135 و من كلام له ع- و قد وقعت بينه و بين عثمان مشاجرة
فقال المغيرة بن الأخنس لعثمان- أنا أكفيكه فقال أمير المؤمنين ع للمغيرة- : يَا ابْنَ اللَّعِينِ الْأَبْتَرِ- وَ الشَّجَرَةِ الَّتِي لَا أَصْلَ لَهَا وَ لَا فَرْعَ- أَنْتَ تَكْفِينِي- فَوَاللَّهِ مَا أَعَزَّ اللَّهُ مَنْ أَنْتَ نَاصِرُهُ- وَ لَا قَامَ مَنْ أَنْتَ مُنْهِضُهُ- اخْرُجْ عَنَّا أَبْعَدَ اللَّهُ نَوَاكَ ثُمَّ ابْلُغْ جَهْدَكَ- فَلَا أَبْقَى اللَّهُ عَلَيْكَ إِنْ أَبْقَيْتَ هو المغيرة بن الأخنس بن شريق- بن عمرو بن وهب بن علاج- بن أبي سلمة الثقفي حليف بني زهرة- و إنما قال له أمير المؤمنين ع يا ابن اللعين- لأن الأخنس بن شريق كان من أكابر المنافقين- ذكره أصحاب الحديث كلهم في المؤلفة قلوبهم- الذين أسلموا يوم الفتح بألسنتهم دون قلوبهم- و أعطاه رسول الله ص مائة من الإبل- من غنائم حنين يتألف بها قلبه- و ابنه أبو الحكم بن الأخنس- قتله أمير المؤمنين ع يوم أحد كافرا في الحرب- و هو أخو المغيرة هذا- و الحقد الذي في قلب المغيرة عليه من هذه الجهة- و إنما قال له يا ابن الأبتر- لأن من كان عقبة ضالا خبيثا- فهو كمن لا عقب له بل من لا عقب له خير منه- و يروى و لا أقام من أنت منهضه بالهمزة- . و يروى أبعد الله نوءك من أنواء النجوم- التي كانت العرب تنسب المطر إليها- و كانوا إذا دعوا على إنسان- قالوا أبعد الله نوءك أي خيرك- .
و الجهد بالفتح الغاية- و يقال قد جهد فلان جهده بالفتح- لا يجوز غير ذلك أي انتهى إلى غايته- و قد روي أن رسول الله ص لعن ثقيفا- . وروي أنه ع قال لو لا عروة بن مسعود للعنت ثقيفا- . و روى الحسن البصري- أن رسول الله ص لعن ثلاث بيوت- بيتان من مكة و هما بنو أمية و بنو المغيرة- و بيت من الطائف و هم ثقيف- .
وفي الخبر المشهور المرفوع و قد ذكر ثقيفا- بئست القبيلة يخرج منها كذاب و مبير- فكان كما قال ص الكذاب المختار و المبير الحجاج- . و اعلم أن هذا الكلام لم يكن بحضرة عثمان- و لكن عوانة روى عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي- أن عثمان لما كثرت شكايته من علي ع أقبل- لا يدخل إليه من أصحاب رسول الله ص أحد إلا شكا إليه عليا- فقال له زيد بن ثابت الأنصاري- و كان من شيعته و خاصته- أ فلا أمشي إليه فأخبره بموجدتك فيما يأتي إليك- قال بلى- فأتاه زيد و معه المغيرة بن الأخنس بن شريق الثقفي- و عداده في بني زهرة و أمه عمة عثمان بن عفان في جماعة- فدخلوا عليه فحمد زيد الله و أثنى عليه- ثم قال أما بعد فإن الله قدم لك سلفا صالحا في الإسلام- و جعلك من الرسول بالمكان الذي أنت به- فأنت للخير كل الخير أهل- و أمير المؤمنين عثمان ابن عمك- و والي هذه الأمة فله عليك حقان- حق الولاية و حق القرابة- و قد شكا إلينا أن عليا يعرض لي- و يرد أمري علي و قد مشينا إليك نصيحة لك- و كراهية أن يقع بينك- و بين ابن عمك أمر نكرهه لكما- .
قال فحمد علي ع الله- و أثنى عليه و صلى على رسوله- ثم قال أما بعد فو الله ما أحب الاعتراض و لا الرد عليه- إلا أن يأبى حقا لله لا يسعني أن أقول فيه إلا بالحق- و و الله لأكفن عنه ما وسعني الكف- .فقال المغيرة بن الأخنس و كان رجلا وقاحا- و كان من شيعة عثمان و خلصائه- إنك و الله لتكفن عنه أو لتكفن- فإنه أقدر عليك منك عليه- و إنما أرسل هؤلاء القوم من المسلمين إعزازا- لتكون له الحجة عندهم عليك- فقال له علي ع يا ابن اللعين الأبتر- و الشجرة التي لا أصل لها و لا فرع- أنت تكفني فو الله ما أعز الله امرأ أنت ناصره- اخرج أبعد الله نواك- ثم اجهد جهدك- فلا أبقى الله عليك و لا على أصحابك إن أبقيتم- .
فقال له زيد- إنا و الله ما جئناك لنكون عليك شهودا- و لا ليكون ممشانا إليك حجة- و لكن مشينا فيما بينكما التماس الأجر- أن يصلح الله ذات بينكما- و يجمع كلمتكما ثم دعا له و لعثمان و قام فقاموا معه- . و هذا الخبر يدل على أن اللفظة أنت تكفني- و ليست كما ذكره الرضي رحمه الله أنت تكفيني- لكن الرضا طبق هذه اللفظة على ما قبلها- و هو قوله أنا أكفيكه- و لا شبهة أنها رواية أخرى
فصل في نسب ثقيف و طرف من أخبارهم
و إنما قال له و الشجرة التي لا أصل لها و لا فرع- لأن ثقيفا في نسبها طعن- فقال قوم من النسابين إنهم من هوازن- و هو القول الذي تزعمه الثقفيون- قالوا هو ثقيف و اسمه قسي بن منبه بن بكر- بن هوازن بن منصور بن عكرمة- بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر- و على هذا القول جمهور الناس- . و يزعم آخرون- أن ثقيفا من إياد بن نزار بن معد بن عدنان- و أن النخع أخوه لأبيه و أمه- ثم افترقا فصار أحدهما في عداد هوازن- و الآخر في عداد مذحج بن مالك- بن زيد بن عريب بن زيد بن كهلان- بن سبإ بن يشجب بن يعرب بن قحطان- . و قد روى أبو العباس المبرد في الكامل- لأخت الأشتر مالك بن الحارث النخعي تبكيه-
أ بعد الأشتر النخعي نرجو
مكاثرة و نقطع بطن واد
و نصحب مذحجا بإخاء صدق
و أن ننسب فنحن ذرا إياد
ثقيف عمنا و أبو أبينا
و إخوتنا نزار أولو السداد
قال أبو العباس و هجا يحيى بن نوفل- و كان هجاء خبيث اللسان- العريان بن الهيثم بن الأسود النخعي- و قد كان العريان تزوج امرأة اسمها زباد- مبني على الكسر- و الزاي مفتوحة بعدها باء منقوطة بواحدة- و هي من ولد هانئ بن قبيصة الشيباني- و كانت قبله تحت الوليد بن عبد الملك بن مروان- فطلقها فأنكحها إياه أخ لها يقال له زياد- فقال يحيى بن نوفل
أ عريان ما يدري امرؤ سيل عنكم
أ من مذحج تدعون أم من إياد
فإن قلتم من مذحج إن مذحجا
لبيض الوجوه غير جد جعاد
و أنتم صغار الهام حدل كأنما
وجوهكم مطلية بمداد
و إن قلتم الحي اليمانون أصلنا
و ناصرنا في كل يوم جلاد
فأطول بأير من معد و نزوة
نزت بإياد خلف دار مراد
ضللتم كما ضلت ثقيف فما لكم
و لا لهم بين القبائل هاد
لعمر بني شيبان إذ ينكحونه
زباد لقد ما قصروا بزباد
أ بعد وليد أنكحوا عبد مذحج
كمنزية عيرا خلاف جواد
و أنكحها لا في كفاء و لا غنى
زياد أضل الله سعي زياد
قال أبو العباس و كان المغيرة بن شعبة- و هو والي الكوفة صار إلى دير هند بنت النعمان بن المنذر- و هي فيه عمياء مترهبة- فاستأذن عليها فقيل لها أمير هذه المدرة بالباب- قالت قولوا له- من ولد جبلة بن الأيهم أنت قال لا- قالت أ فمن ولد المنذر بن ماء السماء أنت- قال لا قالت فمن أنت- قال أنا المغيرة بن شعبة الثقفي- قالت فما حاجتك- قال جئت خاطبا- قالت لو كنت جئتني لجمال أو حال لأطلبنك- و لكن أردت أن تتشرف بي في محافل العرب- فتقول نكحت ابنة النعمان بن المنذر- و إلا فأي خير في اجتماع أعور و عمياء- فبعث إليها كيف كان أمركم- قالت سأختصر لك الجواب- أمسينا و ليس في الأرض عربي إلا- و هو يرهبنا أو يرغب إلينا- و أصبحنا و ليس في الأرض عربي- إلا و نحن نرهبه و نرغب إليه- قال فما كان أبوك يقول في ثقيف- قالت أذكر و قد اختصم إليه رجلان منهم- أحدهما ينتهي إلى إياد- و الآخر إلى هوازن- فقضى للإيادي و قال-
إن ثقيفا لم تكن هوازنا
و لم تناسب عامرا أو مازنا
فقال المغيرة أما نحن فمن بكر بن هوازن- فليقل أبوك ما شاء ثم انصرف- . و قال قوم آخرون- إن ثقيفا من بقايا ثمود- من العرب القديمة التي بادت و انقرضت- .
قال أبو العباس- و قد قال الحجاج على المنبر- يزعمون أنا من بقايا ثمود- فقد كذبهم الله بقوله وَ ثَمُودَ فَما أَبْقى- . و قال مرة أخرى و لئن كنا من بقايا ثمود- لما نجا مع صالح إلا خيارهم- . و قال الحجاج يوما لأبي العسوس الطائي- أي أقدم أ نزول ثقيف الطائف- أم نزول طيئ الجبلين- فقال له أبو العسوس- إن كانت ثقيف من بكر بن هوازن- فنزول طيئ الجبلين قبلها- و إن كانت من بقايا ثمود فهي أقدم- فقال الحجاج- اتقني فإني سريع الخطفة للأحمق المتهور- فقال أبو العسوس- قال أبو العباس- و كان أعرابيا قحا إلا أنه لطيف الطبع- و كان الحجاج يمازحه-
يؤدبني الحجاج تأديب أهله
فلو كنت من أولاد يوسف ما عدا
و إني لأخشى ضربة ثقفية
يقد بها ممن عصاه المقلدا
على أنني مما أحاذر آمن
إذا قيل يوما قد عصى المرء و اعتدى
و قتل المغيرة بن الأخنس مع عثمان يوم الدار- و قد ذكرنا مقتله فيما تقدمتم الجزء الثامن- من شرح نهج البلاغة و يليه الجزء التاسع
الجزء التاسع
تتمة الخطب و الأوامر
تتمة خطبة 135
ذكر أطراف مما شجر بين علي و عثمان في أثناء خلافته
و اعلم أن هذا الكتاب يستدعي منا- أن نذكر أطرافا مما شجر بين أمير المؤمنين ع و عثمان- أيام خلافته- إذ كان هذا الكلام الذي شرحناه من ذلك النمط- و الشيء يذكر بنظيره- و عادتنا في هذا الشرح أن نذكر الشيء مع ما يناسبه- و يقتضي ذكره- . قال أحمد بن عبد العزيز الجوهري- في كتاب أخبار السقيفة- حدثني محمد بن منصور الرمادي عن عبد الرزاق- عن معمر عن زياد بن جبل- عن أبي كعب الحارثي و هو ذو الإداوة- قال أبو بكر أحمد بن عبد العزيز- و إنما سمي ذا الإداوة لأنه قال- إني خرجت في طلب إبل ضوال- فتزودت لبنا في إداوة- ثم قلت في نفسي ما أنصفت ربي فأين الوضوء- فأرقت اللبن و ملأتها ماء فقلت هذا وضوء و شراب- و طفقت أبغي إبلي- فلما أردت الوضوء اصطببت من الإداوة ماء فتوضأت- ثم أردت الشرب فلما اصطببتها إذا لبن فشربت- فمكثت بذلك ثلاثا فقالتله أسماء النحرانية- يا أبا كعب أ حقينا كان أم حليبا-
قال إنك لبطالة كان يعصم من الجوع و يروي من الظمأ- أما إني حدثت بهذا نفرا من قومي- منهم علي بن الحارث سيد بني قنان فلم يصدقني- و قال ما أظن الذي تقول كما قلت- فقلت الله أعلم بذلك و رجعت إلى منزلي- فبت ليلتي تلك فإذا به صلاة الصبح على بابي- فخرجت إليه فقلت رحمك الله لم تعنيت- ألا أرسلت إلي فآتيك- فإني لأحق بذلك منك- قال ما نمت الليلة إلا أتاني آت- فقال أنت الذي تكذب من يحدث بما أنعم الله عليه- قال أبو كعب ثم خرجت حتى أتيت المدينة فأتيت عثمان بن عفان و هو الخليفة يومئذ- فسألته عن شيء من أمر ديني- و قلت يا أمير المؤمنين- إني رجل من أهل اليمن من بني الحارث بن كعب- و إني أريد أن أسألك فأمر حاجبك ألا يحجبني- فقال يا وثاب إذا جاءك هذا الحارثي فأذن له- قال فكنت إذا جئت فقرعت الباب- قال من ذا فقلت الحارثي- فيقول ادخل فدخلت يوما فإذا عثمان جالس- و حوله نفر سكوت لا يتكلمون- كأن على رءوسهم الطير فسلمت ثم جلست- فلم أسأله عن شيء لما رأيت من حالهم و حاله- فبينا أنا كذلك إذ جاء نفر- فقالوا إنه أبى أن يجيء- قال فغضب و قال أبى أن يجيء- اذهبوا فجيئوا به فإن أبى فجروه جرا- .
قال فمكثت قليلا- فجاءوا و معهم رجل آدم طوال أصلع- في مقدم رأسه شعرات و في قفاه شعرات- فقلت من هذا قالوا عمار بن ياسر- فقال له عثمان أنت الذي تأتيك رسلنا فتأبى أن تجيء- قال فكلمه بشيء لم أدر ما هو ثم خرج- فما زالواينفضون من عنده حتى ما بقي غيري فقام- فقلت و الله لا أسأل عن هذا الأمر أحدا أقول حدثني فلان- حتى أدري ما يصنع- فتبعته حتى دخل المسجد- فإذا عمار جالس إلى سارية- و حوله نفر من أصحاب رسول الله ص يبكون- فقال عثمان يا وثاب علي بالشرط- فجاءوا فقال فرقوا بين هؤلاء ففرقوا بينهم- . ثم أقيمت الصلاة فتقدم عثمان فصلى بهم- فلما كبر قالت امرأة من حجرتها يا أيها الناس ثم تكلمت- و ذكرت رسول الله ص و ما بعثه الله به- ثم قالت تركتم أمر الله و خالفتم عهده… و نحو هذا- ثم صمتت و تكلمت امرأة أخرى بمثل ذلك- فإذا هما عائشة و حفصة- .
قال فسلم عثمان ثم أقبل على الناس و قال- إن هاتين لفتانتان يحل لي سبهما- و أنا بأصلهما عالم- . فقال له سعد بن أبي وقاص- أ تقول هذا لحبائب رسول الله ص فقال و فيم أنت و ما هاهنا- ثم أقبل نحو سعد عامدا ليضربه فانسل سعد- . فخرج من المسجد- فاتبعه عثمان فلقي عليا ع بباب المسجد- فقال له ع أين تريد- قال أريد هذا الذي كذا و كذا يعني سعدا يشتمه- فقال له علي ع أيها الرجل دع عنك هذا- قال فلم يزل بينهما كلام حتى غضبا- فقال عثمان أ لست الذي خلفك رسول الله ص له يوم تبوك فقال علي أ لست الفار عن رسول الله ص يوم أحد- . قال ثم حجز الناس بينهما- قال ثم خرجت من المدينة حتى انتهيت إلى الكوفة- فوجدت أهلها أيضا وقع بينهم شر و نشبوا في الفتنة- و ردوا سعيد بن العاص فلم يدعوه يدخل إليهم- فلما رأيت ذلك رجعت حتى أتيت بلاد قومي- .
و روى الزبير بن بكار في كتاب الموفقيات- عن عمه عن عيسى بن داود عن رجاله قال- قال ابن عباس رحمه الله لما بنى عثمان داره بالمدينة- أكثر الناس عليه في ذلك فبلغه- فخطبنا في يوم جمعة ثم صلى بنا- ثم عاد إلى المنبر فحمد الله و أثنى عليه- و صلى على رسوله ثم قال أما بعد- فإن النعمة إذا حدثت حدث لها حساد حسبها و أعداء قدرها- و إن الله لم يحدث لنا نعما ليحدث لها حساد عليها- و منافسون فيها- و لكنه قد كان من بناء منزلنا هذا- ما كان إرادة جمع المال فيه و ضم القاصية إليه- فأتانا عن أناس منكم أنهم يقولون- أخذ فيئنا و أنفق شيئنا- و استأثر بأموالنا يمشون خمرا و ينطقون سرا- كأنا غيب عنهم و كأنهم يهابون مواجهتنا- معرفة منهم بدحوض حجتهم- فإذ غابوا عنا يروح بعضهم إلى بعض يذكرنا- و قد وجدوا على ذلك أعوانا من نظرائهم- و مؤازرين من شبابهم فبعدا بعدا و رغما رغما- ثم أنشد بيتين كأنه يومئ فيهما إلى علي ع- .
توقد بنار أينما كنت و اشتعل
فلست ترى مما تعالج شافيا
تشط فيقضي الأمر دونك أهله
وشيكا و لا تدعى إذا كنت نائيا
ما لي و لفيئكم و أخذ مالكم- أ لست من أكثر قريش مالا و أظهرهم من الله نعمة- أ لم أكن على ذلك قبل الإسلام و بعده- و هبوني بنيت منزلا من بيت المال- أ ليس هو لي و لكم أ لم أقم أموركم- و إني من وراء حاجاتكم فما تفقدون من حقوقكم شيئا- فلم لا أصنع في الفضل ما أحببت- فلم كنت إماما إذا- . ألا و إن من أعجب العجب- أنه بلغني عنكم أنكم تقولون لنفعلن به و لنفعلن- فبمن تفعلون لله آباؤكم- أ بنقد البقاع أم بفقع القاع- أ لست أحراكم إن دعا أن يجاب- و أقمنكم إن أمر أن يطاع-لهفي على بقائي فيكم بعد أصحابي- و حياتي فيكم بعد أترابي يا ليتني تقدمت قبل هذا- لكني لا أحب خلاف ما أحبه الله لي عز و جل- إذا شئتم فإن الصادق المصدق محمدا ص- قد حدثني بما هو كائن من أمري و أمركم- و هذا بدء ذلك و أوله- فكيف الهرب مما حتم و قدر- أما إنه ع قد بشرني في آخر حديثه بالجنة دونكم- إذا شئتم فلا أفلح من ندم- .
قال ثم هم بالنزول فبصر بعلي بن أبي طالب ع- و معه عمار بن ياسر رضي الله عنه- و ناس من أهل هواه يتناجون- فقال إيها إيها أ سرارا لا جهارا- أما و الذي نفسي بيده ما أحنق على جرة- و لا أوتى من ضعف مرة- و لو لا النظر لي و لكم و الرفق بي و بكم لعاجلتكم- فقد اغتررتم و أفلتم من أنفسكم- . ثم رفع يديه يدعو و يقول- اللهم قد تعلم حبي للعافية فألبسنيها- و إيثاري للسلامة فآتنيها- . قال فتفرق القوم عن علي ع- و قام عدي بن الخيار فقال- أتم الله عليك يا أمير المؤمنين النعمة و زادك في الكرامة- و الله لأن تحسد أفضل من أن تحسد- و لأن تنافس أجل من أن تنافس- أنت و الله في حسبنا الصميم و منصبنا الكريم- إن دعوت أجبت- و إن أمرت أطعت فقل نفعل و ادع تجب- جعلت الخيرة و الشورى إلى أصحاب رسول الله ص- ليختاروا لهم و لغيرهم- و إنهم ليرون مكانك و يعرفون مكان غيرك- فاختاروك منيبين طائعين غير مكرهين و لا مجبرين- ما غيرت و لا فارقت و لا بدلت و لا خالفت- فعلام يقدمون عليك و هذا رأيهم فيك- أنت و الله كما قال الأول
اذهب إليك فما للحسود
إلا طلابك تحت العثار
حكمت فما جرت في خلة
فحكمك بالحق بادي المنار
فإن يسبعوك فسرا و قد
جهرت بسيفك كل الجهار
قال و نزل عثمان فأتى منزله- و أتاه الناس و فيهم ابن عباس- فلما أخذوا مجالسهم أقبل على ابن عباس- فقال ما لي و لكم يا ابن عباس- ما أغراكم بي و أولعكم بتعقب أمري- أ تنقمون علي أمر العامة- أتيت من وراء حقوقهم أم أمركم- فقد جعلتهم يتمنون منزلتكم- لا و الله لكن الحسد و البغي- و تثوير الشر و إحياء الفتن- و الله لقد ألقى النبي ص إلي ذلك- و أخبرني به عن أهله واحدا واحدا- و الله ما كذبت و لا أنا بمكذوب- .
فقال ابن عباس على رسلك يا أمير المؤمنين- فو الله ما عهدتك جهرا بسرك- و لا مظهرا ما في نفسك فما الذي هيجك و ثورك- إنا لم يولعنا بك أمر و لم نتعقب أمرك بشيء- أتيت بالكذب و تسوف عليك بالباطل- و الله ما نقمنا عليك لنا و لا للعامة- قد أوتيت من وراء حقوقنا و حقوقهم- و قضيت ما يلزمك لنا و لهم- فأما الحسد و البغي و تثوير الفتن و إحياء الشر- فمتى رضيت به عترة النبي و أهل بيته- و كيف و هم منه و إليه على دين الله يثورون الشر أم على الله يحيون الفتن- كلا ليس البغي و لا الحسد من طباعهم- فاتئد يا أمير المؤمنين و أبصر أمرك و أمسك عليك- فإن حالتك الأولى خير من حالتك الأخرى- لعمري إن كنت لأثيرا عند رسول الله- و إن كان يفضي إليك بسره ما يطويه عن غيرك- و لا كذبت و لا أنت بمكذوب- اخسأ الشيطان عنك و لا يركبك- و اغلب غضبك و لا يغلبك- فما دعاك إلى هذا الأمر الذي كان منك- .
قال دعاني إليه ابن عمك علي بن أبي طالب- فقال ابن عباس و عسى أن يكذب مبلغك- قال عثمان إنه ثقة- قال ابن عباس إنه ليس بثقة من بلغ و أغرى- قال عثمان يا ابن عباس- آلله إنك ما تعلم من علي ما شكوت منه- قال اللهم لا إلا أن يقول كما يقول الناس و ينقم كما ينقمون- فمن أغراك به و أولعك بذكره دونهم- فقال عثمان إنما آفتي من أعظم الداء- الذي ينصب نفسه لرأس الأمر و هو علي ابن عمك- و هذا و الله كله من نكده و شؤمه- قال ابن عباس مهلا استثن يا أمير المؤمنين- قل إن شاء الله فقال إن شاء الله- ثم قال إني أنشدك يا ابن عباس الإسلام و الرحم- فقد و الله غلبت و ابتليت بكم- و الله لوددت أن هذا الأمر كان صار إليكم دوني- فحملتموه عني- و كنت أحد أعوانكم عليه- إذا و الله لوجدتموني لكم خيرا مما وجدتكم لي- و لقد علمت أن الأمر لكم- و لكن قومكم دفعوكم عنه و اختزلوه دونكم- فو الله ما أدري أ دفعوه عنكم أم دفعوكم عنه- .
قال ابن عباس مهلا يا أمير المؤمنين- فإنا ننشدك الله و الإسلام و الرحم مثل ما نشدتنا- أن تطمع فينا و فيك عدوا- و تشمت بنا و بك حسودا- إن أمرك إليك ما كان قولا- فإذا صار فعلا فليس إليك و لا في يديك- و إنا و الله لنخالفن إن خولفنا- و لننازعن إن نوزعنا- و ما تمنيك أن يكون الأمر صار إلينا دونك- إلا أن يقول قائل منا ما يقوله الناس- و يعيب كما عابوا- فأما صرف قومنا عنا الأمر- فعن حسد قد و الله عرفته و بغي قد و الله علمته- فالله بيننا و بين قومنا- و أما قولك إنك لا تدري أ دفعوه عنا أم دفعونا عنه- فلعمري إنك لتعرف أنه لو صار إلينا هذا الأمر- ما زدنا به فضلا إلى فضلنا و لا قدرا إلى قدرنا- و إنا لأهل الفضل و أهل القدر- و ما فضل فاضل إلا بفضلنا و لا سبق سابق إلا بسبقنا- و لو لا هدينا ما اهتدى أحد- و لا أبصروا من عمى و لا قصدوا من جور- .
فقال عثمان حتى متى يا ابن عباس- يأتيني عنكم ما يأتيني هبوني كنت بعيدا- أ ما كان لي من الحق عليكم أن أراقب و أن أناظر- بلى و رب الكعبة و لكن الفرقةسهلت لكم القول في- و تقدمت بكم إلى الإسراع إلي و الله المستعان- . قال ابن عباس مهلا حتى ألقى عليا- ثم أحمل إليك على قدر ما رأى- قال عثمان افعل فقد فعلت- و طالما طلبت فلا أطلب و لا أجاب و لا أعتب- . قال ابن عباس فخرجت فلقيت عليا- و إذا به من الغضب و التلظي أضعاف ما بعثمان- فأردت تسكينه فامتنع- فأتيت منزلي و أغلقت بابي و اعتزلتهما- فبلغ ذلك عثمان فأرسل إلي- فأتيته و قد هدأ غضبه فنظر إلي ثم ضحك- و قال يا ابن عباس ما أبطأ بك عنا- إن تركك العود إلينا لدليل على ما رأيت عند صاحبك- و عرفت من حاله فالله بيننا و بينه- خذ بنا في غير ذلك- .
قال ابن عباس- فكان عثمان بعد ذلك إذا أتاه عن علي شيء- فأردت التكذيب عنه يقول- و لا يوم الجمعة حين أبطأت عنا و تركت العود إلينا- فلا أدري كيف أرد عليه- . و روى الزبير بن بكار أيضا في الموفقيات- عن ابن عباس رحمه الله قال- خرجت من منزلي سحرا أسابق إلى المسجد و أطلب الفضيلة- فسمعت خلفي حسا و كلاما فتسمعته- فإذا حس عثمان و هو يدعو و لا يرى أن أحدا يسمعه- و يقول اللهم قد تعلم نيتي فأعني عليهم- و تعلم الذين ابتليت بهم من ذوي رحمي و قرابتي- فأصلحني لهم و أصلحهم لي- . قال فقصرت من خطوتي و أسرع في مشيته- فالتقينا فسلم فرددت عليه فقال- إني خرجت ليلتنا هذه أطلب الفضل و المسابقة إلى المسجد- فقلت إنه أخرجني ما أخرجك فقال و الله لئن سابقت إلى الخير- إنك لمن سابقين مباركين- و إني لأحبكم و أتقرب إلى الله بحبكم- فقلت يرحمك الله يا أمير المؤمنين- إنا لنحبك و نعرف سابقتك و سنك و قرابتك و صهرك- قال يا ابن عباس فما لي و لابن عمك و ابن خالي- قلت أي بني عمومتي و بني أخوالك- قال اللهم اغفر أ تسأل مسألة الجاهل- .
قلت إن بني عمومتي من بني خئولتك كثير- فأيهم تعني قال أعني عليا لا غيره- فقلت لا و الله يا أمير المؤمنين- ما أعلم منه إلا خيرا و لا أعرف له إلا حسنا- قال و الله بالحري أن يستر دونك ما يظهره لغيرك- و يقبض عنك ما ينبسط به إلى سواك- . قال و رمينا بعمار بن ياسر فسلم فرددت عليه سلامه- ثم قال من معك قلت أمير المؤمنين عثمان قال نعم- و سلم بكنيته و لم يسلم عليه بالخلافة فرد عليه- ثم قال عمار ما الذي كنتم فقد سمعت ذروا منه- قلت هو ما سمعت فقال عمار رب مظلوم غافل و ظالم متجاهل- قال عثمان أما إنك من شنائنا و أتباعهم- و ايم الله إن اليد عليك لمنبسطة- و إن السبيل إليك لسهلة و لو لا إيثار العافية- و لم الشعث لزجرتك زجرة تكفي ما مضى و تمنع ما بقي- . فقال عمار و الله ما أعتذر من حبي عليا- و ما اليد بمنبسطة و لا السبيل بسهلة- إني لازم حجة و مقيم على سنة- و أما إيثارك العافية و لم الشعث فلازم ذلك- و أما زجري فأمسك عنه فقد كفاك معلمي تعليمي- فقال عثمان- أما و الله إنك ما علمت من أعوان الشر الحاضين عليه- الخذلة عند الخير و المثبطين عنه- فقال عمار مهلا يا عثمان- فقد سمعت رسول الله ص يصفني بغير ذلك قال عثمان و متى قال يوم دخلت عليه منصرفه عن الجمعة- و ليس عنده غيرك و قد ألقى ثيابه و قعد في فضله- فقبلت صدره و نحره و جبهته- فقال يا عمار إنك لتحبنا و إنا لنحبك- و إنك لمن الأعوان على الخير المثبطين عن الشر- فقال عثمان أجل و لكنك غيرت و بدلت- قال فرفع عمار يده يدعو و قال أمن يا ابن عباس- اللهم من غير فغير به ثلاث مرات- .
قال و دخلنا المسجد فأهوى عمار إلى مصلاه- و مضيت مع عثمان إلى القبلة-فدخل المحراب و قال تلبث علي إذا انصرفنا- فلما رآني عمار وحدي أتاني- فقال أ ما رأيت ما بلغ بي آنفا- قلت أما و الله لقد أصعبت به و أصعب بك- و إن له لسنه و فضله و قرابته قال إن له لذلك- و لكن لا حق لمن لا حق عليه و انصرف- . و صلى عثمان و انصرفت معه يتوكأ علي- فقال هل سمعت ما قال عمار قلت نعم- فسرني ذلك و ساءني- أما مساءته إياي فما بلغ بك- و أما مسرته لي فحلمك و احتمالك- فقال إن عليا فارقني منذ أيام على المقاربة- و إن عمارا آتيه فقائل له و قائل فابدره إليه- فإنك أوثق عنده منه و أصدق قولا- فألق الأمر إليه على وجهه فقلت نعم- .
و انصرفت أريد عليا ع في المسجد فإذا هو خارج منه- فلما رآني تفجع لي من فوت الصلاة و قال ما أدركتها قلت بلى- و لكني خرجت مع أمير المؤمنين ثم اقتصصت عليه القصة- فقال أما و الله يا ابن عباس- إنه ليقرف قرحة ليحورن عليه ألمها- فقلت إن له سنه و سابقته و قرابته و صهره- قال إن ذلك له و لكن لا حق لمن لا حق عليه- . قال ثم رهقنا عمار فبش به علي و تبسم في وجهه و سأله- فقال عمار يا ابن عباس- هل ألقيت إليه ما كنا فيه قلت نعم- قال أما و الله إذا لقد قلت بلسان عثمان و نطقت بهواه- قلت ما عدوت الحق جهدي و لا ذلك من فعلي- و إنك لتعلم أي الحظين أحب إلي- و أي الحقين أوجب علي- .
قال فظن علي أن عند عمار غير ما ألقيت إليه- فأخذ بيده و ترك يدي فعلمت أنه يكره مكاني- فتخلفت عنهما و انشعب بنا الطريق- فسلكاه و لم يدعني فانطلقت إلى منزلي- فإذا رسول عثمان يدعوني فأتيته- فأجد ببابه مروان و سعيد بن العاص- .في رجال من بني أمية- فأذن لي و ألطفني و قربني و أدنى مجلسي- ثم قال ما صنعت فأخبرته بالخبر على وجهه و ما قال الرجل- و قلت له و كتمته قوله- إنه ليقرف قرحة ليحورن عليه ألمها- إبقاء عليه و إجلالا له- و ذكرت مجيء عمار و بش علي له- و ظن علي أن قبله غير ما ألقيت عليه و سلوكهما حيث سلكا- قال و فعلا قلت نعم فاستقبل القبلة- ثم قال اللهم رب السموات و الأرض- عالم الغيب و الشهادة الرحمن الرحيم- أصلح لي عليا و أصلحني له- أمن يا ابن عباس فأمنت- ثم تحدثنا طويلا و فارقته و أتيت منزلي- .
و روى الزبير بن بكار أيضا في الكتاب المذكور- عن عبد الله بن عباس قال ما سمعت من أبي شيئا قط- في أمر عثمان يلومه فيه و لا يعذره- و لا سألته عن شيء من ذلك- مخافة أن أهجم منه على ما لا يوافقه- فإنا عنده ليلة و نحن نتعشى- إذ قيل هذا أمير المؤمنين عثمان بالباب- فقال ائذنوا له فدخل فأوسع له على فراشه- و أصاب من العشاء معه- فلما رفع قام من كان هناك و ثبت أنا- فحمد عثمان الله و أثنى عليه ثم قال أما بعد يا خال- فإني قد جئتك أستعذرك من ابن أخيك علي- سبني و شهر أمري و قطع رحمي و طعن في ديني- و إني أعوذ بالله منكم يا بني عبد المطلب- إن كان لكم حق تزعمون أنكم غلبتم عليه- فقد تركتموه في يدي من فعل ذلك بكم- و أنا أقرب إليكم رحما منه- و ما لمت منكم أحدا إلا عليا- و لقد دعيت أن أبسط عليه فتركته لله و الرحم- و أنا أخاف ألا يتركني فلا أتركه- .
قال ابن عباس فحمد أبي الله و أثنى عليه- ثم قال أما بعد يا ابن أختي- فإن كنت لا تحمد عليا لنفسك فإني لا أحمدك لعلي- و ما علي وحده قال فيك بل غيره- فلو أنكاتهمت نفسك للناس اتهم الناس أنفسهم لك- و لو أنك نزلت مما رقيت و ارتقوا مما نزلوا- فأخذت منهم و أخذوا منك ما كان بذلك بأس- قال عثمان فذلك إليك يا خال و أنت بيني و بينهم- قال أ فأذكر لهم ذلك عنك قال نعم و انصرف- فما لبثنا أن قيل هذا أمير المؤمنين قد رجع بالباب- قال أبي ائذنوا له فدخل فقام قائما و لم يجلس- و قال لا تعجل يا خال حتى أوذنك- فنظرنا فإذا مروان بن الحكم كان جالسا بالباب- ينتظره حتى خرج- فهو الذي ثناه عن رأيه الأول فأقبل علي أبي- و قال يا بني ما إلى هذا من أمره شيء- ثم قال يا بني- أملك عليك لسانك حتى ترى ما لا بد منه- ثم رفع يديه فقال اللهم اسبق بي ما لا خير لي في إدراكه- فما مرت جمعة حتى مات رحمه الله- .
وروى أبو العباس المبرد في الكامل عن قنبر مولى علي ع قال دخلت مع علي على عثمان فأحبا الخلوة- فأومأ إلي علي ع بالتنحي فتنحيت غير بعيد- فجعل عثمان يعاتبه و علي مطرق- فأقبل عليه عثمان و قال ما لك لا تقول- قال إن قلت لم أقل إلا ما تكره و ليس لك عندي إلا ما تحب- .
قال أبو العباس تأويل ذلك- إن قلت اعتددت عليك بمثل ما اعتددت به علي- فلذعك عتابي و عقدي ألا أفعل- و إن كنت عاتبا إلا ما تحب- . و عندي فيه تأويل آخر- و هو أني إن قلت و اعتذرت- فأي شيء حسنته من الأعذار لم يكن ذلك عندك مصدقا- و لم يكن إلا مكروها غير مقبول- و الله تعالى يعلم أنه ليس لك عندي في باطني- و ما أطوي عليه جوانحي إلا ما تحب- و إن كنت لا تقبل المعاذير التي أذكرها- بل تكرهها و تنبو نفسك عنها- .
و روى الواقدي في كتاب الشورى عن ابن عباس رحمه الله قال شهدت عتاب عثمان لعلي ع يوما- فقال له في بعض ما قاله- نشدتك الله أن تفتح للفرقة بابا- فلعهدي بك و أنت تطيع عتيقا- و ابن الخطاب طاعتك لرسول الله ص و لست بدون واحد منهما- و أنا أمس بك رحما و أقرب إليك صهرا- فإن كنت تزعم أن هذا الأمر جعله رسول الله ص لك- فقد رأيناك حين توفي نازعت ثم أقررت- فإن كانا لم يركبا من الأمر جددا- فكيف أذعنت لهما بالبيعة و بخعت بالطاعة- و إن كانا أحسنا فيما وليا- و لم أقصر عنهما في ديني و حسبي و قرابتي- فكن لي كما كنت لهما- .
فقال علي ع أما الفرقة فمعاذ الله أن أفتح لها بابا- و أسهل إليها سبيلا- و لكني أنهاك عما ينهاك الله و رسوله عنه- و أهديك إلى رشدك و أما عتيق و ابن الخطاب- فإن كانا أخذا ما جعله رسول الله ص لي- فأنت أعلم بذلك و المسلمون- و ما لي و لهذا الأمر و قد تركته منذ حين- فإما ألا يكون حقي بل المسلمون فيه شرع- فقد أصاب السهم الثغرة- و إما أن يكون حقي دونهم فقد تركته لهم- طبت به نفسا و نفضت يدي عنه استصلاحا- و أما التسوية بينك و بينهما- فلست كأحدهما إنهما وليا هذا الأمر- فظلفا أنفسهما و أهلهما عنه- و عمت فيه و قومك عوم السابح في اللجة- فارجع إلى الله أبا عمرو- و انظر هل بقي من عمرك إلا كظمء الحمار- فحتى متى و إلى متى- أ لا تنهى سفهاء بني أمية عن أعراض المسلمين- و أبشارهم و أموالهم- و الله لو ظلم عامل من عمالك حيث تغرب الشمس- لكان إثمه مشتركا بينه و بينك
– .
قال ابن عباس فقال عثمان لك العتبى- و افعل و اعزل من عمالي كل من تكرههو يكرهه المسلمون- ثم افترقا- فصده مروان بن الحكم عن ذلك- و قال يجترئ عليك الناس فلا تعزل أحدا منهم- . وروى الزبير بن بكار أيضا في كتابه- عن رجال أسند بعضهم عن بعض عن علي بن أبي طالب ع قال أرسل إلي عثمان في الهاجرة فتقنعت بثوبي و أتيته- فدخلت عليه و هو على سريره- و في يده قضيب و بين يديه مال دثر- صبرتان من ورق و ذهب- فقال دونك خذ من هذا حتى تملأ بطنك فقد أحرقتني- فقلت وصلتك رحم إن كان هذا المال ورثته- أو أعطاكه معط أو اكتسبته من تجارة- كنت أحد رجلين- إما آخذ و أشكر أو أوفر و أجهد- و إن كان من مال الله و فيه حق المسلمين- و اليتيم و ابن السبيل- فو الله ما لك أن تعطينيه و لا لي أن آخذه- فقال أبيت و الله إلا ما أبيت- ثم قام إلي بالقضيب فضربني- و الله ما أرد يده حتى قضى حاجته- فتقنعت بثوبي و رجعت إلى منزلي- و قلت الله بيني و بينك- إن كنت أمرتك بمعروف أو نهيت عن منكر
و- روى الزبير بن بكار عن الزهري قال- لما أتي عمر بجوهر كسرى وضع في المسجد- فطلعت عليه الشمس فصار كالجمر- فقال لخازن بيت المال ويحك- أرحني من هذا و اقسمه بين المسلمين- فإن نفسي تحدثني أنه سيكون في هذا بلاء و فتنة بين الناس- فقال يا أمير المؤمنين إن قسمته بين المسلمين لم يسعهم- و ليس أحد يشتريه لأن ثمنه عظيم و لكن ندعه إلى قابل- فعسى الله أن يفتح على المسلمين بمال- فيشتريه منهم من يشتريه- قال ارفعه فأدخله بيت المال- . و قتل عمر و هو بحاله- فأخذه عثمان لما ولي الخلافة فحلى به بناته- .
قال الزبير فقال الزهري كل قد أحسن- عمر حين حرم نفسه و أقاربه و عثمان حين وصل أقاربه- .قال الزبير و حدثنا محمد بن حرب قال حدثنا سفيان بن عيينة عن إسماعيل بن أبي خالد قال جاء رجل إلى علي ع يستشفع به إلى عثمان- فقال حمال الخطايا- لا و الله لا أعود إليه أبدا فآيسه منهو روى الزبير أيضا عن شداد بن عثمان قال سمعت عوف بن مالك في أيام عمر يقول: يا طاعون خذني فقلنا له لم تقول هذا- وقد سمعت رسول الله ص يقول إن المؤمن لا يزيده طول العمر إلا خيرا
قال إني أخاف ستا خلافة بني أمية- و إمارة السفهاء من أحداثهم- و الرشوة في الحكم و سفك الدم الحرام- و كثرة الشرط و نشأ ينشأ يتخذون القرآن مزامير- . و روى الزبير عن أبي غسان عن عمر بن زياد- عن الأسود بن قيس عن عبيد بن حارثة قال- سمعت عثمان و هو يخطب- فأكب الناس حوله فقال اجلسوا يا أعداء الله- فصاح به طلحة إنهم ليسوا بأعداء الله- لكنهم عباده و قد قرءوا كتابه- . و روى الزبير عن سفيان بن عيينة عن إسرائيل عن الحسن قال شهدت المسجد يوم جمعة- فخرج عثمان فقام رجل فقال أنشد كتاب الله- فقال عثمان اجلس أ ما لكتاب الله ناشد غيرك فجلس- ثم قام آخر فقال مثل مقالته- فقال اجلس فأبىأن يجلس- فبعث إلى الشرط ليجلسوه- فقام الناس فحالوا بينهم و بينه- قال ثم تراموا بالبطحاء حتى يقول القائل- ما أكاد أرى أديم السماء من البطحاء- فنزل عثمان فدخل داره و لم يصل الجمعة
فصل فيما شجر بين عثمان و ابن عباس من الكلام بحضرة علي
و روى الزبير أيضا في الموفقيات عن ابن عباس رحمه الله قال- صليت العصر يوما ثم خرجت فإذا أنا بعثمان بن عفان في أيام خلافته- في بعض أزقة المدينة وحده- فأتيته إجلالا و توقيرا لمكانه- فقال لي هل رأيت عليا قلت خلفته في المسجد- فإن لم يكن الآن فيه فهو في منزله- قال أما منزله فليس فيه فابغه لنا في المسجد- فتوجهنا إلى المسجد و إذا علي ع يخرج منه- قال ابن عباس و قد كنت أمس ذلك اليوم عند علي- فذكر عثمان و تجرمه عليه و قال- أما و الله يا ابن عباس- إن من دوائه لقطع كلامه و ترك لقائه- فقلت له يرحمك الله كيف لك بهذا- فإن تركته ثم أرسل إليك فما أنت صانع- قال أعتل و أعتل فمن يقسرني قال لا أحد- . قال ابن عباس- فلما تراءينا له و هو خارج من المسجد- ظهر منه من التفلت و الطلب للانصراف ما استبان لعثمان- فنظر إلي عثمان و قال يا ابن عباس- أ ما ترى ابن خالنا يكره لقاءنا- فقلت و لم و حقك ألزم و هو بالفضل أعلم- فلما تقاربا رماه عثمان بالسلام فرد عليه- فقال عثمان إن تدخل فإياك أردنا- و إن تمض فإياك طلبنا- فقال علي أي ذلك أحببت قال تدخل- فدخلا و أخذ عثمان بيده فأهوى به إلى القبلة- فقصر عنها و جلس قبالتها فجلس عثمان إلى جانبه- فنكصت عنهما فدعواني جميعا فأتيتهما- فحمد عثمان الله و أثنى عليه و صلى على رسوله- ثم قال أما بعد يا بني خالي و ابنيعمي- فإذ جمعتكما في النداء فسأجمعكما في الشكاية- عن رضاي على أحدكما و وجدي على الآخر- إني أستعذركما من أنفسكما- و أسألكما فيئتكما- و أستوهبكما رجعتكما- فو الله لو غالبني الناس ما انتصرت إلا بكما- و لو تهضموني ما تعززت إلا بعزكما- و لقد طال هذا الأمر بيننا حتى تخوفت أن يجوز قدره- و يعظم الخطر فيه- و لقد هاجني العدو عليكما و أغراني بكما- فمنعني الله و الرحم مما أراد- و قد خلونا في مسجد رسول الله ص و إلى جانب قبره- و قد أحببت أن تظهرا لي رأيكما في- و ما تنطويان لي عليه و تصدقا- فإن الصدق أنجى و أسلم و أستغفر الله لي و لكما- .
قال ابن عباس- فأطرق علي ع و أطرقت معه طويلا- أما أنا فأجللته أن أتكلم قبله- و أما هو فأراد أن أجيب عني و عنه- ثم قلت له أ تتكلم أم أتكلم عنك قال بل تكلم عني و عنك- فحمدت الله و أثنيت عليه و صليت على رسوله- ثم قلت أما بعد يا ابن عمنا و عمتنا- فقد سمعنا كلامك لنا- و خلطك في الشكاية بيننا على رضاك- زعمت- عن أحدنا و وجدك على الآخر- و سنفعل في ذلك فنذمك و نحمدك- اقتداء منك بفعلك فينا فإنا نذم مثل تهمتك إيانا- على ما اتهمتنا عليه بلا ثقة إلا ظنا- و نحمد منك غير ذلك من مخالفتك عشيرتك- ثم نستعذرك من نفسك استعذارك إيانا من أنفسنا- و نستوهبك فيئتك استيهابك إيانا فيئتنا- و نسألك رجعتك مسألتك إيانا رجعتنا- فإنا معا أيما حمدت و ذممت منا كمثلك في أمر نفسك- ليس بيننا فرق و لا اختلاف- بل كلانا شريك صاحبه في رأيه و قوله- فو الله ما تعلمنا غير معذرين فيما بيننا و بينك- و لا تعرفنا غير قانتين عليك- و لا تجدنا غير راجعين إليك- فنحن نسألك من نفسك مثل ما سألتنا من أنفسنا- و أما قولك لو غالبتني الناس ما انتصرت إلا بكما- أو تهضموني ما تعززت إلا بعزكما- فأين بنا و بك عن ذلك و نحن و أنت كما قال أخو كنانة-
بدا بحتر ما رام نال و إن يرم
يخض دونه غمرا من الغر رائمه
لنا و لهم منا و منهم على العدا
مراتب عز مصعدات سلالمه
و أما قولك في هيج العدو إياك علينا- و إغرائه لك بنا- فو الله ما أتاك العدو من ذلك شيئا- إلا و قد أتانا بأعظم منه- فمنعنا مما أراد ما منعك من مراقبة الله و الرحم- و ما أبقيت أنت و نحن إلا على أدياننا- و أعراضنا و مروءاتنا- و لقد لعمري طال بنا و بك هذا الأمر- حتى تخوفنا منه على أنفسنا و راقبنا منه ما راقبت- . و أما مساءلتك إيانا عن رأينا فيك و ما ننطوي عليه لك- فإنا نخبرك أن ذلك إلى ما تحب- لا يعلم واحد منا من صاحبه إلا ذلك- و لا يقبل منه غيره- و كلانا ضامن على صاحبه ذلك و كفيل به- و قد برأت أحدنا و زكيته و أنطقت الآخر و أسكته- و ليس السقيم منا مما كرهت بأنطق من البريء فيما ذكرت- و لا البريء منا مما سخطت بأظهر من السقيم فيما وصفت- فإما جمعتنا في الرضا و إما جمعتنا في السخط- لنجازيك بمثل ما تفعل بنا في ذلك- مكايلة الصاع بالصاع فقد أعلمناك رأينا- و أظهرنا لك ذات أنفسنا و صدقناك- و الصدق كما ذكرت أنجى و أسلم- فأجب إلى ما دعوت إليه- و أجلل عن النقض و الغدر مسجد رسول الله ص و موضع قبره- و اصدق تنج و تسلم و نستغفر الله لنا و لك-قال ابن عباس فنظر إلي علي ع نظر هيبة- و قال دعه حتى يبلغ رضاه فيما هو فيه- فو الله لو ظهرت له قلوبنا- و بدت له سرائرنا حتى رآها بعينه كما يسمع الخبر عنها بأذنه- ما زال متجرما منتقما و الله ما أنا ملقى على وضمة- و إني لمانع ما وراء ظهري- و إن هذا الكلام لمخالفة منه و سوء عشرة- فقال عثمان مهلا أبا حسن- فو الله إنك لتعلم أن رسول الله ص وصفني بغير ذلك- يوم يقول و أنت عنده- إن من أصحابي لقوما سالمين لهم و إن عثمان- لمنهم- إنه لأحسنهم بهم ظنا و أنصحهم لهم حبا- فقال علي ع فتصدق قوله ص بفعلك و خالف ما أنت الآن عليه- فقد قيل لك ما سمعت و هو كاف إن قبلت- قال عثمان فتثق يا أبا الحسن- قال نعم أثق و لا أظنك إلا فاعلا- قال عثمان قد وثقت و أنت ممن لا يخفر صاحبه- و لا يكذب لقيله – .
قال ابن عباس فأخذت بأيديهما- حتى تصافحا و تصالحا و تمازحا و نهضت عنهما- فتشاورا و تآمرا و تذاكرا ثم افترقا- فو الله ما مرت ثالثة حتى لقيني كل واحد منهما- يذكر من صاحبه ما لا تبرك عليه الإبل- فعلمت أن لا سبيل إلى صلحهما بعدها- . و روى أحمد بن عبد العزيز الجوهري- في كتاب أخبار السقيفة- عن محمد بن قيس الأسدي عن المعروف بن سويد- قال كنت بالمدينة أيام بويع عثمان- فرأيت رجلا في المسجد جالسا- و هو يصفق بإحدى يديه على الأخرى و الناس حوله- و يقول وا عجبا من قريش و استئثارهم بهذا الأمر- على أهل هذا البيت معدن الفضل- و نجوم الأرض و نور البلاد- و الله إن فيهم لرجلا- ما رأيت رجلا بعد رسول الله ص أولى منه بالحق- و لا أقضي بالعدل و لا آمر بالمعروف و لا أنهى عن المنكر- فسألت عنه فقيل هذا المقداد- فتقدمت إليه و قلت أصلحك الله- من الرجل الذي تذكر- فقال ابن عم نبيك رسول الله ص علي بن أبي طالب- . قال فلبثت ما شاء الله ثم إني لقيت أبا ذر رحمه الله- فحدثته ما قال المقداد فقال صدق- قلت فما يمنعكم أن تجعلوا هذا الأمر فيهم- قال أبى ذلك قومهم- قلت فما يمنعكم أن تعينوهم- قال مه لا تقل هذا إياكم و الفرقة و الاختلاف- .
قال فسكت عنه ثم كان من الأمر بعد ما كان- . و ذكر شيخنا أبو عثمان الجاحظ- في الكتاب الذي أورد فيه المعاذير عن أحداث عثمان- أن عليا اشتكى فعاده عثمان من شكايته- فقال علي ع-
و عائدة تعود لغير ود
تود لو أن ذا دنف يموت
فقال عثمان و الله ما أدري أ حياتك أحب إلي أم موتك- إن مت هاضني فقدك- و إن حييت فتنتني حياتك- لا أعدم ما بقيت طاعنا يتخذك رديئة يلجأ إليها- . فقال علي ع- ما الذي جعلني رديئة للطاعنين العائبين- إنما سوء ظنك بي أحلني من قبلك هذا المحل- فإن كنت تخاف جانبي- فلك علي عهد الله و ميثاقه أن لا بأس عليك مني- ما بل بحر صوفة و إني لك لراع- و إني عنك لمحام- و لكن لا ينفعني ذلك عندك- و أما قولك إن فقدي يهيضك- فكلا أن تهاض لفقدي ما بقي لك الوليد و مروان- . فقام عثمان فخرج- . و قد روي أن عثمان هو الذي أنشد هذا البيت- و قد كان اشتكى فعاده علي ع فقال عثمان-
و عائدة تعود بغير نصح
تود لو أن ذا دنف يموت
و روى أبو سعد الآبي في كتابه عن ابن عباس- قال وقع بين عثمان و علي ع كلام- فقال عثمان ما أصنع إن كانت قريش لا تحبكم- و قد قتلتم منهم يوم بدر سبعين- كأن وجوههم شنوف الذهب- تصرع أنفهم قبل شفاههم- . و روى المذكور أيضا- أن عثمان لما نقم الناس عليه ما نقموا- قام متوكئا على مروان فخطب الناس- فقال إن لكل أمة آفة و لكل نعمة عاهة- و إن آفة هذه الأمة و عاهة هذه النعمة- قوم عيابون طعانون يظهرون لكم ما تحبون- و يسرون ما تكرهون- طغام مثل النعام يتبعون أول ناعق- و لقد نقموا علي ما نقموا على عمر مثله- فقمعهم و وقمهم- و إني لأقرب ناصرا و أعز نفرا- فما لي لا أفعل في فضول الأموال ما أشاء- .
و روى المذكور أيضا- أن عليا ع اشتكى فعاده عثمان- فقال ما أراك أصبحت إلا ثقيلا- قال أجل قال و الله ما أدري أ موتك أحب إلي أم حياتك- إني لأحب موتك و أكره أن أعيش بعدك- فلو شئت جعلت لنا من نفسك مخرجا- إما صديقا مسالما و إما عدوا مغالبا- و إنك لكما قال أخو إياد
جرت لما بيننا حبل الشموس فلا
يأسا مبينا نرى منها و لا طمعا
فقال علي ع- ليس لك عندي ما تخافه- و إن أجبتك لم أجبك إلا بما تكرهه- . و كتب عثمان إلى علي ع حين أحيط به- أما بعد فقد جاوز الماء الزبى- و بلغ الحزام الطبيين- و تجاوز الأمر في قدره فطمع في من لا يدفع عن نفسه-
فإن كنت مأكولا فكن خير آكل
و إلا فأدركني و لما أمزق
و روى الزبير خبر العيادة على وجه آخر- قال مرض علي ع فعاده عثمان- و معه مروان بن الحكم- فجعل عثمان يسأل عليا عن حاله و علي ساكت لا يجيبه- فقال عثمان لقد أصبحت يا أبا الحسن مني بمنزلة الولد العاق لأبيه- إن عاش عقه و إن مات فجعه- فلو جعلت لنا من أمرك فرجا إما عدوا أو صديقا- و لم تجعلنا بين السماء و الماء- أما و الله لأنا خير لك من فلان و فلان- و إن قتلت لا تجد مثلي- فقال مروان أما و الله لا يرام ما وراءنا- حتى تتواصل سيوفنا و تقطع أرحامنا- . فالتفت إليه عثمان- و قال اسكت لا سكت و ما يدخلك فيما بيننا- .
وروى شيخنا أبو عثمان الجاحظ عن زيد بن أرقم قال سمعت عثمان و هو يقول لعلي ع- أنكرت علي استعمال معاوية و أنت تعلم أن عمر استعمله- قال علي ع نشدتك الله- أ لا تعلم أن معاوية كان أطوع لعمر من يرفأ غلامه- إن عمر كان إذا استعمل عاملا وطئ على صماخه- و إن القوم ركبوك و غلبوك- و استبدوا بالأمر دونك فسكت عثمان
أسباب المنافسة بين علي و عثمان
قلت حدثني جعفر بن مكي الحاجب رحمه الله- قال سألت محمد بن سليمان حاجب الحجاب- و قد رأيت أنا محمدا هذا- و كانت لي به معرفة غير مستحكمة- و كان ظريفاأديبا و قد اشتغل بالرياضيات من الفلسفة- و لم يكن يتعصب لمذهب بعينه- قال جعفر سألت عما عنده في أمر علي و عثمان- فقال هذه عداوة قديمة النسب بين عبد شمس و بين بني هاشم- و قد كان حرب بن أمية نافر عبد المطلب بن هاشم- و كان أبو سفيان يحسد محمدا ص و حاربه- و لم تزل الثنتان متباغضتين و إن جمعتهما المنافية-
ثم إن رسول الله ص زوج عليا بابنته- و زوج عثمان بابنته الأخرى- و كان اختصاص رسول الله ص لفاطمة- أكثر من اختصاصه للبنت الأخرى- و للثانية التي تزوجها عثمان بعد وفاة الأولى- و اختصاصه أيضا لعلي و زيادة قربه منه و امتزاجه به- و استخلاصه إياه لنفسه أكثر و أعظم من اختصاصه لعثمان- فنفس عثمان ذلك عليه فتباعد ما بين قلبيهما- و زاد في التباعد ما عساه يكون بين الأختين- من مباغضة أو مشاجرة- أو كلام ينقل من إحداهما إلى الأخرى- فيتكدر قلبها على أختها- و يكون ذلك التكدير- سببا لتكدير ما بين البعلين أيضا- كما نشاهده في عصرنا و في غيره من الأعصار-
و قد قيل ما قطع من الأخوين كالزوجتين- ثم اتفق أن عليا ع قتل جماعة كثيرة من بني عبد شمس- في حروب رسول الله ص فتأكد الشنئان- و إذا استوحش الإنسان من صاحبه استوحش صاحبه منه- ثم مات رسول الله ص- فصبا إلى علي جماعة يسيرة لم يكن عثمان منهم- و لا حضر في دار فاطمة مع من حضر من المخلفين عن البيعة- و كانت في نفس علي ع أمور من الخلافة- لم يمكنه إظهارها في أيام أبي بكر و عمر- لقوة عمر و شدته و انبساط يده و لسانه- فلما قتل عمر و جعل الأمر شورى بين الستة- و عدل عبد الرحمن بها عن علي إلى عثمان- لم يملك علي نفسه فأظهر ما كان كامنا- و أبدى ما كان مستورا- و لم يزل الأمر يتزايد بينهما حتى شرف و تفاقم- و مع ذلك فلم يكن علي ع لينكر من أمره إلا منكرا- و لا ينهاه إلا كما تقتضي الشريعة نهيه عنه- و كان عثمان مستضعفا في نفسه- رخوا قليل الحزم واهي العقدة- و سلم عنانه إلىمروان يصرفه كيف شاء- الخلافة له في المعنى و لعثمان في الاسم- فلما انتقض على عثمان أمره استصرخ عليا و لاذ به- و ألقى زمام أمره إليه فدافع عنه حيث لا ينفع الدفاع- و ذب عنه حين لا يغني الذب- فقد كان الأمر فسد فسادا لا يرجى صلاحه- . قال جعفر فقلت له- أ تقول إن عليا وجد من خلافة عثمان- أعظم مما وجده من خلافة أبي بكر و عمر- فقال كيف يكون ذلك و هو فرع لهما- و لولاهما لم يصل إلى الخلافة- و لا كان عثمان ممن يطمع فيها من قبل و لا يخطر له ببال- و لكن هاهنا أمر يقتضي في عثمان زيادة المنافسة- و هو اجتماعهما في النسب و كونهما من بني عبد مناف- و الإنسان ينافس ابن عمه الأدنى- أكثر من منافسة الأبعد- و يهون عليه من الأبعد ما لا يهون عليه من الأقرب- .
قال جعفر فقلت له- أ فتقول لو أن عثمان خلع و لم يقتل- أ كان الأمر يستقيم لعلي ع إذا بويع بعد خلعه- فقال لا و كيف يتوهم ذلك- بل يكون انتقاض الأمور عليه- و عثمان حي مخلوع أكثر من انتقاضها عليه بعد قتله- لأنه موجود يرجى و يتوقع عوده- فإن كان محبوسا عظم البلاء و الخطب- و هتف الناس باسمه في كل يوم بل في كل ساعة- و إن كان مخلى سربه و ممكنا من نفسه- و غير محول بينه و بين اختياره لجأ إلى بعض الأطراف- و ذكر أنه مظلوم غصبت خلافته و قهر على خلع نفسه- فكان اجتماع الناس عليه أعظم و الفتنة به أشد و أغلظ- .
قال جعفر فقلت له- فما تقول في هذا الاختلاف الواقع في أمر الإمامة- من مبدأ الحال- و ما الذي تظنه أصله و منبعه- فقال لا أعلم لهذا أصلا إلا أمرين- أحدهما أن رسول الله ص أهمل أمر الإمامة- فلم يصرح فيه بأحد بعينه- و إنما كان هناك رمز و إيماء و كناية و تعريض- لو أراد صاحبه أن يحتج به وقت الاختلاف- و حال المنازعةلم يقم منه صورة حجة تغني- و لا دلالة تحسب و تكفي- و لذلك لم يحتج علي ع يوم السقيفة بما ورد فيه- لأنه لم يكن نصا جليا يقطع العذر و يوجب الحجة- و عادة الملوك إذا تمهد ملكهم- و أرادوا العقد لولد من أولادهم أو ثقة من ثقاتهم- أن يصرحوا بذكره و يخطبوا باسمه على أعناق المنابر- و بين فواصل الخطب- و يكتبوا بذلك إلى الآفاق البعيدة عنهم- و الأقطار النائية منهم- و من كان منهم ذا سرير و حصن و مدن كثيرة- ضرب اسمه على صفحات الدنانير و الدراهم مع اسم ذلك الملك- بحيث تزول الشبهة في أمره و يسقط الارتياب بحاله- فليس أمر الخلافة بهين و لا صغير- ليترك حتى يصير في مظنة الاشتباه و اللبس- و لعله كان لرسول الله ص في ذلك عذر لا نعلمه نحن- إما خشية من فساد الأمر أو إرجاف المنافقين- و قولهم إنها ليس بنبوة و إنما هي ملك- به أوصى لذريته و سلالته- و لما لم يكن أحد من تلك الذرية في تلك الحال صالحا- للقيام بالأمر لصغر السن جعله لأبيهم- ليكون في الحقيقة لزوجته التي هي ابنته- و لأولاده منها من بعده- .
و أما ما تقوله المعتزلة و غيرهم من أهل العدل- أن الله تعالى علم أن المكلفين يكونون على ترك الأمر- مهملا غير معين أقرب إلى فعل الواجب و تجنب القبيح- قال و لعل رسول الله ص لم يكن يعلم في مرضه- أنه يموت في ذلك المرض- و كان يرجو البقاء فيمهد للإمامة قاعدة واضحة- و مما يدل على ذلك أنه لما نوزع في إحضار الدواة و الكتف- ليكتب لهم ما لا يضلون بعده- غضب و قال اخرجوا عني- لم يجمعهم بعد الغضب ثانية و يعرفهم رشدهم- و يهديهم إلى مصالحهم- بل ارجأ الأمر إرجاء من يرتقب الإفاقة و ينتظر العافية- .
قال فبتلك الأقوال المحجمة و الكنايات المحتملة- و الرموز المشتبهة مثل حديثخصف النعل- و منزلة هارون من موسى و من كنت مولاه- و هذا يعسوب الدين و لا فتى إلا علي و أحب خلقك إليك…- و ما جرى هذا المجرى مما لا يفصل الأمر- و يقطع العذر و يسكت الخصم و يفحم المنازع- وثبت الأنصار فادعتها و وثب بنو هاشم فادعوها- و قال أبو بكر بايعوا عمر أو أبا عبيدة- و قال العباس لعلي امدد يدك لأبايعك- و قال قوم ممن رعف به الدهر فيما بعد- و لم يكن موجودا حينئذ- إن الأمر كان للعباس لأنه العم الوارث- و إن أبا بكر و عمر غصباه حقه فهذا أحدهما- .
و أما السبب الثاني للاختلاف- فهو جعل عمر الأمر شورى في الستة- و لم ينص على واحد بعينه إما منهم أو من غيرهم- فبقي في نفس كل واحد منهم- أنه قد رشح للخلافة و أهل للملك و السلطنة- فلم يزل ذلك في نفوسهم و أذهانهم مصورا بين أعينهم- مرتسما في خيالاتهم منازعة إليه نفوسهم- طامحة نحوه عيونهم- حتى كان من الشقاق بين علي و عثمان ما كان- و حتى أفضى الأمر إلى قتل عثمان- و كان أعظم الأسباب في قتله طلحة- و كان لا يشك أن الأمر له من بعده لوجوه- منها سابقته و منها أنه ابن عم لأبي بكر- و كان لأبي بكر في نفوس أهل ذلك العصر منزلة عظيمة- أعظم منها الآن و منها أنه كان سمحا جوادا- و قد كان نازع عمر في حياة أبي بكر- و أحب أن يفوض أبو بكر الأمر إليه من بعده- فما زال يفتل في الذروة و الغارب في أمر عثمان- و ينكر له القلوب و يكدر عليه النفوس- و يغري أهل المدينة و الأعراب و أهل الأمصار به- و ساعده الزبير- و كان أيضا يرجو الأمر لنفسه- و لم يكن رجاؤهما الأمر بدون رجاء علي- بل رجاؤهما كان أقوى- لأن عليا دحضه الأولان و أسقطاه- و كسرا ناموسه بين الناس فصار نسيا منسيا- و مات الأكثر ممن يعرف خصائصه- التي كانت في أيام النبوة و فضله- و نشأ قوم لا يعرفونه و لا يرونه- إلا رجلا من عرض المسلمين- و لم يبق له مما يمت به إلا أنه ابن عم الرسول- و زوج ابنته و أبو سبطيه و نسي ما وراء ذلك كله- و اتفق له من بغضقريش و انحرافها ما لم يتفق لأحد- و كانت قريش بمقدار ذلك البغض تحب طلحة و الزبير- لأن الأسباب الموجبة لبغضهم لم تكن موجودة فيهما- و كانا يتألفان قريشا في أواخر أيام عثمان- و يعدانهم بالعطاء و الإفضال- و هما عند أنفسهما و عند الناس خليفتان بالقوة لا بالفعل- لأن عمر نص عليهما و ارتضاهما للخلافة- و عمر متبع القول و مرضى الفعال- موفق مؤيد مطاع نافذ الحكم في حياته و بعد وفاته- فلما قتل عثمان أرادها طلحة و حرص عليها- فلو لا الأشتر و قوم معه من شجعان العرب- جعلوها في علي لم تصل إليه أبدا-
فلما فاتت طلحة و الزبير فتقا ذلك الفتق العظيم على علي- و أخرجا أم المؤمنين معهما و قصدا العراق و أثارا الفتنة- و كان من حرب الجمل ما قد علم و عرف- ثم كانت حرب الجمل مقدمة و تمهيدا لحرب صفين- فإن معاوية لم يكن ليفعل ما فعل- لو لا طمعه بما جرى في البصرة- ثم أوهم أهل الشام أن عليا قد فسق بمحاربة أم المؤمنين- و محاربة المسلمين و أنه قتل طلحة و الزبير و هما من أهل الجنة- و من يقتل مؤمنا من أهل الجنة فهو من أهل النار- فهل كان الفساد المتولد في صفين- إلا فرعا للفساد الكائن يوم الجمل- ثم نشأ من فساد صفين و ضلال معاوية- كل ما جرى من الفساد و القبيح في أيام بني أمية- و نشأت فتنة ابن الزبير فرعا من فروع يوم الدار- لأن عبد الله كان يقول- إن عثمان لما أيقن بالقتل نص علي بالخلافة- و لي بذلك شهود- و منهم مروان بن الحكم- أ فلا ترى كيف تسلسلت هذه الأمور فرعا على أصل- و غصنا من شجرة و جذوة من ضرام- هكذا يدور بعضه على بعض و كله من الشورى في الستة- .
قال و أعجب من ذلك قول عمر و قد قيل له- إنك استعملت يزيد بن أبي سفيان و سعيد بن العاص و معاوية- و فلانا و فلانا من المؤلفة قلوبهم- من الطلقاء و أبناء الطلقاء- و تركت أن تستعمل عليا و العباس و الزبير و طلحة- فقال أما علي فأنبه من ذلك و أما هؤلاء النفرمن قريش- فإني أخاف أن ينتشروا في البلاد- فيكثروا فيها الفساد- فمن يخاف من تأميرهم لئلا يطمعوا في الملك- و يدعيه كل واحد منهم لنفسه- كيف لم يخف من جعلهم ستة متساوين في الشورى- مرشحين للخلافة و هل شيء أقرب إلى الفساد من هذا- و قد روي أن الرشيد- رأى يوما محمدا و عبد الله ابنيه يلعبان و يضحكان- فسر بذلك- فلما غابا عن عينه بكى- فقال له الفضل بن الربيع- ما يبكيك يا أمير المؤمنين- و هذا مقام جذل لا مقام حزن- فقال أ ما رأيت لعبهما و مودة بينهما- أما و الله ليتبدلن ذلك بغضا و شنفا- و ليحتلسن كل واحد منهما نفس صاحبه عن قريب- فإن الملك عقيم- و كان الرشيد قد عقد الأمر لهما على ترتيب هذا بعد هذا- فكيف من لم يرتبوا في الخلافة بل جعلوا فيها كأسنان المشط- . فقلت أنا لجعفر هذا كله تحكيه عن محمد بن سليمان- فما تقول أنت فقال-
إذا قالت حذام فصدقوها
فإن القول ما قالت حذام
شرح نهج البلاغة(ابن أبي الحديد) ج 8-9