115 و من خطبة له ع
أَرْسَلَهُ دَاعِياً إِلَى الْحَقِّ- وَ شَاهِداً عَلَى الْخَلْقِ- فَبَلَّغَ رِسَالَاتِ رَبِّهِ- غَيْرَ وَانٍ وَ لَا مُقَصِّرٍ- وَ جَاهَدَ فِي اللَّهِ أَعْدَاءَهُ- غَيْرَ وَاهِنٍ وَ لَا مُعَذِّرٍ- إِمَامُ مَنِ اتَّقَى وَ بَصَرُ مَنِ اهْتَدَى قوله و شاهدا على الخلق- أي يشهد على القوم الذين بعث إليهم- و شهد لهم فيشهد على العاصي بالعصيان و الخلاف- و يشهد للمطيع بالإطاعة و الإسلام- و هذا من قوله سبحانه و تعالى- فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ- وَ جِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً- و من قوله تعالى وَ كُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ- . فإن قلت إذا كان الله تعالى عالما بكل شيء- و مالكا لكل أحد- فأي حاجة إلى الشهادة- قلت ليس بمنكر أن يكون في ذلك- مصلحة للمكلفين في أديانهم- من حيث إنه قد تقرر في عقول الناس- أن من يقوم عليه شاهد بأمر منكر قد فعله- فإنه يخزىو يخجل و تنقطع حجته- فإذا طرق أسماعهم أن الأنبياء تشهد عليهم- و الملائكة الحافظين تكتب أعمالهم- كانوا عن مواقعة القبيح أبعد- .
و الواني الفاتر الكال- و الواهن الضعيف- . و المعذر الذي يعتذر عن تقصيره بغير عذر- قال تعالى وَ جاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ: مِنْهَا وَ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ مِمَّا طُوِيَ عَنْكُمْ غَيْبُهُ- إِذاً لَخَرَجْتُمْ إِلَى الصُّعُدَاتِ- تَبْكُونَ عَلَى أَعْمَالِكُمْ- وَ تَلْتَدِمُونَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ- وَ لَتَرَكْتُمْ أَمْوَالَكُمْ لَا حَارِسَ لَهَا- وَ لَا خَالِفَ عَلَيْهَا- وَ لَهَمَّتْ كُلَّ امْرِئٍ مِنْكُمْ نَفْسُهُ- لَا يَلْتَفِتُ إِلَى غَيْرِهَا- وَ لَكِنَّكُمْ نَسِيتُمْ مَا ذُكِّرْتُمْ- وَ أَمِنْتُمْ مَا حُذِّرْتُمْ- فَتَاهَ عَنْكُمْ رَأْيُكُمْ- وَ تَشَتَّتَ عَلَيْكُمْ أَمْرُكُمْ- وَ لَوَدِدْتُ أَنَّ اللَّهَ فَرَّقَ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ- وَ أَلْحَقَنِي بِمَنْ هُوَ أَحَقُّ بِي مِنْكُمْ- قَوْمٌ وَ اللَّهِ مَيَامِينُ الرَّأْيِ- مَرَاجِيحُ الْحِلْمِ- مَقَاوِيلُ بِالْحَقِّ- مَتَارِيكُ لِلْبَغْيِ- مَضَوْا قُدُماً عَلَى الطَّرِيقَةِ- وَ أَوْجَفُوا عَلَى الْمَحَجَّةِ- فَظَفِرُوا بِالْعُقْبَى الدَّائِمَةِ- وَ الْكَرَامَةِ الْبَارِدَةِ- أَمَا وَ اللَّهِ لَيُسَلَّطَنَّ عَلَيْكُمْ- غُلَامُ ثَقِيفٍ الذَّيَّالُ الْمَيَّالُ- يَأْكُلُ خَضِرَتَكُمْ- وَ يُذِيبُ شَحْمَتَكُمْ- إِيهٍ أَبَا وَذَحَةَ
قال الرضي رحمه الله تعالى- الوذحة الخنفساء- و هذا القول يومئ به إلى الحجاج- و له مع الوذحة حديث- ليس هذا موضع ذكره الصعيد التراب و يقال وجه الأرض- و الجمع صعد و صعدات كطريق و طرق و طرقات- و الالتدام ضرب النساء صدورهن في النياحة- و لا خالف عليها لا مستخلف- .
قوله و لهمت كل امرئ منكم نفسه- أي أذابته و أنحلته هممت الشحم أي أذبته- و يروى و لأهمت كل امرئ- و هو أصح من الرواية الأولى- أهمني الأمر أي أحزنني- . و تاه عن فلان رأيه أي عزب و ضل- . ثم ذكر أنه يود و يتمنى- أن يفرق الله بينه و بينهم- و يلحقه بالنبي ص- و بالصالحين من أصحابه- كحمزة و جعفر ع و أمثالهما- ممن كان أمير المؤمنين يثني عليه- و يحمد طريقته من الصحابة- فمضوا قدما- أي متقدمين غير معرجين و لا معردين- . و أوجفوا أسرعوا- و يقال غنيمة باردة و كرامة باردة- أي لم تؤخذ بحرب و لا عسف- و ذلك لأن المكتسب بالحرب جار في المعنى- لما يلاقي و يعاني في حصوله من المشقة- . و غلام ثقيف المشار إليه- هو الحجاج بن يوسف- و الذيال التائه- و أصله من ذال أي تبختر- و جر ذيله على الأرض و الميال الظالم- . و يأكل خضرتكم يستأصل أموالكم- و يذيب شحمتكم مثله- و كلتا اللفظتين استعارة- .
ثم قال له كالمخاطب لإنسان حاضر بين يديه- إيه أبا وذحة- إيه كلمه يستزاد بها من الفعل تقديره- زد و هات أيضا ما عندك- و ضدها إيها أي كف و أمسك- . قال الرضي رحمه الله- و الوذحة الخنفساء- و لم أسمع هذا من شيخ من أهل الأدب- و لا وجدته في كتاب من كتب اللغة- و لا أدري من أين نقل الرضي رحمه الله ذلك- ثم إن المفسرين بعد الرضي رحمه الله- قالوا في قصة هذه الخنفساء وجوها- منها أن الحجاج رأى خنفساء تدب إلى مصلاه- فطردها فعادت- ثم طردها فعادت- فأخذها بيده و حذف بها- فقرصته قرصا ورمت يده منها- ورما كان فيه حتفه- قالوا و ذلك لأن الله تعالى قتله بأهون مخلوقاته- كما قتل نمرود بن كنعان بالبقة التي دخلت في أنفه- فكان فيها هلاكه- .
و منها أن الحجاج كان إذا رأى خنفساء- تدب قريبة منه- يأمر غلمانه بإبعادها- و يقول هذه وذحة من وذح الشيطان- تشبيها لها بالبعرة- قالوا و كان مغرى بهذا القول- و الوذح ما يتعلق بأذناب الشاة من أبعارها فيجف- . و منها أن الحجاج قال و قد رأى خنفساوات مجتمعات- وا عجبا لمن يقول إن الله خلق هذه- قيل فمن خلقها أيها الأمير- قال الشيطان إن ربكم لأعظم شأنا- أن يخلق هذه الوذح- قالوا فجمعها على فعل كبدنة و بدن- فنقل قوله هذا إلى الفقهاء في عصره- فأكفروه- . و منها أن الحجاج كان مثفارا- و كان يمسك الخنفساء حية- ليشفى بحركتها في الموضع حكاكه- قالوا و لا يكون صاحب هذا الداء- إلا شائنا مبغضا لأهل البيت- قالوا و لسنا نقول كل مبغض فيه هذا الداء- و إنما قلنا كل من فيه هذا الداء فهو مبغض- .
قالوا و قد روى أبو عمر الزاهد- و لم يكن من رجال الشيعة- في أماليه و أحاديثه عن السياري عن أبي خزيمة الكاتب- قال ما فتشنا أحدا فيه هذا الداء- إلا وجدناه ناصبيا- . قال أبو عمر و أخبرني العطافي عن رجاله- قالوا سئل جعفر بن محمد ع عن هذا الصنف من الناس- فقال رحم منكوسة يؤتى و لا يأتي- و ما كانت هذه الخصلة في ولي لله تعالى قط- و لا تكون أبدا- و إنما تكون في الكفار و الفساق و الناصب للطاهرين- . و كان أبو جهل عمرو بن هشام المخزومي من القوم- و كان أشد الناس عداوة لرسول الله ص- قالوا و لذلك قال له عتبة بن ربيعة يوم بدر- يا مصفر استه- .
فهذا مجموع ما ذكره المفسرون- و ما سمعته من أفواه الناس في هذا الموضع- و يغلب على ظني أنه أراد معنى آخر- و ذلك أن عادة العرب أن تكني الإنسان- إذا أرادت تعظيمه بما هو مظنة التعظيم- كقولهم أبو الهول و أبو المقدام و أبو المغوار- فإذا أرادت تحقيره و الغض منه- كنته بما يستحقر و يستهان به- كقولهم في كنية يزيد بن معاوية- أبو زنة يعنون القرد- و كقولهم في كنية سعيد بن حفص البخاري المحدث أبو الفأر- و كقولهم للطفيلي أبو لقمة- و كقولهم لعبد الملك أبو الذبان لبخره- و كقول ابن بسام لبعض الرؤساء-
فأنت لعمري أبو جعفر
و لكننا نحذف الفاء منه
و قال أيضا
لئيم درن الثوب
نظيف القعب و القدر
أبو النتن أبو الدفر
أبو البعر أبو الجعر
فلما كان أمير المؤمنين ع يعلم- من حال الحجاج نجاسته بالمعاصي و الذنوب-التي لو شوهدت بالبصر- لكانت بمنزلة البعر الملتصق بشعر الشاء- كناه أبو وذحة- و يمكن أيضا أن يكنيه بذلك لدمامته في نفسه- و حقارة منظره و تشويه خلقته- فإنه كان قصيرا دميما نحيفا- أخفش العينين معوج الساقين- قصير الساعدين مجدور الوجه أصلع الرأس- فكناه بأحقر الأشياء و هو البعرة- . و قد روى قوم هذه اللفظة بصيغة أخرى- فقالوا إيه أبا ودجة- قالوا واحدة الأوداج- كناه بذلك لأنه كان قتالا يقطع الأوداج بالسيف- و رواه قوم أبا وحرة- و هي دويبة تشبه الحرباء قصيرة الظهر شبهه بها- . و هذا و ما قبله ضعيف- و ما ذكرناه نحن أقرب الصواب
شرح نهج البلاغة(ابن أبي الحديد) ج 7