و من كلام له عليه السّلام لما عوتب على التسوية في العطاء
أَ تَأْمُرُونِّي أَنْ أَطْلُبَ النَّصْرَ بِالْجَوْرِ- فِيمَنْ وُلِّيتُ عَلَيْهِ- وَ اللَّهِ لَا أَطُورُ بِهِ مَا سَمَرَ سَمِيرٌ- وَ مَا أَمَّ نَجْمٌ فِي السَّمَاءِ نَجْماً- لَوْ كَانَ الْمَالُ لِي لَسَوَّيْتُ بَيْنَهُمْ- فَكَيْفَ وَ إِنَّمَا الْمَالُ مَالُ اللَّهِ- أَلَا وَ إِنَّ إِعْطَاءَ الْمَالِ فِي غَيْرِ حَقِّهِ تَبْذِيرٌ وَ إِسْرَافٌ- وَ هُوَ يَرْفَعُ صَاحِبَهُ فِي الدُّنْيَا- وَ يَضَعُهُ فِي الْآخِرَةِ- وَ يُكْرِمُهُ فِي النَّاسِ وَ يُهِينُهُ عِنْدَ اللَّهِ- وَ لَمْ يَضَعِ امْرُؤٌ مَالَهُ فِي غَيْرِ حَقِّهِ وَ لَا عِنْدَ غَيْرِ أَهْلِهِ- إِلَّا حَرَمَهُ اللَّهُ شُكْرَهُمْ- وَ كَانَ لِغَيْرِهِ وُدُّهُمْ- فَإِنْ زَلَّتْ بِهِ النَّعْلُ يَوْماً- فَاحْتَاجَ إِلَى مَعُونَتِهِمْ فَشَرُّ خَلِيلٍ- وَ أَلْأَمُ خَدِينٍ
اللغة
أقول: لا أطور به: أى لا أقرّبه. و السمير: الدهر. يقال: لا أفعله ما سمر سمير: أى الدهر كلّه، و كذلك لا أفعله ما سمر ابنا سمير: أى الدهر كلّه، و ابناه: الليل و النهار. و الخدين: الصديق.
المعنى
و التسوية في العطاء من سنّة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و كان أبو بكر كذلك على تلك السنّة فلمّا فضّل من بعدهما أهل السابقة و الشرف في العطاء على غيرهم اعتاد المفضّلون بذلك إلى زمانه عليه السّلام و لمّا كان سالكا مسالك الرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و مقتفيا أثر سنّته لم يمكنه إلّا التسوية فطلب المفضّلون عادتهم من التفضيل عند ولايته لهذا الأمر فقال الكلام.
فقوله: أتامرونىّ أن أطلب النصر بالجور، جواب لمن أشار عليه بالتفضيل، و كأنّ المشير قال له: إن فضّلت هؤلاء كانوا معك بقلوبهم و نصروك. فأجابهم بذلك. و الجور: العدول عن سبيل اللّه بالتفضيل حيث كان خارجا عن سنّة الرسول. ثمّ أقسم أنّه لا يقرب التفضيل أبدا، و أنّ المال لو كان له لكان من العدل أن يسوّى بينهم فيه فكيف و المال للّه و لهم، و وجه ذلك أنّ التسوية هى العدل الّذي تجتمع به النفوس على النصرة و تتألّف الهمم على مقاومة العدوّ دون التفضيل المستلزم لانكسار قلوب المفضولين مع كثرتهم. فلو كان المال له مع كونه بطباع البشريّة الميّالة إلى شخص دون شخص لم يسوّ بينهم فكيف و المال للّه الّذى تساوى نسبة الخلق إليه و ما لهم الّذى فرضه اللّه لهم على سواء، و هو كالاعتذار الحاسم لمادّة الطمع في التفضيل. ثمّ نبّه على قبح وضع المال في غير أهله و على غير وجهه. و غير أهله: هم غير المفروض لهم، و غير وجهه: غير حقّه الّذى يفرضه الشارع، و أشار إلى وجوه المفاسد ففى غير أهله تبذير، و في غير وجهه إسراف، و عرفت أنّهما طرفا الإفراط و التفريط من فضيلة السخاء.
و قوله: يرفع صاحبه في الدنيا. أى يحصل له بالتبذير ذكر الكرم بين العوامّ و الغاغة، و من لا يعرف حقيقة الكرم، و يضعه في الآخرة. إذ كان به على رذيلة، و كذلك يكرمه عند الناس و يهينه عند اللّه، و أمّا حكمه عليه السّلام بأنّ الواضع لماله في غير حقّه و عند غير أهله محروم شكرهم و لغيره ودّهم و على تقدير وقوع الزلّة منه الّتى يحتاج فيها إلى مساعدتهم يتقاعدون عنه فذلك أمر يحصل بالاستقراء و ربّما بلغ التجربة، و أمّا سرّ ذلك فيحتمل أن يكون لأنّهم لمّا كانوا غير أهل لوضع المعروف لم يكونوا أهلا للاعتراف به إمّا لجهلهم و غفلتهم أو لاعتقادهم أنّ المسدى إليهم غير أهل لشكرهم، و أنّهم على مرتبته و أحقّ بالمال منه. و أكثر ما يكون عدم الشكر من هؤلاء لنظر كلّ منهم إلى أنّ غيره من المسدى إليه غير أهل، و أنّه هو أحقّ فيرى نفسه دائما مبخوس الحظّ من باذل المعروف فلا يزال متسخّطا عاتبا عليه ذامّا للزمان، و حينئذ لا يتحقّق اعترافه بنعمة الباذل فإذا أصابه من غيره أدنى معروف أو لم يصبه بل سمع مدح أحد و شكر الناس له ساعد على مدحه و أظهر فضله، و قال: إنّه ممّن يضع المعروف في أهله فيكون ذلك كالمستنهض لهمة الباذل أو كالمزرى عليه و المغاير له، و كنّى بزلّ النعل عن خطائه و عثاره في المصائب. و باللّه التوفيق.
شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 3 ، صفحهى 131