و من كلام له عليه السّلام في التحكيم
إِنَّا لَمْ نُحَكِّمِ الرِّجَالَ- وَ إِنَّمَا حَكَّمْنَا الْقُرْآنَ هَذَا الْقُرْآنُ- إِنَّمَا هُوَ خَطٌّ مَسْطُورٌ بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ- لَا يَنْطِقُ بِلِسَانٍ وَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ تَرْجُمَانٍ- وَ إِنَّمَا يَنْطِقُ عَنْهُ الرِّجَالُ- وَ لَمَّا دَعَانَا الْقَوْمُ- إلَى أَنْ نُحَكِّمَ بَيْنَنَا الْقُرْآنَ- لَمْ نَكُنِ الْفَرِيقَ الْمُتَوَلِّيَ- عَنْ كِتَابِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى- وَ قَدْ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ- فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَ الرَّسُولِ- فَرَدُّهُ إِلَى اللَّهِ أَنْ نَحْكُمَ بِكِتَابِهِ- وَ رَدُّهُ إِلَى الرَّسُولِ أَنْ نَأْخُذَ بِسُنَّتِهِ- فَإِذَا حُكِمَ بِالصِّدْقِ فِي كِتَابِ اللَّهِ- فَنَحْنُ أَحَقُّ النَّاسِ بِهِ- وَ إِنْ حُكِمَ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ ص- فَنَحْنُ أَوْلَاهُمْ بِهِ- وَ أَمَّا قَوْلُكُمْ- لِمَ جَعَلْتَ بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُمْ أَجَلًا فِي التَّحْكِيمِ- فَإِنَّمَا فَعَلْتُ ذَلِكَ لِيَتَبَيَّنَ الْجَاهِلُ- وَ يَتَثَبَّتَ الْعَالِمُ- وَ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ فِي هَذِهِ الْهُدْنَةِ- أَمْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ- وَ لَا تُؤْخَذَ بِأَكْظَامِهَا- فَتَعْجَلَ عَنْ تَبَيُّنِ الْحَقِّ- وَ تَنْقَادَ لِأَوَّلِ الْغَيِّ- إِنَّ أَفْضَلَ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ- مَنْ كَانَ الْعَمَلُ بِالْحَقِّ أَحَبَّ إِلَيْهِ- وَ إِنْ نَقَصَهُ وَ كَرَثَهُ مِنَ الْبَاطِلِ- وَ إِنْ جَرَّ إِلَيْهِ فَائِدَةً وَ زَادَهُ- فَأَيْنَ يُتَاهُ بِكُمْ- وَ مِنْ أَيْنَ أُتِيتُمْ- اسْتَعِدُّوا لِلْمَسِيرِ إِلَى قَوْمٍ حَيَارَى- عَنِ الْحَقِّ لَا يُبْصِرُونَهُ- وَ مُوزَعِينَ بِالْجَوْرِ لَا يَعْدِلُونَ بِهِ- جُفَاةٍ عَنِ الْكِتَابِ- نُكُبٍ عَنِ الطَّرِيقِ- مَا أَنْتُمْ بِوَثِيقَةٍ يُعْلَقُ بِهَا- وَ لَا زَوَافِرَ عِزٍّ يُعْتَصَمُ إِلَيْهَا- لَبِئْسَ حُشَّاشُ نَارِ الْحَرْبِ أَنْتُمْ- أُفٍّ لَكُمْ- لَقَدْ لَقِيتُ مِنْكُمْ بَرْحاً يَوْماً أُنَادِيكُمْ- وَ يَوْماً أُنَاجِيكُمْ- فَلَا أَحْرَارُ صِدْقٍ عِنْدَ النِّدَاءِ- وَ لَا إِخْوَانُ ثِقَةٍ عِنْدَ النَّجَاءِ
أقول: هذا الفصل من كلام له بعد سماعه لأمر الحكمين و خدعة عمرو بن العاص لأبى موسى.
اللغة
كرثه الأمر. اشتدّ عليه. و أوزع له بكذا فهو موزع: إذا أغرى به. و نكّب بتشديد الكاف: جمع ناكب و هو العادل عن الطريق كباذل و بذّل. و زوافر الرجل: أنصاره و عشيرته. و الحشّاش: جمع حاشّ و هو موقد النار، و كذلك الحشاش بكسر الحاء و تخفيف الشين كنائم و نوّام و نيام، و قيل: هو ما يحشّ به النار: أى يوقد.
و البرح بسكون الراء: الشدّة و الأذى. يقال: لقيت منه برحا بارحا، و روى ترحا و هو الحزن.
المعنى
و هذا الفصل من أوله. إلى قوله: أولاهم به. جواب له عن شبهة التحكيم للخوارج عن أمره بالحرب بعد أن رضى بالتحكيم. و تقدير الشبهة أنّك رضيت بتحكيم رجلين في هذا الأمر و عاهدت على ذلك، و كلّ من رضى بأمر و عاهد عليه فليس له أن ينقض عهده. فقدح في صغرى هذه الشبهة بقوله: إنّا لم نحكّم الرجال:
أى لكونها رجالا، و إنّما حكّمنا القرآن لكن لمّا كان القرآن لابدّ له من ترجمان يبيّن مقاصده، و دعانا القوم إلى حكم القرآن و لم نكن نحن الفريق الكاره لكتاب اللّه، المتولّى عنه بعد أمره تعالى بالرجوع إليه و إلى رسوله في الكتاب و السنّة فيما اشتبه أمره بقوله «فَإِنْ تَنازَعْتُمْ» الآية. فإذا حكم بالصدق عن علم بكتابه فنحن أحقّ الناس به: أى أولاهم باتّباعه و أولاهم بأن ينصّ على كون الأمر لنا كما في قوله تعالى «وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ». إلى قوله: «وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ»«» و ظاهر كون اولئك بعد عقد الإمامة بغاة عليه فوجب بنصّ الكتاب قتالهم، و كذلك الآيات الدالّة على وجوب الوفاء بالعهود و العقود و كان هو أولى بالحقّ الّذى يجب قتالهم عليه فكان الحاكم لهم مخطئا مخالفا لكتاب اللّه غير عامل به فوجبت مخالفة حكمه، و إن حكم بسنّة رسول اللّه فنحن أولى الناس برسول اللّه للقرابة و للعمل بسنّته لموافقتها الكتاب و نصّه على وجوب متابعة الإمام العادل فكان الحاكم لغيره مخالفا للسنّة أيضا. فصارت خلاصة هذا الجواب أنّا لم نرض بتحكيم الرجلين و لكن بتقدير حكمهما بكتاب اللّه الّذى هما ترجمان عنه و هو الحاكم الّذي دعانا الخصم إليه و حيث خالفاه لم يجب علينا قبول قولهما.
و قوله: و أمّا قولكم. إلى قوله: لأوّل الغيّ. فتقدير سؤال آخر لهم مع جوابه، و ذلك أنّهم حين اتّفقوا على التحكيم كتبوا كتاب الصلح و ضربوا لحكم الحكمين أجلًا مدّة سنة، و صورة الكتاب: هذا ما تقاضى عليه علىّ بن ابي طالب و معاوية بن أبى سفيان قاضى علىّ بن أبي طالب على أهل العراق و من كان معه من شيعته من المؤمنين و المسلمين، و قاضى معاوية بن أبى سفيان على أهل الشام و من كان من شيعته من المؤمنين و المسلمين إنّما ننزل عند حكم اللّه تعالى و كتابه و لا يجمع بيننا إلا إيّاه، و إنّ كتاب اللّه سبحانه بيننا من فاتحته إلى خاتمته نحيى ما أحيى القرآن و نميت ما أمات القرآن. فإن وجد الحكمان ذلك في كتاب اللّه اتّبعاه، و إن لم يجداه أخذا بالسنّة العادلة غير المفرّقة،و الحكمان عبد اللّه و عمرو بن العاص، و قد أخذ الحكمان من علىّ و معاوية و من الجندين أنّهما آمنان على أنفسهما و أموالهما و الامّة لهما أنصار، و على الّذى يقضيان عليه و على المؤمنين و المسلمين من الطائفتين عهد اللّه أن يعمل بما يقضيان عليه ممّا وافق الكتاب و السنّة، و إنّ الأمن و الموادعة و وضع السلاح متّفق عليه بين الطائفتين إلى أن يقع الحكم، و على كلّ واحد من الحكمين عهد اللّه ليحكمنّ بين الأمّة بالحقّ لا بما يهوى، و أجل الموادعة سنة كاملة فإن أحبّ الحكمان أن يعجّلا الحكم عجّلاه، و إن توفّى أحدهما فلأمير شيعته أن يختار مكانه رجلا لا يألو الحقّ و العدل و إن توفّي أحد الأميرين كان نصب غيره إلى أصحابه ممّن يرتضون أمره و يحمدون طريقته. اللّهم إنّا نستنصرك على من ترك ما في هذه الصحيفة و أراد فيها إلحادا و ظلما.
و شهد فيه من أصحاب علىّ عليه السّلام عشرة، و من أصحاب معاوية عشرة. فذلك معنى الأجل في التحكيم. و تقدير هذا السؤال إنّك حين رضيت بالتحكيم لم ضربت بينك و بينهم أجلا، و ما الحكمة في ذلك. فأجاب إنّما فعلت ذلك ليتبيّن الجاهل: أى في وجه الحقّ، و يتثبّت العالم: أى في أمره بحيث يخلص من الشبهة، و رجاء إصلاح هذه الامّة بهذا الصلح. و قوله: و لا تؤخذ بأكظامها فتعجل. إلى آخره. فعبّر بأخذ الكظم عن الأخذ بغتة و على غرّة، و هؤلاء القوم لمّا أخذوا لأوّل شبهة عرضت من رفع المصاحف و هو أوّل الغىّ و لم يتثبّتوا في أمرهم أشبهوا من اخذ بمجرى نفسه فلم يتمكّن من الاستراحة إلى التنفيس فاستعير وصف الكظم لهم. و قوله: إنّ أفضل الناس. إلى قوله: و زاده. جذب إلى الحقّ و إن أدّى إلى الغاية المذكورة و تنفير عن الباطل و إن استلزم الغاية المذكورة بذكر الأفضليّة عند اللّه.
و قوله: من الباطل. متعلّق بأحبّ إليه.
و قوله: و إن نقصه و كرثه.
اعتراض بينهما. و الحكم في هذه القضيّة ظاهر الصدق. إذ كان ملازم الحقّ أتقى الخلق، و الأتقى أفضل عند اللّه تعالى كما قال تعالى «إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ»«». و قوله: فأين يتاه بكم يريد إلى أىّ غاية يكون هذا التيه الّذى أخذتم فيه، و فيه تنبيه على أنّ ذلك التيه فعل الغير بهم. و من أين اتيتم: أى من أىّ وجه دخلت عليكم الشبهة. و يشبه هذا السؤال تجاهل العارف. إذ كان يعلم وجه الداخل عليهم. ثمّ أعقب ذلك التعنيف لهم بالأمر بالمسير إلى أهل الشام. و وصفهم بالحيرة عن الحقّ و العمى عنه و الإغراء بالجور عن طريق اللّه بحيث لا مثل للجور عندهم، و بجفاوة الطباع عن فهم كتاب اللّه و نبوء الأفهام عنه و بعدولهم عن طريقه كلّ ذلك إغراء بهم.
و قوله: ما أنتم بوثيقة: أى بعروة وثيقة. إلى آخره و هو عتاب لهم و تضجّر منهم على قلّة طاعته. و قوله: يوما اناديكم. أى أدعوكم إلى النصرة و أستغيث بكم، و يوما اناجيكم: أى اعاتبكم و اجادلكم على تقصيركم. و قوله فلا أحرار صدق عند النداء. لأنّ الحرّ من شأنه إجابة الداعى و الوفاء بالوعد و لستم كذلك، و لا إخوان ثقة عند النجاء لأنّ أخا الثقة إذا زلّ و عوتب من أخيه انعتب، و إذا أحوج و اعتذر إليه رجع إلى صفاء الاخوّة لمكان وثاقتها و لستم من ذلك في شيء. و باللّه التوفيق.
شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحرانی)، ج 3 ، صفحهى 131