131 و من كلام له ع
أَيَّتُهَا النُّفُوسُ الْمُخْتَلِفَةُ وَ الْقُلُوبُ الْمُتَشَتِّتَةُ- الشَّاهِدَةُ أَبْدَانُهُمْ وَ الْغَائِبَةُ عَنْهُمْ عُقُولُهُمْ- أَظْأَرُكُمْ عَلَى الْحَقِّ- وَ أَنْتُمْ تَنْفِرُونَ عَنْهُ نُفُورَ الْمِعْزَى مِنْ وَعْوَعَةِ الْأَسَدِ- هَيْهَاتَ أَنْ أُطْلِعَ بِكُمْ سِرَارَ الْعَدْلِ- أَوْ أُقِيمَ اعْوِجَاجَ الْحَقِّ- اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ- أَنَّهُ لَمْ يَكُنِ الَّذِي كَانَ مِنَّا مُنَافَسَةً فِي سُلْطَانٍ- وَ لَا الْتِمَاسَ شَيْءٍ مِنْ فُضُولِ الْحُطَامِ- وَ لَكِنْ لِنَرِدَ الْمَعَالِمَ مِنْ دِينِكَ- وَ نُظْهِرَ الْإِصْلَاحَ فِي بِلَادِكَ- فَيَأْمَنَ الْمَظْلُومُونَ مِنْ عِبَادِكَ- وَ تُقَامَ الْمُعَطَّلَةُ مِنْ حُدُودِكَ- اللَّهُمَّ إِنِّي أَوَّلُ مَنْ أَنَابَ- وَ سَمِعَ وَ أَجَابَ- لَمْ يَسْبِقْنِي إِلَّا رَسُولُ اللَّهِ ص بِالصَّلَاةِ- وَ قَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَى الْفُرُوجِ- وَ الدِّمَاءِ وَ الْمَغَانِمِ وَ الْأَحْكَامِ- وَ إِمَامَةِ الْمُسْلِمِينَ الْبَخِيلُ- فَتَكُونَ فِي أَمْوَالِهِمْ نَهْمَتُهُ- وَ لَا الْجَاهِلُ فَيُضِلَّهُمْ بِجَهْلِهِ- وَ لَا الْجَافِي فَيَقْطَعَهُمْ بِجَفَائِهِ- وَ لَا الْحَائِفُ لِلدُّوَلِ فَيَتَّخِذَ قَوْماً دُونَ قَوْمٍ- وَ لَا الْمُرْتَشِي فِي الْحُكْمِ- فَيَذْهَبَ بِالْحُقُوقِ- وَ يَقِفَ بِهَا دُونَ الْمَقَاطِعِ- وَ لَا الْمُعَطِّلُ لِلسُّنَّةِ فَيُهْلِكَ الْأُمَّةَ أظأركم أعطفكم ظأرت الناقة ظأرا- و هي ناقة مظئورة- إذا عطفتها علي ولد غيرها-
و في المثل الطعن يظأر أي يعطف علي الصلح- و ظأرت الناقة أيضا إذا عطفت على البو- يتعدى و لا يتعدى فهي ظئور- . و الوعوعة الصوت و الوعواع مثله- . و قوله هيهات أن أطلع بكم سرار العدل- يفسره الناس بمعنى هيهات أن أطلعكم- مضيئين و منورين لسرار العدل- و السرار آخر ليلة في الشهر و تكون مظلمة- و يمكن عندي أن يفسر على وجه آخر- و هو أن يكون السرار هاهنا بمعنى السرور- و هي خطوط مضيئة في الجبهة- و قد نص أهل اللغة- على أنه يجوز سرر و سرار- و قالوا و يجمع سرار على أسرة مثل حمار و أحمرة- قال عنترة-
بزجاجة صفراء ذات أسرة
قرنت بأزهر في الشمال مفدم
يصف الكأس- و يقول إن فيها خطوطا بيضا- و هي زجاج أصفر- و يقولون برقت أسرة وجهه و أسارير وجهه- فيكون معنى كلامه ع- هيهات أن تلمع بكم لوامع العدل- و تنجلي أوضاحه و يبرق وجهه- و يمكن فيه أيضا وجه آخر- و هو أن ينصب سرار هاهنا على الظرفية- و يكون التقدير- هيهات أن أطلع بكم الحق- زمان استسرار العدل و استخفائه- فيكون قد حذف المفعول و حذفه كثير- . ثم ذكر أن الحروب التي كانت منه- لم تكن طلبا للملك و لا منافسة على الدنيا- و لكن لتقام حدود الله على وجهها- و يجري أمر الشريعة و الرعية- على ما كان يجري عليه أيام النبوة- . ثم ذكر أنه سبق المسلمين كلهم- إلى التوحيد و المعرفة- و لم يسبقه بالصلاة أحد إلا رسول الله ص- و هكذا روى جمهور المحدثين- و قد تقدم ذكر ذلك- .
فإن قلت أي وجه لإدخال هذا الكلام- في غضون مقصده في هذه الخطبة- فإنها مبنية على ذم أصحابه- و تقرير قاعدة الإمامة- و أنه لا يجوز أن يليها الفاسق- و أنه لا بد للإمام من صفات مخصوصة عددها ع- و كل هذا لا تعلق لسبقه إلى الإسلام- قلت بل الكلام متعلق بعضه ببعض من وجهين- أحدهما أنه لما قال- اللهم إنك تعلم أني ما سللت السيف طلبا للملك- أراد أن يؤكد هذا القول في نفوس السامعين- فقال أنا أول من أسلم- و لم يكن الإسلام حينئذ معروفا أصلا- و من يكون إسلامه هكذا- لا يكون قد قصد بإسلامه- إلا وجه الله تعالى و القربة إليه- فمن تكون هذه حاله في مبدإ أمره- كيف يخطر ببال عاقل أنه يطلب الدنيا و حطامها- و يجرد عليها السيف في آخر عمره- و وقت انقضاء مدة عمره- .
و الوجه الثاني أنه إذا كان أول السابقين- وجب أن يكون أقرب المقربين- لأنه تعالى قال- وَ السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ- أ لا ترى أنه إذا قال الملك- العالمون العاملون هم المختصون بنا- وجب أن يكون أعلمهم أشدهم به اختصاصا- و إذا كان ع أقرب المقربين- وجب أن تنتفي عنه الموانع الستة- التي جعل كل واحد منها صادا عن الإمامة- و قاطعا عن استحقاقها- و هي البخل و الجهل و الجفاء- أي الغلظة العصبية في دولته- أي تقديم قوم على قوم- و الارتشاء في الحكم و التعطيل للسنة- و إذا انتفت عنه هذه الموانع الستة- تعين أن يكون هو الإمام- لأن شروط الإمامة موجودة فيه بالاتفاق- فإذا كانت موانعها عنه منتفية- و لم يحصل لغيره اجتماع الشروط و ارتفاع الموانع- وجب أن يكون هو الإمام- لأنه لا يجوز خلو العصر من إمام- سواء كانت هذه القضية عقلية أو سمعية- .
فإن قلت أ فتراه عني بهذا قوما بأعيانهم- قلت الإمامية تزعم أنه رمز في الجفاء و العصبية- لقوم دون قوم إلى عمر- و رمز بالجهل إلى من كان قبله- و رمز بتعطيل السنة إلى عثمان و معاوية- و أما نحن فنقول إنه ع لم يعن ذلك- و إنما قال قولا كليا غير مخصوص- و هذا هو اللائق بشرفه ع- و قول الإمامية دعوى لا دليل عليها- و لا يعدم كل أحد أن يستنبط من كل كلام- ما يوافق غرضه و إن غمض- و لا يجوز أن تبنى العقائد- على مثل هذه الاستنباطات الدقيقة- . و النهمة الهمة الشديدة بالأمر- قد نهم بكذا بالضم فهو منهوم- أي مولع به حريص عليه- يقول إذا كان الإمام بخيلا- كان حرصه و جشعه على أموال رعيته- و من رواها نهمته بالتحريك- فهي إفراط الشهوة في الطعام- و الماضي نهم بالكسر- .
قوله ع فيقطعهم بجفائه- أي يقطعهم عن حاجاتهم لغلظته عليهم- لأن الوالي إذا كان غليظا جافيا- أتعب الرعية و قطعهم عن مراجعته في حاجاتهم- خوفا من بادرته و معرته- . قوله و لا الحائف للدول- أي الظالم لها و الجائر عليها- و الدول جمع دولة بالضم و هي اسم المال المتداول به- و يقال هذا الفيء دولة بينهم أي يتداولونه- و المعنى أنه يجب أن يكون الإمام يقسم بالسوية- و لا يخص قوما دون قوم على وجه العصبية- لقبيلة دون قبيلة أو لإنسان من المسلمين دون غيره- فيتخذ بذلك بطانة- . قوله فيقف بها دون المقاطع- المقاطع جمع مقطع و هو ما ينتهي الحق إليه- أي لا تصل الحقوق إلى أربابها- لأجل ما أخذ من الرشوة عليها- .
فإن قلت فما باله قال في المانع السادس- فيهلك الأمة- و كل واحد من الموانع قبله يفضي إلى هلاك الأمة- . قلت كل واحد من الموانع الخمسة- يفضي إلى هلاك بعض الأمة- و أما من يعطل السنة أصلا- فإنه لا محالة مهلك للأمة كلها- لأنه إذا عطل السنة مطلقا- عادت الجاهلية الجهلاء كما كانت- . و قد روي و لا الخائف الدول بالخاء المعجمة- و نصب الدول أي من يخاف دول الأيام و تقلبات الدهر- فيتخذ قوما دون قوم ظهريا- و هذا معنى لا بأس به
شرح نهج البلاغة(ابن أبي الحديد) ج 8