و من كلام له عليه السّلام في معنى طلحة و الزبير
القسم الأول
وَ اللَّهِ مَا أَنْكَرُوا عَلَيَّ مُنْكَراً- وَ لَا جَعَلُوا بَيْنِي وَ بَيْنَهُمْ نِصْفاً- وَ إِنَّهُمْ لَيَطْلُبُونَ حَقّاً هُمْ تَرَكُوهُ وَ دَماً هُمْ سَفَكُوهُ- فَإِنْ كُنْتُ شَرِيكَهُمْ فِيهِ فَإِنَّ لَهُمْ نَصِيبَهُمْ مِنْهُ- وَ إِنْ كَانُوا وَلُوهُ دُونِي فَمَا الطَّلِبَةُ إِلَّا قِبَلَهُمْ- وَ إِنَّ أَوَّلَ عَدْلِهِمْ لَلْحُكْمُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ- وَ إِنَّ مَعِي لَبَصِيرَتِي مَا لَبَسْتُ وَ لَا لُبِسَ عَلَيَّ- وَ إِنَّهَا لَلْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ فِيهَا الْحَمَأُ وَ الْحُمَّةُ- وَ الشُّبْهَةُ الْمُغْدِفَةُ وَ إِنَّ الْأَمْرَ لَوَاضِحٌ- وَ قَدْ زَاحَ الْبَاطِلُ عَنْ نِصَابِهِ- وَ انْقَطَعَ لِسَانُهُ عَنْ شَغْبِهِ- وَ ايْمُ اللَّهِ لَأُفْرِطَنَّ لَهُمْ حَوْضاً أَنَا مَاتِحُهُ- لَا يَصْدُرُونَ عَنْهُ بِرِيٍّ- وَ لَا يَعُبُّونَ بَعْدَهُ فِي حَسْيٍ
اللغة
أقول: النصف: النصفة. و الطلبة بكسر اللام: المطلوب. و الحمأ: الطين الأسود المنتن كما قال تعالى «وَ لَقَدْ خَلَقْنَا»«» و يروى الحما بألف مقصورة. و الحمه بضمّ الحاء و تخفيف الميم و فتحها: اسم العقرب. و المغدفة بالدال و الفاء:المظلمة. يقال: أغدف الليل إذا اشتدّ ظلامه، و روى: المغدفة بفتح الدال: الخفيّة.
و أصله أنّ المرأة تغدف وجهها بالقناع. و زاح الباطل: انحرف. و نصابه: أصله و مقرّه. و لافرطنّ: لأملأنّ. و الشغب بالتسكين: المشاغبة و تهييج الشرّ. و الماتح بنقطتين من فوق: المستقى، و بنقطتين من تحت: الّذي يملأ الدلو في البئر. و العبّ: الشرب. و الحسى بكسر الحاء و سكون السين: الماء الّذي يشربه الرمل فينتهى إلى أرض صلبة تحفظه ثمّ يحفر عنه فيستخرج.
المعنى
و اعلم أنّ قوله: و اللّه. إلى قوله: و لا لبس علىّ. قد تقدّم تفسيره في قوله: ألا و إنّ الشيطان قد ذمّر حزبه. و في فصل قبله برواية اخرى فلا حاجة إلى إعادته.
و أمّا قوله: و إنّها للفئة الباغية فيها الحمأ و الحمة. فقال بعض الشارحين: في تعريف الفئة بالألف و اللام تنبيه على أنّه كان عنده علم من الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه ستبغى عليه فئة من غير تعيين لها. فلمّا خرجت هذه الفئة علمها بإماراتها، و قد سبق أيضا تفسير الحمأ و الحمة على بعض الروايات، و أمّا على هذه الرواية فاستعارة للغلّ و الفساد الّذي كان في صدور هذه الفئة، و وجه الاستعارة استلزامه لتكدير الإسلام و إثارة الفتنة بين المسلمين كما تكدّر الحمأ الماء و تخبثه، و استلزامه للأذى و القتل كما يستلزم ذلك سمّ العقرب، و أشار بالشبهة المغدفة إلى شبهتهم في الطلب بدم عثمان، و استعار لها وصف الظلمة لعدم اهتداء أكثر الخلق فيها حتّى قتلوا بسببها كما لا يهتدى في الليل المظلم و قوله: و إنّ الأمر لواضح. إلى قوله: شغبه. نفى لتلك الشبهة عن نفسه و ولايته، و أنّ الحقّ واضح في حاله لا أصل للباطل فيه و لا لسان يشغب به، و لفظة اللسان استعارة، و الشغب ترشيح لها. و باقى الفصل قد تقدّم تفسيره أيضا في الفصل المذكور.
القسم الثاني منه
فَأَقْبَلْتُمْ إِلَيَّ إِقْبَالَ الْعُوذِ الْمَطَافِيلِ عَلَى أَوْلَادِهَا- تَقُولُونَ الْبَيْعَةَ الْبَيْعَةَ- قَبَضْتُ كَفِّي فَبَسَطْتُمُوهَا- وَ نَازَعْتُكُمْ يَدِي فَجَاذَبْتُمُوهَا- اللَّهُمَّ إِنَّهُمَا قَطَعَانِي وَ ظَلَمَانِي- وَ نَكَثَا بَيْعَتِي وَ أَلَّبَا النَّاسَ عَلَيَّ- فَاحْلُلْ مَا عَقَدَا وَ لَا تُحْكِمْ لَهُمَا مَا أَبْرَمَا- وَ أَرِهِمَا الْمَسَاءَةَ فِيمَا أَمَّلَا وَ عَمِلَا- وَ لَقَدِ اسْتَثَبْتُهُمَا قَبْلَ الْقِتَالِ- وَ اسْتَأْنَيْتُ بِهِمَا أَمَامَ الْوِقَاعِ- فَغَمَطَا النِّعْمَةَ وَ رَدَّا الْعَافِيَةَ
اللغة
أقول: العوذ: جمع عوذة و هى الناقة المسنّة. و المطافيل: جمع مطفل بضم الميم و هى قريبة العهد بالنتاج. و التأليب: التحريص. و أبرمت الأمر: أحكمته. و استثبتّهما بالثاء المعجمة بثلاث نقط: طلبت رجوعهما، و يروى بالتاء من التوبة.
و استأنيت: انتظرت.
و هذا الفصل احتجاج على طلحة و الزبير و من تابعهما على نكث بيعته.
فقوله: فأقبلتم. إلى قوله: فجاذ بتموها. يجرى مجرى صغرى قياس ضمير من الشكل الأوّل، و تلخيصها أنّكم اجتهدتم علىّ في طلب البيعة حتّى بايعتكم و أخذت عهودكم. و تقدير الكبرى و كلّ من اجتهد اجتهادكم إلى تلك الغاية فيجب عليه الوفاء بعهده. و الصغرى مسلّمة منهم. و برهان الكبرى الكتاب «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ»«» و «أَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ»«» الآية، و قد شبّه إقبالهم عليه طالبين للبيعة بإقبال مسنّات النوق على أطفالها، و وجه التشبيه شدّة الإقبال و الحرص على مبايعته، و خصّ المسنّات لأنّها أقوى حنّة على أولادها، و نصب البيعة على الإغراء، و فائدة التكرير في الإغراء تأكيد الأمر الدالّ على شدّة الاهتمام بالمأمور به. و قال بعض الشارحين: فايدة التكرار دلالة المنصوب الأوّل على تخصيص الأمر الأوّل بالحال، و دلالة الثاني على تخصيص الأمر الثاني بالمستقبل: أى خذ البيعة في الحال و خذها للاستقبال. قال: و كذلك قوله: اللّه اللّه: أى أتّقوا اللّه في الحال و اتّقوه في الاستقبال.
و أقول: إنّ ذلك غير مستفاد من اللفظ بإحدى الدلالات.
و قوله: اللّهم إلى قوله: علىّ. شكاية إلى اللّه منهم في امور ثلاثة: قطع رحمه و ظلمهما له بمطالبتهما له بغير حقّ لهما عنده. ثمّ نكث بيعته. ثمّ جمع الناس على قتاله.
و قوله: فاحلل. دعاء عليهما بأمور ثلاثة: أن يحلّ ما عقدا من العزوم الفاسدة الّتى فيها هلاك المسلمين، و أن لا يحكم ما أبرماه من الإغراء في حربه، و أن يريهما المسئاة في آمالهما و أعمالهما: أي عكس أغراضهما فيهما. و استجابة دعاءه ظاهرة بقتلهما.
و قوله: و لقد استثبتّهما. إلى قوله: الوقاع. إظهار لعذره مع الناس في حقّهما قبل وقاع الحرب بتأنّيه فيه في حقّهما، و استعطافه لهما في الرجوع إلى الحقّ و استتابته لهما من ذنبهما في نكث البيعة.
و قوله: فغمطا. إلى آخره. بيان لجوابهم عن إعذاره إليهم و هو مقابلتهم نعمة اللّه: أي قسمهما من الفىء بالاحتقار لها و النظر عليها. إذ كان أحد الأسباب الباعثة لهما على منافرته هو التسوية بينهم و بين غيرهم في العطاء، و كذلك مقابلتهم للسلامة و العافية من بلاء الحرب و الشقاق و هلاك الدين و النفس في عاقبة فعلهما بردّهما لهما و الإصرار على الحرب و المنابذة من غير نظر في عاقبة أمرها. و باللّه التوفيق.
شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 3 ، صفحهى 166