google-site-verification: googledc28cebad391242f.html
120-140 خطبه ها شرح ابن ابی الحدیدخطبه ها شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)

خطبه 128 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

128 و من كلام له ع فيما يخبر به عن الملاحم بالبصرة

يَا أَحْنَفُ كَأَنِّي بِهِ وَ قَدْ سَارَ بِالْجَيْشِ- الَّذِي لَا يَكُونُ لَهُ غُبَارٌ وَ لَا لَجَبٌ- وَ لَا قَعْقَعَةُ لُجُمٍ وَ لَا حَمْحَمَةُ خَيْلٍ- يُثِيرُونَ الْأَرْضَ بِأَقْدَامِهِمْ- كَأَنَّهَا أَقْدَامُ النَّعَامِ قال الشريف الرضي أبو الحسن رحمه الله تعالى- يومئ بذلك إلى صاحب الزنج ثُمَّ قَالَ ع- وَيْلٌ لِسِكَكِكُمُ الْعَامِرَةِ وَ الدُّورِ الْمُزَخْرَفَةِ- الَّتِي لَهَا أَجْنِحَةٌ كَأَجْنِحَةِ النُّسُورِ- وَ خَرَاطِيمُ كَخَرَاطِيمِ الْفِيَلَةِ- مِنْ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَا يُنْدَبُ قَتِيلُهُمْ- وَ لَا يُفْقَدُ غَائِبُهُمْ- أَنَا كَابُّ الدُّنْيَا لِوَجْهِهَا- وَ قَادِرُهَا بِقَدْرِهَا وَ نَاظِرُهَا بِعَيْنِهَا اللجب الصوت- و الدور المزخرفة المزينة المموهة بالزخرف- و هو الذهب- . و أجنحة الدور التي شبهها بأجنحة النسور رواشينها- و الخراطيم ميازيبها- .

و قوله لا يندب قتيلهم- ليس يريد به من يقتلونه بل القتيل منهم- و ذلك لأن أكثر الزنج الذين أشار إليهم- كانوا عبيدا لدهاقين البصرة و بناتها- و لم يكونوا ذوي زوجات و أولاد- بل كانوا على هيئة الشطار عزابا فلا نادبة لهم- . و قوله و لا يفقد غائبهم يريد به كثرتهم- و أنهم كلما قتل منهم قتيل سد مسده غيره- فلا يظهر أثر فقده- .

و قوله أنا كأب الدنيا لوجهها- مثل الكلمات المحكية-عن عيسى ع أنا الذي كببت الدنيا على وجهها- ليس لي زوجة تموت و لا بيت يخرب- وسادي الحجر و فراشي المدر و سراجي القمرأخبار صاحب الزنج و فتنته و ما انتحله من عقائدفأما صاحب الزنج هذا فإنه ظهر في فرات البصرة- في سنة خمس و خمسين و مائتين رجل- زعم أنه علي بن محمد بن أحمد بن عيسى- بن زيد بن علي بن الحسين- بن علي بن أبي طالب ع- فتبعه الزنج الذين كانوا يكسحون السباخ في البصرة- .

و أكثر الناس يقدحون في نسبه- و خصوصا الطالبيين و جمهور النسابين اتفقوا على‏ أنه من عبد القيس- و أنه علي بن محمد بن عبد الرحيم- و أمه أسدية من أسد بن خزيمة- جدها محمد بن حكيم الأسدي من أهل الكوفة- أحد الخارجين مع زيد بن علي بن الحسين ع- على هشام بن عبد الملك- فلما قتل زيد هرب فلحق بالري- و جاء إلى القرية التي يقال لها ورزنين- فأقام بها مدة- و بهذه القرية ولد علي بن محمد صاحب الزنج و بها منشؤه- و كان أبو أبيه المسمى عبد الرحيم رجلا من عبد القيس- كان مولده بالطالقان فقدم العراق- و اشترى جارية سندية فأولدها محمدا أباه- .

و كان علي هذا متصلا بجماعة- من حاشية السلطان و خول بني العباس- منهم غانم الشطرنجي و سعيد الصغير- و بشير خادم المنتصر- و كان منهم معاشه و من قوم- من كتاب الدولة يمدحهم و يستمنحهم بشعره- و يعلم الصبيان الخط و النحو و النجوم- و كان حسن الشعر مطبوعا عليه- فصيح اللهجة بعيد الهمة- تسمو نفسه إلى معالي الأمور و لا يجد إليها سبيلا- و من شعره القصيدة المشهورة التي أولها-

رأيت المقام على الاقتصاد
قنوعا به ذلة في العباد

 و من جملتها-

إذا النار ضاق بها زندها
ففسحتها في فراق الزناد

إذا صارم قر في غمده‏
حوى غيره السبق يوم الجلاد

 و من الشعر المنسوب إليه-

و أنا لتصبح أسيافنا
إذا ما انتضين ليوم سفوك‏

منابرهن بطون الأكف‏
و أغمادهن رءوس الملوك‏

و من شعره في الغزل-

و لما تبينت المنازل بالحمى
و لم أقض منها حاجة المتورد

زفرت إليها زفرة لو حشوتها
سرابيل أبدان الحديد المسرد

لرقت حواشيها و ظلت متونها
تلين كما لانت لداود في اليد

و من شعره أيضا-

و إذا تنازعني أقول لها قري
موت يريحك أو صعود المنبر

ما قد قضى سيكون فاصطبري له‏
و لك الأمان من الذي لم يقدر

 و قد ذكر المسعودي في كتابه المسمى مروج الذهب- أن أفعال علي بن محمد صاحب الزنج- تدل على أنه لم يكن طالبيا- و تصدق ما رمي به من دعوته في النسب- لأن ظاهر حاله كان ذهابه إلى مذهب الأزارقة- في قتل النساء و الأطفال و الشيخ الفاني و المريض-و قد روي أنه خطب مرة- فقال في أول خطبته- لا إله إلا الله و الله أكبر- الله أكبر لا حكم إلا لله- و كان يرى الذنوب كلها شركا- . و من الناس من يطعن في دينه- و يرميه بالزندقة و الإلحاد- و هذا هو الظاهر من أمره- لأنه كان متشاغلا في بدايته- بالتنجيم و السحر و الأصطرلابات- .

و ذكر أبو جعفر محمد بن جرير الطبري- أن علي بن محمد شخص من سامراء- و كان يعلم الصبيان بها و يمدح الكتاب- و يستميح الناس في سنة تسع و أربعين و مائتين إلى البحرين- فادعى بها أنه علي بن محمد بن الفضل- بن الحسن بن عبيد الله بن العباس- بن علي بن أبي طالب ع- و دعا الناس بهجر إلى طاعته- فاتبعه جماعة كثيرة من أهلها- و اتبعه جماعة أخرى- فكانت بسببه بين الذين اتبعوه- و الذين أبوه عصبية قتل فيها بينهم جماعة- فانتقل عنهم لما حدث ذلك إلى الأحساء- و ضوى إلى حي من بني تميم- ثم من بني سعد يقال لهم بنو الشماس- فكان بينهم مقامه- و قد كان أهل البحرين أحلوه من أنفسهم محل النبي ص- فيما ذكر حتى جبي له الخراج هنالك و نفذ حكمه فيهم- و قاتلوا أسباب السلطان لأجله- و وتر منهم جماعة كثيرة فتنكروا له- فتحول عنهم إلى البادية- و لما انتقل إلى البادية صحبه جماعة من أهل البحرين- منهم رجل كيال من أهل الأحساء- يقال له يحيى بن محمد الأزرق- مولى بني دارم و يحيى بن أبيثعلب- و كان تاجرا من أهل هجر- و بعض موالي بني حنظلة أسود يقال له سليمان بن جامع- و كان قائد جيشه حيث كان بالبحرين- .

ثم تنقل في البادية من حي إلى حي- فذكر عنه أنه كان يقول- أوتيت في تلك الأيام آيات من آيات إمامتي- منها أني لقيت سورا من القرآن لم أكن أحفظها- فجرى بها لساني في ساعة واحدة- منها سبحان و الكهف و صاد- و منها أني ألقيت نفسي على فراشي- و جعلت أفكر في الموضع الذي أقصد له- و أجعل مقامي به إذا نبت البادية بي- و ضقت ذرعا بسوء طاعة أهلها- فأظلتني سحابه فبرقت و رعدت- و اتصل صوت الرعد منها بسمعي- فخوطبت فقيل لي اقصد البصرة- فقلت لأصحابي و هم يكتنفونني- إني أمرت بصوت من هذا الرعد بالمصير إلى البصرة- . و ذكر عنه أنه عند مصيره إلى البادية أوهم أهلها- أنه يحيى بن عمر أبو الحسين المقتول- بناحية الكوفة في أيام المستعين- فاختدع بذلك قوما منهم- حتى اجتمع عليه منهم جماعة- فزحف بهم إلى موضع من البحرين- يقال له الردم فكانت بينه و بين أهله وقعة عظيمة- كانت الدبرة فيها عليه و على أصحابه- قتلوا فيها قتلا ذريعا- فتفرقت عنه العرب و كرهته و تجنبت صحبته- .

فلما تفرقت العرب عنه و نبت به البادية- شخص عنها إلى البصرة فنزل بها في بني ضبيعة- فاتبعه بها جماعة منهم علي بن أبان المعروف بالمهلبي- من ولد المهلب بن أبي صفرة- و أخواه محمد و الخليل و غيرهم- و كان قدومه البصرة في سنة أربع و خمسين و مائتين-و عامل السلطان بها يومئذ محمد بن رجاء- و وافق ذلك فتنة أهل البصرة بالبلالية و السعدية فطمع في أحد الفريقين أن يميل إليه- فأرسل أربعة من أصحابه يدعون إليه- و هم محمد بن سلم القصاب الهجري- و بريش القريعي و علي الضراب- و الحسين الصيدناني- و هم الذين كانوا صحبوه بالبحرين- فلم يستجب لهم أحد من أهل البلد- و ثار عليهم الجند فتفرقوا- و خرج علي بن محمد من البصرة هاربا- و طلبه ابن رجاء فلم يقدر عليه- و أخبر ابن رجاء بميل جماعة من أهل البصرة إليه- فأخذهم فحبسهم و حبس معهم زوجة علي بن محمد- و ابنه الأكبر و جارية له كانت حاملا- و مضى علي بن محمد لوجهه يريد بغداد و معه قوم من خاصته- منهم محمد بن سلم و يحيى بن محمد- و سليمان بن جامع و بريش القريعي- فلما صاروا بالبطيحة- نذر بهم بعض موالي الباهليين- كان يلي أمر البطيحة- فأخذهم و حملهم إلى محمد بن أبي عون- و هو عامل السلطان بواسط- فاحتال لابن أبي عون حتى تخلص هو و أصحابه من يده- ثم صار إلى بغداد فأقام بها سنة- و انتسب في هذه السنة إلى محمد بن أحمد بن عيسى بن زيد- و كان يزعم أنه ظهر له أيام مقامه ببغداد في هذه السنة آيات- و عرف ما في ضمائر أصحابه و ما يفعله كل واحد منهم- و أنه سأل ربه أن يعلمه حقيقة أمور كانت في نفسه- فرأى كتابا يكتب له على حائط- و لا يرى شخص كاتبه- .

قال أبو جعفر و استمال ببغداد جماعة- منهم جعفر بن محمد الصوحاني- من ولد زيد بن صوحان العبدي- و محمد بن القاسم و غلامان لبني خاقان- و هما مشرق و رفيق فسمى مشرقا حمزة و كناه أبا أحمد- و سمى رفيقا جعفرا و كناه أبا الفضل- فلما انقضى عامه ذلك ببغداد- عزل محمد بن رجاء عن البصرة- فوثبت رؤساء الفتنة بها من البلالية و السعدية-ففتحوا المحابس و أطلقوا من كان فيها- فتخلص أهله و ولده فيمن تخلص- فلما بلغه ذلك شخص عن بغداد- فكان رجوعه إلى البصرة في شهر رمضان- من سنة خمس و خمسين و مائتين- و معه علي بن أبان المهلبي- و قد كان لحق به و هو بمدينة السلام مشرق و رفيق- و أربعة أخر من خواصه- و هم يحيى بن محمد و محمد بن سلم- و سليمان بن جامع و أبو يعقوب المعروف بجربان- فساروا جميعا حتى نزلوا بالموضع المعروف ببرنخل- من أرض البصرة في قصر هناك- يعرف بقصر القرشي- على نهر يعرف بعمود بن المنجم- كان بنو موسى بن المنجم احتفروه- و أظهر أنه وكيل لولد الواثق- في بيع ما يملكونه هناك من السباخ- .

قال أبو جعفر فذكر عن ريحان بن صالح- أحد غلمان الشورجيين الزنوج و هو أول من صحبه منهم- قال كنت موكلا بغلمان مولاي- أنقل الدقيق إليهم- فمررت به و هو مقيم بقصر القرشي يظهر الوكالة لأولاد الواثق- فأخذني أصحابه و صاروا بي إليه- و أمروني بالتسليم عليه بالإمرة ففعلت ذلك- فسألني عن الموضع الذي جئت منه- فأخبرته أني أقبلت من البصرة- فقال هل سمعت لنا بالبصرة خبرا قلت لا- قال فخبر البلالية و السعدية- قلت لم أسمع لهم خبرا- فسألني عن غلمان الشورجيين- و ما يجري لكل جماعة منهم من الدقيق و السويق و التمر- و عمن يعمل في الشورج من الأحرار و العبيد- فأعلمته ذلك فدعاني إلى ما هو عليه فأجبته- فقال لي احتل فيمن قدرت عليه من الغلمان- فأقبل بهم إلي- و وعدني أن يقودني على من آتيه به منهم- و أن يحسن إلي و استحلفني ألا أعلم أحدا بموضعه- و أن أرجع إليه فخلى سبيلي- فأتيت بالدقيق الذي معي إلى غلمان مولاي-

و أخبرتهم خبره و أخذت له البيعة عليهم- و وعدتهم عنه بالإحسان و الغنى- و رجعت إليه من غد ذلك اليوم- و قد وافاه رفيق غلام الخاقانية-و قد كان وجهه إلى البصرة- يدعو إليه غلمان الشورج- و وافى إليه صاحب له آخر يعرف بشبل بن سالم- قد كان دعا إليه قوما منهم أيضا- و أحضر معه حريرة كان أمره بابتياعها ليتخذها لواء- فكتب فيها بالحمرة- إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى‏ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ- بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الآية- و كتب اسمه و اسم أبيه عليها- و علقها في رأس مردي-

و خرج وقت السحر من ليلة السبت- لليلتين بقيتا من شهر رمضان- فلما صار إلى مؤخر القصر الذي كان فيه- لقيه غلمان رجل من الشورجيين- يعرف بالعطار متوجهين إلى أعمالهم- فأمر بأخذ وكيلهم فأخذ و كتف- و استضم غلمانه إلى غلمانه- و كانوا خمسين غلاما- ثم صار إلى الموضع المعروف بالسنائي- فاتبعه الغلمان الذين كانوا فيه- و هم خمسمائة غلام فيهم الغلام المعروف بأبي حديد- و أمر بأخذ وكيلهم- و كتفه ثم مضى إلى الموضع المعروف بالسيرافي- فاتبعه من كان فيه من غلمان- و هم مائة و خمسون غلاما- منهم زريق و أبو الخنجر- ثم صار إلى الموضع المعروف بسبخة ابن عطاء- فأخذ طريفا و صبيحا الأعسر- و راشد المغربي و راشد القرمطي- و كل هؤلاء من وجوه الزنج و أعيانهم- الذين صاروا قوادا و أمراء في جيوشهم- و أخذ معهم ثمانين غلاما- . ثم أتى إلى الموضع المعروف بغلام سهل الطحان- فاستضاف من كان به من الغلمان- ثم لم يزل يفعل مثل ذلك في يومه- حتى اجتمع إليه بشر كثير من الزنج- ثم قام فيهم‏ آخر الليل خطيبا- فمناهم و وعدهم أن يقودهم و يرئسهم- و يملكهم الأموال و الضياع- و حلف لهم بالأيمان الغليظة ألا يغدر بهم و لا يخذلهم- و لا يدع شيئا من الإحسان إلا أتى إليهم- .

ثم دعا وكلاءهم فقال قد أردت ضرب أعناقكم- لما كنتم تأتون إلى هؤلاء الغلمان- الذين استضعفتموهم و قهرتموهم- و فعلتم بهم ما حرم الله عليكم أن تفعلوه بهم- و كلفتموهم ما لا يطيقونه- فكلمني أصحابي فيكم فرأيت إطلاقكم- . فقالوا له أصلحك الله- إن هؤلاء الغلمان أباق- و إنهم سيهربون منك فلا يبقون عليك و لا علينا- فخذ من مواليهم مالا و أطلقهم- . فأمر الغلمان فأحضروا شطوبا- ثم بطح كل قوم وكيلهم- فضرب كل رجل منهم خمسمائة شطبة- و أحلفهم بطلاق نسائهم ألا يعلموا أحدا بموضعه- ثم أطلقهم فمضوا نحو البصرة- و مضى رجل منهم حتى عبر دجيل الأهواز- فأنذر الشورجيين ليحفظوا غلمانهم- و كان هناك خمسة عشر ألف غلام زنجي- ثم سار و عبر دجيلا- و سار إلى نهر ميمون بأصحابه- و اجتمع إليه السودان من كل جهة- .

فلما كان يوم الفطر جمعهم و خطب خطبة- ذكر فيها ما كانوا عليه من سوء الحال- و أن الله تعالى قد استنقذهم من ذلك- و أنه يريد أن يرفع أقدارهم- و يملكهم العبيد و الأموال و المنازل- و يبلغ بهم أعلى الأمور- ثم حلف لهم على ذلك- فلما فرغ من خطبته‏أمر الذين فهموا عنه قوله- أن يفهموه من لا فهم له من عجمهم- لتطيب بذلك أنفسهم ففعلوا ذلك- . قال أبو جعفر- فلما كان في اليوم الثالث من شوال- وافاه الحميري أحد عمال السلطان بتلك النواحي في عدد كثير- فخرج إليه صاحب الزنج في أصحابه فطرده و هزم أصحابه- حتى صاروا في بطن دجلة- و استأمن إلى صاحب الزنج رجل من رؤساء السودان- يعرف بأبي صالح القصير في ثلاثمائة من الزنج- فلما كثر من اجتمع إليه من الزنج قود قواده- و قال لهم من أتى منكم برجل من السودان فهو مضموم إليه- .

قال أبو جعفر- و انتهى إليه أن قوما من أعوان السلطان هناك- منهم خليفة بن أبي عون علي الأبلة- و منهم الحميري قد أقبلوا نحوه- فأمر أصحابه بالاستعداد لهم فاجتمعوا للحرب- و ليس في عسكره يومئذ إلا ثلاثة أسياف- سيفه و سيف علي بن أبان و سيف محمد بن سلم- و لحقه القوم و نادى الزنج- فبدر مفرج النوبي- و المكنى بأبي صالح و ريحان بن صالح و فتح الحجام- و قد كان فتح حينئذ يأكل و بين يديه طبق- فلما نهض تناول ذلك الطبق- و تقدم أمام أصحابه- فلقيه رجل من عسكر أصحاب السلطان- فلما رآه فتح حمل عليه و حذفه بالطبق الذي كان في يده- فرمى الرجل سلاحه و ولى هاربا- و انهزم القوم كلهم و كانوا أربعة آلاف- فذهبوا على وجوههم- و قتل من قتل منهم و مات بعضهم عطشا و أسر كثير منهم- فأتى بهم صاحب الزنج فأمر بضرب أعناقهم فضربت- و حملت الرءوس على بغال- كان أخذها من الشورجيين- كانت تنقل الشورج- .

قال أبو جعفر- و مر في طريقه بالقرية المعروفة بالمحمدية- فخرج منها رجل من موالي الهاشميين- فحمل على بعض السودان فقتله- و دخل القرية فقال له أصحابه- ائذن لنا في انتهاب القرية و طلب قاتل صاحبنا- فقال لا سبيل إلى ذلك دون أن نعرف ما عند أهلها- و هل فعل القاتل ما فعل عن رأيهم- و نسائلهم أن يدفعوه إلينا- فإن فعلوا و إلا حل لنا قتالهم- و عجل المسير من القرية فتركها و سار- . قال أبو جعفر- ثم مر على القرية المعروفة بالكرخ- فأتاه كبراؤها و أقاموا له الأنزال- و بات ليلته تلك عندهم- فلما أصبح أهدى له رجل- من أهل القرية المسماة جبى فرسا كميتا- فلم يجد سرجا و لا لجاما- فركبه بحبل و سنفه بحبل ليف- .

قلت هذا تصديق قول أمير المؤمنين ع- كأنه به قد سار في الجيش- الذي ليس له غبار و لا لجب و لا قعقعة لجم- و لا حمحمة خيل- يثيرون الأرض بأقدامهم كأنها أقدام النعام- . قال أبو جعفر- و أول مال صار إليه مائتا دينار و ألف درهم- لما نزل القرية المعروفة بالجعفرية- أحضر بعض رؤسائها و سأله عن المال فجحد- فأمر بضرب عنقه- فلما خاف‏ أحضر له هذا القدر- و أحضر له ثلاثة برازين- كميتا و أشقر و أشهب- فدفع أحدها إلى محمد بن سلم- و الآخر إلى يحيى بن محمد- و الآخر إلى مشرق غلام الخاقانية- و وجدوا في دار لبعض الهاشميين سلاحا فانتهبوه- فصار ذلك اليوم بأيدي بعض الزنج سيوف و آلات و أتراس- . قال أبو جعفر- ثم كانت بينه و بين من يليه من أعوان السلطان- كالحميري و رميس و عقيل و غيرهم وقعات- كان الظفر فيها كلها له- و كان يأمر بقتل الأسرى- و يجمع الرءوس معه و ينقلها من منزل إلى منزل- و ينصبها أمامه إذا نزل- و أوقع الهيبة و الرهبة في صدور الناس بكثرة القتلى- و قلة العفو و على الخصوص المأسورين- فإنه كان يضرب أعناقهم و لا يستبقي منهم أحدا- .

قال أبو جعفر- ثم كان له مع أهل البصرة وقعة بعد ذلك- سار يريدها في ستة آلاف زنجي- فاتبعه أهل الناحية المعروفة بالجعفرية ليحاربوه- فعسكر عليهم فقتل منهم مقتلة عظيمة- أكثر من خمسمائة رجل- فلما فرغ منهم صمد نحو البصرة- و اجتمع أهلها و من بها من الجند- و حاربوه حربا شديدا- فكانت الدائرة عليه- و انهزم أصحابه- و وقع كثير منهم في النهرين المعروفين- بنهر كثير و نهر شيطان- و جعل يهتف بهم و يردهم و لا يرجعون- و غرق من أعيان جنده و قواده جماعة- منهم أبو الجون و مبارك البحراني- و عطاء البربري و سلام الشامي- فلحقه قوم من جند البصرة و هو على قنطرة نهر كثير- فرجع إليهم بنفسه و سيفه في يده- فرجعوا عنه حتى صاروا إلى الأرض- و هو يومئذ في دراعة و عمامة و نعل و سيف- و في يده اليسرى ترس و نزل عن القنطرة- فصعدها البصريون يطلبونه فرجع إليهم- فقتل منهم رجلا بيده على خمس مراق من القنطرة- و جعل يهتف بأصحابه و يعرفهم مكانه- و لم يكن بقي معه في ذلك الموضع من أصحابه-إلا أبو الشوك و مصلح و رفيق و مشرق غلاما الخاقانية- و ضل أصحابه عنه و انحلت عمامته- فبقي على رأسه كور منها أو كوران- فجعل يسحبها من ورائه و يعجله المشي عن رفعها- و أسرع غلاما الخاقانية في الانصراف- و قصر عنهما فغابا عنه فاتبعه رجلان من أهل البصرة بسيفيهما- فرجع إليهما فانصرفا عنه- و خرج إلى الموضع الذي فيه مجمع أصحابه- و قد كانوا تحيروا فلما رأوه سكنوا- . قال أبو جعفر- ثم سأل عن رجاله و إذا قد هرب كثير منهم- و نظر فإذا هو من جميع أصحابه في مقدار خمسمائة رجل- فأمر بالنفخ في البوق الذي كانوا يجتمعون لصوته- فنفخ فيه فلم يرجع إليه أحد- .

قال و انتهب أهل البصرة سفنا كانت معه- و ظفروا بمتاع من متاعه- و كتب من كتبه و أصطرلابات كان معه- ثم تلاحق به جماعة ممن كان هرب- فأصبح و إذا معه ألف رجل- فأرسل محمد بن سلم و سليمان بن جامع- و يحيى بن محمد إلى أهل البصرة يعظهم- و يعلمهم أنه لم يخرج إلا غضبا لله و للدين- و نهيا عن المنكر- فعبر محمد بن سلم حتى توسط أهل البصرة- و جعل يكلمهم و يخاطبهم- فرأوا منه غرة فوثبوا عليه فقتلوه- و رجع سليمان و يحيى إلى صاحب الزنج- فأخبراه فأمرهما بطي ذلك عن أصحابه- حتى يكون هو الذي يخبرهم- . فلما صلى بهم العصر نعى إليهم محمد بن سلم- و قال لهم إنكم تقتلون به في غد عشرة آلاف من أهل البصرة- .

قال أبو جعفر- و كان الوقعة التي كانت الدبرة عليه فيها- يوم الأحد لثلاث عشرةليلة- خلون من ذي القعدة سنة خمس و خمسين و مائتين- فلما كان يوم الإثنين جمع له أهل البصرة و حشدوا- لما رأوا من ظهورهم عليه يوم الأحد- و انتدب لذلك رجل من أهل البصرة يعرف بحماد الساجي- و كان من غزاة البحر في الشذا- و له علم بركوبها و الحرب فيها- فجمع المطوعة و رماه الأهداف و أهل المسجد الجامع- و من خف معه من حزبي البلالية و السعدية- و من غير هذه الأصناف من الهاشميين و القرشيين- و من يحب النظر و مشاهدة الحرب من سائر أصناف الناس- و شحن ثلاثة مراكب من الشذا بالرماة- و جعل الناس يزدحمون في الشذا- حرصا على حضور ذلك المشهد- و مضى جمهور الناس رجالة- منهم من معه سلاح و منهم من لا سلاح معه بل نظارة- فدخلت السفن النهر المعروف بأم حبيب- بعد زوال الشمس من ذلك اليوم في المد- و مرت الرجالة و النظارة على شاطئ النهر- قد سدوا ما ينفذ فيه البصر كثرة و تكاثفا- فوجه صاحب الزنج صاحبه زريقا و أبا الليث الأصبهاني- فجعلهم كمينا من الجانب الشرقي من نهر شيطان- و كان مقيما بموضع منه- و وجه صاحبيه شبلا و حسينا الحمامي- فجعلهما كمينا في غربيه و مع كل من الكمينين جماعة- و أمر علي بن أبان المهلبي أن يتلقى القوم- فيمن بقي معه من جمعه- و أمره أن يستتر هو و أصحابه بتراسهم- و لا يثور إليهم منه ثائر- حتى يوافيهم القوم و يخالطوهم بأسيافهم- فإذا فعلوا ذلك ثاروا إليهم- و تقدم إلى الكمينين إذا جاوزهما الجمع- و أحسا بثورة أصحابهم إليهم- أن يخرجا من جنبي النهر و يصيحا بالناس- .

و كان يقول لأصحابه بعد ذلك- لما أقبل إلى جمع البصرة و عاينته- رأيت أمرا هائلا راعني و ملأ صدري رهبة و جزعا- ففزعت إلى الدعاء- و ليس معي من أصحابي إلا نفر يسير منهم مصلح- و ليس منا أحد إلا و قد خيل إليه مصرعه- فجعل مصلح يعجبني من‏ كثرة ذلك الجمع- و جعلت أومئ إليه أن اسكت- فلما قرب القوم مني قلت- اللهم إن هذه ساعة العسرة فأعني- فرأيت طيورا بيضا أقبلت فتلقت ذلك الجمع- فلم أستتم دعائي حتى بصرت بسميرية- من سفنهم قد انقلبت بمن فيها فغرقوا- ثم تلتها الشذا فغرقت واحدة بعد واحدة- و ثار أصحابي إلى القوم- و خرج الكمينان من جنبي النهر- و صاحوا و خبطوا الناس- فغرقت طائفة و قتلت طائفة- و هربت طائفة نحو الشط طمعا فأدركها السيف- فمن ثبت قتل و من رجع إلى الماء غرق- حتى أبيد أكثر ذلك الجمع- و لم ينج منهم إلا الشريد- و كثر المفقودون بالبصرة- و علا العويل من نسائهم- .

قال أبو جعفر- و هذا يوم الشذا الذي ذكره الناس في أشعارهم- و عظموا ما فيه من القتل- فكان ممن قتل من بني هاشم- جماعة من ولد جعفر بن سليمان- و انصرف صاحب الزنج و جمع الرءوس و ملأ بها سفنا- و أخرجها من النهر المعروف بأم حبيب في الجزر و أطلقها- فوافت البصرة- فوقفت في مشرعة تعرف بمشرعة القيار- فجعل الناس يأتون تلك الرءوس- فيأخذ رأس كل رجل أولياؤه- و قوي صاحب الزنج بعد هذا اليوم- و سكن الرعب قلوب أهل البصرة منه- و أمسكوا عن حربه- و كتب إلى السلطان بخبره- فوجه جعلان التركي مددا لأهل البصرة- في جيش ذوي عدة و أسلحة- .

قال أبو جعفر- و قال أصحاب علي بن محمد له- أنا قد قتلنا مقاتلة أهل البصرة- و لم يبق فيها إلا ضعفاؤهم و من لا حراك به- فأذن لنا في تقحمها فنهاهم و هجن آراءهم- و قال بل نبعد عنها- فقد رعبناهم و أخفناهم- و لنقتحمها وقتا آخر- و انصرف بأصحابه إلى سبخة في آخر أنهار البصرة- تعرف بسبخة أبي قرة- قريبة من النهر المعروف بالحاجر فأقام هناك- و أمر أصحابه باتخاذ الأكواخ- و هذه السبخة متوسطة النخل و القرى و العمارات- و بث أصحابه يمينا و شمالا- يعيثون و يغيرون على القرى و يقتلون الأكرة- و ينهبون أموالهم و يسرقون مواشيهم- . و جاءه شخص من أهل الكتاب من اليهود يعرف بمارويه- فقبل يده و سجد له و سأله عن مسائل كثيرة فأجابه عنها- فزعم اليهودي أنه يجد صفته في التوراة- و أنه يرى القتال معه- و سأله عن علامات في يده و جسده- ذكر أنها مذكورة في الكتب فأقام معه- .

قال أبو جعفر- و لما صار جعلان التركي إلى البصرة بعسكره- أقام ستة أشهر يحارب صاحب الزنج- فإذا التقوا لم يكن بينهم- إلا الرمي بالحجارة و النشاب- و لم يجد جعلان إلى لقائه سبيلا- لضيق الموضع بما فيه من النخل و الدغل- عن مجال الخيل-و لأن صاحب الزنج قد كان خندق على نفسه و أصحابه- . ثم إن صاحب الزنج بيت جعلان- فقتل جماعة من أصحابه- و روع الباقون روعا شديدا- فانصرف جعلان إلى البصرة- و وجه إليه مقاتلة السعدية و البلالية في جمع كثيف- فواقعهم صاحب الزنج فقهرهم- و قتل منهم مقتلة عظيمة و انصرفوا مفلولين- و رجع جعلان بأصحابه إلى البصرة- فأقام بها معتصما بجدرانها- و ظهر عجزه للسلطان فصرفه عن حرب الزنج- و أمر سعيد الحاجب بالشخوص إلى البصرة لحربهم- .

قال أبو جعفر و اتفق لصاحب الزنج من السعادة- أن أربعا و عشرين مركبا من مراكب البحر- كانت اجتمعت تريد البصرة- و انتهى إلى أصحابها خبر الزنج و قطعهم السبل- و فيها أموال عظيمة للتجار- فاجتمعت آراؤهم على أن شدوا المراكب بعضها إلى بعض- حتى صارت كالجزيرة يتصل أولها بآخرها- و سارت في دجلة فكان صاحب الزنج يقول- نهضت ليلة إلى الصلاة- و أخذت في الدعاء و التضرع- فخوطبت بأن قيل لي قد أظلك فتح عظيم- فالتفت فلم ألبث أن طلعت المراكب- فنهض أصحابي إليها في شذاتها- فلم يلبثوا أن حووها و قتلوا مقاتلتها- و سبوا ما فيها من الرقيق- و غنموا منها أموالا لا تحصى و لا يعرف قدرها- فأنهبت ذلك أصحابي ثلاثة أيام- و أمرت بما بقي منها فحيز لي- . قال أبو جعفر ثم دخل الزنج الأبلة- في شهر رجب من سنة ست و خمسين و مائتين- و ذلك أن جعلان لما تنحى إلى البصرة- ألح صاحب الزنج بالسرايا على أهل الأبلة- فجعل يحاربهم من ناحية شط عثمان بالرجالة- و بما خف له من السفن من ناحية دجلة- و جعلت سراياه تضرب إلى ناحية نهر معقل- .

فذكر عن صاحب الزنج- أنه قال ميلت بين عبادان و الأبلة- فملت إلى التوجه إلى عبادان فندبت الرجال إلى ذلك- فخوطبت و قيل لي إن أقرب عدو دارا- و أولاه ألا يتشاغل عنه بغيره أهل الأبلة- فرددت بالجيش الذي كنت سيرته نحو عبادان إلى الأبلة- و لم يزالوا يحاربون أهلها- إلى أن اقتحموها و أضرموها نارا- و كانت مبنية بالساج بناء متكاثفا- فأسرعت فيها النار- و نشأت ريح عاصف- فأطارت شرر ذلك الحريق إلى أن انتهى إلى شط عثمان- و قتل بالأبلة خلق كثير- و حويت الأسلاب و الأموال- على أن الذي أحرق منها كان أكثر مما انتهب- و استسلم أهل عبادان بعدها لصاحب الزنج- فإن قلوبهم ضعفت و خافوه على أنفسهم و حرمهم- فأعطوا بأيديهم و سلموا إليه بلدهم فدخلها أصحابه- فأخذوا من كان فيها من العبيد- و حملوا ما كان فيها من السلاح- ففرقه على أصحابه و صانعه أهلها بمال كف به عنهم- .

قال أبو جعفر ثم دخل الزنج بعد عبادان- إلى الأهواز و لم يثبت لهم أهلها- فأحرقوا ما فيها و قتلوا و نهبوا و أخربوا- فكان بالأهواز إبراهيم بن محمد المدبر الكاتب- و إليه خراجها و ضياعها- فأسروه بعد أن ضربوه ضربة على وجهه- و حووا كل ما كان يملكه من مال و أثاث و رقيق و كراع- و اشتد خوف أهل البصرة- و انتقل كثير من أهلها عنها- و تفرقوا في بلاد شتى- و كثرت الأراجيف من عوامها- .

قال أبو جعفر فلما دخلت سنة سبع و خمسين- أنفذ السلطان بغراج التركي على حرب البصرة- و سعيد بن صالح الحاجب للقاء صاحب الزنج- و أمر بغراج بإمداده بالرجال- فلما صار سعيد إلى نهر معقل- وجد هناك جيشا لصاحب الزنج- في النهر المعروف بالمرغاب- فأوقع بهم سعيد فهزمهم- و استنقذ ما في أيديهم من النساء و النهب- و أصابت سعيدا في تلك الوقعة جراحات منها جراحة في فيه- .

ثم بلغه أن جيشا لصاحب الزنج- في الموضع المعروف بالفرات فتوجه إليه فهزمه- و استأمن إليه بعض قواد صاحب الزنج- حتى لقد كان المرأة من سكان ذلك الموضع- تجد الزنجي مستترا بتلك الأدغال فتقبض عليه- حتى تأتي به عسكر سعيد ما به عنها امتناع- ثم قصد سعيد حرب صاحب الزنج- فعبر إليه إلى غربي دجلة- فأوقع به وقعات متتالية- كلها يكون الظفر فيها لسعيد- إلى أن تهيأ لصاحب الزنج عليه- أن وجه إلى يحيى بن محمد البحراني صاحبه- و هو إذ ذاك مقيم بنهر معقل- في جيش من الزنج- فأمره بتوجيه ألف رجل من أصحابه- عليهم سليمان بن جامع و أبو الليث القائدان- و يأمرهما بقصد عسكر سعيد ليلا- حتى يوقعا به وقت طلوع الفجر- من ليلة عينها لهم ففعلا ذلك- و صارا إلى عسكر سعيد في ذلك الوقت- فصادفا منه غرة و غفلة- فأوقعا به و بأصحابه وقت طلوع الفجر- فقتل منهم مقتلة عظيمة- و أصبح سعيد و قد ضعف أمره- و اتصل بالسلطان خبره- فأمره بالانصراف إلى باب السلطان- و تسليم الجيش الذي معه إلى منصور بن جعفر الخياط- و كان إليه يومئذ حرب الأهواز- و كوتب بحرب صاحب الزنج- و أن يصمد له فكانت بينهم وقعة كان الظفر فيها للزنج- فقتل من أصحاب منصور خلق كثير عظيم- و حمل من الرءوس خمسمائة رأس- إلى عسكر يحيى بن محمد البحراني القائد- فنصبت على نهر معقل- .

قال أبو جعفر ثم كانت بين الزنج- و بين أصحاب السلطان بالأهواز وقعات كثيرة- تولاها علي بن أبان المهلبي- فقتل شاهين بن بسطام- و كان من أكابر أصحاب السلطان- و هزم إبراهيم بن سيما- و كان أيضا من الأمراء المشهورين- و استولى الزنج على عسكره- . قال أبو جعفر- ثم كانت الواقعة العظمى بالبصرة في هذه السنة- و ذلك أن صاحب الزنج قطع الميرة عنهم فأضر ذلك بهم- و ألح بجيوشه و زنوجه عليهم بالحرب صباحا و مساء- فلما كان في شوال من هذه السنة- أزمع على جمع أصحابه للهجوم على البصرة و الجد في خراجها- و ذلك لعلمه بضعف أهلها و تفرقهم- و إضرار الحصار بهم و خراب ما حولها من القرى- و كان قد نظر في حساب النجوم- و وقف على انكساف القمر- الليلة الرابعة عشرة من هذا الشهر- فذكر محمد بن الحسن بن سهل أنه قال- سمعته يقول اجتهدت في الدعاء على أهل البصرة- و ابتهلت إلى الله تعالى في تعجيل خرابها- فخوطبت و قيل لي إنما البصرة خبزة لك تأكلها من جوانبها- فإذا انكسر نصف الرغيف خربت البصرة- فأولت انكسار نصف الرغيف- بانكساف نصف القمر المتوقع في هذه الليالي- و ما أخلق أمر أهل البصرة أن يكون بعده- قال فكان يحدث بهذا حتى أفاض فيه أصحابه- و كثر تردده في أسماعهم و إجالتهم إياه بينهم- .

ثم ندب محمد بن يزيد الدارمي- و هو أحد من كان صحبه بالبحرين- للخروج إلى‏ الأعراب و استنفار من قدر عليه منهم- فأتاه منهم بخلق كثير- و وجه إلى البصرة سليمان بن موسى الشعراني- فأمره بتطرق البصرة و الإيقاع بأهلها- و تقدم إلى سليمان بن موسى بتمرين الأعراب على ذلك- فلما وقع الكسوف أنهض إليها علي بن أبان- و ضم إليه جيشا من الزنج و طائفة من الأعراب- و أمره بإتيان البصرة مما يلي بني سعد- و كتب إلى يحيى بن محمد البحراني في إتيانها مما يلي نهر عدي- و ضم باقي الأعراب إليه- فكان أول من واقع أهل البصرة- علي بن أبان و بغراج التركي- يومئذ بالبصرة في جماعة من الجند- فأقام يقاتلهم يومين- و أقبل يحيى بن محمد مما يلي قصر أنس- قاصدا نحو الجسر- فدخل علي بن أبان البلد وقت صلاة الجمعة- لثلاث عشرة بقين من شوال- فأقبل يقتل الناس و يحرق المنازل و الأسواق بالنار- فتلقاه بغراج و إبراهيم بن محمد- بن إسماعيل بن جعفر بن سليمان الهاشمي- المعروف ببريه و كان وجيها مقدما مطاعا- في جمع عظيم فرداه فرجع فأقام ليلته تلك- ثم غاداهم و قد تفرق جند البصرة- فلم يكن في وجهه أحد يدافعه- و انحاز بغراج بمن معه- و هرب إبراهيم بن محمد الهاشمي المعروف ببريه- فوضع علي بن أبان السيف في الناس- و جاء إليه إبراهيم بن محمد المهلبي- و هو ابن عمه فاستأمنه لأهل البصرة- فحضر أهل البصرة قاطبة- فأمنهم و نادى مناديه- من أراد الأمان فليحضر دار إبراهيم بن محمد المهلبي- فحضر أهل البصرة قاطبة- حتى ملئوا الأزقة- فلما رأى اجتماعهم انتهز الفرصة- فأمر بأخذ السكك و الطرق عليهم- و غدر بهم و أمر الزنوج بوضع السيف فيهم- فقتل كل من شهد ذلك المشهد- .

ثم انصرف آخر نهار يومه ذلك- فأقام بقصر عيسى بن جعفر بالخربية- . و روى أبو جعفر- قال حدثني محمد بن الحسن بن سهل- قال حدثني محمد بن سمعان- قال كنت يومئذ بالبصرة- فمضيت مبادرا إلى منزلي لأتحصن به- و هو في سكة المربد فلقيت أهل البصرة هاربين- يدعون بالويل و الثبور- و في آخرهم القاسم بن جعفر بن سليمان الهاشمي- على بغل متقلدا سيفا- يصيح بالناس ويحكم تسلمون بلدكم و حرمكم- هذا عدوكم قد دخل البلد- فلم يلووا عليه و لم يسمعوا منه فمضى هاربا- و دخلت أنا منزلي- و أغلقت بابي- و أشرفت فمر بي الأعراب و رجالة الزنج- يقدمهم رجل على حصان كميت- بيده رمح و عليه عذبة صفراء- فسألت بعد ذلك عنه فقيل لي إنه علي بن أبان- .

قال و نادى منادي علي بن أبان- من كان من آل المهلب فليدخل دار إبراهيم بن يحيى المهلبي- فدخلت جماعة قليلة و أغلق الباب دونهم- ثم قيل للزنج دونكم الناس فاقتلوهم و لا تبقوا منهم أحدا- و خرج إليهم أبو الليث الأصفهاني أحد قود الزنج- فقال للزنج كيلوا- و هي العلامة التي كانوا يعرفونها- فيمن يؤمرون بقتله- فأخذ الناس السيف قال- فو الله إني لأسمع تشهدهم و ضجيجهم و هم يقتلون- و قد ارتفعت أصواتهم بالتشهد- حتى سمعت بالطفاوة- و هو على بعد من الموضع الذي كانوا فيه- . قال ثم انتشر الزنج في سكك البصرة و شوارعها- يقتلون من وجدوا- و دخل علي بن أبان يومئذ المسجد فأحرقه- و بلغ إلى الكلاء فأحرقه إلى الجسر- و أخذت النار كل ما مرت به- من إنسان و بهيمة و أثاث و متاع- ثم ألحوا بالغدو و الرواح على من وجدوه- و يسوقونهم إلى يحيى بن محمد البحراني- و هو نازل ببعض سكك البصرة- فمن كان ذا مال قرره حتى يستخرج ماله ثم يقتله- و من كان مختلا قتله معجلا- .

قال أبو جعفر- و قد كان علي بن أبان كف بعض الكف- عن العيث بناحية بني سعد- و راقب قوما من المهلبيين و أتباعهم- فانتهى ذلك إلى علي بن محمد صاحب الزنج- فصرفه عن البصرة- و أقر يحيى بن محمد البحراني بها- لموافقته على رأيه في الإثخان في القتل و وقوع ذلك بمحبته- و كتب إلى يحيى بن محمد يأمره- بإظهار الكف ليسكن الناس و يظهر المستخفي- و من قد عرف باليسار و الثروة- فإذا ظهر فليؤخذوا بالدلالة على ما دفعوه و أخفوه من أموالهم- ففعل يحيى بن محمد ذلك- و كان لا يخلو في اليوم من الأيام من جماعة يؤتى بهم- فمن عرف منهم باليسار استنزف ما عنده ثم قتله- و من ظهرت له خلته عاجله بالقتل- حتى لم يدع أحدا ظهر له إلا قتله- .

قال أبو جعفر و حدثني محمد بن الحسن قال- لما انتهى إلى علي بن محمد عظيم ما فعل أصحابه بالبصرة- سمعته يقول دعوت على أهل البصرة- في غداة اليوم الذي دخل فيه أصحابي إليها- و اجتهدت في الدعاء- و سجدت و جعلت أدعو في سجودي- فرفعت إلى البصرة- فرأيتها و رأيت أصحابي يقاتلون فيها- و رأيت بين السماء و الأرض رجلا واقفا- في صورة جعفر المعلوف المتولي- كان للاستخراج في ديوان الخراج بسامراء- و هو قائم قد خفض يده اليسرى و رفع يده اليمنى- يريد قلب البصرة- فعلمت أن الملائكة تولت إخرابها دون أصحابي- و لو كان أصحابي تولوا ذلك- ما بلغوا هذا الأمر العظيم الذي يحكى عنها- و لكن الله تعالى نصرني بالملائكة- و أيدني في حروبي- و ثبت بهم من ضعف قلبه من أصحابي- قال أبو جعفر و انتسب صاحب الزنج في هذه الأيام- إلى محمد بن محمد بن زيد بن علي بن الحسين- بعد انتسابه الذي كان إلى أحمد بن عيسى بن زيد- و ذلك لأنه بعد إخرابه البصرة- جاء إليه جماعة من العلوية الذين كانوا بالبصرة- و أتاه فيمن أتاه منهم قوم- من ولد أحمد بن عيسى بن زيد- في جماعة من نسائهم و حرمهم- فلما خافهم ترك الانتساب إلى أحمد بن عيسى- و انتسب إلى محمد بن محمد بن زيد- .

قال أبو جعفر فحدثني محمد بن الحسن بن سهل- قال كنت حاضرا عنده و قد حضر جماعة من النوفليين- فقال له القاسم بن إسحاق النوفلي- أنه انتهى إلينا أن الأمير من ولد أحمد بن عيسى بن زيد- فقال لست من ولد عيسى- أنا من ولد يحيى بن زيد- . قال محمد بن الحسن- فانتقل من أحمد بن عيسى بن زيد- إلى محمد بن محمد بن زيد- ثم انتقل من محمد إلى يحيى بن زيد- و هو كاذب لأن الإجماع واقع- على أن يحيى بن زيد مات و لم يعقب- و لم يولد له إلا بنت واحدة ماتت و هي ترضع- . فهذا ما ذكره أبو جعفر الطبري في التاريخ الكبير- . و ذكر علي بن الحسن المسعودي في مروج الذهب- أن هذه الواقعة بالبصرة- هلك فيها من أهلها ثلاثمائة ألف إنسان- و أن علي بن أبان المهلبي بعد فراغه من الواقعة- نصب منبرا في الموضع المعروف ببني يشكر- صلى فيه يوم الجمعة و خطب لعلي بن محمد صاحب الزنج- و ترحم بعد ذلك على أبي بكر و عمر- و لم يذكر عثمان و لا عليا ع في خطبته- و لعن أبا موسى الأشعري- و عمرو بن العاص و معاوية بن أبي سفيان- قال‏و هذا يؤكد ما ذكرناه و حكيناه من رأيه- و أنه كان يذهب إلى قول الأزارقة- .

قال و استخفى من سلم من أهل البصرة في آبار الدور- فكانوا يظهرون ليلا- فيطلبون الكلاب فيذبحونها و يأكلونها- و الفأر و السنانير- فأفنوها حتى لم يقدروا على شي‏ء منها- فصاروا إذا مات الواحد منهم أكلوه- فكان يراعي بعضهم موت بعض- و من قدر على صاحبه قتله و أكله- و عدموا مع ذلك الماء- و ذكر عن امرأة منهم أنها حضرت امرأة قد احتضرت- و عندها أختها و قد احتوشوها- ينتظرون أن تموت فيأكلوا لحمها- قالت المرأة فما ماتت حسناء- حتى ابتدرناها فقطعنا لحمها فأكلناه- و لقد حضرت أختها- و نحن على شريعة عيسى بن حرب- و هي تبكي و معها رأس الميت- فقال لها قائل ويحك ما لك تبكين- فقالت اجتمع هؤلاء على أختي- فما تركوها تموت حسناء حتى قطعوها- و ظلموني فلم يعطوني من لحمها شيئا إلا الرأس- و إذا هي تبكي شاكية من ظلمهم لها في أختها- .

قال و كان مثل هذا و أكثر منه و أضعافه- و بلغ من أمر عسكره أنه ينادى فيه على المرأة- من ولد الحسن و الحسين و العباس و غيرهم من أشراف قريش- فكانت الجارية تباع منهم بدرهمين و بثلاثة دراهم- و ينادى عليها بنسبها- هذه ابنة فلان بن فلان- و أخذ كل زنجي منهم العشرين و الثلاثين- يطؤهن الزنج و يخدمن النساء الزنجيات- كما تخدم الوصائف و لقد استغاثت إلى صاحب الزنج امرأة- من ولد الحسن بن علي ع- و كانت عند بعض الزنج و سألته- أن يعتقها مما هي فيه- أو ينقلها من عنده إلى غيره- فقال لها هو مولاك و هو أولى بك- .

قال أبو جعفر و أشخص السلطان- لحرب صاحب الزنج محمدا المعروف بالمولد- في جيش كثيف فجاء حتى نزل الأبلة- و كتب صاحب الزنج إلى يحيى بن محمد البحراني- يأمره بالمصير إليه- فصار إليه بزنوجه- و أقام على محاربته عشرة أيام- ثم فتر المولد عن الحرب- و كتب علي بن محمد إلى يحيى- يأمره أن يبيته فبيته فهزمه- و دخل الزنج عسكره فغنموا ما فيه- و كتب يحيى إلى صاحب الزنج يخبره- فأمره باتباعه فاتبعه إلى الحوانيت- ثم انصرف عنه فمر بالجامدة- و أوقع بأهلها- و انتهب كل ما كان في تلك القرى- و سفك ما قدر على سفكه من الدماء- ثم عاد إلى نهر معقل- .

قال أبو جعفر- و اتصلت الأخبار بسامراء و بغداد- و بالقواد و الموالي و أهل الحضرة بما جرى على أهل البصرة- فقامت عليهم القيامة- و علم المعتمد أنه لا يرتق هذا الفتق- إلا بأخيه أبي أحمد طلحة بن المتوكل- و كان منصورا مؤيدا عارفا بالحرب و قيادة الجيوش- و هو الذي أخذ بغداد للمعتز- و كسر جيوش المستعين و خلعه من الخلافة- و لم يكن لبني العباس في هذا الباب مثله و مثل ابنه أبي العباس- فعقد له المعتمد- على ديار مضر و قنسرين و العواصم- و جلس له مستهل شهر ربيع الآخر- من سنة سبع و خمسين- فخلع عليه و على مفلح- و شخصا نحو البصرة لحرب علي بن محمد- و إصلاح ما أفسده من الأعمال- و ركب المعتمد ركوبا ظاهرا- يشيع أخاه أبا أحمد إلى القرية المعروفة ببركوارا و عاد- . قال أبو جعفر و أما صاحب الزنج- فإنه بعد هزيمة محمد المولد- أنفذ علي بن أبان المهلبي- إلى حرب منصور بن جعفر و إلى الأهواز- فكانت بينهما حروب كثيرة في أيام متفرقة- حتى كان آخرها اليوم الذي انهزم فيه أصحاب منصور- و تفرقوا عنه و أدركت منصورا طائفة من الزنج- فلم يزل يكر عليهم حتى انقصف رمحه و نفدت سهامه- و لم يبق معه سلاح-و انتهى إلى نهر يعرف بنهر ابن مروان- فصاح بحصان كان تحته ليعبر- فوثب فقصر فانغمس في الماء- .

و قيل إن الحصان لم يقصر في الوثبة- و لكن رجلا من الزنج سبقه إلى النهر- فألقى نفسه فيه لعلمه أنه لا محيص لمنصور عن النهر- فلما وثب الفرس تلقاه الأسود- فنكس فغاص الفرس و منصور- ثم أطلع منصور رأسه- فنزل إليه غلام من السودان من عرفاء مصلح- يقال له أبرون فاحتز رأسه و أخذ سلبه- فولى يارجوخ التركي صاحب حرب خوزستان- ما كان مع منصور من العمل أصغجون التركي- .

و قال أبو جعفر- و أما أبو أحمد فإنه شخص عن سامراء- في جيش لم يسمع السامعون بمثله كثرة و عدة- قال و قد عاينت أنا ذلك الجيش- و أنا يومئذ ببغداد بباب الطاق- فسمعت جماعة من مشايخ أهل بغداد يقولون- قد رأينا جيوشا كثيرة للخلفاء- فما رأينا مثل هذا الجيش أحسن عدة- و أكمل عتادا و سلاحا- و أكثر عددا و جمعا- و اتبع ذلك الجيش من متسوقة أهل بغداد خلق كثير- . قال أبو جعفر فحدثني محمد بن الحسن بن سهل- أن يحيى بن محمد البحراني كان مقيما بنهر معقل- قبل موافاة أبي أحمد- فاستأذن صاحب الزنج- في المصير إلى نهر العباس فكره ذلك-

و خاف أن يوافيه جيش من قبل السلطان- و أصحابه متفرقون فألح عليه يحيى حتى أذن له- فخرج و اتبعه أكثر أهل عسكر صاحب الزنج- و كان علي بن أبان‏  مقيما بجبى في جمع كثير من الزنج- و البصرة قد صارت مغنما لأهل عسكر صاحب الزنج- يغادونها و يراوحونها- لنقل ما نالته أيديهم منها إلى منازلهم- فليس بمعسكر علي بن محمد يومئذ من أصحابه إلا القليل- فهو على ذلك من حاله- حتى وافى أبو أحمد في الجيش و معه مفلح- فورد جيش عظيم لم يرد على الزنج مثله- فلما وصل إلى نهر معقل- انصرف من كان هناك من الزنج- فالتحقوا بصاحبهم مرعوبين- فراعه ذلك و دعا برئيسين منهما- فسألهما عن السبب الذي له تركا موضعهما- فأخبراه بما عاينا من عظم أمر الجيش الوارد- و كثرة عدد أهله و أحكام عدتهم- و إن الذي عايناه من ذلك- لم يكن في قوتهما الوقوف له في العدة التي كانا فيها- فسألهما هل علما من يقود هذا الجيش- فقالا قد اجتهدنا في علم ذلك- فلم نجد من يصدقنا عنه- .

فوجه صاحب الزنج طلائعه- في سميريات ليعرف الخبر- فرجعت طلائعه إليه بتعظيم أمر الجيش و تفخيمه- و لم يقف أحد منهم على من يقوده- فزاد ذلك في جزعه و ارتياعه- فأمر بالإرسال إلى علي بن أبان يعلمه خبر الجيش الوارد- و يأمره بالمصير إليه فيمن معه- و وافى جيش أبي أحمد- فأناخ بإزاء صاحب الزنج- فلما كان اليوم الذي كانت فيه الواقعة- خرج علي بن محمد يطوف في عسكره ماشيا- و يتأمل الحال فيمن هو من حزبه- و من هو مقيم بإزائه على حزبه- و قد كانت السماء مطرت ذلك اليوم مطرا خفيفا- و الأرض ثرية تزل عنها الأقدام- فطوف ساعة من أول النهار و رجع- فدعا بدواة و قرطاس ليكتب كتابا إلى علي بن أبان- ليعلمه ما قد أظله من الجيش- و يأمره بتقديم من قدر على تقديمه من الرجال- فإنه لفي ذلك- إذ أتاه أبو دلف القائد أحد قواد الزنج- فقال له إن‏ القوم قد غشوك و رهقوك- و انهزم الزنج من بين أيديهم- و ليس في وجوههم من يردهم- فانظر لنفسك فإنهم قد انتهوا إليك- فصاح به و انتهره-

و قال اغرب عني فإنك كاذب فيما حكيت- إنما ذلك جزع داخل قلبك- لكثرة من رأيت من الجمع- فانخلع قلبك فلست تدري ما تقول- فخرج أبو دلف من بين يديه و أقبل يكتب- و قال لجعفر بن إبراهيم السجان ناد في الزنج- و حركهم للخروج إلى موضع الحرب- فقال له إنهم قد خرجوا- و قد ظفروا بسميريتين من سفن أصحاب السلطان- فأمره بالرجوع لتحريك الرجالة- و كان من القضاء و القدر أن أصيب مفلح- و هو القائد الجليل المرشح لقيادة الجيش بعد أبي أحمد- بسهم غرب لا يدرى من رماه فمات لوقته- و وقعت الهزيمة على أصحاب أبي أحمد- و قوي الزنج على حربهم- فقتلوا منهم جمعا كثيرا- و وافى علي بن محمد زنجه بالرءوس- قابضين عليها بأسنانهم حتى ألقوها بين يديه- فكثرت الرءوس يومئذ حتى ملأت الفضاء- و جعل الزنج يقتسمون لحوم القتلى- و يتهادونها بينهم- و أتي بأسير من الجيش فسأله عن رأس العسكر- فذكر أبا أحمد و مفلحا- فارتاع لذكر أبي أحمد- و كان إذا راعه أمر كذب به- و قال ليس في الجيش إلا مفلح- لأني لست أسمع الذكر إلا له- و لو كان في الجيش من ذكر هذا الأسير- لكان صوته أبعد- و لما كان مفلح إلا تابعا له و مضافا إليه- .

قال أبو جعفر- و قد كان قبل أن يصيب السهم مفلحا- انهزم الزنج لما خرج عليهم‏ جيش أبي أحمد- و جزعوا جزعا شديدا- و لجئوا إلى النهر المعروف بنهر أبي الخصيب- و لا جسر يومئذ عليه- فغرق منهم خلق كثير- و لم يلبث صاحب الزنج إلا يسيرا- حتى وافاه علي بن أبان في أصحابه- فوافاه و قد استغنى عنه بهزيمة الجيش السلطاني- و تحيز أبو أحمد بالجيش إلى الأبلة- ليجمع ما فرقت الهزيمة منه- و يجدد الاستعداد للحرب- ثم صار إلى نهر أبي الأسد فأقام به- . قال أبو جعفر فحدثني محمد بن الحسن- قال فكان صاحب الزنج لا يدري كيف قتل مفلح- فلما لم ير أحدا ينتحل رميه- ادعى أنه كان الرامي له- قال فسمعته يقول سقط بين يدي سهم من السماء- فأتاني به واح خادمي- فدفعه إلي فرميت به فأصاب مفلحا فقتله- قال محمد و كذب في ذلك- لأني كنت حاضرا معه ذلك المشهد- ما زال عن فرسه حتى أتاه خبر الهزيمة- .

قال أبو جعفر- ثم إن الله تعالى أصاب صاحب الزنج- بمصيبة تعادل فرحه و سروره- بقتل مفلح عقيب قتل مفلح- و ذلك أن قائده الجليل يحيى بن محمد البحراني أسر و قتل- و صورة ذلك أن صاحب الزنج- كان قد كتب إلى يحيى بن محمد- يعلمه ورود هذا الجيش عليه- و يأمره بالقدوم و التحرر في منصرفه- من أن يلقاه أحد منهم- و قد كان يحيى غنم سفنا فيها متاع و أموال- لتجار الأهواز جليلة- و حامى عنها أصحاب أصغجون التركي فلم يغن- و هزمهم يحيى و مضى الزنج بالسفن المذكورة- يمدونها متوجهين نحو معسكر صاحب الزنج- على سمت البطيحة المعروفة ببطيحة الصحناة- و هي طريقة متعسقة وعرة فيها مشاق متعبة- و إنما سلكها يحيى و أصحابه- و تركوا الطريق الواضح- للتحاسد الذي كان بين يحيى بن محمد و علي بن أبان- فإن أصحاب يحيى أشاروا عليه ألا يسلك الطريق- التي يمر فيها على أصحاب علي بن أبان- فأصغى إلى مشورتهم فشرعوا له- الطريق المؤدي إلى البطيحة المذكورة فسلكها-

و هذه البطيحة ينتهي السائر فيها إلى نهر أبي الأسد- و قد كان أبو أحمد انحاز إليه- لأن أهل القرى و السواد كاتبوه- يعرفونه خبر يحيى بن محمد البحراني- و شدة بأسه و كثرة جمعه- و أنه ربما خرج من البطيحة إلى نهر أبي الأسد- فعسكر به و منع أبا أحمد الميرة- و حال بينه و بين من يأتيه من الأعراب و غيرهم- فسبقه أبو أحمد إلى نهر أبي الأسد- و سار يحيى حتى إذا قرب من نهر أبي الأسد- وافته طلائعه فأخبرته بالجيش- و عظمت أمره و خوفته منه- فرجع من الطريق الذي كان سلكه- بمشقة شديدة نالته و نالت أصحابه- و أصابهم مرض لترددهم في تلك البطيحة- و جعل يحيى على مقدمته سليمان بن جامع- و سار حتى وقف على قنطرة فورج نهر العباس- في موضع ضيق تشتد فيه جرية الماء- و هو مشرف ينظر أصحابه الزنج- كيف يجرون تلك السفن التي فيها الغنائم- فمنها ما يغرق و ما يسلم- . قال أبو جعفر فحدثني محمد بن سمعان-

قال كنت في تلك الحال واقفا مع يحيى على القنطرة- و قد أقبل علي متعجبا من شدة جرية الماء- و شدة ما يلقى أصحابه من تلقيه بالسفن- فقال أ رأيت لو هجم علينا عدو في هذه الحال- من كان يكون أسوأ حالا منا- فو الله ما انقضى كلامه- حتى وافى كاشهم التركي في جيش- قد أنفذه معه أبو أحمد عند رجوعه- من الأبلة إلى نهر أبي الأسد يتلقى به يحيى- فوقعت الصيحة و اضطربت الزنج- فنهضت متشوفا للنظر- فإذا الأعلام الحمر قد أقبلت في الجانب الغربي- من نهر العباس و يحيى به- فلما رآها الزنج ألقوا أنفسهم جملة في الماء- فعبروا إلى الجانب الشرقي- و خلا الموضع الذي فيه يحيى- فلم يبق معه إلا بضعة عشر رجلا منهم- فنهض عند ذلك فأخذ درقته و سيفه و احتزم بمنديل ثم تلقى القوم في النفر الذين تخلفوا معه- فرشقهم أصحاب كاشهم التركي بالسهام- حتى كثر فيهم الجراح- و جرح يحيى بأسهم ثلاثة في عضده اليمنى و ساقه اليسرى- فلما رآه أصحابه جريحا- تفرقوا عنه و لم يعرف فيقصد له- فرجع حتى دخل بعض تلك السفن- و عبر به إلى الجانب الشرقي من النهر- و ذلك وقت الضحى و أثقلته الجراحات التي أصابته- فلما رأت الزنج شدة ما نزل به- اشتد جزعهم و ضعفت قلوبهم فتركوا القتال- و كانت همتهم النجاة بأنفسهم- و حاز أصحاب السلطان تلك الغنائم التي كانت في السفن- في الجانب الغربي من النهر- و انفض الزنج بالجانب الشرقي عن يحيى- فجعلوا يتسللون بقية نهارهم- بعد قتل ذريع فيهم و أسر كثير- فلما أمسوا و أسدف الليل- طاروا على وجوههم- فلما رأى يحيى تفرق أصحابه ركب سميرية كانت هناك- و أقعد معه فيها متطببا- يقال له عباد و طمع في الخلاص إلى عسكر صاحب الزنج- فسار حتى قرب من فوهة النهر- فأبصر سميريات و شذايات لأصحاب السلطان في فوهة النهر- فخاف أن تعترض سميريته- و جزع من المرور بها- فعبر به الملاح إلى الجانب الغربي من النهر- فألقاه و طبيبه على الأرض في زرع هناك- فخرج يمشي و هو مثقل- حتى ألقى نفسه في بعض تلك المواضع- فأقام هناك ليلته تلك- فلما أصبح نزفه الدم و نهض عباد الطبيب- فجعل يمشي متشوفا أن يرى إنسانا- فرأى بعض أصحاب السلطان- فأشار لهم إلى موضع يحيى- فجاءوا حتى وقفوا عليه فأخذوه- و انتهى خبره إلى الخبيث صاحب الزنج- فجزع عليه جزعا شديدا و عظم عليه توجعه- .

ثم حمل يحيى إلى أبي أحمد- فحمله أبو أحمد إلى المعتمد- فأدخل إلى سامراء راكب جمل- و الناس مجتمعون ينظرونه- ثم أمر المعتمد ببناء دكة عالية- بحضرة مجرى الحلية فبنيت- و رفع للناس عليها حتى أبصره الخلائق كافة- ثم ضرب بين يدي المعتمد- و قد جلس له مائتي سوط بثمارها- ثم قطعت يداه و رجلاه من خلاف- ثم خبط بالسيوف ثم ذبح و أحرق- . قال أبو جعفر فحدثني محمد بن الحسن- قال لما قتل يحيى البحراني- فانتهى خبره إلى صاحب الزنج- قال لأصحابه لما عظم علي قتله و اشتد اهتمامي به- خوطبت فقيل لي قتله خير لك إنه كان شرها- ثم أقبل على جماعة أنا فيهم- فقال من شرهه أنا غنمنا غنيمة- من بعض ما كنا نغنمه و كان فيها عقدان- فوقعا في يد يحيى- فأخفى عني أعظمهما خطرا- و عرض علي أخسهما- ثم استوهبه فوهبته له- فرفع إلي العقد الذي أخفاه حتى رأيته- فدعوته فقلت أحضر لي العقد الذي أخفيته- فأتاني بالعقد الذي وهبته له- و جحد أن يكون أخذ غيره- فرفع إلي العقد ثانية- فجعلت أصفه له و أنا أراه و هو لا يراه- فبهت و ذهب فأتاني- ثم استوهبنيه فوهبته له و أمرته بالاستغفار- . قال أبو جعفر و ذكر محمد بن الحسن- أن محمد بن سمعان حدثه- أن صاحب الزنج قال في بعض أيامه- لقد عرضت علي النبوة فأبيتها- فقيل له و لم ذاك- قال إن لها أعباء خفت ألا أطيق حملها- .

قال أبو جعفر فأما الأمير أبو أحمد- فإنه لما صار إلى نهر أبي الأسد و أقام به- كثرت العلل في من معه من جنده و غيرهم- و فشا فيهم الموت- فلم يزل مقيما هنالك- حتى أبل من نجا منهم من علته ثم انصرف- راجعا إلى باذاورد فعسكر به- و أمر بتجديد الآلات و إصلاح الشذوات و السميريات- و إعطاء الجند أرزاقهم- و شحن السفن بقواده و مواليه و غلمانه- و نهض نحو عسكر الناجم- و أمر جماعة من قواده بقصد مواضع سماها لهم- من نهر أبي الخصيب و غيره- و أمر الباقين بملازمته و المحاربة معه- في الموضع الذي يكون فيه و هم الأقلون- و عرف الزنج تفرق أصحاب أبي أحمد عنه- فكثروا في جهته و استعرت الحرب بينه و بينهم- و كثرت القتلى و الجراح بين الفريقين- و أحرق أصحاب أبي أحمد قصورا و منازل كان الزنج ابتنوها- و استنقذوا من نساء أهل البصرة جمعا كثيرا- ثم صرف الزنج سورتهم و شدة حملتهم- إلى الموضع الذي به أبو أحمد- فجاءه منهم جمع لا يقاوم- بمثل العدة اليسيرة التي كان فيها- فرأى أن الحزم في محاجزتهم- فأمر أصحابه بالرجوع إلى سفنهم على تؤدة و تمهل- ففعلوا و بقيت طائفة من جنده- و لجوا تلك الأدغال و المضايق- فخرج عليهم كمين للزنج فأوقعوا بهم- فحاموا عن أنفسهم و قتلوا عددا كثيرا- من الزنج إلى أن قتلوا بأجمعهم- و حملت رءوسهم إلى الناجم- فزاد ذلك في قوته و عتوه و عجبه بنفسه- و انصرف أبو أحمد بالجيش إلى باذاورد- و أقام يعبئ أصحابه للرجوع إلى الزنج- فوقعت نار في طرف من أطراف عسكره- و ذلك في أيام عصوف الرياح فاحترق العسكر- و رحل أبو أحمد منصرفا- و ذلك في شعبان من هذه السنة إلى واسط- .

فأقام بها إلى ربيع الأول- ثم انصرف عنها إلى سامراء- و ذلك أن المعتمد كاتبه و استقدمه-لحرب يعقوب بن الليث الصفار أمير خراسان- فاستخلف على حرب الناجم محمد المولد- و أما الناجم فإنه لم يعلم خبر الحريق- الذي وقع في عسكر أبي أحمد- حتى ورد عليه رجلان من أهل عبادان فأخبراه- فأظهر أن ذلك من صنع الله تعالى له- و نصره على أعدائه- و أنه دعا الله على أبي أحمد و جيشه- فنزلت نار من السماء فأحرقتهم- . و عاد إلى العبث و اشتد طغيانه و عتوه- و أنهض علي بن أبان المهلبي و ضم إليه أكثر الجيش- و جعل على مقدمته سليمان بن جامع- و أضاف إليه الجيش الذي كان مع يحيى بن محمد البحراني- و سليمان بن موسى الشعراني- و أمرهم بأن يقصدوا الأهواز- و بها حينئذ أصغجون التركي- و معه نيزك القائد- فالتقى العسكران بصحراء تعرف بدشت ميسان- و اقتتلوا فظهرت الزنج- و قتل نيزك في كثير من أصحابه- و غرق أصغجون التركي- و أسر كثير من قواد السلطان- منهم الحسن بن هرثمة المعروف بالشاري و الحسن بن جعفر- و كتب علي بن أبان بالخبر إلى الناجم- و حمل إليه أعلاما و رءوسا كثيرة و أسرى- و دخل علي بن أبان الأهواز- و أقام بها بزنوجه يعيث و ينهب القرى و السواد- إلى أن ندب المعتمد على الله موسى بن بغا لحربه- فشخص عن سامراء في ذي القعدة من هذه السنة- و شيعه المعتمد بنفسه إلى خلف الحائطين- و خلع عليه هنالك فقدم أمامه عبد الرحمن بن مفلح إلى الأهواز- و إسحاق بن كنداخ إلى البصرة- و إبراهيم بن سيما إلى الباذاورد- .

قال أبو جعفر- فلما ورد عبد الرحمن بن مفلح على الأهواز- أناخ بقنطرة أريق عشرة أيام- ثم مضى إلى علي بن أبان المهلبي فواقعه- فهزمه علي بن أبان- فانصرف فاستعد ثم عاد لمحاربته- فأوقع به وقعة عظيمة- و قتل من الزنج قتلا ذريعا و أسر أسرى كثيرة- و انهزم علي بن أبان و من معه من الزنج- حتى أتوا الموضع المعروف ببيان- فأراد الناجم ردهم فلم يرجعوا- للذعر الذي خالط قلوبهم- فلما رأى ذلك أذن لهم في دخول عسكره- فدخلوا جميعا- فأقاموا معه بالمدينة التي كان بناها- و وافى عبد الرحمن بن مفلح حصن مهدي ليعسكر به- فوجه إليه الناجم علي بن أبان فواقعه فلم يقدر عليه- و مضى علي بن أبان إلى قريب من الباذاورد- و هناك إبراهيم بن سيما فواقعه إبراهيم- فهزم علي بن أبان فعاوده فهزمه إبراهيم- فمضى في الليل و سلك الأدغال و الآجام- حتى وافى نهر يحيى- فانتهى خبره إلى عبد الرحمن بن مفلح- فوجه إليه طاشتمر التركي في جمع من الموالي- فلم يصل إلى علي بن أبان و من معه- لوعورة الموضع الذي كانوا فيه- و امتناعه بالقصب و الحلافي- فأضرمه عليهم نارا- فخرجوا منه هاربين و أسر منهم أسرى- و انصرف إلى عبد الرحمن بن مفلح بالأسرى و الظفر- و مضى علي بن أبان- فأقام بأصحابه في الموضع المسمى بنسوخا- و انتهى الخبر بذلك إلى عبد الرحمن بن مفلح- فصار إلى العمود فأقام به- و صار علي بن أبان إلى نهر السدرة- و كتب إلى الناجم يستمده- و يسأله التوجيه إليه بالشذا- فوجه إليه ثلاث عشرة شذاة- فيها جمع كثير من أصحابه- فسار علي بن أبان و من معه في الشذا- و وافى عبد الرحمن بمن معه- فلم يكن بينهما قتال- و تواقف الجيشان يومهما ذلك- .

فلما كان الليل انتخب علي بن أبان- من أصحابه جماعة يثق بجلدهم و صبرهم- و مضى و معه سليمان بن موسى المعروف بالشعراني- و ترك سائر عسكره مكانه ليخفى أمره- فصار من وراء عبد الرحمن ثم بيته و عسكره- فنال منه و من أصحابه نيلا ما- و انحازعبد الرحمن عنه- و ترك أربع شذوات من شذواته- فغنمها علي بن أبان- و انصرف و مضى عبد الرحمن لوجهه- حتى وافى دولاب- فأقام بها و أعد رجالا من رجاله- و ولى عليهم طاشتمر التركي- و أنفذهم إلى علي بن أبان- فوافوه و هو في الموضع المعروف بباب آزر- فأوقعوا به وقعة انهزم منها إلى نهر السدرة- و كتب طاشتمر إلى عبد الرحمن بانهزامه عنه- فأقبل عبد الرحمن بجيشه حتى وافى العمود- فأقام به و استعد أصحابه للحرب- و هيأ شذواته و ولى عليها طاشتمر- و سار إلى فوهة نهر السدرة- فواقع علي بن أبان وقعة عظيمة- انهزم منها علي بن أبان- و أخذ منه عشر شذوات- و رجع علي بن أبان إلى الناجم مفلولا مهزوما- و سار عبد الرحمن من فوره فعسكر ببيان- فكان عبد الرحمن بن مفلح و إبراهيم بن سيما- يتناوبان المصير إلى عسكر الناجم- فيوقعان به و يخيفان من فيه- و إسحاق بن كنداجيق يومئذ بالبصرة- و قد قطع الميرة عن عسكر الناجم- فكان الناجم يجمع أصحابه في اليوم الذي يخاف فيه- موافاة عبد الرحمن بن مفلح و إبراهيم بن سيما- حتى ينقضي الحرب- ثم يصرف فريقا منهم إلى ناحية البصرة- فيواقع بهم إسحاق بن كنداجيق- فأقاموا على هذه الحال بضعة عشر شهرا- إلى أن صرف موسى بن بغا عن حرب الزنج- .

قال أبو جعفر و سبب ذلك- أن المعتمد رد أمر فارس و الأهواز و البصرة و غيرها- من‏ النواحي و الأقطار إلى أخيه أبي أحمد- بعد فراغه من حرب يعقوب بن الليث الصفار و هزيمته له- فاستخلف أبو أحمد- على حرب صاحب الزنج مسرورا البلخي- و صرف موسى بن بغا عن ذلك- و اتفق أن ابن واصل حارب عبد الرحمن بن مفلح- فأسره و قتله و قتل طاشتمر التركي أيضا- و ذلك بناحية رامهرمز- فاستخلف مسرور البلخي- على الحرب أبا الساج و ولي الأهواز- فكانت بينه و بين علي بن أبان المهلبي- وقعة بناحية دولاب قتل فيها عبد الرحمن صهر أبي الساج- و انحاز أبو الساج إلى عسكر مكرم- و دخل الزنج الأهواز- فقتلوا أهلها و سبوا و أحرقوا دورها- .

قال أبو جعفر- ثم وجه صاحب الزنج جيوشه- بعد هزيمة أبي الساج إلى ناحية البطيحة و الحوانيت و دستميسان- قال و ذلك لأن واسطا خلت- من أكثر الجند في وقعة أبي أحمد- و يعقوب بن الليث- التي كانت عند دير العاقول- فطمع الزنج فيها- فتوجه إليها سليمان بن جامع في عسكر من الزنج- و أردفه الناجم بجيش آخر- مع أحمد بن مهدي في سميريات فيها رماة من أصحابه- أنفذه إلى نهر المرأة- و أنفذ عسكرا آخر فيه سليمان بن موسى- فأمره أن يعسكر بالنهر المعروف باليهودي- فكانت بين هؤلاء و بين من تخلف بهذه الأعمال- من عساكر السلطان حروب شديدة- و كانت سجالا لهم و عليهم- حتى ملكوا البطيحة و الحوانيت- و شارفوا واسطا- و بها يومئذ محمد المولد من قبل السلطان- فكانت بينه و بين سليمان بن جامع حروب كثيرة- يطول شرحها و تعداده- و أمده الناجم بالخليل بن أبان- أخي علي بن أبان المهلبي- في ألف و خمسمائة فارس- و معه أبو عبد الله الزنجي المعروف بالمذوب- أحد قوادهم المشهورين- فقوى سليمان بهم- و أوقع بمحمد المولد فهزمه- و دخل واسطا في ذي الحجة- سنة أربع و ستين و مائتين بزنوجه و قواده- فقتل منها خلقا كثيرا- و نهبها و أحرق دورها و أسواقها- و أخرب كثيرا من منازل أهلها-و ثبت للمحاماة عنها قائد كان بها- من جانب محمد بن المولد- يقال له كنجور البخاري- فحامى يومه ذلك إلى العصر ثم قتل- و كان الذي يقود الخيل يومئذ- في عسكر سليمان بن جامع الخليل بن أبان- و عبد الله المعروف بالمذوب- و كان أحمد بن مهدي الجبائي في السميريات- و كان مهربان الزنجي في الشذوات- و كان سليمان بن موسى الشعراني- و أخوه في ميمنته و ميسرته- و كان سليمان بن جامع- و هو الأمير على الجماعة في قواده السودان و رجالته منهم- و كان الجميع يدا واحدة- فلما قضوا وطرهم من نهب واسط و قتل أهلها- خرجوا بأجمعهم عنها فمضوا إلى جنبلاء- و أقاموا هناك يعيثون و يخربون- . و في أوائل سنة خمس و ستين- دخلوا إلى النعمانية و جرجرايا و جبل- فنهبوا و أخربوا و قتلوا و أحرقوا- و هرب منهم أهل السواد فدخلوا إلى بغداد- .

قال أبو جعفر فأما علي بن أبان المهلبي- فإنه استولى على معظم أعمال الأهواز- و عاث هناك و أخرب و أحرق- و كانت بينه و بين عمال السلطان و قواده- مثل أحمد بن ليثويه- و محمد بن عبد الله الكردي- و تكين البخاري و مطر بن جامع- و أغرتمش التركي و غيرهم- و بينه و بين عمال يعقوب بن الليث الصفار- مثل خضر بن العنبر و غيره حروب عظيمة- و وقعات كثيرة و كانت سجالا- تارة له و تارة عليه- و هو في أكثرها المستظهر عليهم- و كثرت أموال الزنج و الغنائم- التي حووها من البلاد و النواحي- و عظم أمرهم و أهم الناس شأنهم- و عظم على المعتمد و أخيه أبي أحمد خطبهم- و اقتسموا الدنيا- فكان علي بن محمد الناجم صاحب الزنج و إمامهم- مقيما بنهر أبي الخصيب- قد بنى مدينة عظيمة سماها المختارة و حصنها بالخنادق- و اجتمع إليه فيها من الناس- ما لا ينتهي العد و الحصر إليه رغبة و رهبة- و صارت مدينة تضاهي سامراء و بغداد- و تزيد عليهما- و أمراؤه و قواده بالبصرة- و أعمالها يجبون الخراج على عادة السلطان- لما كانت البصرة في يده- و كان علي بن أبان المهلبي و هو أكبر أمرائه و قواده- قد استولى على الأهواز و أعمالها- و دوخ بلادها كرامهرمز و تستر و غيرهما- و دان له الناس و جبا الخراج- و ملك أموالا لا تحصى- .

و كان سليمان بن جامع و سليمان بن موسى الشعراني- و معهما أحمد بن مهدي الجبائي في الأعمال الواسطية- قد ملكوها و بنوا بها المدن الحصينة- و فازوا بأموالها و ارتفاعها و جبوا خراجها- و رتبوا عمالهم و قوادهم فيها- إلى أن دخلت سنة سبع و ستين و مائتين- و قد عظم الخطب و جل- و خيف على ملك بني العباس أن يذهب و ينقرض- فلم يجد أبو أحمد الموفق- و هو طلحة بن المتوكل على الله- بدا من التوجه بنفسه- و مباشرته هذا الأمر الجليل برأيه و تدبيره- و حضوره معارك الحرب- فندب أمامه ابنه أبا العباس- و ركب أبو أحمد إلى بستان الهادي ببغداد- و عرض أصحاب أبي العباس- و ذلك في شهر ربيع الآخر من هذه السنة- فكانوا عشرة آلاف- فرسانا و رجالة في أحسن زي و أجمل هيئة و أكمل عدة- و معهم الشذوات و السميريات و المعابر برسم الرجالة- كل ذلك قد أحكمت صنعته- فركب أبو العباس من بستان الهادي- و ركب أبو أحمد مشيعا له- حتى نزل القرية المعروفة بالفرك- ثم عاد و أقام أبو العباس بالفرك أياما- حتى تكامل عدده و تلاحق به أصحابه- .

ثم رحل إلى المدائن فأقام بها أياما- ثم رحل إلى دير العاقول- فورد عليه كتاب نصير المعروف بأبي حمزة- و هو من جلة أصحابه- و كان صاحب الشذا و السميريات- و قد كان قدمه على مقدمته بدجلة يعلمه فيه- أن سليمان بن جامع قد وافى- لما علم بشخوص أبي العباس و الجبائي يقدمه- في خيلهما و رجالهما و سفنهما- حتى نزلا الجزيرة التي بحضرة بردودا- فوق واسط بأربعة فراسخ- و أن سليمان بن موسى الشعراني قد وافى نهر أبان بعسكره- عسكر البر و عسكر الماء- فرحل أبو العباس لما قرأ هذا الكتاب- حتى وافى جرجرايا ثم منها إلى فم الصلح- ثم ركب الظهر و سار حتى وافى الصلح- و وجه طلائعه ليتعرف الخبر فأتاه منهم من أخبره بموافاة القوم- و أن أولهم قريب من الصلح- و آخرهم ببستان موسى بن بغا أسفل واسط- فلما عرف ذلك عدل عن سنن الطريق- و لقي أصحابه أوائل القوم- فتطاردوا لهم عن وصية أوصاهم أبو العباس بها- حتى طمع الزنج فيهم- و اغتروا و أمعنوا في اتباعهم- و جعلوا يصيحون بهم- اطلبوا أميرا للحرب فإن أميركم مشغول بالصيد- فلما قربوا من أبي العباس بالصلح- خرج إليهم فيمن معه من الخيل و الرجل- و أمر فصيح بأبي حمزة يا نصير- إلى أين تتأخر عن هؤلاء الكلاب ارجع إليهم- فرجع نصير بشذواته و سميرياته و فيها الرجال- و ركب أبو العباس في سميرية- و معه محمد بن شعيب- و حف أصحابه بالزنج من جميع جهاتهم فانهزموا- و منح الله أبا العباس و أصحابه أكتافهم- يقتلونهم و يطردونهم- إلى أن وافوا قرية عبد الله- و هي على ستة فراسخ- من الموضع الذي لقوهم فيه- و أخذوا منهم خمس شذوات و عشر سميريات- و استأمن منهم قوم و أسر منهم أسرى- و غرق من سفنهم كثير- فكان هذا اليوم أول الفتح على أبي العباس- .

قال أبو جعفر فلما انقضى هذا اليوم- أشار على أبي العباس قواده و أولياؤه- أن يجعل معسكره بالموضع الذي كان انتهى إليه- إشفاقا عليه من مقاربة القوم- فأبى إلا نزول واسط بنفسه- و لما انهزم سليمان بن جامع و من معه- و ضرب الله وجوههم- انهزم سليمان بن موسى الشعراني عن نهر أبان- حتى وافى سوق الخميس- و لحق سليمان بن جامع بنهر الأمير- و قد كان القوم حين لقوا أبا العباس- أجالوا الرأي بينهم فقالوا- هذا فتى حدث لم تطل ممارسته الحرب و تدربه بها- و الرأي أن نرميه بحدنا كله- و نجتهد في أول لقية نلقاه في إزالته- فلعل ذلك أن يروعه- فيكون سببا لانصرافه عنا- ففعلوا ذلك و حشدوا و اجتهدوا- فأوقع الله تعالى بهم بأسه و نقمته- و لم يتم لهم ما قدروه- و ركب أبو العباس من غد يوم الوقعة- حتى دخل واسطا في أحسن زي- و كان ذلك يوم جمعة- فأقام حتى صلى بها صلاة الجمعة- و استأمن إليه خلق كثير- من أتباع الزنج و أصحابهم ثم انحدر إلى العمر- و هو على فرسخ واحد من واسط- فاتخذه معسكرا- و قد كان أبو حمزة نصير و غيره أشاروا عليه- أن يجعل معسكره فوق واسط- حذرا عليه من الزنج فامتنع- و قال لست نازلا إلا العمر- و أمر أبا حمزة أن ينزل فوهة بردودا فوق واسط- و أعرض أبو العباس عن مشاورة أصحابه و استماع شي‏ء من آرائهم- و استبد برأي نفسه فنزل العمر- و أخذ في بناء الشذوات و السميريات- و جعل يراوح الزنج القتال و يغاديهم- و قد رتب خاصة غلمانه و مواليه في سميريات- فجعل في كل سميرية أميرا منهم- .

ثم إن سليمان استعد و حشد و فرق أصحابه- فجعلهم في ثلاثة أوجه- فرقة أتت من نهر أبان- و فرقة من بر تمرتا و فرقة من بردودا- فلقيهم أبو العباس فلم يلبثوا أن انهزموا- فلحقت طائفة منهم بسوق الخميس- و طائفة بمازروان و طائفة ببر تمرتا- و سلك آخرون نهر الماذيان- و اعتصم قوم منهم ببردودا- و تبعهم أصحاب أبي العباس- و جعل أبو العباس قصده القوم الذين سلكوا نهر الماذيان- فلم يرجع عنهم حتى وافى بهم برمساور ثم انصرف- فجعل يقف على القرى و المسالك- و يسأل عنها و يتعرفها- و معه الأدلاء و أرباب الخبرة- حتى عرف جميع تلك الأرض و منافذها- و ما ينتهي إليه منالبطائح و الآجام و غيرها- و عاد إلى معسكره بالعمر- فأقام به أياما مريحا نفسه و أصحابه- . ثم أتاه مخبر فأخبره أن الزنج قد اجتمعوا- و استعدوا لكبس عسكره- و أنهم على إتيانه من ثلاثة أوجه- و أنهم قالوا إن أبا العباس غلام يغرر بنفسه- و أجمع رأيهم على تكمين الكمناء- و المصير إليه من الجهات الثلاث- فحذر أبو العباس من ذلك و استعد له- و أقبلوا إليه و قد كمنوا زهاء عشرة آلاف في بر تمرتا- و نحوا من العدة في قس هثا- و تقدم منها عشرون سميرية إلى عسكر أبي العباس- على أن يخرج إليهم فيهربوا بعد مناوشة يسيرة- فيجيزوا أبا العباس و أصحابه إلى أن يجاوزوا الكمناء-

ثم يخرج الكمين عليهم من ورائهم- . فمنع أبو العباس أصحابه من اتباعهم لما واقعوهم- و أظهروا الكسرة و العود- فعلموا أن كيدهم لم ينفذ فيه- و خرج حينئذ سليمان و الجبائي- في الشذا و السميريات العظيمة- و قد كان أبو العباس أحسن تعبئة أصحابه- فأمر أبا حمزة نصيرا- أن يخرج إليهم في الشذا و السميريات المرتبة فخرج إليهم- و نزل أبو العباس في شذاة من شذوات- قد كان سماها الغزال- و اختار لها جدافين- و أخذ معه محمد بن شعيب الاشتيام- و اختار من خاصة أصحابه و غلمانه جماعة- دفع إليهم الرماح- و أمر الخيالة بالمسير بإزائه على شاطئ النهر- و قال لهم لا تدعوا المسير ما أمكنكم- إلى أن تقطعكم الأنهار- و نشبت الحرب بين الفريقين- فكانت معركة القتال من حد قرية الرمل إلى الرصافة- حتى أذن الله في هزيمة الزنج فانهزموا- و حاز أصحاب أبي العباس منهم أربع عشرة شذاة- و أفلت سليمان و الجبائي في ذلك اليوم- بعد أن أشفيا على الهلاك راجلين- و أخذت دوابهما- و مضى جيش الزنج بأجمعه- لا ينثني أحد منهم حتى وافوا طهيثا- و أسلموا ما كان معهم من أثاث و آلة- و رجعأبو العباس فأقام بمعسكره بالعمر- و أصلح ما كان أخذ منهم من الشذا و السفن- و رتب الرجال فيها- و أقام الزنج بعد ذلك عشرين يوما لا يظهر منهم أحد- .

قال أبو جعفر ثم إن الجبائي صار بعد ذلك- يجي‏ء في الطلائع كل ثلاثة أيام و ينصرف- و حفر في طريق عسكر أبي العباس آبارا- و صير فيها سفافيد حديد- و غشاها بالبواري و أخفى مواضعها- و جعلها على سنن مسير الخيل ليتهور فيها المجتازون بها- و جعل بواقي طرف العسكر متعرضا به- لتخرج الخيل طالبة له- فجاء يوما و طلبته الخيل كما كانت تطلبه- فقطر فرس رجل من قواد الفراعنة في بعض تلك الآبار- فوقف أصحاب أبي العباس بما ناله من ذلك- على ما كان دبره الجبائي فحذروا ذلك- و تنكبوا سلوك تلك الطريق- . قال أبو جعفر- و ألح الزنج في مغاداة العسكر في كل يوم بالحرب- و عسكروا بنهر الأمير في جمع كثير- و كتب سليمان إلى الناجم يسأله إمداده بسميريات- لكل واحدة منهن أربعون مجدافا- فوافاه من ذلك في مقدار عشرين يوما أربعون سميرية- فيها الرجال و السيوف و التراس و الرماح- فكانت لأبي العباس معهم وقعات عظيمة- و في أكثرها الظفر لأصحابه و الخذلان على الزنج- و لج أبو العباس في دخول الأنهار و المضايق- حتى انتهى إلى مدينة سليمان بن موسى الشعراني- بنهر الخميس التي بناها و سماها المنيعة- و خاطر أبو العباس بنفسه مرارا- و سلم بعد أن شارف العطب- و استأمن إليه جماعة من قواد الزنج فأمنهم- و خلع عليهم و ضمهم إلى عسكره- و قتل من قواد الزنج جماعة- و تمادت الأيام بينه و بينهم- و اتصل بأبي أحمد الموفق- أن سليمان بن موسى الشعراني و الجبائي- و من بالأعمال الواسطية من قواد صاحب الزنج- كاتبوا صاحبهم و سألوه إمدادهم بعلي بن أبان المهلبي- و هو المقيم حينئذ بأعمال الأهواز و المستولي عليها- و كان علي بن أبان قائد القواد و أمير الأمراء فيهم- فكتب الناجم إلى علي بن أبان- يأمره بالمصير بجميع من معه إلى ناحية سليمان بن جامع- ليجتمعا على حرب أبي العباس- .

فصح عزم أبي أحمد على الشخوص- إلى واسط و حضور الحرب بنفسه- فخرج عن بغداد في صفر من هذه السنة- و عسكر بالفرك و أقام بها أياما- حتى تلاحق به عسكره- و من أراد المسير معه- و قد أعد آلة الماء- و رحل من الفرك إلى المدائن- ثم إلى دير العاقول ثم إلى جرجرايا- ثم قنى ثم جبل ثم نزل الصلح- ثم نزل على فرسخ من واسط- . و تلقاه ابنه أبو العباس- في جريدة خيل فيها وجوه قواده- فسأله أبوه عن خبرهم فوصف له بلاءهم و نصحهم- فخلع أبو أحمد على أبي العباس- ثم على القواد الذين كانوا معه- و انصرف أبو العباس إلى معسكره بالعمر فبات به- فلما كان صبيحة الغد رجل أبو أحمد منحدرا في الماء- و تلقاه ابنه أبو العباس في آلات الماء- بجميع العسكر في هيئة الحرب- على الوضع الذي كانوا يحاربون الزنج عليه- فاستحسن أبو أحمد هيئتهم و سر بذلك- و سار أبو أحمد حتى نزل- بإزاء القرية المعروفة بقرية عبد الله و وضع العطاء- فأعطى الجيش كله أرزاقهم- و قدم ابنه أبا العباس أمامه في السفن- و سار وراءه- فتلقاه‏ أبو العباس برءوس- و أسرى من أصحاب الشعراني- و كان لقيهم فأمر أبو أحمد بالأسرى فضربت أعناقهم- و رحل يريد المدينة التي بناها الشعراني- بسوق الخميس و سماها المنيعة- .

و إنما بدأ أبو أحمد بحرب الشعراني- قبل حرب سليمان بن جامع- لأن الشعراني كان وراءه- فخاف إن بدأ بابن جامع- أن يأتيه الشعراني من ورائه- فيشغله عمن هو أمامه- فلما قرب من المدينة- خرج إليه الزنج- فحاربوه حربا ضعيفة و انهزموا- فعلا أصحاب أبي العباس السور- و وضعوا السيف فيمن لقيهم- و تفرق الزنج و دخل أبو العباس المدينة- فقتلوا و أسروا- و حووا ما كان فيها- و أفلت الشعراني هاربا و معه خواصه- فأتبعهم أصحاب أبي العباس- حتى وافوا بهم البطائح- فغرق منهم خلق كثير- و لجأ الباقون إلى الآجام- و انصرف الناس- و قد استنقذ من المسلمات اللواتي كن بأيدي الزنج- في هذه المدينة خاصة خمسة آلاف امرأة- سوى من ظفر به من الزنجيات- .

فأمر أبو أحمد بحمل النساء- اللواتي سباهن الزنج إلى واسط- و أن يدفعن إلى أوليائهن- و بات أبو أحمد بحيال المدينة ثم باكرها- و أذن للناس في نهب ما فيها من أمتعة الزنج- فدخلت و نهب كل ما كان بها- و أمر بهدم سورها- و طم خندقها و إحراق ما كان بقي منها- و ظفر في تلك القرى التي كانت في يد الشعراني- بما لا يحصى من الأرز و الحنطة و الشعير- و قد كان الشعراني استولى على ذلك كله و قتل أصحابه- فأمر أبو أحمد ببيعه- و صرف ثمنه في أعطيات مواليه و غلمانه و جنده- .

و أما الشعراني فإنه التحق هو و أخوه بالمذار- و كتب إلى الناجم يعرفه ذلك و أنه معتصم بالمذار- . قال أبو جعفر فحدثني محمد بن الحسن بن سهل- قال حدثني محمد بن هشام الكرنبائي المعروف بأبي واثلة- قال كنت بين يدي الناجم ذلك اليوم- و هو يتحدث- إذ ورد عليه كتاب سليمان بخبر الواقعة و ما نزل به- و انهزامه إلى المذار- فما كان إلا أن فض الكتاب- و وقعت عينه على ذكر الهزيمة- حتى انحل وكاء بطنه فنهض لحاجته ثم عاد- .

فلما استوى به مجلسه- أخذ الكتاب و تأمله- فوقعت عينه على الموضع الذي أنهضه أولا- فنهض لحاجته حتى فعل ذلك مرارا- فلم أشك في عظم المصيبة و كرهت أن أسأله- فلما طال الأمر تجاسرت- فقلت أ ليس هذا كتاب سليمان بن موسى- قال بلى ورد بقاصمة الظهر- ذكر أن الذين أناخوا عليه- أوقعوا به وقعة لم تبق منه و لم تذر- فكتب كتابه هذا و هو بالمذار- و لم يسلم بشي‏ء غير نفسه- قال فأكبرت ذلك- و الله يعلم ما أخفي من السرور الذي وصل إلى قلبي- قال و صبر علي بن محمد على مكروه ما وصل إليه- و جعل يظهر الجلد- و كتب إلى سليمان بن جامع يحذره- مثل الذي نزل بالشعراني- و يأمره بالتيقظ في أمره و حفظ ما قبله- .

قال أبو جعفر- ثم لم يكن لأبي أحمد بعد ذلك هم- إلا في طلب سليمان بن جامع فأتته طلائعه- فأخبرته أنه بالحوانيت- فقدم أمامه ابنه أبا العباس في عشرة آلاف- فانتهى إلى الحوانيت- فلم يجد سليمان بن جامع بها- و ألفى هناك من قواد السودان- المشتهرين بالبأس و النجدة القائدين- المعروف أحدهما بشبل و الآخر بأبي الندى- و هما من قدماء أصحاب الناجم- الذين كان قودهم في بدء مخرجه- و كان سليمان قد خلف هذين القائدين بالحوانيت- لحفظ غلات كثيرة كانوا قد أخذوها- فحاربهما أبو العباس- فقتل من رجالهما و جرح بالسهام خلقا كثيرا- و كانوا أجلد رجال سليمان بن جامع و نخبتهم الذين يعتمد عليهم- و دامت الحرب بين أبي العباس- و بينهم ذلك اليوم إلى أن حجز الليل بين الفريقين- و رمى أبو العباس في ذلك اليوم كركيا طائرا- فوقع بين الزنج و السهم فيه- فقالوا هذا سهم أبي العباس- و أصابهم منه ذعر- و استأمن في هذا اليوم بعضهم إلى أبي العباس- فسأله عن الموضع الذي فيه سليمان بن جامع- فأخبره أنه مقيم بمدينته التي بناها بطهيثا- فانصرف أبو العباس حينئذ- إلى أبيه بحقيقة مقام سليمان- و أن معه هنالك جميع أصحابه إلا شبلا و أبا الندى- فإنهما بالحوانيت لحفظ الغلات التي حووها- فأمر حينئذ أبو أحمد أصحابه بالتوجه إلى طهيثا- و وضع العطاء فأعطى عسكره- و شخص مصاعدا إلى بردودا ليخرج منها إلى طهيثا- إذ كان لا سبيل له إليها إلا بذلك- فظن عسكره أنه هارب- و كادوا ينفضون لو لا أنهم عرفوا حقيقة الحال-

فانتهى إلى القرية بالحوذية- و عقد جسرا على النهر المعروف بمهروذ- و عبر عليه الخيل- و سار إلى أن صار بينه و بين مدينة سليمان- التي سماها المنصورة بطهيثا ميلان- فأقام هناك بعسكره- و مطرت السماء مطرا جودا- و اشتد البرد أيام مقامه هنالك- فشغل بالمطر و البرد عن الحرب فلم يحارب- فلما فتر ركب في نفر من قواده- و مواليه لارتياد موضع لمجال الخيل- فانتهى إلى قريب من سور تلك المدينة- فتلقاه منهم خلق كثير- و خرج عليه كمناء من مواضع شتى- و نشبت الحرب و اشتدت- فترجل جماعة من الفرسان- و دافعوا حتى خرجوا عن المضايق التي كانوا أوغلوها- و أسر من غلمان أبي أحمد غلام- يقال له وصيف العلمدار و عدة من قواد زيرك- و قتل في هذا اليوم أحمد بن مهدي الجبائي- أحد القواد العظماء من الزنج- رماه أبو العباس بسهم- فأصاب أحد منخريه حتى خالط دماغه- فخر صريعا و حمل من المعركة و هو حي-

فسأل أن يحمل إلى الناجم- فحمل من هناك إلى نهر أبي الخصيب- إلى مدينة الناجم التي سماها المختارة- فوضع بين يديه و هو على ما به- فعظمت المصيبة عليه به- إذ كان من أعظم أصحابه غناء- و أشدهم تصبرا لإطاعته- فمكث الجبائي يعالج هنالك أياما ثم هلك- فاشتد جزع الناجم عليه و صار إليه- فولي غسله و تكفينه و الصلاة عليه- و الوقوف على قبره إلى أن دفن- ثم أقبل على أصحابه فوعظهم- و ذكر موت الجبائي- و كانت وفاته في ليلة ذات رعود و بروق- . فقال فيما ذكر عنه- لقد سمعت وقت قبض روحه- زجل الملائكة بالدعاء له و الترحم عليه- و انصرف من دفنه منكسرا عليه الكآبة- .

قال أبو جعفر- فلما انصرف أبو أحمد ذلك اليوم من الوقعة- غاداهم بكرة الغد- و عبأ أصحابه كتائب فرسانا و رجالة- و أمر بالشذا و السميريات- أن يسار بها معه في النهر الذي يشق مدينة طهيثا- و هو النهر المعروف بنهر المنذر و سار نحو الزنج- حتى انتهى إلى سور المدينة قريب قواد غلمانه في المواضع- التي يخاف خروج الزنج عليه منها- و قدم الرجالة أمام الفرسان- و نزل فصلى أربع ركعات- و ابتهل إلى الله تعالى في النصر و الدعاء للمسلمين- ثم دعا بسلاحه فلبسه- و أمر ابنه أبا العباس أن يتقدم إلى السور- و يحض الغلمان على الحرب ففعل- و قد كان سليمان بن جامع أعد أمام سور المدينة- التي سماها المنصورة خندقا- فلما انتهى الغلمان إليه تهيبوا عبوره- و أحجموا عنه فحرضهم قوادهم- و ترجلوا معهم فاقتحموه متجاسرين عليه-

فعبروه و انتهوا إلى الزنج- و هم مشرفون من سور مدينتهم- فوضعوا السلاح فيهم- و عبرت شرذمة من الفرسان الخندق خوضا- فلما رأى الزنج خبر هؤلاء الذين لقوهم و جرأتهم عليهم- ولوا منهزمين و اتبعهم أصحاب أبي أحمد- و دخلوا المدينة من جوانبها- و كان الزنج قد حصنوها بخمسة خنادق- و جعلوا أمام كل خندق منها سورا يمتنعون به- فجعلوا يقفون عند كل سور و خندق انتهوا إليه- و أصحاب أبي أحمد يكشفونهم في كل موقف وقفوه- و دخلت الشذا و السميريات مدينتهم- مشحونة بالغلمان المقاتلة- من النهر الذي يشقها بعد انهزامهم- فأغرقت كل ما مرت به لهم من شذاة أو سميرية- و اتبعوا من تجافى النهر منهم- يقتلون و يأشرون- حتى أجلوهم عن المدينة و عما يتصل بها- و كان ذلك زهاء فرسخ- فحوى أبو أحمد ذلك كله-

و أفلت سليمان بن جامع في نفر من أصحابه- و استحر القتل فيهم و الأسر- و استنقذ من نساء أهل واسط و صبيانهم و ما اتصل بذلك- من القرى و نواحي الكوفة زهاء عشرة آلاف- فأمر أبو أحمد بحياطتهم و الإنفاق عليهم- و حملوا إلى واسط فدفعوا إلى أهليهم- و احتوى أبو أحمد على كل ما كان في تلك المدينة- من الذخائر و الأموال و الأطعمة و المواشي- فكان شيئا جليل القدر- فأمر ببيع الغلات و غيرها من العروض- و صرفه في أعطيات عسكره و مواليه- و أسر من نساء سليمان و أولاده عدة- و استنقذ يومئذ وصيف العلمدار- و من كان أسره الزنج معه فأخرجوا من الحبس- قد كان الزنج أعجلهم الأمر عن قتله و قتلهم-

و أقام أبو أحمد بطهيثا سبعة عشر يوما- و أمر بهدم سور المدينة و طم خنادقها- ففعل ذلك و أمر بتتبع من لجأ منهم إلى الآجام- و جعل لكل من أتاه برجل منهم جعلا- فسارع الناس إلى طلبهم- فكان إذا أتي بالواحد منهم خلع عليه و أحسن إليه- و ضمه إلى قواد غلمانه لما دبر من استمالتهم- و صرفهم عن طاعة صاحبهم- و ندب نصيرا صاحب الماء في شذا و سميريات- لطلب سليمان بن جامع و الهاربين معه من الزنج و غيرهم- و أمره بالجد في اتباعهم حتى يجاوز البطائح- و حتى يلح دجلة المعروفة بالعوراء- و تقدم إليه في فتح السكور التي كان سليمان أحدثها- ليقطع بها الشذا عن دجلة- فيما بينه و بين النهر المعروف بأبي الخصيب- و تقدم إلى زيرك في المقام بطهيثا في جمع كثير من العسكر- ليتراجع إليها الذين كان سليمان أجلاهم عنها من أهلها- فلما أحكم ما أراد إحكامه- تراجع بعسكره مزمعا على التوجه إلى الأهواز ليصلحها- و قد كان قدم أمامه ابنه أبا العباس- و قد تقدم ذكر علي بن أبان المهلبي- و كونه استولى على معظم كور الأهواز- و دوخ جيوش السلطان هناك- و أوقع بهم و غلب على معظم تلك النواحي و الأعمال- .

فلما تراجع أبو أحمد وافى بردودا فأقام بها أياما- و أمر بإعداد ما يحتاج إليه للمسير على الظهر إلى الأهواز- و قدم أمامه من يصلح الطرق و المنازل- و يعد فيها الميرة للجيوش التي معه- و وافاه قبل أن يرحل عن واسط زيرك منصرفا عن طهيثا- بعد أن تراجع إلى النواحي التي كان بها الزنج أهلها- و خلفهم آمنين- فأمره أبو أحمد بالاستعداد و الانحدار- في الشذا و السميريات في نخبة عسكره و أنجادهم- فيصير بهم إلى دجلة العوراء فتجتمع يده و يد نصير صاحب الماء على نقض دجلة- و اتباع المنهزمين من الزنج و الإيقاع- بكل من لقوا من أصحاب سليمان إلى أن ينتهي بهم المسير- إلى مدينة الناجم بنهر أبي الخصيب- فإن رأوا موضع حرب حاربوه في مدينة- و كتبوا بما يكون منهم إلى أبي أحمد- ليرد عليهم من أمره ما يعملون بحسبه- .

و استخلف أبو أحمد على من خلفه- من عسكره بواسط ابنه هارون- و أزمع على الشخوص في خف من رجاله و أصحابه- ففعل ذلك بعد أن تقدم إلى ابنه هارون- في أن يحذر الجيش الذي خلفه معه- في السفن إلى مستقره بدجلة- إذا وافاه كتابه بذلك- و ارتحل شاخصا من واسط الأهواز و كورها- فنزل باذبين إلى الطيب- إلى قرقوب إلى وادي السوس- و قد كان عقد له عليه جسر- فأقام به من أول النهار إلى وقت الظهر- حتى عبر عسكره أجمع- ثم سار حتى وافى السوس فنزلها- و قد كان أمر مسرورا البلخي و هو عامله على الأهواز بالقدوم- عليه فوافاهم في جيشه و قواده- من غد اليوم الذي نزل فيه السوس-فخلع عليه و عليهم و أقام بالسوس ثلاثا- و كان ممن أسر من الزنج بطهيثا- أحمد بن موسى بن سعيد البصري المعروف بالقلوص- و كان قائدا جليلا عندهم- و أحد عدد الناجم و من قدماء أصحابه- أسر بعد أن أثخن جراحات كانت فيها منيته- فأمر أبو أحمد باحتزاز رأسه و نصبه على جسر واسط- .

قال أبو جعفر- و اتصل بالناجم خبر هذه الوقعة بطهيثا- و علم ما نيل من أصحابه- فانتقض عليه تدبيره و ضلت حيلته- فحمله الهلع إلى أن كتب إلى علي بن أبان المهلبي- و هو يومئذ مقيم بالأهواز في زهاء ثلاثين ألفا- يأمره بترك كل ما كان قبله من الميرة و الأثاث- و الإقبال إليه بجميع جيوشه- فوصل الكتاب إلى المهلبي- و قد أتاه الخبر بإقدام أبي أحمد إلى الأهواز و كورها- فهو لذلك طائر العقل- فقرأ الكتاب و هو يحفزه فيه حفزا بالمصير إليه- فترك جميع ما كان قبله- و استخلف عليه محمد بن يحيى بن سعيد الكرنبائي- فلما شخص المهلبي عنه لم يثبت و لم يقم- لما عنده من الوجل و ترادف الأخبار بوصول أبي أحمد إليه- فأخلى ما استخلف عليه و تبع المهلبي- و بالأهواز يومئذ و نواحيها- من أصناف الحبوب و التمر و المواشي شي‏ء عظيم- فخرجوا عن ذلك كله-

و كتب الناجم أيضا إلى بهبوذ بن عبد الوهاب القائد- و إليه يومئذ الأعمال التي بين الأهواز و فارس- يأمره بالقدوم عليه بعسكره- فترك بهبوذ ما كان قبله من الطعام و التمر و المواشي- فكان ذلك شيئا عظيما- فحوى جمع ذلك أبو أحمد- فكان قوة له على الناجم و ضعفا للناجم- . و لما رحل المهلبي عن الأهواز- بث أصحابه في القرى- التي بينه و بين مدينة الناجم- فانتهبوها و أجلوا عنها أهلها و كانوا في سلمهم- و تخلف خلق كثير ممن كان مع المهلبي- من الفرسان و الرجالة عن اللحاق به- و أقاموا بنواحي الأهواز- و كتبوا يسألون أبا أحمد الأمان- لما انتهى عنه إليهم من عفوه- عمن ظفر به من أصحاب الناجم- و كان الذي دعا الناجم إلى أمر المهلبي و بهبوذ بسرعة المصير إليه- خوفه موافاة أبي أحمد بجيوشه إليه- على الحالة التي كان الزنج عليها من الوجل و شدة الرعب- مع انقطاع المهلبي و بهبوذ فيمن كان معهما عنه- و لم يكن الأمر كما قدر- فإن أبا أحمد إنما كان قاصدا إلى الأهواز- فلو أقام المهلبي بالأهواز و بهبوذ بمكانه في جيوشهما- لكان أقرب إلى دفاع جيش أبي أحمد عن الأهواز- و أحفظ للأموال و الغلات التي تركت- بعد أن كانت اليد قابضة عليها- .

قال أبو جعفر- و أقام أبو أحمد حتى أحرز الأموال- التي كان المهلبي و بهبوذ و خلفاؤهما تركوها- و فتحت السكور التي كان الناجم أحدثها في دجلة- و أصلحت له طرقه و مسالكه- و رحل أبو أحمد عن السوس- إلى جنديسابور فأقام بها ثلاثا- و قد كانت الأعلاف ضاقت على أهل العسكر- فوجه في طلبها و حملها- و رحل عن جنديسابور إلى تستر- فأقام بها لجباية الأموال من كور الأهواز- و أنفذ إلى كل كورة قائدا- ليروج بذلك حمل المال- و وجه أحمد بن أبي الأصبغ- إلى محمد بن عبد الله الكردي- صاحب رامهرمز و ما يليها من القلاع و الأعمال- و قد كان مالأ المهلبي- و حمل إلى الناجم أموالا كثيرة- و أمره بإيناسه و إعلامه ما عليه رأيه في العفو عنه و التغمد لزلته- و أن يتقدم إليه في حمل الأموال و المسير إلى سوق الأهواز- بجميع من معه من الموالي و الغلمان و الجند- ليعرضهم و يأمر بإعطائهم الأرزاق- و ينهضهم معه لحرب الناجم- ففعل و أحضرهم و عرضوا رجلا رجلا- و أعطوا ثم رحل إلى عسكر مكرم- فجعله منزله أياما-

ثم رحل منه فوافى الأهواز- و هو يرى أنه قد تقدمه إليها من الميرة ما يحمل عساكره- فلم يكن كذلك و غلظ الأمر في ذلك اليوم- و اضطرب الناس اضطرابا شديدا- فأقام ثلاثة أيام ينتظر ورود الميرة فلم ترد- فساءت أحوال الناس- و كاد ذلك يفرق جماعتهم- فبحث عن السبب المؤخر لورودها-فوجد الزنج قد كانوا قطعوا قنطرة قديمة أعجمية- كانت بين سوق الأهواز و رامهرمز- يقال لها قنطرة أربق فامتنع التجار- و من كان يحمل الميرة من الورود- لقطع تلك القنطرة فركب أبو أحمد إليها- و هي على فرسخين من سوق الأهواز- فجمع من كان في العسكر من السودان- و أخذهم بنقل الصخر و الحجارة لإصلاح هذه القنطرة- و بذل لهم من أموال الرعية- فلم يرم حتى أصلحت في يومه ذلك- و ردت إلى ما كانت عليه- فسلكها الناس و وافت القوافل بالميرة- فحيي أهل العسكر و حسنت أحوالهم- و أمر بجمع السفن لعقد الجسر على دجيل الأهواز- فجمعت من جميع الكور-

و أقام بالأهواز أياما حتى أصلح أصحابه أمورهم- و ما احتاجوا إليه من آلاتهم- و حسنت أحوال دوابهم- و ذهب عنها ما كان بها من الضر بتأخر الأعلاف- و وافت كتب القوم الذين تخلفوا عن المهلبي- و أقاموا بعده بسوق الأهواز- يسألون أبا أحمد الأمان فأمنهم- فأتاه منهم نحو ألف رجل فأحسن إليهم- و ضمهم إلى قواد غلمانه- و أجرى لهم الأرزاق- و عقد الجسر على دجيل الأهواز- و رحل بعد أن قدم جيوشه أمامه- و عبر دجيلا فأقام بالموضع المعروف بقصر المأمون ثلاثا- و قد كان قدم ابنه أبا العباس إلى نهر المبارك- من فرات البصرة و كتب إلى ابنه هارون- بالانحدار إليه ليجتمع العساكر هناك- و رحل أبو أحمد عن قصر المأمون إلى قورج العباس- و وافاه أحمد بن أبي الأصبغ هنالك- بهدايا محمد بن عبد الله الكردي صاحب رامهرمز- من دواب و مال- ثم رحل عن القورج فنزل الجعفرية- و لم يكن بها ماء- و قد كان أنفذ إليها و هو بعد في القورج من حفر آبارها- فأقام بها يوما و ليلة و ألفى بها ميرا مجموعة- فاتسع الجند بها و تزودوا منها- ثم رحل إلى المنزل المعروف بالبشير- فألفى فيه غديرا من ماء المطر- فأقام به يوما و ليلة- و رحل إلى المبارك- و كان منزلا بعيد المسافة-فتلقاه ابناه أبو العباس و هارون في طريقه- و سلما عليه و سارا بسيره- حتى ورد بهم المبارك- و ذلك يوم السبت للنصف- من رجب سنة سبع و ستين- .

قال أبو جعفر فأما نصير و لزيرك- فقد كانا اجتمعا بدجلة العوراء- و انحدرا حتى وافيا الأبلة بسفنهما و شذاهما- فاستأمن إليهما رجل من أصحاب الناجم- فأعلمهما أنه قد أنفذ عددا كثيرا- من السميريات و الزواريق مشحونة بالزنج- يرأسهم قائد من قواده- يقال له محمد بن إبراهيم و يكنى أبا عيسى- .

قال أبو جعفر و محمد بن إبراهيم هذا- رجل من أهل البصرة- جاء به إلى الناجم صاحب شرطته المعروف بيسار- و استصلحه لكتابته فكان يكتب له حتى مات- و قد كانت ارتفعت حال أحمد بن مهدي الجبائي عند الناجم- و ولاة أكثر أعماله- فضم محمد بن إبراهيم هذا إليه فكان كاتبه- فلما قتل الجبائي في وقعة سليمان الشعرائي- طمع محمد بن إبراهيم هذا في مرتبته- و أن يحله الناجم محله- فنبذ القلم و الدواة و لبس آلة الحرب- و تجرد للقتال- فأنهضه الناجم في هذا الجيش- و أمره بالاعتراض في دجلة- لمدافعة من يردها من الجيوش- فكان يدخله أحيانا- و أحيانا يأتي بالجمع الذي معه- إلى النهر المعروف بنهر يزيد- و كان معه في ذلك الجيش- من قواد الزنج شبل بن سالم و عمرو المعروف بغلام بوذي- و أخلاط من السودان و غيرهم- فاستأمن رجل منهم-

كان في ذلك الجيش إلى لزيرك و نصير- و أخبرهما خبره- و أعلمهما أنه على القصد لسواد عسكر نصير- و كان نصير يومئذ معسكرا بنهر المرأة- و إنهم على أن يسلكوا الأنهار المعترضة- على نهر معقل و بثق شيرين حتى يوافوا الشرطة- و يخرجوا من وراء العسكر- فيكبوا على من فيه- فرجع نصير عند وصول هذا الخبر إليه من الأبلة- مبارزا إلى عسكره- و سار لزيرك قاصدا بثق شيرين- معارضا لمحمد بن إبراهيم- فلقيه في الطريق- فوهب الله له العلو عليه- بعد صبر من الزنج له و مجاهدة شديدة- فانهزموا و لجئوا إلى النهر الذي فيه كمينهم- و هو نهر يزيد فدل لزيرك عليهم- فتوغلت إليهم سميرياته- فقتل منهم طائفة و أسر طائفة- فكان محمد بن إبراهيم فيمن أسر- و عمرو غلام بوذي- و أخذ ما كان معهم من السميريات- و هي نحو ثلاثين سميرية- و أفلت شبل بن سالم في الذين نجوا معه- فلحق بعسكر الناجم- و خرج لزيرك في بثق شيرين سالما ظافرا- و معه الأسارى و رءوس القتلى- مع ما حوى من السميريات و السفن- و انصرف من دجلة العوراء إلى واسط- و كتب إلى أبي أحمد بالفتح- و عظم الجزع على كل من كان بدجلة- و كورها من اتباع الناجم- فاستأمن إلى نصير صاحب الماء- و هو مقيم حينئذ بنهر المرأة- زهاء ألفي رجل من الزنج و أتباعهم- .

فكتب إلى أبي أحمد بخبرهم- فأمره بقبولهم و إقرارهم على الأمان- و إجراء الأرزاق عليهم- و خلطهم بأصحابه و مناهضة العدو بهم- ثم كتب إلى نصير يأمره- بالإقبال إليه إلى نهر المبارك فوافاه هنالك- . و قد كان أبو العباس عند منصرفه إلى نهر المبارك- انحدر إلى عسكر الناجم في الشذا- فأوقع بهم في مدينته بنهر أبي الخصيب- فكانت الحرب بينهما- من أول النهار إلى آخر وقت الظهر- .

و استأمن إليه قائد جليل من قواد الناجم من المضمومين- كانوا إلى سليمان بن جامع يقال له منتاب- و معه جماعة من أصحابه- فكان ذلك مما كسر من الناجم- و انصرف أبو العباس بالظفر- و خلع على منتاب الزنجي و وصله و حمله- فلما لقي أباه أخبره خبره- و ذكرإليه خروجه إليه في الأمان- فأمر أبو أحمد له بخلع و صلة و حملان- و كان منتاب أول من استأمن من جملة قواد الناجم- . قال أبو جعفر- و لما نزل أبو أحمد نهر المبارك- كان أول ما عمل به في أمر الناجم- أن كتب إليه كتابا يدعوه فيه- إلى التوبة و الإنابة إلى الله تعالى- مما ارتكب من سفك الدماء و انتهاك المحارم- و إخراب البلدان و الأمصار- و استحلال الفروج و الأموال- و انتحال ما لم يجعله الله له أهلا من النبوة و الإمامة- و يعلمه أن التوبة له مبسوطة و الأمان له موجود- فإن نزع عما هو عليه- من الأمور التي يسخطها الله تعالى-

و دخل في جماعة المسلمين- محا ذلك ما سلف من عظيم جرائمه- و كان له به الحظ الجزيل في دنياه و آخرته- و أنفذ ذلك إليه مع رسول- فالتمس الرسول إيصاله إليه- فامتنع الزنج من قبول الكتاب- و من إيصاله إلى صاحبهم- فألقى الرسول الكتاب إليهم إلقاء- فأخذوه و أتوا به صاحبهم- فقرأه و لم يجب عنه بشي‏ء- و رجع الرسول إلى أبي أحمد فأخبره- فأقام خمسة أيام متشاغلا بعرض السفن- و ترتيب القواد و الموالي و الغلمان فيها- و تخير الرماة و انتخابهم للمسير بها- . ثم سار في اليوم السادس في أصحابه- و معه ابنه أبو العباس إلى مدينة الناجم- التي سماها المختارة- من نهر أبي الخصيب فأشرف عليها- و تأملها فرأى منعتها- و حصانتها بالسور و الخنادق المحيطة بها- و غور الطريق المؤدي إليها- و ما قد أعد من المجانيق‏ و العرادات و القسي الناوكية- و سائر الآلات على سورها- فرأى ما لم ير مثله ممن تقدم من منازعي السلطان- و رأى من كثرة عدد مقاتلتهم و اجتماعهم ما استغلظ أمره- .

و لما عاين الزنج أبا أحمد و أصحابه- ارتفعت أصواتهم بما ارتجت له الأرض- فأمر أبو أحمد عند ذلك ابنه أبا العباس- بالتقدم إلى سور المدينة- و رشق من عليه بالسهام ففعل و دنا- حتى ألصق شذواته بمسناة قصر الناجم- و انحاز الزنج بأسرهم إلى المواضع الذي دنت منه الشذا- و تحاشدوا و تتابعت سهامهم و حجارة منجنيقاتهم- و عراداتهم و مقاليعهم- و رمى عوامهم بالحجارة عن أيديهم- حتى ما يقع طرف ناظر- على موضع إلا رأى فيه سهما أو حجرا- . و ثبت أبو العباس فرأى الناجم و أشياعه- من جهدهم و اجتهادهم و صبرهم- ما لا عهد لهم بمثله من أحد ممن حاربهم- و حينئذ أمر أبو أحمد ابنه أبا العباس- بالرجوع بمن معه إلى مواقفهم ليروحوا عن أنفسهم- و يداووا جروحهم ففعلوا ذلك- و استأمن في هذه الحال إلى أبي أحمد مقاتلان- من مقاتلة السميريات من الزنج- فأتياه بسميرياتهما و ما فيها من الملاحين و الآلات-

فأمر لها بخلع ديباج و مناطق محلاة بالذهب- و وصلهما بمال- و أمر للملاحين بخلع من الحرير الأحمر- و الأخضر الذي حسن موقعه منهم- و عمهم جميعا بصلاته- و أمر بإدنائهم من الموضع الذي يراهم فيه نظراؤهم- فكان ذلك من أنجع المكايد التي كيد بها صاحب الزنج- فلما رأى الباقون ما صار إليه أصحابهم- من العفو عنهم و الإحسان إليهم رغبوا في الأمان- و تنافسوا فيه- فابتدر منهم جمع كثير مسرعين نحوه- راغبين فيما شرع لهم منه- فأمر أبو أحمد لهم بمثل ما أمر به لأصحابه- فلما رأى الناجم ركون أصحاب السميريات إلى الأمان- و رغبتهم فيه- أمر برد من كان منهم في دجلة إلى نهر أبي الخصيب- و وكل بفوهة النهر من يمنعهم الخروج-

و أمر بإظهار شذاوته الخاصة- و ندب لهم بهبوذ بن عبد الوهاب- و هو من أشد كماته بأسا- و أكثرهم عددا و عدة- فانتدب بهبود لذلك- و خرج في جمع كثيف من الزنج- فكانت بينه و بين أبي حمزة نصير صاحب الماء- و بين أبي العباس بن أبي أحمد وقعات شديدة- في كلها يظهر عليه أصحاب السلطان- ثم يعود فيرتاش و يحتشد- فيخرج فيواقعهم حتى صدقوه الحرب- و هزموه و ألجئوه إلى فناء قصر الناجم- و أصابته طعنتان و جرح بالسهام- و أوهنت أعضاءه الحجارة- و أولجوه نهر أبي الخصيب و قد أشفى على الموت- و قتل قائد جليل معه من قواد الزنج ذو بأس و نجدة- و تقدم في الحرب يقال له عميرة- . و استأمن إلى أبي أحمد جماعة أخرى- فوصلهم و حباهم و خلع عليهم- و ركب أبو أحمد في جميع جيشه- و هو يومئذ في خمسين ألف رجل- و الناجم في ثلاثمائة ألف رجل كلهم يقاتل و يدافع- فمن ضارب بسيف و طاعن برمح- و رام بقوس و قاذف بمقلاع- و رام بعرادة و منجنيق- و أضعفهم أمر الرماة بالحجارة عن أيديهم- و هم النظارة المكثرون للسواد- و المعينون بالنعير و الصياح- و النساء يشركنهم في ذلك أيضا-

فأقام أبو أحمد بإزاء عسكر الناجم إلى أن أضحى- و أمر فنودي الأمان مبسوط للناس- أسودهم و أحمرهم- إلا لعدو الله الداعي علي بن محمد- و أمر بسهام فعلقت فيها رقاع مكتوب فيها من الأمان- مثل الذي نودي به- و وعد الناس فيها الإحسان و رمى بها إلى عسكر الناجم- فمالت إليه قلوب خلق كثير من أولئك- ممن لم يكن له بصيرة في اتباع الناجم- فأتاه في ذلك اليوم جمع كثير- يحملهم الشذا و السميريات – فوصلهم و حباهم و قدم عليه قائدان من قواده- و كلاهما من مواليه ببغداد- أحدهما بكتمر و الآخر بغرا في جمعمن أصحابهما- فكان ورودهما زيادة في قوته- ثم رحل في غد هذا اليوم بجميع جيشه- فنزل متاخما لمدينة الناجم- في موضع كان تخيره للنزول- فأوطن هذا الموضع و جعله معسكرا له و أقام به- و رتب قواده و رؤساء أصحابه مراتبهم- فجعل نصيرا صاحب الماء في أول العسكر- و جعل زيرك التركي في موضع آخر- و علي بن جهشار حاجبه في موضع آخر- و راشدا مولاه في مواليه و غلمانه الأتراك- و الخزر و الروم و الديالمة و الطبرية- و المغاربة و الزنج و الفراعنة و العجم و الأكراد- محيطا هو و أصحابه- بمضارب أبي أحمد و فساطيطه و سرادقاته- و جعل صاعد بن مخلد وزيره و كاتبه- في جيش آخر من الموالي و الغلمان- فوق عسكر راشد- و أنزل مسرورا البلخي القائد صاحب الأهواز- في جيش آخر على جانب من جوانب عسكره-

و أنزل الفضل و محمدا ابني موسى بن بغا- في جانب آخر بجيش آخر- و تلاهما القائد المعروف بموسى- و لجوا في جيشه و أصحابه- و جعل بغراج التركي على ساقته- في جيش كثيف بعدة عظيمة و عدد جم- و رأى أبو أحمد من حال الناجم- و حصانة موضعه و كثرة جمعه ما علم معه- أنه لا بد له من الصبر عليه- و طول الأيام في محاصرته- و تفريق جموعه و بذل الأمان لهم- و الإحسان إلى من أناب منهم- و الغلظة على من أقام على غيه منهم- و احتاج إلى الاستكثار من الشذا- و ما يحارب به في الماء- و شرع في بناء مدينة مماثلة لمدينة الناجم- و أمر بإنفاذ الرسل- في حمل الآلات و الصناع من البر و البحر- و إنفاذ المير و الأزواد و الأقوات- و إيرادها إلى عسكره بالمدينة التي شرع فيها و سماها الموفقية- و كتب إلى عماله بالنواحي في حمل الأموال- إلى بيت ماله في هذه المدينة- و ألا يحمل إلى بيت المال بالحضرة درهم واحد- و أنفذ رسلا إلى سيراف و جنابة- في بناء الشذاو الاستكثار منها لحاجته إلى أن يبثها- و يفرقها في المواضع التي يقطع بها الميرة عن الناجم و أصحابه- و أمر بالكتاب إلى عماله في إنفاذ كل من يصلح- للإثبات و العرض في الدواوين من الجند و المقاتلة-

و أقام ينتظر ذلك شهرا أو نحوه- فوردت المير متتابعة يتلو بعضها بعضا- و وردت الآلات و الصناع و بنيت المدينة- و جهز التجار صنوف التجارات في الأمتعة- و حملوها إليها و اتخذت بها الأسواق- و كثر بها التجار و المجهزون من كل بلد- و وردت إليها مراكب من البحر- و قد كانت انقطعت لقطع الناجم و أصحابه سبلها- قبل ذلك بأكثر من عشر سنين- و بنى أبو أحمد في هذه المدينة المسجد الجامع- و صلى بالناس فيه و اتخذ دور الضرب- فضرب بها الدنانير و الدراهم- فجمعت هذه المدينة جميع المرافق- و سيق إليها صنوف المنافع- حتى كان ساكنوها لا يفقدون فيها شيئا- مما يوجد في الأمصار العظيمة القديمة- و حملت الأموال و أدر العطاء على الناس في أوقاته- فاتسعوا و حسنت أحوالهم- و رغب الناس جميعا في المصير إلى هذه و المقام بها- .

قال أبو جعفر و أمر الناجم بهبوذ بن عبد الوهاب- فعبر و الناس غارون في سميريات- إلى طرف عسكر أبي حمزة صاحب الماء- فأوقع به و قتل جماعة من أصحابه- و أسر جماعة و أحرق أكواخا كانت لهم- و أرسل إبراهيم بن جعفر الهمداني- و هو من جملة قواد الناجم في أربعة آلاف زنجي- و محمد بن أبان المكنى أبا الحسين- أخا علي بن أبان المهلبي في ثلاثة آلاف- و القائد المعروف بالدور في ألف و خمسمائة- ليغيروا على أطراف عسكر أبي أحمد و يوقعوا بهم- فنذر بهم أبو العباس- فنهد إليهم في جمع كثيف من أصحابه- و كانت بينه و بينهم حروب كان الاستظهار فيها كلها له- و استأمن إليه جماعة منهم فخلع عليهم- و أمر أن يوقفوا بإزاء مدينة الناجم ليعاينهم أصحابه- و أقام أبو أحمد يكايد الناجم- و يبذل الأموال لأصحابه تارة- و يواقعهم و يحاربهم تارة- و يقطع الميرة عنهم- فسرى بهبوذ الزنجي في الأجلاد المنتخبين- من رجاله ليلة من الليالي- و قد تأدى إليه خبر قيروان ورد للتجار- فيه صنوف التجارات و الأمتعة و المير- فكمن في النخل فلما ورد القيروان- خرج إلى أهله و هم غارون- فقتل منهم و أسر- و أخذ ما شاء أن يأخذ من الأموال- .

و قد كان أبو أحمد علم بورود ذلك القيروان- و أنفذ قائدا من قواده لبذرقته في جمع خفيف- فلم يكن لذلك القائد ببهبوذ طاقة فانصرف عنه منهزما- . فلما انتهى إلى أبي أحمد ذلك- غلظ عليه ما نال الناس في أموالهم و تجاراتهم- فأمر بتعويضهم و أخلف عليهم مثل الذي ذهب منهم- و رتب على فوهة النهر المعروف بنهر بيان- و هو الذي دخل القيروان فيه جيشا قويا لحراسته- .

قال أبو جعفر- ثم أنفذ الناجم جيشا عليه القائد المعروف بصندل الزنجي- و كان صندل هذا فيما ذكر- يكشف وجوه الحرائر المسلمات و رءوسهن- و يقلبهن تقليب الإماء- فإن امتنعت منهن امرأة لطم وجهها- و دفعها إلى بعض علوج الزنج يواقعها- ثم يخرجها بعد ذلك إلى سوق الرقيق- فيبيعها بأوكس الثمن- فيسر الله تعالى قتله في وقعة جرت بينه و بين أبي العباس- أسر و أحضر بين يدي أبي أحمد- فشده كتافا و رماه بالسهام حتى هلك- .

قال أبو جعفر ثم ندب الناجم جيشا آخر- و أمره أن يغير على طرف من أطراف عسكر أبي أحمد- و هم غارون- فاستأمن من ذلك الجيش زنجي مذكور- يقال له مهذب-كان من فرسان الزنج و شجعانهم- فأتي به إلى أبي أحمد وقت إفطاره- فأعلمه أنه جاء راغبا في الطاعة و الأمان- و أن الزنج على العبور في ساعتهم تلك- إلى عسكره للبيات- و أن المندوبين لذلك أنجادهم و أبطالهم- فأمر أبو أحمد أبا العباس ابنه- أن ينهض إليهم في قواد عينهم له فنهضوا- فلما أحس ذلك الجيش بأنهم قد نذروا بهم- و عرفوا استئمان صاحبهم رجعوا إلى مدينتهم- .

قال أبو جعفر- ثم إن الناجم ندب أجل قواده و أكبرهم قدرا عنده- و هو علي بن أبان المهلبي- و انتخب له أهل البأس و الجلد- و أمره أن يبيت عسكر أبي أحمد- فعبر في زهاء خمسة آلاف رجل أكثرهم الزنج- و فيهم نحو مائتي قائد من مذكوريهم و عظمائهم- فعبر ليلا إلى شرقي دجلة- و عزموا على أن يفترقوا قسمين- أحدهما خلف عسكر أبي أحمد و الثاني أمامه- و يغير الذين أمامه على أصحاب أبي أحمد- فإذا ثاروا إليهم و استعرت الحرب- أكب أولئك الذين من وراء العسكر على من يليهم- و هم مشاغيل بحرب من بإزائهم- و قدر الناجم و علي بن أبان- أن يتهيأ لهما من ذلك ما أحبا- فاستأمن منهم إلى أبي أحمد غلام- كان معهم من الملاحين ليلا- فأخبره خبرهم و ما اجتمعت عليه آراؤهم- فأمر ابنه أبا العباس و الغلمان و القواد- بالحذر و الاحتياط و الجد و فرقهم في الجهتين المذكورتين-

فلما رأى الزنج أن تدبيرهم قد انتقض- و أنه قد فطن لهم و نذر بهم- كروا راجعين في الطريق الذي أقبلوا فيه طالبين التخلص- فسبقهم أبو العباس و لزيرك إلى فوهة النهر ليمنعوهم من عبوره- و أرسل أبو أحمد غلامه الأسود الزنجي- الذي يقال له ثابت- و كان له قيادة على السودان الذين بعسكر الموفق- فأمره أن يعترضهم- و يقف لهم في طريقهم‏ بأصحابه- فأدركهم و هو في خمسمائة رجل- فواقعهم و شد عضده أبو العباس و لزيرك بمن معهما- فقتل من الزنج أصحاب الناجم خلق كثير- و أسر منهم كثير و أفلت الباقون فلحقوا بمدينتهم- و انصرف أبو العباس بالفتح- و قد علق رءوس الزنج- في الشذا و صلب الأسارى أحياء فيها- فاعترضوا بهم مدينتهم ليرهبوا أصحابهم-

فلما رأوهم رعبوا و انكسروا- و اتصل بأبي أحمد أن الناجم موه على أصحابه- و أوهم أن الرءوس المرفوعة مثل مثلها لهم أبو أحمد ليراعوا- و أن الأسارى من المستأمنة- فأمر أبو أحمد عند ذلك بجميع الرءوس- و المسير بها إلى إزاء قصر الناجم- و القذف بها في منجنيق منصوب في سفينة إلى عسكره ففعل ذلك- فلما سقطت الرءوس في مدينتهم- عرف أولياء القتلى رءوس أصحابهم- فظهر بكاؤهم و صراخهم- .

قال أبو جعفر و كانت لهم وقعات كثيرة بعد هذه- في أكثرها ينهزم الزنج و يظفر بهم- و طلب وجوههم الأمان- فكان ممن استأمن محمد بن الحارث القائد- و إليه كان حفظ النهر المعروف بمنكى- و السور الذي يلي عسكر أبي أحمد- كان خروجه ليلا مع عدة من أصحابه- فوصله أبو أحمد بصلات كثيرة- و خلع عليه و حمله على عدة دواب بحليتها و آلاتها- و أسنى له الرزق- . و كان محمد هذا حاول إخراج زوجته معه- و هي إحدى بنات عمه- فعجزت المرأة عن اللحاق به- فأخذها الزنج فردوها إلى الناجم فحبسها مدة- ثم أمر بإخراجها و النداء عليها في السوق فبيعت- . و ممن استأمن القائد المعروف بأحمد البرذعي- كان من أشجع رجالهم و كان يكون أبدا مع المهلبي- .و كان ممن استأمن مربدا القائد- و برنكوبة و بيلويه- فخلعت عليهم الخلع و وصلوا بالصلات الكثيرة- و حملوا على الخيول المحلاة- و أحسن إلى كل من جاء معهم من أصحابهم- .

قال أبو جعفر فضاقت المير على الناجم و أصحابه- فندب شبلا القائد و أبا الندى- و هما من رؤساء قواده و قدماء أصحابه- الذين يعتمد عليهم و يثق بمناصحتهم- و أمرهما بالخروج في عشرة آلاف من الزنج و غيرهم- و القصد إلى نهر الدير و نهر المرأة و نهر أبي الأسد- و الخروج من هذه الأنهار إلى البطيحة- و الغارة على المسلمين و أهل القرى و قطع الطرقات- و أخذ جميع ما يقدرون عليه- من الطعام و الميرة و حمله إلى مدينته- و قطعه عن الوصول إلى عسكر أبي أحمد- فندب أبو أحمد لقصدهم مولاه لزيرك في جيش كثيف- بعضه في الماء و بعضه على الظهر- فواقعهم في الموضع المعروف بنهر عمر- فكانت بينه و بينهم حرب شديدة- أسفرت عن انكسارهم و خذلان الله لهم- فأخذ منهم أربعمائة سفينة و أسرى كثيرين- و أقبل بها و بهم و بالرءوس إلى عسكر أبي أحمد- .

قال أبو جعفر و ندب أبو أحمد ابنه أبا العباس- لقصد مدينة الناجم و العلو عليها- فقصدها من النهر المعروف بالغربي- و قد أعد الناجم به علي بن أبان المهلبي- فاستعرت الحرب بين الفريقين- فأمد الناجم عليا بسليمان بن جامع- في جمع كثير من قواد الزنج و اتصلت الحرب- و استأمن كثير من قواد الزنج إلى أبي العباس- و امتدت الحرب إلى بعد العصر- ثم انصرف أبو العباس- فاجتاز في منصرفه بمدينة الناجم-

و قد انتهى إلى الموضع المعروف‏ بنهر الأتراك- فرأى في ذلك النهر قلة من الزنج الذين يحرسونه- فطمع فيهم فقصد نحوهم- و صعد جماعة من أصحابه سور المدينة- و عليه فريق من الزنج- فقتلوا من أصابوا هناك و نذر الناجم بهم- فأنجدهم بقواد من قواده- فأرسل أبو العباس إلى أبيه يستمده- فوافى من عسكر أبي أحمد من خف من الغلمان- فقوى بهم عسكر أبي العباس- . و قد كان سليمان بن جامع- لما رأى أن أبا العباس قد أوغل في نهر الأتراك- صعد في جمع كثير من الزنج- ثم استدبر أصحاب أبي العباس- و هم متشاغلون بحرب من بإزائهم على سور المدينة- فخرج عليهم من ورائهم و خفقت طبولهم- فانكشف أصحاب أبي العباس- و حملت الزنج عليهم من أمامهم- فأصيب في هذه الوقعة جماعة من غلمان أبي أحمد و قواده-

و صار في أيدي الزنج عدة أعلام و مطارد- و حامى أبو العباس عن نفسه حتى انصرف سالما- فأطمعت هذه الوقعة الزنج و أتباعهم- و شدت قلوبهم فأجمع أبو أحمد على العبور بجيشه أجمع- و أمر بالاستعداد و التأهب- فلما تهيأ له ذلك عبر في آخر ذي الحجة- من سنة سبع و ستين- في أكثف جمع و أكمل عدة- و فرق قواده على أقطار مدينة الناجم- و قصد هو بنفسه ركنا من أركانها- و قد كان الناجم حصنه بابنه الذي يقال له أنكلاني- و كنفه بعلي بن أبان و سليمان بن جامع- و إبراهيم بن جعفر الهمداني- و حفه بالمجانيق و العرادات و القسي الناوكية- و أعد فيه الناشبة جمع فيه أكثر جيشه- فلما التقى الجمعان أمر أبو أحمد غلمانه الناشبة- و الرامحة و السودان بالدنو من هذا الركن- و بينه و بينهم النهر المعروف بنهر الأتراك-

و هو نهر عريض غزير الماء- فلما انتهوا إليه أحجموا عنه فصيح بهم- و حرضوا على العبور فعبروه سباحة- و الزنج ترميهم بالمجانيق- و العرادات و المقاليع و الحجارة عن الأيدي- و السهام عن قسي اليد و قسي الرجل- و صنوف الآلات التي يرمى عنها- فصبروا على جميع ذلك- حتى جاوزوا النهر و انتهوا إلى السور- و لم يكن لحقهم من الفعلة من كان أعده لهدمه- فتولى الغلمان تشعيث السور بما كان معهم من السلاح- و يسر الله تعالى ذلك- و سهلوا لأنفسهم السبيل إلى علوه- و حضرهم بعض السلاليم التي كانت اتخذت لذلك- فعلوا الركن و نصبوا عليه علما- عليه مكتوب- الموفق بالله و أكبت عليهم الزنج- فحاربوا أشد حرب- و قتل من قواد أبي أحمد القائد المعروف بثابت الأسود- رمي بسهم في بطنه فمات- و كان من جلة القواد- و أحرق أصحاب الموفق ما على ذلك الركن- من المنجنيقات و العرادات- .

و قصد أبو العباس بأصحابه جهة أخرى من جهات المدينة- ليدخلها من النهر المعروف بمنكى- فعارضه علي بن أبان في جمع من الزنج- فظهر أبو العباس عليه و هزمه- و قتل قوما من أصحابه- و أفلت علي بن أبان المهلبي راجعا- و انتهى أبو العباس إلى نهر منكى- و هو يرى أن المدخل من ذلك الموضع سهل- فوصل إلى الخندق فوجده عريضا منيعا- فحمل أصحابه أن يعبروه فعبروه- و عبرته الرجالة سباحة- و وافوا السور فثلموا منه ثلمة و اتسع لهم دخولها فدخلوا- فلقي أولهم سليمان بن جامع- و قد أقبل للمدافعة عن تلك الناحية- فحاربوه و كشفوه و انتهوا إلى النهر المعروف بابن سمعان- و هو نهر سيق بالمدينة- و صارت الدار المعروفة بدار ابن سمعان في أيديهم- فأحرقوا ما كان فيها و هدموها- .

فوقفت الزنج على نهر ابن سمعان وقوفا طويلا- و دافعوا مدافعة شديدة- و شد بعض موالي الموفق على علي بن أبان- فأدبر عنه هاربا فقبض على مئزره- فحل على المئزر و نبذه إلى الغلام- و نجا بعد أن أشرف على الهلكة- و حمل أصحاب أبي أحمد على الزنج- فكشفوهم‏ عن نهر ابن سمعان- حتى وافوا بهم طرف المدينة- و ركب الناجم بنفسه في جمع من خواصه- فتلقاه أصحاب الموفق فعرفوه و حملوا عليه- و كشفوا من كان معه حتى أفرد- و قرب منه بعض الرجالة حتى ضرب وجه فرسه بترسه- و كان ذلك وقت غروب الشمس- و حجز الليل بينهم و بينه و أظلم- و هبت ريح شمال عاصف و قوي الجزر- فلصق أكثر سفن الموفق بالطين- و حرض الناجم أصحابه- فثاب منهم جمع كثير- فشدوا على سفن الموفق- فنالوا منها نيلا و قتلوا نفرا- و صمد بهبوذ الزنجي لمسرور البلخي بنهر الغربي- فأوقع به و قتل جماعة من أصحابه و أسر أسرى- و صار في يده دواب من دوابهم-

فكسر ذلك من نشاط أصحاب الموفق- و قد كان هرب في هذا اليوم كثير- من قواد صاحب الزنج- و تفرقوا على وجوههم نحو نهر الأمير و عبادان و غيرهما- و كان ممن هرب ذلك اليوم منهم- أخو سليمان بن موسى الشعراني و محمد و عيسى- فمضيا يؤمان البادية- حتى انتهى إليهما رجوع أصحاب الموفق- و ما نيل منهم فرجعا- و هرب جماعة من العرب الذين كانوا في عسكر الناجم- و صاروا إلى البصرة- و بعثوا يطلبون الأمان من أبي أحمد- فأمنهم و وجه إليهم السفن و حملهم إلى الموفقية- و خلع عليهم و أجرى لهم الأرزاق و الأنزال- .

و كان ممن رغب في الأمان من قواد الناجم القائد- المعروف بريحان بن صالح المغربي- و كانت له رئاسة و قيادة- و كان يتولى حجبة أنكلاني بن الناجم- فكتب ريحان يطلب الأمان لنفسه و لجماعة من أصحابه- فأجيب إلى ذلك- و أنفذ إليه عدد كثير- من الشذا و السميريات و المعابر مع لزيرك القائد- صاحب مقدمة أبي العباس- فسلك نهر اليهودي إلى آخره- فألفى به ريحان القائد و من كان معه من أصحابه- و قد كان الموعد تقدم منه في موافاة ذلك الموضع- فسار لزيرك به و بهم إلى دار الموفق- فأمر لريحان بخلع جليلة-و حمل على عدة أفراس بآلتها و حليتها- و أجيز بجائزة سنية- و خلع على أصحابه و أجيزوا على أقدارهم و مراتبهم- و ضم ريحان إلى أبي العباس- و أمر بحمله و حمل أصحابه- و المصير بهم إلى إزاء دار الناجم- فوقفوا هنالك في الشذا- عليهم الخلع الملونة بصنوف الألوان و الذهب- حتى عاينوهم مشاهدة- فاستأمن في هذا اليوم من أصحاب ريحان- الذين كانوا تخلفوا عنه و من غيرهم جماعة- فألحقوا في البر و الإحسان بأصحابهم- .

ثم استأمن جعفر بن إبراهيم المعروف بالسجان- في أول يوم من سنة ثمان و ستين و مائتين- و كان أحد ثقات الناجم- ففعل به من الخلع و الإحسان ما فعل بريحان- و حمل في سميرية حتى وقف بإزاء قصر الناجم- حتى يراه أصحابه- و كلمهم و أخبرهم أنهم في غرور من صاحبهم- و أعلمهم ما وقف عليه من كذبه و فجوره- فاستأمن في هذا اليوم خلق كثير- من قواد الزنج و غيرهم- و تتابع الناس في طلب الأمان- و أقام أبو أحمد يجم أصحابه- و يداوي جراحهم- و لا يحارب و لا يعبر إلى الزنج إلى شهر ربيع الآخر- .

ثم عبر جيشه في هذا الشهر المذكور- مرتبا على ما استصلحه من تفريقه في جهات مختلفة- و أمرهم بهدم سور المدينة- و تقدم إليهم أن يقتصروا على الهدم- و لا يدخلوا المدينة- و وكل بكل ناحية من النواحي- التي وجه إليها قواده سفنا فيها الرماة- و أمرهم أن يحموا بالسهام من يهدم السور من الفعلة- فثلمت في هذا اليوم من السور ثلم كثيرة- و اقتحم أصحاب أبي أحمد المدينة من جميع تلك الثلم- و هزموا من كان عليها من الزنج- و أوغلوا في طلبهم- و اختلف بهم طرق المدينة- و تفرقت بهم السكك و الفجاج-و انتهوا إلى أبعد من المواضع- التي كانوا وصلوا إليها في المرة التي قبلها- فتراجعت إليهم الزنج- و خرج عليهم كمناؤهم من نواح يهتدون إليها- و لا يعرفها جيش أبي أحمد- فتحير جيش أبي أحمد- فقتل منهم خلق كثير- و أصاب الزنج منهم أسلحة و أسلابا- و أقام ثلاثون ديلميا من أصحاب أبي أحمد- يدافعون عن الناس و يحمونهم- حتى خلص إلى السفن من خلص- و قتلت الديالمة عن آخرها- و عظم على الناس ما أصابهم في هذا اليوم- و انصرف أبو أحمد إلى مدينته الموفقية فجمع قواده- و عذلهم على ما كان منهم من مخالفة أمره- و الإفساد عليه في رأيه و تدبيره- و توعدهم بأغلظ العقوبة إن عادوا لمثل ذلك- و أمر بإحصاء المقتولين من أصحابه فأتي بأسمائهم- فأقر ما كان جاريا لهم على أولادهم و أهاليهم- فحسن موقع ذلك و زاد في صحة نيات أصحابه- لما رأوا من خياطته خلف من أصيب في طاعته- .

قال أبو جعفر و شرع أبو أحمد في قطع الميرة- عن مدينة الناجم من جميع الجهات- و قد كان يجلب إليهم من السمك- الشي‏ء العظيم من مواضع كثيرة- فمنع ذلك عنهم و قتل القوم الذين كانوا يجلبونه- و أخذت عليهم الطرق- و انسد عليهم كل مسلك كان لهم- و أضر بهم الحصار- و أضعف أبدانهم و طالت المدة- فكان الأسير منهم يؤسر و المستأمن يستأمن- فيسأل عن عهده بالخبز- فيقول مذ سنة أو سنتين- و احتاج من كان منهم مقيما في مدينة الناجم إلى الحيلة لقوته- فتفرقوا في الأنهار النائية عن عسكرهم طلبا للقوت- و كثرت الأسارى منهم في عسكر أبي أحمد- لأنه كان يلتقطهم بأصحابه يوما فيوما- فأمر باعتراضهم لما رأى كثرتهم- فمن كان منهم ذا قوة و جلد و نهوض بالسلاح من عليه- و أحسن إليه و خلطه بغلمانه السودان- و عرفهم ما لهم عنده من البر و الإحسان- و من كان منهم ضعيفا لا حراك به- أو شيخا فانيا لا يطيق حمل السلاح- أو مجروحا جراحة قد أزمنته- أمر بأن يكسى ثوبين و يوصل بدارهم- و يزود و يحمل إلى عسكرالناجم- فيلقى هناك بعد أن يوصى بوصف- ما عاين من إحسان أبي أحمد إلى كل من يصير إليه- و أن ذلك رأيه في جميع من يأتيه مستأمنا أو يأسره- فتهيأ له بذلك ما أراد من استمالة الزنج- حتى استشعروا الميل إلى ناحيته- و الدخول في سلمه و طاعته- .

قال أبو جعفر- ثم كانت الوقعة التي قتل فيها بهبوذ الزنجي القائد- و جرح أبو العباس- و ذلك أن بهبوذ كان أكثر أصحاب الناجم غارات- و أشدهم تعرضا لقطع السبل و أخذ الأموال- و كان قد جمع من ذلك لنفسه مالا جليلا- و كان كثير الخروج في السميريات الخفاف- فيخترق بها الأنهار المؤدية إلى دجلة- فإذا صادف سفينة لأصحاب أبي أحمد- أخذها و استولى على أهلها- و أدخلها النهر الذي خرج منه- فإن تبعه تابع حتى توغل في طلبه- خرج عليه من ذلك النهر قوم من أصحابه- قد أعدهم لذلك فأقطعوه و أوقعوا به- فوقع التحرز حينئذ منه و الاستعداد لغاراته- فركب شذاة و شبهها بشذوات أبي أحمد- و نصب عليها علما مثل أعلامه- و سار بها و معه كثير من الزنج- فأوقع بكثير من أصحاب أبي أحمد و قتل و أسر- فندب له أبو أحمد ابنه أبا العباس في جمع كثيف- فكانت بينهما وقعة شديدة- و رمي فيها أبو العباس بسهم فأصابه- و أصابت بهبوذ طعنة في بطنه- من يد غلام من بعض سميريات أبي العباس- فهوى إلى الماء فابتدره أصحابه- فحملوه و رجعوا به إلى عسكر الناجم- فلم يصلوا به إلا و هو ميت- فعظمت الفجيعة به على الناجم و أوليائه- و اشتد عليه جزعهم و خفي موته على أبي أحمد- حتى استأمن إليه رجل من الملاحين- فأخبره بذلك فسر- و أمر بإحضار الغلام الذي طعنه- فوصله و كساه و طوقه و زاد في رزقه- و أمر لجميع من كان في تلك السميرية بصلات و خلع- و عولج أبو العباس من جرحه مدة حتى برأ- و أقام أبو أحمد في مدينته الموفقية- ممسكا عن حرب الزنج- محاصرا لهم بسد الأنهار و سكرها- و اعترض من يخرج منهم لجلب الميرة- و منتظرا برء ولده حتى كمل بعد شهور كثيرة- و انقضت سنة ثمان و ستين- .

و نقل إسحاق بن كنداجيق عن البصرة و أعمالها- فولي الموصل و الجزيرة و ديار ربيعة و ديار مضر- . و دخلت سنة تسع و ستين- و أبو أحمد مقيم على الحصار- فلما أمن على أبي العباس و ركب على عادته- عاود النهوض إلى حرب الناجم- . قال أبو جعفر- و قد كان بهبوذ لما هلك طمع الناجم- في أمواله لكثرتها و وفورها- و صح عنده أنه ترك مائتي ألف دينار عينا- و من الجواهر و غيرها بمثل ذلك- فطلب المال المذكور بكل حيلة- و حبس أولياء بهبوذ و قرابته و أصحابه- و ضربهم بالسياط و أثار دورا من دوره- و هدم أبنية من أبنيته- طمعا في أن يجد في شي‏ء منها دفينا- فلم يجد من ذلك شيئا- فكان فعله هذا أحد ما أفسد قلوب أصحابه عليه- و دعاهم إلى الهرب منه و الزهد في صحبته- فاستأمن منهم إلى أبي أحمد خلق كثير- فوصلهم و خلع عليهم- و رأى أن يعبر دجلة من الجانب الشرقي إلى الجانب الغربي- فيجعل لنفسه هناك معسكرا- و يبني به مدينة أخرى و يضيق خناق الناجم- و يتمكن من مغاداته و مراوحته بالحرب- فقد كانت الريح العاصف تحول بينه- و بين عبور دجلة في كثير من الأيام بالجيش- فأمر بقطع النخل المقارب لمدينة الناجم لذلك- و إصلاح موضع يتخذه معسكرا- و أن يحف بالخنادق و يحصر بالسور ليأمن بيات الزنج- و جعل على قواده نوانب لذلك- و معهم الفعلة و الرجال فقابل الناجم ذلك- بأن جعل علي بن أبان المهلبي و سليمان بن جامع- و إبراهيم بن جعفر الهمداني نوبا للحرب- و المدافعة عن ذلك- و كان أنكلاني بن الناجم ربما حضر في نوبة أيضا- و ضم إليه سليمان بن موسى بن الشعراني-

و قد كان صار إليه من المذار بعد الوقعة التي انهزم فيها- و علم الناجم أن أبا أحمد إذا جاوره صعب أمره- و قرب على من يريد اللحاق به- من الزنج المسافة مع ما يدخل قلوب أصحابه- بمجاورته من الرعب و الرهبة- و في ذلك انتقاض تدبيره- و فساد جميع أموره- فكانت الحرب بين قواد أبي أحمد- و قواد الناجم متصلة- على إصلاح هذا الموضع و مدافعة الزنج عنه- . و اتفق أن عصفت الرياح يوما- و جماعة من قواد أبي أحمد- بالجانب الغربي للعمل الذي يريدونه- فانتهز الناجم الفرصة في امتناع العبور بدجلة- لعصف الريح فرماهم بجميع جيشه و كاثرهم برجله- فلم تجد الشذوات التي مع قواد أبي أحمد سبيلا- إلى الوقوف بحيث كانت واقفة به- لحمل الرياح إياها على الحجارة- و خوف أصحابها عليها من التكسر- و لم يجدوا سبيلا إلى العبور في دجلة- لشدة الريح و اضطراب الأمواج- فأوقعت الزنج بهم فقتلوهم عن آخرهم- و أفلت منهم نفر فعبروا إلى الموفقية- فاشتد جزع أبي أحمد و أصحابه لما نالهم- .

و لما تهيأ للزنج عليهم- و عظم بذلك اهتمامهم- و تعقب أبو أحمد الرأي- فرأى أن نزوله و مقامه بالجانب الغربي- مجاور مدينة الناجم خطأ- و أنه لا يؤمن منه حيلة و انتهاز فرصة- فيوقع بالعسكر بياتا- أو يجد مساغا إلى ما يكون له قوة- لكثرة الأدغال في ذلك الموضع و صعوبة المسالك- و أن الزنج على التوغل في تلك المواضع الوعرة الموحشة أقدر- و هو عليهم أسهل من أصحابه- فانصرف عن رأيه في نزول الجانب الغربي- و صرف همه و قصده‏إلى هدم سور مدينة الناجم- و توسعة الطريق و المسالك لأصحابه في دخولها- فندب القواد لذلك- و ندب الناجم قواده للمدافعة عنها- و طال الأمد و تمادت الأيام- .

فلما رأى أبو أحمد تحاشد الزنج و تعاونهم- على المنع من هدم السور- أزمع على مباشرة ذلك بنفسه و حضوره إياه- ليستدعي بذلك جد أصحابه و اجتهادهم- و يزيد في عنايتهم و هممهم- فحضر بنفسه و اتصلت الحرب- و غلظت على الفريقين- و كثر القتل و الجراح في الحزبين- و أقام أبو أحمد أياما كثيرة- يغاديهم الحرب و يراوحهم- فكانوا لا يفترون يوما من الأيام- و صعب على أصحاب أبي أحمد ما كانوا يرومونه- و اشتدت حماية الزنج عن مدينتهم- و باشر الناجم الحرب بنفسه- و معه نخبة أصحابه و أبطالهم- و المؤمنون أنفسهم على الصبر معه- فحاموا جهدهم حتى لقد كانوا يقفون الموقف- فيصيب أحدا منهم السهم أو الطعنة أو الضربة فيسقط- فيجذبه الذي إلى جانبه فينحيه- و يقف موقفه إشفاقا من أن يخلو موقف رجل منهم- فيدخل الخلل عليهم- .

و اتفق في بعض الأيام شدة ضباب- ستر بعض الناس عن بعض- فما يكاد الرجل يبصر صاحبه- و ظهر أصحاب أبي أحمد- و لاحت تباشير الفتح- و دخل الجند إلى المدينة و ولجوها- و ملكوا مواضع منها و إنهم لعلى ذلك- حتى وصل سهم من سهام الزنج إلى أبي أحمد- رماه به رومي كان مع الناجم- يقال له قرطاس فأصابه في صدره و ذلك لخمس بقين- من جمادى الأولى سنة تسع و ستين و مائتين- فستر أبو أحمد و خواصه ما ناله من ذلك عن الناس- و انصرف إلى الموفقية آخر نهار يومه هذا- فعولج في ليلته تلك و شدت الجراحة- و غدا على الحرب على ما ناله من ألمها- ليشد بذلك قلوب أصحابه- من أن يدخلها وهن أو ضعف- فزاد في قوة علته- بما حمل على نفسه من الحركة- فغلظت و عظم أمرها حتى خيف عليه العطب- و احتاج إلى علاج نفسه بأعظم ما يعالج به الجراح- و اضطرب لذلك العسكر و الجند و الرعية- و خافوا قوة الزنج عليهم- حتى خرج عن الموفقية جماعة من التجار- كانوا مقيمين بها لما وصل إلى قلوبهم من الرهبة- .

قال أبو جعفر- و حدثت على أبي أحمد في حال صعوبة علته- حادثة في سلطانه و أمور متعلقة بما بينه و بين أخيه المعتمد- فأشار عليه مشيرون من أصحابه و ثقاته- بالرحلة عن معسكره إلى بغداد- و أن يخلف من يقوم مقامه فأتى ذلك- و حاذر أن يكون فيه تلافى ما قد فرق من شمل صاحب الزنج- فأقام على صعوبة علته- و غلظ الأمر الحادث في سلطانه و صبر إلى أن عوفي- فظهر لقواده و خاصته- و قد كان أطال الاحتجاب عنهم- فقويت برؤيته منتهم- و أقام متماثلا مودعا نفسه إلى شعبان من هذه السنة- فلما أبل و قوي على الركوب و النهوض- نهض و عاود ما كان مواظبا عليه من الحرب- و جعل الناجم لما صح عنده الخبر- بما أصاب أبا أحمد يعد أصحابه العدات- و يمنيهم الأماني- و اشتدت شوكتهم و قويت آمالهم- فلما اتصل به ظهور أبي أحمد- جعل يحلف للزنج على منبره- أن ذلك باطل لا أصل له- و أن الذي رأوه في الشذا مثال موه و شبه عليهم- .

قلت الحادث الذي حدث على أبي أحمد من جهة سلطانه- أن أخاه المعتمد و هو الخليفة يومئذ- فارق دار ملكه- و مستقر خلافته مغاضبا له متجنيا عليه- زاعما أنه مستبد بأموال المملكة و جبايتها- مضطهدا له مستأثرا عليه- فكاتب ابن طولون صاحب مصر- و سأله أن يأذن له في اللحاق به- فأجابه ابن طولون إلى ذلك- فخرج من سامراء في جماعة من قواده و مواليه قاصدا مصر- و كان أبو أحمد هو الخليفة في المعنى- و إنما المعتمد صورةخالية من معاني الخلافة- لا أمر له و لا نهي و لا حل و لا عقد- و أبو أحمد هو الذي يرتب الوزراء و الكتاب- و يقود القواد و يقطع الأقطاع- و لا يراجع المعتمد في شي‏ء من الأمور أصلا- فاتصل به خبر المعتمد في شخوصه عن سامراء- و قصده ابن طولون- فكاتب إسحاق بن كنداحيق- و هو يومئذ على الموصل و الجزيرة- فأمره أن يعترض المعتمد- و يقبض عليه و على القواد و الموالي الذين معه- و يعيدهم إلى سامراء- و كتب لإسحاق بإقطاعه ضياع- أولئك القواد و الموالي بأجمعهم- فاعترضهم إسحاق- و قد قربوا من الرقة فأخذهم و قبض عليهم- و قيدهم بالقيود الثقيلة- و دخل على المعتمد فعنفه- و هجنه و عذله في شخوصه عن دار ملكه و ملك آبائه- و مفارقة أخيه على الحال التي هو بها- و حرب من يحاول قتله- و قتل أهل بيته و زوال ملكهم- .

ثم حملهم في قيودهم حتى وافى بهم سامراء- فأقر المعتمد على خلافته- و منعه عن الخروج- و أرسل أبو أحمد ابنه هارون- و كاتبه صاعد بن مخلد من الموفقية إلى سامراء- فخلعا على ابن كنداحيق خلعا جليلة- و قلد بسيفين من ذهب- و لقب ذا السيفين و هو أول من قلد بسيفين- ثم خلع عليه بعد ذلك بيوم قباء ديباج أسود- و وشاحين مرصعين بالجوهر الثمين- و توج بتاج من ذهب مرصع بنفيس الجوهر- و قلد سيفا من ذهب مرصع بالجواهر العظيمة- و شيعه إلى منزله هارون و صاعد- و قعدا على طعامه- كل ذلك مكافأة له عن صنيعه في أمر المعتمد- فليعجب المتعجب من همة الموفق أبي أحمد- و قوة نفسه و شدة شكيمته- أن يكون بإزاء ذلك العدو- و يقتل من أصحابه كل وقت من يقتل- ثم يصاب ولده بسهم- و يصاب هو بسهم آخر في صدره- يشارف منه على الموت- و يحدث من أخيه و هو الخليفة ما يحدث- و لا تنكسر نفسه و لا يهي عزمه- و لا تضعف قوته و بحقما سمي المنصور الثاني- و لو لا قيامه في حرب الزنج- لانقرض ملك أهل بيته- و لكن الله تعالى ثبته لما يريده من بقاء هذه الدولة- .

قال أبو جعفر- ثم جد الموفق في تخريب السور و إحراق المدينة- و جد الناجم في إعداد المقاتلة- و المحاطة عن سوره و مدينته- فكانت بين الفريقين حروب عظيمة- تجل عن الوصف- و رمى الناجم سفن الموفق المقاربة- لسور مدينته بالرصاص المذاب- و المجانيق و العرادات- و أمر أبو أحمد بإعداد ظلة من خشب للشذا- و إلباسها جلود الجواميس- و تغطية ذلك بالخيوش المطلية- بصنوف العقاقير و الأدوية- التي تمنع النار من الإحراق ففعل ذلك- و حورب صاحب الزنج من تحتها- فلم تعمل ناره و رصاصه المذاب فيها شيئا- و استأمن إلى أبي أحمد محمد بن سمعان- كاتب الناجم و وزيره في شعبان من هذه السنة- فهد باستئمانه أركان الناجم و أضعف قوته- و انتدب أبو العباس لقصد دار محمد بن يحيى الكرنبائي- و كانت بإزاء دار الناجم- و شرع في الحيلة في إحراقها- و أحرق الموفق كثيرا- من الرواشين المظلة على سور المدينة و شعثها- و علا غلمان أبي أحمد على دار الناجم و ولجوها و انتهبوها- و أضرموا النار فيها- و فعل أبو العباس بدار الكرنبائي مثل ذلك- و جرح أنكلاني بن الناجم في بطنه جراحة شديدة- أشفى منها على التلف- و اتفق مع هذا الظفر العظيم- أن غرق أبو حمزة نصير صاحب جيش الماء- عند ازدحام الشذوات و إكباب الزنج على الحرب- فصعب ذلك على أبي أحمد- و قوي بغرقه أمر الزنج- و انصرف أبو أحمدآخر نهار هذا اليوم- و عرضت له علة أقام فيها بقية شعبان و شهر رمضان- و أياما من شوال ممسكا عن حرب الزنج- إلى أن استبل من علته- .

قال أبو جعفر- فلما أحرقت دار الناجم و دور أصحابه- و شارف أن يؤخذ و عرضت لأبي أحمد هذه العلة- فأمسك فيها عن الحرب- انتقل الناجم من مدينته التي بناها- بغربي نهر أبي الخصيب إلى شرقيه إلى منزل وعر- لا يخلص إليه أحد لاشتباك القصب و الأدغال و الأحطاب فيه- و عليه خنادق من أنهار قاطعة معترضة- فقطن هناك في خواصه- و من تخلف معه من جلة أصحابه و ثقاته- و من بقي في نصرته من الزنج- و هم حدود عشرين ألف مقاتل- و انقطعت الميرة عنهم- و بان للناس ضعف أمرهم- فتأخر الجلب الذي كان يصل إليهم- فبلغ الرطل من خبز البر عندهم عشرة دراهم- فأكلوا الشعير ثم أكلوا أصناف الحبوب- ثم لم يزل الأمر كذلك إلى أن كانوا يتبعون الناس- فإذا خلا أحد منهم بصبي أو امرأة أو رجل ذبحوه و أكلوه- ثم صار قوي الزنج يعدو على ضعيفهم- فإذا خلا به ذبحه و أكل لحمه- ثم ذبحوا أولادهم فأكلوا لحومهم- و كان الناجم لا يعاقب أحدا- ممن فعل شيئا من ذلك إلا بالحبس- و إذا تطاول حبسه أطلقه- .

و لما أبل الموفق من علته- و علم انتقال الناجم إلى شرقي نهر أبي الخصيب و اعتصامه به- أعمل فكره في تخريب الجانب الشرقي عليه- كما فعل بالجانب الغربي- ليتمكن من قتله أو أسره- فكانت له آثار عظيمة من قطع الأدغال- و الدحال و سد الأنهار و طم الخنادق- و توسيع المسالك و إحراق الأسوار المبنية- و إدخال الشذا و فيها المقاتلة إلى حريم الناجم- و في كل ذلك يدافع الزنج عن أنفسهم بحرب شديدة- و قتال عظيم تذهب فيها النفوس و تراق فيها الدماء- و كان الظفر في ذلك كله لأبي أحمد- و أمر الزنج يزداد ضعفاو طالت الأيام على ذلك- إلى أن استأمن سليمان بن موسى الشعراني- و هو من عظمائهم و قد تقدم ذكره- فوجه يطلب الأمان من أبي أحمد- فمنعه ذلك لما كان سلف منه- من العيث و سفك الدماء بنواحي واسط- .

ثم اتصل بأبي أحمد أن جماعة من رؤساء الزنج- قد استوحشوا لمنعه الشعراني من الأمان- فأجاب إلى إعطائه الأمان- استصلاحا بذلك غيره من رؤساء الزنج- و أمر بتوجيه الشذا إلى موضع وقع الميعاد عليه- فخرج سليمان الشعراني و أخوه و جماعة من قواده- فنزلوا الشذا فصاروا إلى أبي العباس- فحملهم إلى أبي أحمد- فخلع على سليمان و من معه- و حمله على عدة أفراس بسروجها و آلتها- و أنزل له و لأصحابه إنزالا سنية- و وصله بمال جليل و وصل أصحابه- و ضمه و ضمهم إلى أبي العباس- و أمر بإظهاره و إظهارهم في الشذا لأصحاب الناجم- ليزدادوا ثقة بأمانته- فلم تبرح الشذا ذلك اليوم من موضعها- حتى استأمن جمع كثير من قواد الزنج- فوصلوا و ألحقوا بإخوانهم- في الحباء و البر و الخلع و الجوائز- فلما استأمن الشعراني اختل ما كان الناجم- قد ضبطه به من مؤخر عسكره- و قد كان جعله على مؤخر نهر أبي الخصيب- فوهى أمره و ضعف- و قلد ما كان سليمان يتولاه القائد المعروف بشبل بن سالم- و هو من قوادهم المشهورين- فلم يمس أبو أحمد- حتى وافاه رسول شبل بن سالم يطلب الأمان-

و يسأل أن يوقف له شذوات عند دار ابن سمعان- ليكون قصده في الليل إليها و معه من يثق به من أصحابه- فأجيب إلى سؤاله- و وافى آخر الليل و معه عياله و ولده- و جماعة من قواده- فصاروا إلى أبي أحمد- فوصله بصلة جليلة- و خلع عليه خلعا كثيرة- و حمله على عدة أفراس بسروجها و آلتها- و وصل أصحابه و خلع عليهم و أحسن إليهم- و أرسله في الشذوات- فوقفوا بحيث يراهم الناجم و أصحابه نهارا- فعظم ذلك عليه و على أوليائه- و أخلص شبل في مناصحة أبي أحمد- فسأل أن يضم إليه عسكر يبيت به عسكر الناجم- و يسلك إليه من مسالك يعرفها هو- و لا يعرفها أصحاب أبي أحمد- ففعلو كبس عسكر الناجم سحرا- فأوقع بهم و هم غارون- فقتل منهم مقتلة عظيمة- و أسر جمعا من قواد الزنج و انصرف بهم إلى الموفق- و ذعر الزنج من شبل و ما فعله- فامتنعوا من النوم و خافوا خوفا شديدا- فكانوا يتحارسون بعد ذلك في كل ليلة- و لا تزال النفرة تقع في عسكرهم- لما استشعروا من الخوف- و وصل إلى قلوبهم من الوحشة- حتى لقد كان ضجيجهم و تحارسهم يسمع بالموفقية- .

و صح عزم الموفق على العبور- لمحاربة الناجم في الجانب الشرقي- من نهر أبي الخصيب فجلس مجلسا عاما- و أمر بإحضار قواد المستأمنة- و وجوه فرسانهم و رجالتهم من الزنج و البيضان فأدخلوا إليه- فخطبهم و عرفهم ما كانوا عليه- من الضلالة و الجهل و انتهاك المحارم- و ما كان صاحبهم زينه لهم من معاصي الله سبحانه- و أن ذلك قد كان أحل له دماءهم- و أنه قد غفر الزلة و عفا عن العقوبة و بذل الأمان- و عاد على من لجأ إليه بالفضل و الإحسان- فأجزل الصلات و أسنى الأرزاق- و ألحقهم بالأولياء و أهل الطاعة- و أن ما كان منه من ذلك يوجب عليهم حقه و طاعته- و أنهم لن يأتوا بشي‏ء يتعرضون به لطاعة ربهم- و الاستدعاء لرضا سلطانهم أولى بهم- من الجد في مجاهدة الناجم و أصحابه- و أنهم من الخبرة بمسالك عسكر الناجم و مضايق طرق مدينته- و المعاقل التي أعدها للحرب- على ما ليس عليه من غيرهم- فهم أحرى أن يمحضوه نصحهم- و يجهدوا على الولوج إلى الناجم- و التوغل إليه في حصونه- حتى يمكنهم الله منه و من أشياعه- فإذا فعلوا ذلك فلهم الإحسان و المزيد- و من قصر منهم استدعى من سلطانه إسقاط حاله- و تصغير منزلته و وضع مرتبته- .

فارتفعت أصواتهم جميعا- بالدعاء للموفق و الإقرار بإحسانه- و بما هم عليه من صحة الضمائر- من السمع و الطاعة و الجد في مجاهدة عدوه- و بذل دمائهم و مهجهم في كل ما يقربهم منه- و أن ما دعاهم إليه قد قوى مننهم- و دلهم على ثقته بهم- و إحلاله إياهم‏محل أوليائه- و سألوه أن يفردهم ناحية و لا يخلطهم بعسكره- ليظهر من حسن جهادهم بين يديه- و خلوص نياتهم في الحرب- و نكايتهم في العدو و ما يعرف به طاعتهم- و إقلاعهم عما كانوا عليه من جهلهم- . فأجابهم إلى ذلك- و عرفهم حسن ما ظهر له من طاعتهم- فخرجوا من عنده مبتهجين- بما أجيبوا به من حسن القول و جميل الوعد- . قال أبو جعفر- ثم استعد أبو أحمد و رتب جيشه- و دخل إلى عسكر الناجم بشرقي نهر أبي الخصيب- في خمسين ألف مقاتل- من البر و البحر فرسانا و رجالة- يكبرون و يهللون و يقرءون القرآن- و لهم ضجيج و أصوات هائلة- فرأى الناجم منهم ما هاله و تلقاهم بنفسه و جيشه- و ذلك في ذي القعدة سنة تسع و ستين و مائتين- .

و اشتبكت الحرب و كثر القتل و الجراح- و حامى الزنج عن صاحبهم و أنفسهم أشد محاماة و استماتوا- و صبر أصحاب أبي أحمد و صدقوا القتال- فمن الله عليهم بالنصر و انهزم الزنج- و قتل منهم خلق عظيم- و أسر منهم أسرى كثيرة- فضرب أبو أحمد أعناق الأسارى في المعركة- و قصد بنفسه دار الناجم- فوافاها و قد لجأ الناجم إليها- و معه أنجاد أصحابه للمدافعة عنه- . فلما لم يغنوا شيئا أسلموها و تفرقوا عنها- و دخلها غلمان الموفق- و بها بقايا ما كان سلم له من مال و أثاث- فأخذوه و انتهبوه- و أخذوا حرمه و ولده الذكور و الإناث- و تخلص الناجم بنفسه- و مضى هاربا نحو دار علي بن أبان المهلبي- لا يلوي على أهل و لا ولد و لا مال و أحرقت داره- و حمل أولاده و نساؤه إلى الموفقية في التوكيل- و قصد أصاب أبي أحمد دار المهلبي- و قد لجأ إليها الناجم و أكثر الزنج- و تشاغل أصحاب أبي أحمد بنهبالأموال من دور الزنج- فاغتنم الناجم تشاغلهم بالنهب- فأمر قواده بانتهاز الفرصة و الإكباب عليهم- فخرجوا عليهم من عدة مواضع- و خرج عليهم كمناء أيضا قد كانوا كمنوهم لهم- فكشفوهم و اتبعوهم- حتى وافوا بهم نهر أبي الخصيب- فقتلوا من فرسانهم و رجالتهم جماعة- و ارتجعوا بعض ما كانوا أخذوه من المال و المتاع- .

ثم تراجع الناس- و دامت الحرب إلى وقت العصر- فرأى أبو أحمد عند ذلك أن يصرف أصحابه- فأمرهم بالرجوع فرجعوا على هدوء و سكون- كي لا تكون هزيمة حتى دخلوا سفنهم- و أحجم الزنج عن أتباعهم- و عاد أبو أحمد بالجيش إلى مراكزهم- . قال أبو جعفر- و وافى إلى أبي أحمد في هذا الشهر- كاتبه صاعد بن مخلد من سامراء في عشرة آلاف- و وافى إليه لؤلؤ صاحب ابن طولون- و كان إليه أمر الرقة و ديار مضر- في عشرة آلاف من نخبة الفرسان و أنجادهم- فأمر أبو أحمد لؤلؤا- أن يخرج في عسكره فيحارب الزنج- فخرج بهم و معه من أصحاب أبي أحمد- من يدله على الطرق و المضايق- فكانت بين لؤلؤ و بين الزنج حرب شديدة- في ذي الحجة من هذه السنة- استظهر فيها لؤلؤ عليهم- و بان من نجدته و شجاعته و إقدام أصحابه- و صبرهم على ألم الجراح و ثبات قلوبهم- ما سر أبا أحمد و ملأ قلبه- .

قال أبو جعفر- فلما دخلت سنة سبعين و مائتين- تتابعت الأمداد إلى أبي أحمد من سائر الجهات- فوصل إليه أحمد بن دينار- في جمع عظيم من المطوعة- من كور الأهواز و نواحيها- و قدم بعده من أهل البحرين جمع كثير- من المطوعة زهاء ألفي رجل- يقودهم رجل من عبد القيس- و ورد بعد ذلك زهاء ألف رجل من فارس- و رئيسهم شيخ من المطوعة يكنى أبا سلمة- و كان أبو أحمد يجلس- لكل من يرد و يخلع عليه- و يقيم لأصحابه الأنزال الكثيرة و يصلهم بالصلات- فعظم جيشه جدا و امتلأت بهم الأرض- و صحعزمه على لقاء الناجم بجميع عسكره- فرتب جيوشه و قسمهم على القواد- و أمر كل واحد من القواد- أن يقصد جهة من جهات معسكر الناجم عينها له- و ركب بنفسه و ركب جيشه- و توغلوا في مسالك شرقي نهر أبي الخصيب- و لقيهم الزنج و قد حشدوا و استقبلوا- فكانت بينهم وقعة شديدة- منحهم الله تعالى فيها أكتاف الزنج- فولوا منهزمين- فاتبعهم أصحاب أبي أحمد يقتلون و يأسرون- فقتل منهم كثير و غرق كثير- و حوى أصحاب أبي أحمد معسكر الناجم و مدينته- و ظفروا بعيال علي بن أبان المهلبي و داره و أمواله- فاحتووا عليها- و عبر أهله و أولاده إلى الموفقية مع كلابهم- و مضى الناجم و معه المهلبي و ابنه أنكلاني- و سليمان بن جامع و الهمداني و جماعة من أكابر القواد- عامدين إلى موضع كان الناجم- قد أعده لنفسه ملجأ إذا غلب على مدينته و داره- في النهر المعروف بالسفياني- فتقدم أبو أحمد و معه لؤلؤ قاصدين هذا النهر- لأن أبا أحمد دل عليه- فأوغل في الدخول و فقده أصحابه- فظنوا أنه رجع فرجعوا كلهم- و عبروا دجلة في الشذا ظانين أنه عبر راجعا- و انتهى أبو أحمد و معه لؤلؤ قاصدين هذا النهر- فاقتحمه لؤلؤ بفرسه- و عبر أصحاب لؤلؤ خلفه- .

و وقف أبو أحمد في جماعة من أصحابه عند النهر- و مضى الناجم هاربا- و لؤلؤ يتبعه في أصحابه- حتى انتهى إلى النهر المعروف بالقربري- فوصل إليه لؤلؤ و أصحابه- فأوقعوا به و بمن معه فكشفوهم- فولوا هاربين حتى عبروا النهر المذكور- و لؤلؤ و أصحابه يطردونهم من ورائهم- حتى ألجئوهم إلى نهر آخر- فعبروه و اعتصموا بدحال وراءه فولجوها- و أشرف لؤلؤ و أصحابه عليها- فأرسل إليه الموفق ينهاه عن اقتحامها- و يشكر سعيه و يأمره بالانصراف- فانفرد لؤلؤ هذا اليوم و أصحابه بهذا الفعل- دون أصحاب الموفق فانصرف لؤلؤ محمود الفعل- فحمله الموفق معه في شذاته- و جدد له من البر و الكرامة و رفع المنزلة- لما كان منه في أمر الناجم- حسبما كان مستحقا له- و لهذا نادىأهل بغداد- لما أدخل إليهم رأس الناجم- بين يدي أبي العباس ما شئتم قولوا- كان الفتح للؤلؤ- . قال أبو جعفر فجمع الموفق في غد هذا اليوم قواده- و هو حنق عليهم لانصرافهم عنه و إفرادهم إياه- و كان لؤلؤ و أصحابه تولوا طلب الناجم دونهم- فعنقهم و عذلهم و وبخهم على ما كان منهم- و عجزهم و أغلظ لهم- فاعتذروا إليه بما توهموه من انصرافه- و أنهم لم يعلموا أنه قد لجج و أوغل في طلب الناجم- و أنهم لو علموا ذلك لأسرعوا نحوه- .

ثم تحالفوا بين يديه- و تعاقدوا ألا يبرحوا في غد موضعهم- إذا توجهوا نحو الزنج حتى يظفرهم الله تعالى به- فإن أعياهم ذلك أقاموا- حيث انتهى بهم النهار في أي موضع كان- حتى يحكم الله بينهم و بينه- و سألوا الموفق أن يرد السفن إلى الموفقية- بحيث لا يطمع طامع من العسكر- في الالتجاء إليها و العبور فيها- . فقبل أبو أحمد عذرهم و جزاهم الخير عن تنصلهم- و وعدهم بالإحسان و أمرهم بالتأهب للعبور- ثم عبر بهم على ترتيب و نظام قد أحكمه و قرره- و ذلك في يوم السبت لليلتين خلتا من صفر- من سنة سبعين و مائتين- و قد كان الناجم عاد من تلك الأنهار إلى معسكره- بعد انصراف الجيش عنه فأقام به- و أمل أن تتطاول به و بهم الأيام و تندفع عنه المناجزة- فلقيه في هذا اليوم سرعان العسكر- و هم مغيظون محنقون من التقريع و التوبيخ اللاحقين بهم بالأمس- فأوقعوا به و بأصحابه وقعة شديدة- أزالوهم عن مواقفهم- فتفرقوا لا يلوي بعضهم على بعض- و اتبعهم الجيش يقتلون و يأسرون من لحقوا منهم- و انقطعالناجم في جماعة من كماته من قواد الزنج- منهم المهلبي و فارقه ابنه أنكلاني و سليمان بن جامع- فكانا في أول الأمر مجتمعين ثم افترقا في الهزيمة- فصادف سليمان بن جامع قوم من قواد الموفق- فحاربوه و هو في جمع كثيف من الزنج- فقتل جماعة من كماته و ظفر به فأسر- و حمل إلى الموفق بغير عهد و لا عقد- فاستبشر الناس بأسر سليمان- و كثر التكبير و الضجيج- و أيقنوا بالفتح إذ كان أكثر أصحابه غناء- و أسر بعده إبراهيم بن جعفر الهمداني- و كان من عظماء قواده و أكابر أمراء جيوشه- و أسر نادر الأسود المعروف بالحفار- و هو من قدماء قواد الناجم- فأمر الموفق بتقييدهم بالحديد و تصييرهم في شذاة لأبي العباس- و معهم الرجال بالسلاح و جد الموفق في طلب الناجم- و أمعن في نهر أبي الخصيب حتى انتهى إلى آخره- .

فبينا هو كذلك أتاه البشير بقتل الناجم فلم يصدق- فوافاه بشير آخر و معه كف زعم أنها كفه- فقوي الخبر عنده بعض القوة- فلم يلبث أن أتاه غلام من غلمان لؤلؤ يركض- و معه رأس الناجم فوضعه بين يديه- فعرضه الموفق على من كان حاضرا تلك الحال معه- من قواد المستأمنة فعرفوه و شهدوا أنه رأس صاحبه- فخر ساجدا و سجد ابنه أبو العباس- و سجد القواد كلهم شكرا لله تعالى- و رفعوا أصواتهم بالتهليل و التكبير- و أمر برفع الرأس على قناة و نصبه بين يديه فرآه الناس- و ارتفعت الأصوات و الضجيج- . قال أبو جعفر و قد قيل إنه لما أحيط بالناجم- لم يبق معه من رؤساء أصحابه إلا المهلبي- فلما علما أنهما مقتولان افترقا- فوقف الناجم حتى وصل إليه هذا الغلام- و معه جماعة من غلمان لؤلؤ- فمانع عن نفسه بسيفه حتى عجز عن الممانعة- فأحاطوا به و ضربوه بسيوفهم حتى سقط- و نزل هذا الغلام فاحتز رأسه- و أما المهلبي فإنه قصد النهر المعروفبنهر الأمير- فقذف بنفسه يروم النجاة- و قبل ذلك كان ابن الناجم- و هو المعروف بأنكلاني فارق أباه- و مضى يؤم النهر المعروف بالديناري- متحصنا فيه بالأدغال و الآجام فلم يظفر بهما ذلك اليوم- و دل الموفق عليهما بعد ذلك- .

و قيل له إن معهما جمعا من الزنج- و جماعة من جلة قوادهم- فأرسل غلمانه في طلبهما و أمرهم بالتضييق عليهما- فلما أحاطت الغلمان بهم- أيقنوا أن لا ملجأ لهم- و أعطوا بأيديهم فظفر بهم الغلمان- و حملوهم إلى الموفق- فقتل منهم جماعة- و أمر بالاستيثاق من المهلبي- و أنكلاني بالحديد و الرجال الموكلين بهما- . قال أبو جعفر- و انصرف في هذا اليوم و هو يوم السبت- لليلتين خلتا من صفر أبو أحمد من نهر أبي الخصيب- و رأس الناجم منصوب بين يديه على قناة- في شذاة يخترق به في النهر- و الناس من جانبي النهر ينظرون إليه- حتى وافى دجلة- فخرج إليها و الرأس بين يديه- و سليمان بن جامع و الهمداني مصلوبان أحياء- في شذاتين عن جانبيه- حتى وافى قصره بالموفقية- هذه رواية أبي جعفر و أكثر الناس عليهما- . و ذكر المسعودي في كتاب مروج الذهب- أن الناجم ارتث و حمل إلى أبي أحمد و هو حي- فسلمه إلى ابنه أبي العباس- و أمر بتعذيبه فجعله كردناجا على النار- و جلده ينتفخ و يتفرقع حتى هلك- . و الرواية الأولى هي الصحيحة- و الذي جعل كردناجا هو قرطاس- الذي رمى أبا أحمدبالسهم- ذكر ذلك التنوخي في نشوار المحاضرة- قال كان الزنج يصيحون لما رمى أبو أحمد بالسهم- و تأخر لعلاج جراحته عن الحرب- ملحوه ملحوه أي قد مات و أنتم تكتمون موته- فاجعلوه كاللحم المكسود- .

قال و كان قرطاس الرامي لأبي أحمد- يصيح بأبي العباس في الحرب- إذا أخذتني فاجعلني كردناجا يهزأ به- . قال فلما ظفر به أدخل في دبره سيخا من حديد- فأخرجه من فيه و جعله على النار كردناجا- . قال أبو جعفر- ثم تتابع مجي‏ء الزنج إلى أبي أحمد في الأمان- فحضر منهم في ثلاثة أيام نحو سبعة آلاف زنجي- لما عرفوا قتل صاحبهم- و رأى أبو أحمد بذل الأمان لهم- كي لا يبقى منهم بقية- يخاف معرتها في الإسلام و أهله- و انقطعت منهم قطعة نحو ألف زنجي مالت نحو البر- فمات أكثرها عطشا- و ظفر الأعراب بمن سلم منهم- فاسترقوهم و أقام الموفق بالموفقية- بعد قتل الناجم مدة- ليزداد الناس بمقامه أنسا و أمانا- و يتراجع أهل البلاد إليها- فقد كان الناجم أجلاهم عنها- و قدم ابنه أبو العباس إلى بغداد- و معه رأس الناجم- فدخلها يوم السبت لاثنتي عشرة ليلة- بقين من جمادى الأولى من هذه السنة- و رأس الناجم بين يديه على قناة- و الناس مجتمعون يشاهدونه- . و قد روى غير أبي جعفر- و ذكره الآبي في مجموعة المسمى نثر الدرر- عن العلاء بن صاعد بن مخلد- قال لما حمل رأس صاحب الزنج- و دخل به المعتضد إلى بغداد دخل في جيش‏لم ير مثله- و اشتق أسواق بغداد و الرأس بين يديه- فلما صرنا بباب الطاق صاح قوم من درب من تلك الدروب- رحم الله معاوية و زاد- حتى علت أصوات العامة بذلك فتغير وجه المعتضد- و قال أ لا تسمع يا أبا عيسى ما أعجب هذا- و ما الذي اقتضى ذكر معاوية في هذا الوقت- و الله لقد بلغ أبي إلى الموت- و ما أفلت أنا إلا بعد مشارفته و لقينا كل جهد و بلاء- حتى أنجينا هؤلاء الكلاب من عدوهم- و حصنا حرمهم و أولادهم- فتركوا أن يترحموا على العباس- و عبد الله ابنه و من ولد من الخلفاء- و تركوا الترحم على علي بن أبي طالب- و حمزة و جعفر و الحسن و الحسين- و الله لا برحت أو أؤثر في تأديب هؤلاء أثرا- لا يعاودون بعد هذا الفعل مثله- ثم أمر بجمع النفاطين ليحرق الناحية- فقلت له أيها الأمير أطال الله بقاءك- إن هذا اليوم من أشرف أيام الإسلام- فلا تفسده بجهل عامة لا أخلاق لهم- و لم أزل أداريه و أرفق به حتى سار- .

فأما الذي يرويه الناس- من أن صاحب الزنج ملك سواد بغداد- و نزل بالمدائن- و أن الموفق أرسل إليه من بغداد عسكرا- و أصحبهم دنان النبيذ- و أمرهم أن ينهزموا من بين يدي الزنج عند اللقاء- و يتركوا خيامهم و أثقالهم- لينتهبها الزنج و أنهم فعلوا ذلك- فظفر الزنج فيما ظفروا به- من أمتعتهم بتلك الدنان- و كانت كثيرة جدا- فشربوا تلك الليلة و سكروا- و باتوا على غرة- فكبسهم الموفق و بيتهم ليلا و هم سكارى- فأصاب منهم ما أراد- فباطل موضوع لا أصل له- و الذي بيتهم و هم سكارى- فنال منهم نيلا تكين البخاري- و كان على الأهواز بيت أصحاب علي بن أبان- في سنة خمس و ستين و مائتين- و قد أتاه الخبر بأنهم تلك الليلة قد عمل النبيذ فيهم- و الصحيح أنه لم يتجاوز نهبهم و دخولهم البلاد النعمانية- هكذا رواه الناس كلهم- .

قال أبو جعفر فأما علي بن أبان- و أنكلاني بن الناجم و من أسر معهما- فإنهم‏حملوا إلى بغداد في الحديد و القد- فجعلوا بيد محمد بن عبد الله بن طاهر- و معهم غلام للموفق يقال له فتح السعيدي- فكانوا كذلك إلى شوال- من سنة اثنتين و سبعين و مائتين- فكانت للزنج حركة بواسط- و صاحوا أنكلاني يا منصور- و كان الموفق يومئذ بواسط- فكتب إلى محمد بن عبد الله و إلى فتح السعيدي- يأمرهما بتوجيه رءوس الزنج الذين في الأسر إليه- فدخل فتح السعيدي إليهم- فجعل يخرج الأول فالأول فيذبحه على البالوعة كما تذبح الشاة- و كانوا خمسة أنكلاني بن الناجم- و علي بن أبان المهلبي و سليمان بن جامع- و إبراهيم بن جعفر الهمداني و نادر الأسود- و قلع رأس البالوعة و طرحت فيها أبدانهم و سد رأسها- و وجه برءوسهم إلى الموفق فنصبها بواسط- و انقطعت حركه الزنج و يئس منهم- .

ثم كتب الموفق إلى محمد بن عبد الله بن طاهر- في جثث هؤلاء الخمسة- فأمر بصلبهم بحضرة الجسر- فأخرجوا من البالوعة- و قد انتفخوا و تغيرت روائحهم- و تقشرت جلودهم- فصلب اثنان منهم على جانب الجسر الشرقي- و ثلاثة على الجانب الغربي- و ذاك لسبع بقين من شوال من هذه السنة- و ركب محمد بن عبد الله بن طاهر- و هو أمير بغداد يومئذ بنفسه حتى صلبوا بحضرته- و قد قال الشعراء في وقائع الزنج- فأكثروا كالبحتري و ابن الرومي و غيرهما- فمن أراد ذلك فليأخذه من مظانه: مِنْهَا فِي وَصْفِ الْأَتْرَاكِ- كَأَنِّي أَرَاهُمْ قَوْماً- كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الْمَجَانُّ الْمُطْرَقَةُ- يَلْبَسُونَ السَّرَقَ وَ الدِّيبَاجَ- وَ يَعْتَقِبُونَ الْخَيْلَ الْعِتَاقَ- وَ يَكُونُ هُنَاكَ اسْتِحْرَارُ قَتْلٍ- حَتَّى يَمْشِيَ الْمَجْرُوحُ عَلَى الْمَقْتُولِ- وَ يَكُونَ الْمُفْلِتُ أَقَلَّ مِنَ الْمَأْسُورِ- فَقَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ- لَقَدْ أُعْطِيتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عِلْمَ الْغَيْبِ- فَضَحِكَ ع وَ قَالَ لِلرَّجُلِ وَ كَانَ كَلْبِيّاً- يَا أَخَا كَلْبٍ لَيْسَ هُوَ بِعِلْمِ غَيْبٍ- وَ إِنَّمَا هُوَ تَعَلُّمٌ مِنْ ذِي عِلْمٍ- وَ إِنَّمَا عِلْمُ الْغَيْبِ عِلْمُ السَّاعَةِ- وَ مَا عَدَّدَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ- إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ- وَ يُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَ يَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ- وَ ما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً- وَ ما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ الآْيَةَ- فَيَعْلَمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مَا فِي الْأَرْحَامِ- مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَ قَبِيحٍ أَوْ جَمِيلٍ- وَ سَخِيٍّ أَوْ بَخِيلٍ- وَ شَقِيٍّ أَوْ سَعِيدٍ- وَ مَنْ يَكُونُ لِلنَّارِ حَطَباً- أَوْ فِي الْجِنَانِ لِلنَّبِيِّينَ مُرَافِقاً- فَهَذَا عِلْمُ الْغَيْبِ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ أَحَدٌ إِلَّا اللَّهُ- وَ مَا سِوَى ذَلِكَ فَعِلْمٌ- عَلَّمَهُ اللَّهُ نَبِيَّهُ ص فَعَلَّمَنِيهِ- وَ دَعَا لِي بِأَنْ يَعِيَهُ صَدْرِي- وَ تَضْطَمَّ عَلَيْهِ جَوَانِحِي‏المجان جمع مجن بكسر الميم و هو الترس- و إنما سمي مجنا لأنه يستتر به- و الجنة السترة و الجمع جنن- يقال استجن بجنة أي استتر بسترة- .

و المطرقة بسكون الطاء- التي قد أطرق بعضها إلى بعض- أي ضمت طبقاتها فجعل بعضها يتلو بعضا- يقال جاءت الإبل مطاريق- أي يتلو بعضها بعضا- و النعل المطرقة المخصوفة- و أطرقت بالجلد و العصب أي ألبست- و ترس مطرق و طراق النعل- ما أطرقت و خرزت به- و ريش طراق إذا كان بعضه فوق بعض- و طارق الرجل بين الثوبين- إذا لبس أحدهما علي الآخر- و كل هذا يرجع إلى مفهوم واحد- و هو مظاهرة الشي‏ء بعضه بعضا- و يروى المجان المطرقة بتشديد الراء- أي كالترسة المتخذة من حديد مطرق بالمطرقة- .

و السرق شقق الحرير- و قيل لا تسمى سرقا إلا إذا كانت بيضا الواحدة سرقة- . و يعتقبون الخيل- أي يجنبونها لينتقلوا من غيرها إليها- و استحرار القتل شدته استحر و حر بمعنى- قال ابن الزبعري-حيث ألقت بقباء بركها و استحر القتل في عبد الأشل‏- و المفلت الهارب- . يقول ع إن الأمور المستقبلة على قسمين- أحدهما ما تفرد الله تعالى بعلمه- و لم يطلع عليه أحدا من خلقه- و هي الأمور الخمسة المعدودة في الآية المذكورة- إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ- وَ يُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَ يَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ- وَ ما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً- وَ ما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ-و القسم الثاني ما يعلمه بعض البشر- بإعلام الله تعالى إياه- و هو ما عدا هذه الخمسة- و الإخبار بملحمة الأتراك من جملة ذلك- . و تضطم عليه جوانحي تفتعل من الضم و هو الجمع- أي يجتمع عليه جوانح صدري- و يروى جوارحي وقد روي أن إنسانا قال لموسى بن جعفر ع- إني رأيت الليلة في منامي أني سألتك- كم بقي من عمري- فرفعت يدك اليمنى- و فتحت أصابعها في وجهي مشيرا إلي- فلم أعلم خمس سنين أم خمسة أشهر أم خمسة أيام- فقال و لا واحدة منهن- بل ذاك إشارة إلى الغيوب الخمسة- التي استأثر الله تعالى بها في قوله- إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ الآية- .

فإن قلت لم ضحك ع- لما قال له الرجل لقد أوتيت علم الغيب- و هل هذا إلا زهو في النفس و عجب بالحال- قلت قد روي أن رسول الله ص- ضحك في مناسب هذه الحال- لما استسقى فسقي و أشرف درور المطر- فقام إليه الناس- فسألوه أن يسأل الله تعالى أن يحبسه عنهم فدعا- و أشار بيده إلى السحاب- فانجاب حول المدينة كالإكليل- و هو ع يخطب على المنبر- فضحك حتى بدت نواجده- و قال أشهد أني رسول الله- و سر هذا الأمر أن النبي أو الولي- إذا تحدث عنده نعمة الله سبحانه- أو عرف الناس وجاهته عند الله- فلا بد أن يسر بذلك- و قد يحدث الضحك من السرور- و ليس ذلك بمذموم إذا خلا من التيه و العجب- و كان محض السرور و الابتهاج- و قد قال تعالى في صفة أوليائه- فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ- . فإن قلت فإن من جمله الخمسة- وَ ما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً- و قد أعلم‏الله تعالى نبيه بأمور يكسبها في غده- نحو قوله ستفتح مكة- و أعلم نبيه وصيه ع بما يكسبه في غده- نحو قوله له ستقاتل بعدي الناكثين الخبر- . قلت المراد بالآية- أنه لا تدري نفس جميع ما تكسبه في مستقبل زمانها- و ذلك لا ينفي جواز أن يعلم الإنسان- بعض ما يكسبه في مستقبل زمانه

فصل في ذكر جنكزخان و فتنة التتر

و اعلم أن هذا الغيب الذي أخبر ع عنه- قد رأيناه نحن عيانا و وقع في زماننا- و كان الناس ينتظرونه من أول الإسلام- حتى ساقه القضاء و القدر إلى عصرنا- و هم التتار الذين خرجوا من أقاصي المشرق- حتى وردت خيلهم العراق و الشام- و فعلوا بملوك الخطا و قفجاق- و ببلاد ما وراء النهر و بخراسان- و ما والاها من بلاد العجم- ما لم تحتو التواريخ منذ خلق الله آدم- إلى عصرنا هذا على مثله- فإن بابك الخرمي لم تكن نكايته- و إن طالت مدته نحو عشرين سنة- إلا في إقليم واحد و هو أذربيجان- و هؤلاء دوخوا المشرق كله- و تعدت نكايتهم إلى بلاد أرمينية و إلى الشام- و وردت خيلهم إلى العراق-

و بخت‏نصر الذي قتل اليهود إنما أخرب بيت المقدس- و قتل من كان بالشام من بني إسرائيل- و أي نسبة بين من كان بالبيت المقدس- من بني إسرائيل إلى البلاد و الأمصار التي أخربها هؤلاء- و إلى الناس الذين قتلوهم من المسلمين و غيرهم-و نحن نذكر طرفا من أخبارهم- و ابتداء ظهورهم على سبيل الاختصار- فنقول إنا على كثرة اشتغالنا بالتواريخ- و بالكتب المتضمنة أصناف الأمم- لم نجد ذكر هذه الأمة أصلا- و لكنا وجدنا ذكر أصناف الترك- من القفجاق و اليمك و البرلو- و التفريه و اليتبه و الروس- و الخطا و القرغز و التركمان- و لم يمر بنا في كتاب ذكر هذه الأمة سوى كتاب واحد- و هو كتاب مروج الذهب للمسعودي- فإنه ذكرهم هكذا بهذا اللفظ التتر- و الناس اليوم يقولون التتار بألف- و هذه الأمة كانت في أقاصي بلاد المشرق- في جبال طمغاج من حدود الصين- و بينهم و بين بلاد الإسلام التي ما وراء النهر- ما يزيد على مسير ستة أشهر- و قد كان خوارزمشاه و هو محمد بن تكش- استولى على بلاد ما وراء النهر- و قتل ملوكها من الخطا الذين كانوا ببخارى و سمرقند و بلاد تركستان- نحو كاشغر و بلاساغون- و أفناهم و كانوا حجابا بينه و بين هذه الأمة- و شحن هذه البلاد بقواده و جنوده- و كان في ذلك غالطا- لأن ملوك الخطا كانوا وقاية له و مجنا من هؤلاء- فلما أفناهم صار هو المتولي لحرب هؤلاء أو سلمهم- فأساء قواده و أمراؤه الذين بتركستان السيرة معهم- و سدوا طرق التجارة عنهم- فانتدبت منهم طائفة نحو عشرين ألفا مجتمعة- كل بيت منها له رئيس مفرد فهم متساندون- و خرجوا إلى بلاد تركستان- فأوقعوا بقواد خوارزمشاه و عماله هناك و ملكوا البلاد- و تراجع من بقي من عسكر خوارزمشاه- و سلم من سيف التتار إلى خوارزمشاه- فأغضى على ذلك- و رأى أن سعة ملكه تمنعه- عن مباشرة حربهم بنفسه- و أن غيره من قواده لا يقوم مقامه في ذلك- و ترك بلاد تركستان لهم- و استقر الأمر على أن تركستان لهم- و ما عداها من بلاد ما وراء النهر- كسمرقند و بخارى و غيرهما لخوارزمشاه- فمكثوا كذلك نحو أربع سنين- .

ثم إن المعروف بجنكزخان و الناس يلفظونه بالراء- و ذكر لي جماعة من أهل المعرفة بأحوال التتر- أنه جنكز بالزاي المعجمة- عن له رأي في النهوض إلى بلاد تركستان- و ذلك أن جنكزخان هذا- هو رئيس التتار الأقصين في المشرق و ابن رئيسهم- و ما زال سلفه رؤساء تلك الجهة- و كان شجاعا عاقلا موفقا منصورا في الحرب- و إنما عن له هذا الرأي- لأنه رأى أن طائفة من التتار لا ملك لهم- و إنما يقوم بكل فرقة منهم مدبر لها من أنفسها- قد نهضت فملكت بلاد تركستان على جلالتها- غار من ذلك و أراد الرئاسة العامة لنفسه- و أحب الملك و طمع في البلاد- فنهض بمن معه من أقاصي الصين- حتى صار إلى حدود أعمال تركستان- فحاربه التتار الذين هناك- و منعوه عن تطرق البلاد- فلم يكن لهم به طاقة- و هزمهم و قتل كثيرا منهم- و ملك بلاد تركستان بأجمعها- و صار كالمجاور لبلاد خوارزمشاه- و إن كان بينهما مسافة بعيدة- و صار بينه و بين خوارزمشاه سلم و مهادنة- إلا أنها هدنة على دخن- .

فمكثت الحال على ذلك يسيرا- ثم فسدت بما كان يصل إلى خوارزمشاه- على ألسنة التجار من الأخبار- و أن جنكزخان على عزم النهوض إلى سمرقند و ما يليها- و أنه في التأهب و الاستعداد- فلو داراه لكان أولى له- لكنه شرع فسد طرق التجار القاصدين إليهم- فتعذرت عليهم الكسوات- و منع عنهم الميرة و الأقوات التي تجلب و تحمل- من أعمال ما وراء النهر إلى تركستان- فلو اقتنع بذلك لكان قريبا- لكنه أنهى إليه نائبة بالمدينة المعروفة بأوتران- و هي آخر ولايته بما وراء النهر- أن جنكزخان قد سير جماعة من تجار التتار- و معهم شي‏ء عظيم من الفضة إلى سمرقند- ليشتروا له و لأهله و بني عمه كسوة و ثيابا و غير ذلك- .

فبعث إليه خوارزمشاه يأمره بقتل أولئك التجار- و أخذ ما معهم من الفضة و إنفاذها إليه- فقتلهم و سير إليه الفضة- و كان ذلك شيئا كثيرا جدا- ففرقه خوارزمشاه على تجار سمرقند و بخارى- و أخذ ثمنه منهم لنفسه- ثم علم أنه قد أخطأ- فأرسل إلى نائبه بأوتران- يأمره أن ينفذ جواسيس من عنده إليهم- ليخبروه بعدتهم فمضت الجواسيس- و سلكت مفاوز و جبالا كثيرة- و عادوا إليه بعد مدة- فأخبروه بكثرة عددهم- و أنهم لا يبلغهم الإحصاء و لا يدركهم- و أنهم من أصبر الناس على القتال لا يعرفون الفرار- و يعملون ما يحتاجون إليه من السلاح بأيديهم- و أن خيلهم لا تحتاج إلى الشعير- بل تأكل نبات الأرض و عروق المراعي- و أن عندهم من الخيل و البقر ما لا يحصى- و أنهم يأكلون الميتة و الكلاب و الخنازير- و هم أصبر خلق الله على الجوع و العطش و الشقاء- و ثيابهم من أخشن الثياب مسا- و منهم من يلبس جلود الكلاب و الدواب الميتة- و أنهم أشبه شي‏ء بالوحش و السباع- .

فأنهي ذلك كله إلى خوارزمشاه- فندم على قتل أصحابهم- و على خرق الحجاب بينه و بينهم و أخذ أموالهم- و غلب عليه الفكر و الوجل- فأحضر الشهاب الخيوفي- و هو فقيه فاضل كبير المحل عنده- لا يخالف ما يشير به- فقال له قد حدث أمر عظيم لا بد من الفكر فيه- و إجالة الرأي فيما نفعل- و ذلك أنه قد تحرك إلينا خصم- من الترك في عدد لا يحصى- فقال له عساكرك كثيرة- و تكاتب الأطراف و تجمع الجنود- و يكون من ذلك نفير عام- فإنه يجب على المسلمين كافة مساعدتك بالأموال و الرجال- ثم تذهب بجميع العساكر إلى جانب سيحون- و هو نهر كبير يفصل بين بلاد الترك- و بين بلاد خوارزمشاه فتكون هناك- فإذا جاء العدو و قد سار مسافة بعيدة- لقيناه و نحن جامون مستريحون- و قد مسه و عساكره النصب و اللغوب- .

فجمع خوارزمشاه أمراءه- و من عنده من أرباب المشورة فاستشارهم- فقالوا لا بل الرأي أن نتركهم ليعبروا سيحون إلينا- و يسلكوا هذه الجبال و المضايق- فإنهم جاهلون بطرقها و نحن عارفون بها- فنظهر عليهم و نهلكهم عن آخرهم- . فكانوا على ذلك حتى وصل رسول- من جنكزخان و معه جماعة- يتهدد خوارزمشاه- و يقول تقتل أصحابي و تجاري- و تأخذ مالي منهم استعد للحرب- فإني واصل إليك بجمع لا قبل لك به- . فلما أدى هذه الرسالة إلى خوارزمشاه- أمر بقتل الرسول فقتل- و حلق لحى الجماعة الذين كانوا معه- و أعادهم إلى صاحبهم جنكزخان- ليخبروه بما فعل بالرسول و يقولوا له- إن خوارزمشاه يقول لك إني سائر إليك- فلا حاجة لك أن تسير إلي- فلو كنت في آخر الدنيا لطلبتك حتى أقتلك- و أفعل بك و بأصحابك ما فعلت برسلك- .

و تجهز خوارزمشاه و سار بعد نفوذ الرسول- مبادرا لسبق خبره- و يكبس التتار على غرة- فقطع مسيرة أربعة أشهر في شهر واحد- و وصل إلى بيوتهم و خركاواتهم- فلم ير فيها إلا النساء و الصبيان و الأثقال- فأوقع بهم و غنم الجميع و سبى النساء و الذرية- . و كان سبب غيبوبة التتار عن بيوتهم- أنهم ساروا إلى محاربة ملك من ملوك الترك- يقال له كشلوخان فقاتلوه فهزموه- و غنموا أمواله و عادوا- فلقيهم الخبر في طريقهم بما فعل خوارزمشاه بمخلفيهم- فأغذوا السير فأدركوه- و هو على الخروج من بيوتهم‏بعد فراغه من الغنيمة- فواقعوه و تصافوا للحرب ثلاثة أيام بلياليها- لا يفترون نهارا و لا ليلا- فقتل من الفريقين ما لا يعد- و لم ينهزم منهم أحد- .

أما المسلمون فصبروا حمية للدين- و علموا أنهم إن انهزموا لم يبق للإسلام باقية- ثم إنهم لا ينجون بل يؤخذون و يؤسرون- لبعدهم عن بلاد يمتنعون بها- و أما التتار فصبروا لاستنقاذ أموالهم و أهلهم- و اشتد الخطب بين الطائفتين- حتى أن أحدهم كان ينزل عن فرسه- و يقاتل قرنه راجلا مضاربة بالسكاكين- و جرى الدم على الأرض- حتى كانت الخيل تزلق فيه لكثرته- و لم يحضر جنكزخان بنفسه هذه الوقعة- و إنما كان فيها قاآن ولده- فأحصي من قتل من المسلمين- فكانوا عشرين ألفا- و لم يحص عدة من قتل من التتار- .

فلما جاءت الليلة الرابعة افترقوا- فنزل بعضهم مقابل بعض- فلما أظلم الليل أوقد التتار نيرانهم و تركوها بحالها- و ساروا راجعين إلى جنكزخان ملكهم- و أما المسلمون فرجعوا و معهم محمد خوارزمشاه- فلم يزالوا سائرين حتى وافوا بخارى- و علم خوارزمشاه أنه لا طاقة له بجنكزخان- لأن طائفة من عسكره لم يلقوا خوارزمشاه- بجميع عساكره بهم- فكيف إذا حشدوا و جاءوا على بكرة أبيهم- و ملكهم جنكزخان بينهم- . فاستعد للحصار و أرسل إلى سمرقند- يأمر قواده المقيمين بها بالاستعداد للحصار- و جمع الذخائر للامتناع و المقام من وراء الأسوار- و جعل في بخارى عشرين ألف فارس يحمونها- و في سمرقند خمسين ألفا- و تقدم إليهم بحفظ البلاد حتى يعبر هو إلى خوارزم و خراسان- فيجمع العساكر- و يستنجد بالمسلمين و الغزاة المطوعة و يعود إليهم- .

ثم رحل إلى خراسان فعبر جيحون- و كانت هذه الوقعة في سنة ست عشرة و ستمائة- فنزل بالقرب من بلخ- فعسكر هناك و استنفر الناس- . و أما التتار فإنهم رحلوا بعد أن استعدوا- يطلبون بلاد ما وراء النهر- فوصلوا إلى بخارى بعد خمسة أشهر- من رحيل خوارزمشاه عنها و حصروها- فقاتلوا العسكر المرابط بها ثلاثة أيام قتالا متتابعا- فلم يكن للعسكر الخوارزمي بهم قوة- ففتحوا أبواب المدينة ليلا- و خرجوا بأجمعهم عائدين إلى خراسان- فأصبح أهل بخارى و ليس عندهم من العسكر أحد أصلا- فضعفت نفوسهم- فأرسلوا قاضي بخارى ليطلب الأمان للرعية- فأعطاه التتار الأمان- و قد كان بقي في قلعة بخارى خاصة طائفة- من عسكر خوارزمشاه معتصمون بها- .

فلما رأى أهل بخارى بذلهم للأمان- فتحوا أبواب المدينة- و ذلك في رابع ذي الحجة من سنة ست عشرة و ستمائة- فدخل التتار بخارى- و لم يتعرضوا لأحد من الرعية بل قالوا لهم- كل ما لخوارزمشاه عندكم- من وديعة أو ذخيرة أخرجوه إلينا- و ساعدونا على قتال من بالقلعة- و لا بأس عليكم- و أظهروا فيهم العدل و حسن السيرة- و دخل جنكزخان بنفسه إلى البلد- و أحاط بالقلعة و نادى مناديه في البلدان- لا يتخلف أحد و من تخلف قتل- فحضر الناس بأسرهم- فأمرهم بطم الخندق- فطموه بالأخشاب و الأحطاب و التراب- ثم زحفوا نحو القلعة- و كان عدة من بها من الجند الخوارزمية أربعمائة إنسان- فبذلوا جهدهم- و منعوا القلعة عشرة أيام- إلى أن وصل النقابون إلى سور القلعة- فنقبوه و دخلوا القلعة- فقتلوا كل من بها من الجند و غيرهم- .

فلما فرغوا منها أمر جنكزخان- أن يكتب له وجوه البلد و رؤساؤهم ففعل ذلك- فلما عرضوا عليه أمر بإحضارهم فأحضروا- فقال لهم أريد منكم الفضة النقرة- التي باعها إياكم خوارزمشاه- فإنها لي و من أصحابي أخذت- فكان كل من عنده شي‏ء منها يحضره- فلما فرغ من ذلك أمرهم- بالخروج عن البلد بأنفسهم خاصة- فخرجوا مجردين عن أموالهم- ليس مع كل واحد منهم- إلا ثيابه التي على جسده- فأمر بقتلهم فقتلوا عن آخرهم- و أمر حينئذ بنهب البلد فنهب كل ما فيه- و سبيت النساء و الأطفال- و عذبوا الناس بأنواع العذاب في طلب المال- ثم رحلوا عنه نحو سمرقند- و قد تحققوا عجز خوارزمشاه عنهم- و استصحبوا معهم من سلم من أهل بخارى- أسارى مشاة على أقبح صورة- و كل من أعيا و عجز عن المشي قتلوه- .

فلما قاربوا سمرقند قدموا الخيالة- و تركوا الرجالة و الأسارى و الأثقال وراءهم- حتى يلتحقوا بهم شيئا فشيئا- ليرعبوا قلوب أهل البلد- فلما رأى أهل سمرقند سوادهم استعظموهم- فلما كان اليوم الثاني وصل الأسارى- و الرجالة و الأثقال- و مع كل عشرة من الأسارى علم- فظن أهل البلد أن الجميع عسكر مقاتلة- فأحاطوا بسمرقند- و فيها خمسون ألفا من الخوارزمية- و ما لا يحصى كثرة من عوام البلد- فأحجم العسكر الخوارزمي عن الخروج إليهم- و خرجت العامة بالسلاح- فأطمعهم التتار في أنفسهم- و قهقروا عنهم و قد كمنوا لهم كمناء- فلما جاوزوا الكمين- خرج عليهم من ورائهم- و شد عليهم من ورائهم جمهور التتار- فقتلوهم عن آخرهم- .

فلما رأى من تخلف بالبلد ذلك- ضعفت قلوبهم- و خيلت للجند الخوارزمي أنفسهم-أنهم إن استأمنوا إلى التتار أبقوا عليهم- للمشاركة في جنسية التركية- فخرجوا بأموالهم و أهليهم إليهم مستأمنين- فأخذوا سلاحهم و خيلهم- ثم وضعوا السيف فيهم- فقتلوهم كلهم ثم نادوا في البلد- برئت الذمة ممن لم يخرج و من خرج فهو آمن- فخرج الناس إليهم بأجمعهم- فاختلطوا عليهم و وضعوا فيهم السيف- و عذبوا الأغنياء منهم- و استصفوا أموالهم و دخلوا سمرقند- فأخربوها و نقضوا دورها- و كانت هذه الوقعة في المحرم سنة سبع عشرة و ستمائة- .

و كان خوارزمشاه مقيما بمنزله الأول- كلما اجتمع له جيش سيره إلى سمرقند- فيرجع و لا يقدم على الوصول إليها- فلما قضوا وطرا من سمرقند- سير جنكزخان عشرين ألف فارس- و قال لهم اطلبوا خوارزمشاه أين كان- و لو تعلق بالسماء حتى تدركوه و تأخذوه- و هذه الطائفة تسميها التتار المغربة- لأنها سارت نحو غرب خراسان- و هم الذين أوغلوا في البلاد- و مقدمهم جرماغون نسيب جنكزخان- . و حكي أن جنكزخان كان قد أمر على هذا الجيش- ابن عم له شديد الاختصاص به- يقال له متكلى‏نويرة و أمره بالجد و سرعة المسير- فلما ودعه عطف متكلى‏نويرة هذا- فدخل إلى خركاه- فيها امرأة له كان يهواها ليودعها- فاتصل ذلك بجنكزخان- فصرفه في تلك الساعة عن إمارة الجيش-

و قال من يثني عزمه امرأة لا يصلح لقيادة الجيوش- و رتب مكانه جرماغون- فساروا و قصدوا من جيحون موضعا- يسمى بنج‏آب أي خمسة مياه و هو يمنع العبور- فلم يجدوا به سفنا- فعملوا من الخشب مثل الأحواض الكبار- و لبسوه جلود البقر و وضعوا فيه أسلحتهم- و أقحموا خيولهم الماء و أمسكوا بأذنابها-و تلك الأحواض مشدودة إليها- فكان الفرس يجذب الرجل- و الرجل يجذب الحوض- فعبروا كلهم ذلك الماء دفعة واحدة- فلم يشعر خوارزمشاه بهم- إلا و هم معه على أرض واحدة- و كان جيشه قد ملئ رعبا منهم- فلم يقدروا على الثبات- فتفرقوا أيدي سبأ و طلب كل فريق منهم جهة- و رحل خوارزمشاه في نفر من خواصه- لا يلوي على شي‏ء و قصد نيسابور- فلما دخلها اجتمع عليه بعض عسكره فلم يستقر- حتى وصل جرماغون إليه- و كان لا يتعرض في مسيره بنهب و لا قتل- بل يطوي المنازل طيا- يطلب خوارزمشاه و لا يمهله ليجمع عسكرا- فلما عرف قرب التتار منه- هرب من نيسابور إلى مازندران- فدخلها و رحل جرماغون خلفه- و لم يعرج على نيسابور- بل قصد مازندران- فخرج خوارزمشاه عنها- فكان كلما رحل عن منزل نزله التتار- حتى وصل إلى بحر طبرستان- فنزل هو و أصحابه في سفن- و وصل التتار فلما عرفوا نزوله البحر رجعوا و أيسوا منه- .

و هؤلاء الذين ملكوا عراق العجم و أذربيجان- فأقاموا بناحية تبريز إلى يومنا هذا- . ثم اختلف في أمر خوارزمشاه- فقوم يحكون أنه أقام بقلعة له- في بحر طبرستان منيعة فتوفي بها- و قوم يحكون أنه غرق في البحر- و قوم يحكون أنه غرق و نجا عريانا- فصعد إلى قرية من قرى طبرستان فعرفه أهلها- فجاءوا و قبلوا الأرض بين يديه- و أعلموا عاملهم به فجاء إليه و خدمه- فقال له خوارزمشاه- احملني في مركب إلى الهند- فحمله إلى شمس الدين أنليمش ملك الهند- و هو نسيبه من جهة زوجته- والدة منكبوني بن خوارزمشاه الملك جلال الدين- فإنها هندية من أهل بيت الملك- فيقال إنه وصل إلى أنليمش- و قد تغيرعقله مما اعتراه من خوف التتار- أو لأمر سلطه الله تعالى عليه- فكان يهذي بالتتار بكرة و عشية- و كل وقت و كل ساعة- و يقول هو ذا هم قد خرجوا من هذا الباب- قد هجموا من هذه الدرجة- و يرعد و يحول لونه و يختل كلامه و حركاته- . و حكى لي فقيه خراساني- وصل إلى بغداد يعرف بالبرهان- قال كان أخي معه و كان ممن يثق خوارزمشاه به و يختصه- قال لهج خوارزمشاه لما تغير عقله بكلمة- كان يقولها قرا تتر كلدي يكررها- و تفسيرها التتر السود قد جاءوا- و في التتر صنف سود يشبهون الزنج- لهم سيوف عريضة جدا على غير صورة هذه السيوف- يأكلون لحوم الناس- فكان خوارزمشاه قد أهتر و أغري بذكرهم- .

و حدثني البرهان قال رقي به شمس الدين أنليمش إلى قلعة- من قلاع الهند حصينة عالية شاهقة لا يعلوها الغيم أبدا- و إنما تمطر السحب من تحتها- و قال له هذه القلعة لك و ذخائرها أموالك- فكن فيها وادعا آمنا إلى أن يستقيم طالعك- فالملوك ما زالوا هكذا- يدبر طالعهم ثم يقبل- فقال له لا أقدر على الثبات فيها و المقام بها- لأن التتر سوف يطلبونني- و يقدمون إلى هاهنا- و لو شاءوا لوضعوا سروج خيلهم- واحدا على واحد تحت القلعة- فبلغت إلى ذروتها و صعدوا عليها- فأخذوني قبضا باليد- فعلم أنليمش أن عقله قد تغير- و أن الله تعالى قد بدل ما به من نعمة- فقال فما الذي تريد- قال أريد أن تحملني في البحر المعروف ببحر المعبر إلى كرمان- فحمله في نفر يسير من مماليكه إلى كرمان- ثم خرج منها إلى أطراف بلاد فارس- فمات هناك في قرية من قرى فارس- و أخفي موته لئلا يقصده التتر و تطلب جثته- .

و جملة الأمر أن حاله مشتبهة ملتبسة- لم يتحقق على يقين- و بقي الناس بعد هلاكه نحو سبع سنين ينتظرونه- . و يذهب كثير منهم إلى أنه حي مستتر- إلى أن ثبت عند الناس كافة أنه هلك- . فأما جرماغون- فإنه لما يئس من الظفر بخوارزمشاه- عاد من ساحل البحر إلى مازندران- فملكها في أسرع وقت- مع حصانتها و صعوبة الدخول إليها و امتناع قلاعها- فإنها لم تزل ممتنعة على قديم الوقت- حتى أن المسلمين لما ملكوا بلاد الأكاسرة- من العراق إلى أقصى خراسان- بقيت أعمال مازندران بحالها تؤدي الخراج- و لا يقدر المسلمون على دخولها- إلى أيام سليمان بن عبد الملك- . و لما ملكت التتار مازندران- قتلوا فيها و نهبوا و سلبوا- ثم سلكوا نحو الري- فصادفوا في الطريق والدة خوارزمشاه و نساءه- و معهن أموال بيت خوارزمشاه و ذخائرهم- التي ما لا يسمع بمثلها من الأعلاق النفيسة- و هن قاصدات نحو الري- ليعتصمن ببعض القلاع المنيعة- فاستولى التتار عليهن و على ما معهن بأسره- و سيروه كله إلى جنكزخان بسمرقند- و صمدوا صمد الري- و قد كان اتصل بهم- أن محمدا خوارزمشاه قصدها- كما يتسامع الناس بالأراجيف الصحيحة و الباطلة- فوصلوها على حين غفلة من أهلها- فلم يشعر بهم عسكر الري- إلا و قد ملكوها و نهبوها و سبوا الحرم- و استرقوا الغلمان و فعلوا كل قبيح منكر فيها- و لم يقيموا بها- و مضوا مسرعين في طلب خوارزمشاه- فنهبوا في طريقهم ما مروا به من المدن و القرى- و أحرقوا و خربوا- و قتلوا الذكران و الإناث- و لم يبقوا على شي‏ء و قصدوا نحو همذان- فخرج إليهم رئيسها- و معه أموال جليلة قد جمعها من أهل همذان- عينا و عروضا و خيلا- و طلب منهم الأمان لأهل البلد- فأمنوهم و لم يعرضوا لهم و ساروا إلى زنجان و استباحوها- و إلى قزوين فاعتصم أهلها منهم بقصبة مدينتهم- فدخلوها بالسيف عنوة- و قاتلهم أهلها قتالا شديدا بالسكاكين- و هم معتادون بقتال السكين من حروبهم مع الإسماعيلية- فقتل من الفريقين ما لا يحصى-

و يقال إن القتلى بلغت أربعين ألفا من أهل قزوين خاصة- . ثم هجم على التتار البرد الشديد و الثلج المتراكم- فساروا إلى أذربيجان فنهبوا القرى- و قتلوا من وقف بين أيديهم- و أخربوا و أحرقوا- حتى وصلوا إلى تبريز- و بها صاحب أذربيجان أزبك بن البهلوان بن أيلدكر- فلم يخرج إليهم و لا حدث نفسه بقتالهم- لاشتغاله بما كان عليه من اللهو- و إدمان الشرب ليلا و نهارا- فأرسل إليهم و صالح لهم على مال و ثياب و دواب- و حمل الجميع إليهم- فساروا من عنده يطلبون ساحل البحر- لأنه مشتى صالح لهم و المراعي به كثيرة- فوصلوا إلى موقان- و هي المنزل الذي نزلته الخرمية في أيام المعتصم- و قد ذكره الطائيان في أشعارهما في غير موضع- و الناس اليوم يقولون بالغين المعجمة عوض القاف- و قد كانوا تطرقوا في طريقهم بعض أعمال الكرج- فخرج إليهم منهم عشرة آلاف مقاتل- فحاربوهم و هزموهم و قتلوا أكثرهم- . فلما استقروا بموقان- راسلت الكرج أزبك بن البهلوان- في الاتفاق على حربهم- و راسلوا موسى بن أيوب المعروف بالأشرف- و كان صاحب خلاط و إرمينية بمثل ذلك- و ظنوا أنهم يصبرون إلى أيام الربيع و انحسار الثلوج- فلم يصبروا و صاروا من موقان في صميم الشتاء نحو بلاد الكرج- فخرجت إليهم الكرج- و اقتتلوا قتالا شديدا فلم يثبتوا للتتار- و انهزموا أقبح هزيمة- و قتل منهم من لا يحصى- فكانت هذه الوقعة في ذي الحجة- من سنة سبع عشرة و ستمائة- .

ثم توجهوا إلى المراغة في أول سنة ثماني عشرة- فملكوها في صفر- و كانت لامرأة من بقايا ملوك المراغة تدبرها هي و وزراؤها- فنصبوا عليها المجانيق- و قدموا أسارى المسلمين بين أيديهم- و هذه عادتهم يتترسون بهم في الحروب- فيصيبهم حدها و يسلمون هم من مضرتها- فملكوها عنوة و وضعوا السيف في أهلها- و نهبوا ما يصلح لهم و أحرقوا ما لا يصلح لهم- و خذل الناس عنهم- حتى كان الواحد منهم يقتل بيده مائة إنسان- و السيوف في أيديهم لا يقدر أحد منهم- أن يحرك يده بسيفه نحو ذلك التتري- خذلان صب على الناس و أمر سمائي اقتضاه- .

ثم عادوا إلى همذان- فطالبوا أهلها بمثل المال الذي بذلوه لهم في الدفعة الأولى- فلم يكن في الناس فضل لذلك- لأنه كان عظيما جدا- فقام إلى رئيس همذان جماعة من أهلها- و أسمعوه كلاما غليظا- فقالوا أفقرتنا أولا- و تريد أن تستصفينا دفعة ثانية- ثم لا بد للتتار أن يقتلونا- فدعنا نجاهدهم بالسيف و نموت كراما- ثم وثبوا على شحنة كان للتتار بهمذان فقتلوه- و اعتصموا بالبلد فحصرهم التتار فيه- فقلت عليهم الميرة و عدمت الأقوات- و أضر ذلك بأهل همذان- و لم ينل التتار مضرة من عدم القوت- لأنهم لا يأكلون إلا اللحم و الخيل معهم كثيرة- و معهم غنم عظيمة يسوقونها حيث شاءوا- و خيلهم لا تأكل الشعير و لا تأكل إلا نبات الأرض- تحفر بحوافرها الأرض عن العروق فتأكلها- .

فاضطر رئيس همذان و أهلها إلى الخروج إليهم- فخرجوا و التحمت الحرب بينهم أياما- و فقد رئيس همذان- هرب في سرب قد كان أعده- إلى موضع اعتصم به ظاهر البلد- و لم يعلم حقيقة حاله- فتحير أهل همذان بعد فقده و دخلوا المدينة- و اجتمعت كلمتهم على القتال في قصبة البلد إلى أن يموتوا- و كان التتار قد عزموا على الرحيل عنهم- لكثرة من قتل منهم- فلما لم يروا أحدا يخرج إليهم من البلد- طمعوا و استدلوا على ضعف أهله- فقصدوهم و قاتلوهم-و ذلك في شهر رجب من سنة ثماني عشرة و ستمائة- و دخلوا المدينة بالسيف- و قاتلهم الناس في الدروب- و بطل السلاح للازدحام- و اقتتلوا بالسكاكين- فقتل من الفريقين ما لا يحصى- و ظهر التتار على المسلمين فأفنوهم قتلا- و لم يسلم منهم إلا من كان له نفق في الأرض يستخفي فيه- ثم ألقوا النار في البلد فأحرقوها- و رحلوا إلى مدينة أردبيل و أعمال أذربيجان- فملكوا أردبيل و قتلوا فيها فأكثروا- .

ثم ساروا إلى تبريز- و كان بها شمس الدين عثمان الطغرائي- قد جمع كلمة أهلها- بعد مفارقة صاحب أذربيجان أزبك بن البهلوان للبلاد- خوفا من التتار و مقامه بنقجوان- فقوى الطغرائي نفوس الناس على الامتناع- و حذرهم عاقبة التخاذل و حصن البلد- فلما وصل التتار- و رأوا اجتماع كلمة المسلمين و حصانة البلد- طلبوا منهم مالا و ثيابا- فاستقر الأمر بينهم على شي‏ء معلوم- فسيروه إليهم- فلما أخذوه رحلوا إلى بيلقان- فقاتلهم أهلها- فملكها التتار في شهر رمضان من هذه السنة- و وضعوا فيهم السيف حتى أفنوهم أجمعين- ثم ساروا إلى مدينة كنجة- و هي أم بلاد أران- و أهلها ذوو شجاعة و بأس و جلد- لمقاومتهم الكرج و تدربهم بالحرب- فلم يقدر التتار عليهم- و أرسلوا إليهم يطلبون مالا و ثيابا فأرسلوه إليهم- فساروا عنهم فقصدوا الكرج- و قد أعدوا لهم- فلما صافوهم هرب الكرج و أخذهم السيف- فلم يسلم إلا الشريد- و نهبت بلادهم و أخربت- و لم يوغل التتار في بلاد الكرج- لكثرة مضايقها و دربنداتها- فقصدوا دربند شروان- فحصروا مدينة شماخي- و صعدوا سورها في السلاليم- و ملكوا البلد بعد حرب شديدة- و قتلوا فيه فأكثروا- .

فلما فرغوا أرادوا عبور الدربند- فلم يقدموا عليه- فأرسلوا إلى شروانشاه ملك الدربند- فطالبوه بإنفاذ رسول يسعى بينه و بينهم في الصلح- فأرسل إليهم عشرة من ثقاته- فلما وصلوا إليهم جمعوهم- ثم قتلوا واحدا منهم بحضور الباقين- و قالوا للتسعة إن أنتم عرفتمونا طريقا نعبر فيه فلكم الأمان- و إلا قتلناكم كما قتلنا صاحبكم- فقالوا لهم لا طريق في هذا الدربند- و لكن نعرفكم موضعا- هو أسهل المواضع لعبور الخيل- .

و ساروا بين أيديهم إليه- فعبروا الدربند و تركوه وراء ظهورهم- و ساروا في تلك البلاد- و هي مملوءة من طرائق مختلفة- منهم اللان و اللكر و أصناف من الترك- فنهبوها و قتلوا الكثير من ساكنيها- و رحلوا إلى اللان و هم أمم كثيرة- و قد وصلهم خبرهم و جمعوا و حذروا- و انضاف إليهم جموع من قفجاق- فقاتلوهم فلم يظفر أحد العسكرين بالآخر- فأرسل التتار إلى قفجاق- أنتم إخواننا و جنسنا واحد- و اللان ليسوا من جنسكم لتنصروهم- و لا دينهم دينكم- و نحن نعاهدكم ألا نعرض لكم- و نحمل إليكم من المال- و الثياب ما يستقر بيننا و بينكم- على أن تنصرفوا إلى بلادكم- .

فاستقر الأمر بينهم على مال و ثياب- حملها التتار إليهم- و فارقت قفجاق اللان- فأوقع التتار باللان فقتلوهم- و نهبوا أموالهم و سبوا نساءهم- فلما فرغوا منهم ساروا إلى بلاد قفجاق- و هم آمنون متفرقون- لما استقر بينهم و بين التتار من الصلح- فلم يشعروا بهم إلا و قد طرقوهم- و دخلوا بلادهم فأوقعوا بهم الأول فالأول- و أخذوا منهم أضعاف ما حملوا إليهم- و سمع ما كان بعيد الدار من قفجاق بما جرى- .
ففروا عن غير قتال فأبعدوا- فبعضهم بالغياض و بعضهم بالجبال- و بعضهم لحقوا ببلاد الروس- و أقام التتار في بلاد قفجاق- و هي أرض كثيرة المراعي في الشتاء- و فيها أيضا أماكن باردة في الصيف كثيرة المراعي- و هي غياض على ساحل البحر- .

ثم سارت طائفة منهم إلى بلاد الروس- و هي بلاد كثيرة عظيمة و أهلها نصارى- و ذلك في سنة عشرين و ستمائة- فاجتمع الروس و قفجاق عن منعهم عن البلاد- فلما قاربهم التتار و عرفوا اجتماعهم- رجعوا القهقرى إيهاما للروس- أن ذلك عن خوف و حذر- فجدوا في اتباعهم- و لم يزل التتار راجعين- و أولئك يقفون آثارهم اثني عشر يوما- .

ثم رجعت التتار على الروس و قفجاق- فأثخنوا فيهم قتلا و أسرا- و لم يسلم منهم إلا القليل- و من سلم نزل في المراكب- و خرج في البحر إلى الساحل الشامي- و غرق بعض المراكب- . و هذه الوقائع كلها تولاها التتر المغربة- الذين قادهم جرماغون- فأما ملكهم الأكبر جنكزخان- فإنه كان في هذه المدة بسمرقند ما وراء النهر- فقسم أصحابه أقساما- فبعث قسما منهم إلى فرغانة و أعمالها فملكوها- و بعث قسما آخر إلى ترمذ و ما يليها فملكوها- و بعث قسما آخر إلى بلخ- و ما يليها من أعمال خراسان- فأما بلخ فإنهم أمنوا أهلها- و لم يتعرضوا لها بنهب و لا قتل- و جعلوا فيها شحنة- و كذلك فارياب و كثير من المدن- إلا أنهم أخذوا أهلها- يقاتلون بهم من يمتنع عليهم- حتى وصلوا إلى الطالقان و هي عدة بلاد- و فيها قلعة حصينة و بها رجال أنجاد- فأقاموا على حصارها شهورا فلم يفتحوها- فأرسلوا إلى جنكزخان يعرفونه عجزهم عنها- فسار بنفسه و عبر جيحون- و معه من الخلائق ما لا يحصى- فنزل على هذه القلعة- و بنى حولها شبه قلعة أخرى من طين و تراب و خشب و حطب- و نصب عليها المنجنيقات- و رمى القلعة بها فلما رأى أهلها ذلك فتحوها- و خرجوا و حملوا حملة واحدة- فقتل منهم من قتل و سلم من سلم- و خرج السالمون فسلكوا تلك الجبال و الشعاب- ناجين بأنفسهم و دخل التتار القلعة- فنهبوا الأموال و الأمتعة- و سبوا النساء و الأطفال- .

ثم سير جنكزخان جيشا عظيما- مع أحد أولاده إلى مدينة مرو- و بها مائتا ألف من المسلمين- فكانت بين التتار- و بينهم حروب عظيمة شديدة- صبر فيها المسلمون ثم انهزموا- و دخلوا البلد و أغلقوا أبوابه- فحاصره التتار حصارا طويلا- ثم أمنوا متقدم البلد- فلما خرج إليهم في الأمان- خلع عليه ابن جنكزخان و أكرمه- و عاهده ألا يتعرض لأحد من أهل مرو- ففتح الناس الأبواب- فلما تمكنوا منهم- استعرضوهم بالسيف عن آخرهم- فلم يبقوا منهم باقية- بعد أن استصفوا أرباب الأموال- عقيب عذاب شديد عذبوهم به- .

ثم ساروا إلى نيسابور- ففعلوا به ما فعلوا بمرو من القتل و الاستئصال- ثم عمدوا إلى طوس- فنهبوها و قتلوا أهلها- و أخرجوا المشهد الذي به علي بن موسى الرضا ع- و الرشيد هارون بن المهدي- و ساروا إلى هراة فحصروها- ثم أمنوا أهلها- فلما فتحوها قتلوا بعضهم- و جعلوا على الباقين شحنة- فلما بعدوا وثب أهل هراة على الشحنة فقتلوه- فعاد عليهم عسكر من التتار- فاستعرضوهم بالسيف- فقتلوهم عن آخرهم- . ثم عادوا إلى طالقان- و بها ملكهم الأكبر جنكزخان- فسير طائفة منهم إلى خوارزم- و جعل فيها مقدم أصحابه و كبراءهم- لأن خوارزم حينئذ كانت مدينة الملك- و بها عسكر كثير من الخوارزمية- و عوام البلد معروفون بالبأس و الشجاعة- فساروا و وصلوا إليها فالتقى الفئتان- و اقتتلوا أشد قتال سمع به- و دخل المسلمون البلد- و حصرتهم التتار خمسة أشهر- و أرسل التتار إلى جنكزخان يطلبون المدد- فأمدهم بجيش من جيوشه- فلما وصل قويت منتهم به- و زحفوا إلى البلد زحفا متتابعا فملكوا طرفا منه- و ولجوا المدينة فقاتلهم المسلمون داخل البلد- فلم يكن لهم به طاقة- فملكوه و قتلوا كل من فيه- فلما فرغوا منه و قضوا- وطرهم من القتل و النهب- فتحوا السكر الذي يمنعماء جيحون عن خوارزم- فدخل الماء البلد فغرق كله- و انهدمت الأبنية فبقي بحرا- و لم يسلم من أهل خوارزم أحد البتة- فإن غيره من البلاد كان يسلم نفر يسير من أهلها- و أما خوارزم فمن وقف للسيف قتل- و من استخفى غرقه الماء أو أهلكه الهدم- فأصبحت خوارزم يبابا- .

فلما فرغ التتر من هذه البلاد- سيروا جيشا إلى غزنة- و بها حينئذ جلال الدين منكبري بن محمد خوارزمشاه مالكها- و قد اجتمع إليه من سلم من عسكر أبيه و غيرهم- فكانوا نحو ستين ألفا- و كان الجيش الذي سار إليهم التتار اثني عشر ألفا- فالتقوا في حدود غزنة- و اقتتلوا قتالا شديدا ثلاثة أيام- ثم أنزل الله النصر على المسلمين- فانهزم التتر و قتلهم المسلمون- كيف شاءوا و تحيز الناجون منهم إلى الطالقان- و بها جنكزخان و أرسل جلال الدين إليه رسولا- يطلب منه أن يعين موضعا للحرب- فاتفقوا على أن يكون الحرب بكابل- فأرسل جنكزخان إليها جيشا- و سار جلال الدين إليها بنفسه و تصافوا هناك- فكان الظفر للمسلمين- و هرب التتار فالتجئوا إلى الطالقان- و جنكزخان مقيم بها أيضا- و غنم المسلمون منهم غنائم عظيمة- فجرت بينهم فتنة عظيمة في الغنائم- و ذلك- لأن أميرا من أمرائهم اسمه بغراق- كان قد أبلي في حرب التتر هذه- جرت بينه و بين أمير- يعرف بملك خان نسيب خوارزمشاه مقاولة- أفضت إلى أن قتل أخ لبغراق- فغضب و فارق جلال الدين في ثلاثين ألفا- فتبعه جلال الدين و استرضاه و استعطفه- فلم يرجع فضعف جانب جلال الدين بذلك- فبينا هو كذلك وصله الخبر- أن جنكزخان قد سار إليه من الطالقان بنفسه و جيوشه- فعجز عن مقاومته- و علم أنه لا طاقة له به- فسار نحو بلاد الهند و عبر نهر السند- و ترك غزنة شاغرة كالفريسة للأسد- فوصل إليهاجنكزخان فملكها- و قتل أهلها و سبى نساءها- و أخرب القصور و تركها كأمس الغابر- .

ثم كانت لهم بعد ملك غزنة و استباحتها- وقائع كثيرة مع ملوك الروم بني قلج‏أرسلان- لم يوغلوا فيها في البلاد- و إنما كانوا يتطرقونها- و ينهبون ما تاخمهم منها- و أذعن لهم ملوك فارس و كرمان و التيز و مكران بالطاعة- و حملوا إليهم الإتاوة- و لم يبق في البلاد الناطقة باللسان الأعجمي بلد- إلا حكم فيه سيفهم أو كتابهم- فأكثر البلاد قتلوا أهلها- و سبق السيف فيهم العذل- و الباقي أدى الإتاوة إليهم رغما- و أعطى الطاعة صاغرا- و رجع جنكزخان إلى ما وراء النهر و توفي هناك- .

و قام بعده ابنه قاآن مقامه- و ثبت جرماغون في مكانه بأذربيجان- و لم يبق لهم إلا أصبهان- فإنهم نزلوا عليها مرارا- في سنة سبع و عشرين و ستمائة و حاربهم أهلها- و قتل من الفريقين مقتلة عظيمة- و لم يبلغوا منها غرضا- حتى اختلف أهل أصبهان- في سنة ثلاث و ثلاثين و ستمائة و هم طائفتان- حنفية و شافعية- و بينهم حروب متصلة و عصبية ظاهرة- فخرج قوم من أصحاب الشافعي- إلى من يجاورهم و يتاخمهم من ممالك التتار- فقالوا لهم اقصدوا البلد حتى نسلمه إليكم- فنقل ذلك إلى قاآن بن جنكزخان بعد وفاة أبيه- و الملك يومئذ منوط بتدبيره- فأرسل جيوشا من المدينة المستجدة- التي بنوها و سموها قراحرم- فعبرت جيحون مغربة- و انضم إليها قوم ممن أرسله- جرماغون على هيئة المدد لهم- فنزلوا على أصفهان- في سنة ثلاث و ثلاثين المذكورة و حصروها- فاختلف سيفا الشافعية و الحنفية في المدينة- حتى قتل كثير منهم- و فتحت أبواب المدينة- و فتحها الشافعية على عهد بينهم- و بين التتار أن يقتلوا الحنفية- و يعفوا عن الشافعية- فلما دخلوا البلد بدءوا بالشافعية- فقتلوهم قتلا ذريعا- و لم يقفوا مع العهد الذي عهدوه لهم- ثم قتلوا الحنفية ثم قتلوا سائر الناس- و سبوا النساء و شقوا بطون الحبالى- و نهبوا الأموال و صادروا الأغنياء- ثم أضرموا النار فأحرقوا أصبهان- حتى صارت تلولا من الرماد- .

فلما لم يبق لهم بلد من بلاد العجم- إلا و قد دوخوه- صمدوا نحو إربل في سنة أربع و ثلاثين و ستمائة- و قد كانوا طرقوها مرارا- و تحيفوا بعض نواحيها فلم يوغلوا فيها- و الأمير المرتب بها يومئذ باتكين الرومي- فنزل عليها في ذي القعدة- من هذه السنة منهم نحو ثلاثين ألف فارس- أرسلهم جرماغون- و عليهم مقدم كبير من رؤسائهم يعرف بجكتاي- فغاداها القتال و رواحها- و بها عسكر جم من عساكر الإسلام- فقتل من الفريقين خلق كثير- و استظهر التتار و دخلوا المدينة- و هرب الناس إلى القلعة- فاعتصموا بها و حصرهم التتار- و طال الحصار حتى هلك الناس في القلعة عطشا- و طلب باتكين منهم- أن يصالحوه عن المسلمين بمال يؤديه إليهم- فأظهروا الإجابة- فلما أرسل إليهم ما تقرر بينهم و بينه- أخذوا المال و غدروا به- و حملوا على القلعة بعد ذلك حملات عظيمة- و زحفوا إليها زحفا متتابعا- و علقوا عليها المنجنيقات الكثيرة- و سير المستنصر بالله الخليفة جيوشه- مع مملوكه و خادم حضرته- و أخص مماليكه به شرف الدين إقبال الشرامي- فساروا إلى تكريت- فلما عرف التتر شخوصهم رحلوا عن إربل- بعد أن قتلوا منها ما لا يحصى- و أخربوها و تركوها كجوف حمار- و عادوا إلى تبريز و بها مقام جرماغون- و قد جعلها دار ملكه- .

فلما رحلوا عن إربل- عاد العسكر البغدادي إلى بغداد- و كانت للتتار بعد ذلك نهضات و سرايا كثيرة إلى بلاد الشام- قتلوا و نهبوا و سبوا فيها- حتى انتهت خيولهم إلى حلب فأوقعوا بها- و صانعهم عنها أهلها و سلطانها- ثم عمدوا إلى بلاد كيخسرو صاحب الروم- و ذلك بعد أن هلك جرماغون- و قام عوضه المعروف ببابايسيجو- و كانقد جمع لهم ملك الروم قضه و قضيضه- و جيشه و لفيفه- و استكثر من الأكراد العتمرية- و من عساكر الشام و جند حلب- فيقال إنه جمع مائة ألف فارس و راجل- فلقيه التتار في عشرين ألفا- فجرت بينه و بينهم حروب شديدة- قتلوا فيها مقدمته- و كانت المقدمة كلها أو أكثرها من رجال حلب- و هم أنجاد أبطال فقتلوا عن آخرهم- و انكسر العسكر الرومي- و هرب صاحب الروم حتى انتهى إلى قلعة له- على البحر تعرف بأنطاكية- فاعتصم بها و تمزقت جموعه- و قتل منهم عدد لا يحصى- و دخلت التتار إلى المدينة المعروفة بقيسارية- ففعلوا فيها أفاعيل منكرة- من القتل و النهب و التحريق- و كذلك بالمدينة المعروفة بسيواس و غيرها- من كبار المدن الرومية- و بخع لهم صاحب الروم بالطاعة- و أرسل إليهم يسألهم قبول المال و المصانعة- فضربوا عليه ضريبة يؤديها إليهم كل سنة- و رجعوا عن بلاده- .

و أقاموا على جملة السكون و الموادعة- للبلاد الإسلامية كلها- إلى أن دخلت سنة ثلاث و أربعين و ستمائة- فاتفق أن بعض أمراء بغداد- و هو سليمان بن برجم- و هو مقدم الطائفة المعروفة بالإيواء- و هي من التركمان قتل شحنة من شحنهم- في بعض قلاع الجبل يعرف بخليل بن بدر- فأثار قتله أن سار من تبريز عشرة آلاف غلام منهم- يطوون المنازل و يسبقون خبرهم- و مقدمهم المعروف بجكتاي الصغير- فلم يشعر الناس ببغداد إلا و هم على البلد- و ذلك في شهر ربيع الآخر- من هذه السنة في فصل الخريف- و قد كان الخليفة المستعصم بالله- أخرج عسكره إلى ظاهر سور بغداد- على سبيل الاحتياط- و كان التتر قد بلغهم ذلك إلا أن جواسيسهم غرتهم- و أوقعت في أذهانهم- أنه ليس خارج السور إلا خيام مضروبة- و فساطيط مضروبة لا رجال تحتها- و أنكم متى أشرفتم عليهم ملكتم سوادهم و ثقلهم- و يكون قصارى أمر قوم قليلين تحتها- أن ينهزموا إلى البلد- و يعتصموا بجدرانه- فأقبلتالتتر على هذا الظن- و سارت على هذا الوهم- فلما قربوا من بغداد- و شارفوا الوصول إلى المعسكر- أخرج المستعصم بالله الخليفة مملوكه- و قائد جيوشه شرف الدين إقبالا الشرابي إلى ظاهر السور- و كان خروجه في ذلك اليوم- من لطف الله تعالى بالمسلمين- فإن التتار لو وصلوا و هو بعد لم يخرج لاضطرب العسكر- لأنهم كانوا يكونون بغير قائد و لا زعيم- بل كل واحد منهم أمير نفسه و آراؤهم مختلفة- لا يجمعهم رأي واحد- و لا يحكم عليها حاكم واحد- فكانوا في مظنة الاختلاف و التفرق- و الاضطراب و التشتت- فكان خروج شرف الدين إقبال الشرابي- في اليوم السادس عشر من هذا الشهر المذكور- و وصلت التتر إلى سور البلد في اليوم السابع عشر- فوقفوا بإزاء عساكر بغداد صفا واحدا- و ترتب العسكر البغدادي ترتيبا منتظما- و رأى التتر من كثرتهم- و جودة سلاحهم و عددهم و خيولهم- ما لم يكونوا يظنونه و لا يحسبونه- و انكشف ذلك الوهم- الذي أوهمهم جواسيسهم عن الفساد و البطلان- .

و كان مدبر أمر الدولة و الوزارة في هذا الوقت- هو الوزير مؤيد الدين محمد بن أحمد بن العلقمي- و لم يحضر الحرب- بل كان ملازما ديوان الخلافة بالحضرة- لكنه كان يمد العسكر الإسلامي من آرائه و تدبيراته- بما ينتهون إليه و يقفون عنده- فحملت التتار على عسكر بغداد حملات متتابعة- ظنوا أن واحدة منها تهزمهم- لأنهم قد اعتادوا أنه لا يقف عسكر- من العساكر بين أيديهم- و أن الرعب و الخوف منهم يكفي- و يغني عن مباشرتهم الحرب بأنفسهم- فثبت لهم عسكر بغداد أحسن ثبوت- و رشقوهم بالسهام و رشقت التتار أيضا بسهامها- و أنزل الله سكينته على عسكر بغداد- و أنزل بعد السكينة نصره- فما زال العسكر البغدادي تظهر عليه أمارات القوة- و تظهر على التتار أمارات الضعف و الخذلان- إلى أن حجز الليل بين الفريقين- و لم يصطدم الفيلقان- و إنماكانت مناوشات و حملات خفيفة- لا تقتضي الاتصال و الممازجة- و رشق بالنشاب شديد- .

فلما أظلم الليل أوقد التتار نيرانا عظيمة- و أوهموا أنهم مقيمون عندها- و ارتحلوا في الليل راجعين إلى جهة بلادهم- فأصبح العسكر البغدادي- فلم ير منهم عينا و لا أثرا- و ما زالوا يطوون المنازل- و يقطعون القرى عائدين- حتى دخلوا الدربند و لحقوا ببلادهم- . و كان ما جرى من دلائل النبوة- لأن الرسول ص وعد هذه الملة- بالظهور و البقاء إلى يوم القيامة- و لو حدث على بغداد منهم حادثة- كما جرى على غيرها من البلاد- لانقرضت ملة الإسلام و لم يبق لها باقية- . و إلى أن بلغنا من هذا الشرح إلى هذا الموضع- لم يذعر العراق منهم ذاعر بعد تلك النوبة التي قدمنا ذكرها- .

قلت و قد لاح لي من فحوى كلام أمير المؤمنين ع- أنه لا بأس على بغداد و العراق منهم- و أن الله تعالى يكفي هذه المملكة شرهم- و يرد عنها كيدهم- و ذلك من قوله ع- و يكون هناك استحرار قتل- فأتى بالكاف و هي إذا وقعت عقيب الإشارة أفادت البعد- تقول للقريب هنا و للبعيد هناك- و هذا منصوص عليه في العربية- و لو كان لهم استحرار قتل في العراق- لما قال هناك بل كان يقول هنا- لأنه ع خطب بهذه الخطبة في البصرة- و معلوم أن البصرة و بغداد شي‏ء واحد و بلد واحد- لأنهما جميعا من إقليم العراق- و ملكهما ملك واحد- فيلمح هذا الموضع فإنه لطيف- .

و كتبت إلى مؤيد الدين الوزير- عقيب هذه الوقعة التي نصر فيها الإسلام- و رجع التتر مخذولين ناكصين على أعقابهم- أبياتا أنسب إليه الفتح- و أشير إلى أنه هو الذي قام بذلك- و إن لم يكن حاضرا له بنفسه- و أعتذر إليه عن الإغباب بمديحه- فقد كانت الشواغل و القواطع تصد عن الانتصاب لذلك-

أبقى لنا الله الوزير و حاطه
بكتائب من نصره و مقانب‏

و امتد وارف ظله لنزيله‏
وصفت متون غديره للشارب‏

يا كالئ الإسلام إذ نزلت به
فرغاء تشهق بالنجيع السالب‏

في خطة بهماء ديمومية
لا يهدى فيها السليك للاحب‏

لا يمتطي سلساتها مرهوبة
الإبساس جلس لا تدر لعاصب‏

فرجت غمرتها بقلب ثابت‏
في حملة ذعرى و رأي ثاقب‏

ما غبت ذاك اليوم عن تدبيرها
كم حاضر يعصى بسيف الغائب‏

عمر الذي فتح العراق و إنما
سعد حسام في يمين الضارب‏

أثني عليك ثناء غير موارب
و أجيد فيك المدح غير مراقب‏

و أنا الذي يهواك حبا صادقا
متقادما و لرب حب كاذب‏

حبا ملأت به شعاب جوانحي
يفعا و ها أنا ذو عذار شائب‏

إن القريض و إن أغب متيم
بكم و رب مجانب كمواظب‏

و لقد يخالصك القصي و ربما
يمنى بود مماذق متقارب‏

سدت مسالكه هموم جعجعت
بالفكر حتى لا يبض لحالب‏

و من العناء مغلب في حظه‏
يبغي مغالبة القضاء الغالب‏

– و هي طويلة و إنما ذكرنا منها ما اقتضته الحال

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 8

Show More

دیدگاهتان را بنویسید

نشانی ایمیل شما منتشر نخواهد شد. بخش‌های موردنیاز علامت‌گذاری شده‌اند *

این سایت از اکیسمت برای کاهش هرزنامه استفاده می کند. بیاموزید که چگونه اطلاعات دیدگاه های شما پردازش می‌شوند.

Back to top button
-+=