و من كلام له عليه السّلام
القسم الأول
نَحْمَدُهُ عَلَى مَا أَخَذَ وَ أَعْطَى- وَ عَلَى مَا أَبْلَى وَ ابْتَلَى- الْبَاطِنُ لِكُلِّ خَفِيَّةٍ- وَ الْحَاضِرُ لِكُلِّ سَرِيرَةٍ- الْعَالِمُ بِمَا تُكِنُّ الصُّدُورُ- وَ مَا تَخُونُ الْعُيُونُ- وَ نَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ- وَ أَنَّ مُحَمَّداً ص نَجِيبُهُ وَ بَعِيثُهُ- شَهَادَةً يُوَافِقُ فِيهَا السِّرُّ الْإِعْلَانَ وَ الْقَلْبُ اللِّسَانَ
المعنى
أقول: الضمير في قوله: نحمده. يعود إلى اسم اللّه في كلام سابق لم يذكر، و قد علّم شكر اللّه تعالى على أخذه و إعطائه و على إبلائه بالخير و ابتلائه بالشرّ،و نبّه بذلك على وجوب شكر اللّه تعالى في طوارى السرّاء و الضرّاء و حالتى الشدّة و الرخاء، فأمّا وصفه له بالباطن و الحاضر و العالم فقد سبق شرحه غير مرّة و مصداق الوصفين الأوّلين قوله تعالى «يَعْلَمُ السِّرَّ وَ أَخْفى»«»، و مصداق الأخيرين قوله تعالى «يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَ ما تُخْفِي الصُّدُورُ»«» و كذلك سبقت الإشارة إلى سرّ الشهادتين. و نجيبه و بعيثه: منتخبه و مبعوثه. فعيل بمعنى مفعول. و قوله: شهادة يوافق فيها. إلى آخره. أى شهادة خالصة من النفاق و الرياء. و باللّه التوفيق.
القسم الثاني منه:
فَإِنَّهُ وَ اللَّهِ الْجِدُّ لَا اللَّعِبُ- وَ الْحَقُّ لَا الْكَذِبُ- وَ مَا هُوَ إِلَّا الْمَوْتُ قَدْ أَسْمَعَ دَاعِيهِ- وَ أَعْجَلَ حَادِيهِ- فَلَا يَغُرَّنَّكَ سَوَادُ النَّاسِ مِنْ نَفْسِكَ- فَقَدْ رَأَيْتَ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ- مِمَّنْ جَمَعَ الْمَالَ وَ حَذِرَ الْإِقْلَالَ- وَ أَمِنَ الْعَوَاقِبَ طُولَ أَمَلٍ وَ اسْتِبْعَادَ أَجَلٍ- كَيْفَ نَزَلَ بِهِ الْمَوْتُ فَأَزْعَجَهُ عَنْ وَطَنِهِ- وَ أَخَذَهُ مِنْ مَأْمَنِهِ- مَحْمُولًا عَلَى أَعْوَادِ الْمَنَايَا- يَتَعَاطَى بِهِ الرِّجَالُ الرِّجَالَ- حَمْلًا عَلَى الْمَنَاكِبِ- وَ إِمْسَاكاً بِالْأَنَامِلِ- أَ مَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يَأْمُلُونَ بَعِيداً- وَ يَبْنُونَ مَشِيداً وَ يَجْمَعُونَ كَثِيراً- كَيْفَ أَصْبَحَتْ بُيُوتُهُمْ قُبُوراً- وَ مَا جَمَعُوا بُوراً- وَ صَارَتْ أَمْوَالُهُمْ لِلْوَارِثِينَ- وَ أَزْوَاجُهُمْ لِقَوْمٍ آخَرِينَ- لَا فِي حَسَنَةٍ يَزِيدُونَ- وَ لَا مِنْ سَيِّئَةٍ يَسْتَعْتِبُونَ- فَمَنْ أَشْعَرَ التَّقْوَى قَلْبَهُ بَرَّزَ مَهَلُهُ- وَ فَازَ عَمَلُهُ فَاهْتَبِلُوا هَبَلَهَا- وَ اعْمَلُوا لِلْجَنَّةِ عَمَلَهَا- فَإِنَّ الدُّنْيَا لَمْ تُخْلَقْ لَكُمْ دَارَ مُقَامٍ- بَلْ خُلِقَتْ لَكُمْ مَجَازاً- لِتَزَوَّدُوا مِنْهَا الْأَعْمَالَ إِلَى دَارِ الْقَرَارِ- فَكُونُوا مِنْهَا عَلَى أَوْفَازٍ- وَ قَرِّبُوا الظُّهُورَ لِلزِّيَالِ
اللغة
أقول: المشيد: المعلّى. و الاهتبال في الأمر: السعى في إحكامه، و هبلها مصدر مضاف إلى ضمير التقوى مؤكّد للفعل: أى احكموها إحكاما. و الأوفاز: جمع وفزة و هى العجلة،
المعنى
و الضمير في قوله: فإنّه. إمّا أن يرجع إلى مذكور سابق أو إلى معنى كلامه و هو التحذير و الإنذار، و كذلك الّذى في قوله: و ما هو إلّا الموت. يحتمل أن يعود إلى ملفوظ به سابق و يحتمل أن يعود إلى المعنىّ بالتحذير منه و الإنذار به: أى و ما الّذى احذّركم هجومه عليكم إلّا الموت، و أسمع و أعجل محلّهما النصب على الحال من معنى الإشارة.
و قوله: فلا يغرّنّك إلى قوله: و أمن العواقب. أى فلا يغرّنّك من نفسك الأمّارة بالسوء و سوستها و استغفالها لك عن ملاحظة الموت برؤية سواد الناس: أى كثرتهم. إذ كثيرا ما يرى الإنسان الميّت محمولا فيتداركه من ذلك رقّة و روعة. ثمّ يعاوده الوسواس الخنّاس و يأمره باعتبار كثرة المشيّعين له من الناس و أن يجعل نفسه من الأحياء الكثيرين بملاحظة شبابه و صحّته و يأمره باعتبار أسباب موت ذلك الميّت من القتل و سائر الأمراض و باعتبار زوال تلك الأسباب في حقّ نفسه، و بالجملة فيبعّد في اعتباره الموت بكلّ حيلة. فنهى السامعين عن الانخداع للنفس بهذه الخديعة، و أسند الغرور إلى سواد الناس لأنّه مادّته. ثمّ نبّههم بقوله: و قد رأيت. إلى قوله: يستعتبون. على كذب تلك الخديعة مشاهدة، و الواو في قوله: و قد. واو الحال، و من في قوله: من جمع. بدل البعض من الكلّ من قوله: من كان قبلك. و المعنى أنّه كما نزل بأولئك الموت و أزعجهم عن أوطانهم فكذلك أنتم.
و قوله: طول أمل. نصب على المفعول له.
أى فعلوا ذلك لأجل طول الأمل، و يحتمل أن يكون مصدرا سدّ مسدّ الحال، و يحتمل أن يكون ظرفا و العامل أمن، و قيل: هو بدل من قوله: من كان قبلك: أى رأيت طول أمل من كان قبلك، و يروى بطول أمل. و أعواد المنايا: النعوش، و يتعاطى به الرجال الرجال: أى يسلّمه الحاملون له بعضهم إلى بعض، و الخطاب بالكاف لنوع المخاطب أو لشخص على طريقة قولهم: إيّاك أعنى و اسمعى يا جارة.
و قوله: أما رأيتم استفهام على سبيل التقرير، و إنّما كانوا لا يستطيعون زيادة في حسنة و لا استعتابا من سيّئة لأنّ محلّ الأعمال هى الدنيا دون ما بعدها. و قوله: فمن أشعر التقوى قلبه. أى من اتّقى تقوى حقيقة برزت تؤدته: أى ظهرت عليه آثار الرحمة الإلهيّة في السكينة و الوقار و الحلم و الأناة عن التسرّع إلى مطالب الدنيا، و علمت راحته في الآخرة، و فاز عمله فيها بالجزاء الأوفى. ثمّ أمرهم بإحكام التقوى: أى أن تتّقوا اللّه تقوى حقيقيّة فإنّها الّتى يستحقّ بها الثواب الدائم، و أن يعملوا للجنّة عملها الّتى تستحقّ به. ثمّ نبّههم على وجوب العمل للجنّة بالتصريح بما لأجله خلقت الدنيا، و أنّها لم تخلق دار إقامة بل طريقا يعبر بها إلى الآخرة كما يعبر المسافرون، و يتزوّد منها الأعمال الصالحة الموصلة إلى الجنّة، و أمرهم أن يكونوا فيها على سرعة في قطع عقباتها و عجل في الارتحال عنها لأنّ التأنّي فيها يستلزم الالتفات إلى لذّاتها و الغفلة عن المقصد الحقّ، و استعار لفظ الظهور و هى الركوب لمطايا الآخرة و هي الأعمال الصالحة، و تقريبها للزيال هو العناية الإلهيّة بالأعمال المقرّبة إلى الآخرة المستلزمة للبعد عن الدنيا و الإعراض عنها و مفارقتها.
شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 3 ، صفحهى 150