء اللّه تعالى عليهم ما كان عزب عنهم من حميّاتهم فغاروا للدين و للمسلمين من جور بنى مروان و أقاموا الأمر و أزالوا تلك الدولة.
فإن قلت: إنّ قوله: تؤوب. يدلّ على أنّ انقطاع تلك الدولة بظهور العرب و عود عوازب أحلامها، و عبد الملك مات و قامت بنوه بعده بالدولة، و لم يزل الملك عنه بظهور العرب فأين فايدة الغاية قلت: إنّ تلك الغاية ليست غاية لدولة عبد الملك بل غاية من كونهم لا يزالون مشرّدين في البلاد، و ذلك الانقهار و إن كان أصله من عبد الملك إلّا أنّه استمرّ في زمن أولاده إلى حين انقضاء دولتهم فكانت غايته ما ذكر، و قال بعض الشارحين في الجواب: إنّ ملك أولاده ملكه و ما زال الملك عن بنى مروان حتّى آبت إلى العرب عوازب أحلامها. و هذا جواب من لم يتدبّر كلامه عليه السّلام، و لم يتتبّع ألفاظ الفصل حتّى يعلم أنّ هذه الغاية لأيّ شيء منه فيلحقها به. ثمّ أمرهم بلزوم سنن اللّه و رسوله القائمة فيهم من بعده و آثاره البيّنة فيهم و عهده القريب بينهم و بينه. و وجّه عليهم ذلك الأمر في الحال و عند نزول تلك الشدائد بهم: أى إذا نزل بكم منه ما وصف فلتكن وظيفتكم لزوم ما ذكرت. ثمّ نبّههم على ما في سهولة المعاصى و في تسهيل نفوسهم الأمّارة بالسوء عليهم طرق المحارم من المحذور و هو أن تنقاد لها النفوس العاقلة فتضلّها عن سبيل اللّه و يقودها الضلال إلى الهلاك الاخروىّ. و باللّه التوفيق.
شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 3 ، صفحهى 169