113 و من خطبة له ع
الْحَمْدُ لِلَّهِ الْوَاصِلِ الْحَمْدَ بِالنِّعَمِ- وَ النِّعَمَ بِالشُّكْرِ نَحْمَدُهُ عَلَى آلَائِهِ- كَمَا نَحْمَدُهُ عَلَى بَلَائِهِ- وَ نَسْتَعِينُهُ عَلَى هَذِهِ النُّفُوسِ الْبِطَاءِ- عَمَّا أُمِرَتْ بِهِ- السِّرَاعِ إِلَى مَا نُهِيَتْ عَنْهُ- وَ نَسْتَغْفِرُهُ مِمَّا أَحَاطَ بِهِ عِلْمُهُ- وَ أَحْصَاهُ كِتَابُهُ عِلْمٌ غَيْرُ قَاصِرٍ- وَ كِتَابٌ غَيْرُ مُغَادِرٍ- وَ نُؤْمِنُ بِهِ إِيمَانَ مَنْ عَايَنَ الْغُيُوبَ- وَ وَقَفَ عَلَى الْمَوْعُودِ- إِيمَاناً نَفَى إِخْلَاصُهُ الشِّرْكَ وَ يَقِينُهُ الشَّكَّ- وَ نَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ- وَ أَنَّ مُحَمَّداً ص عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ- شَهَادَتَيْنِ تُصْعِدَانِ الْقَوْلَ وَ تَرْفَعَانِ الْعَمَلَ- لَا يَخِفُّ مِيزَانٌ تُوضَعَانِ فِيهِ- وَ لَا يَثْقُلُ مِيزَانٌ تُرْفَعَانِ مِنْهُ أُوصِيكُمْ عِبَادَ اللَّهِ بِتَقْوَى اللَّهِ- الَّتِي هِيَ الزَّادُ وَ بِهَا الْمَعَاذُ- زَادٌ مُبْلِغٌ وَ مَعَاذٌ مُنْجِحٌ- دَعَا إِلَيْهَا أَسْمَعُ دَاعٍ- وَ وَعَاهَا خَيْرُ وَاعٍ- فَأَسْمَعَ دَاعِيهَا وَ فَازَ وَاعِيهَا- عِبَادَ اللَّهِ إِنَّ تَقْوَى اللَّهِ حَمَتْ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ مَحَارِمَهُ- وَ أَلْزَمَتْ قُلُوبَهُمْ مَخَافَتَهُ- حَتَّى أَسْهَرَتْ لَيَالِيَهُمْ وَ أَظْمَأَتْ هَوَاجِرَهُمْ- فَأَخَذُوا الرَّاحَةَ بِالنَّصَبِ وَ الرِّيَّ بِالظَّمَإِ- وَ اسْتَقْرَبُوا الْأَجَلَ فَبَادَرُوا الْعَمَلَ- وَ كَذَّبُوا الْأَمَلَ فَلَاحَظُوا الْأَجَلَ- ثُمَّ إِنَّ الدُّنْيَا دَارُ فَنَاءٍ وَ عَنَاءٍ وَ غِيَرٍ وَ عِبَرٍ- فَمِنَ الْفَنَاءِ أَنَّ الدَّهْرَ مُوتِرٌ قَوْسَهُ- لَا تُخْطِئُ سِهَامُهُ- وَ لَا تُؤْسَى جِرَاحُهُ يَرْمِي الْحَيَّ بِالْمَوْتِ- وَ الصَّحِيحَ بِالسَّقَمِ- وَ النَّاجِيَ بِالْعَطَبِ- آكِلٌ لَا يَشْبَعُ وَ شَارِبٌ لَا يَنْقَعُ- وَ مِنَ الْعَنَاءِ أَنَّ الْمَرْءَ يَجْمَعُمَا لَا يَأْكُلُ- وَ يَبْنِي مَا لَا يَسْكُنُ- ثُمَّ يَخْرُجُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى- لَا مَالًا حَمَلَ وَ لَا بِنَاءً نَقَلَ- وَ مِنْ غِيَرِهَا أَنَّكَ تَرَى الْمَرْحُومَ مَغْبُوطاً- وَ الْمَغْبُوطَ مَرْحُوماً- لَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا نَعِيماً زَلَّ وَ بُؤْساً نَزَلَ- وَ مِنْ عِبَرِهَا أَنَّ الْمَرْءَ يُشْرِفُ عَلَى أَمَلِهِ- فَيَقْتَطِعُهُ حُضُورُ أَجَلِهِ- فَلَا أَمَلٌ يُدْرَكُ- وَ لَا مُؤَمَّلٌ يُتْرَكُ- فَسُبْحَانَ اللَّهِ مَا أَعَزَّ سُرُورَهَا- وَ أَظْمَأَ رِيَّهَا وَ أَضْحَى فَيْئَهَا- لَا جَاءٍ يُرَدُّ وَ لَا مَاضٍ يَرْتَدُّ- فَسُبْحَانَ اللَّهِ- مَا أَقْرَبَ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ لِلَحَاقِهِ بِهِ- وَ أَبْعَدَ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ لِانْقِطَاعِهِ عَنْهُ- إِنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ بِشَرٍّ مِنَ الشَّرِّ إِلَّا عِقَابُهُ- وَ لَيْسَ شَيْءٌ بِخَيْرٍ مِنَ الْخَيْرِ إِلَّا ثَوَابُهُ- وَ كُلُّ شَيْءٍ مِنَ الدُّنْيَا سَمَاعُهُ أَعْظَمُ مِنْ عِيَانِهِ- وَ كُلُّ شَيْءٍ مِنَ الآْخِرَةِ عِيَانُهُ أَعْظَمُ مِنْ سَمَاعِهِ- فَلْيَكْفِكُمْ مِنَ الْعِيَانِ السَّمَاعُ- وَ مِنَ الْغَيْبِ الْخَبَرُ- وَ اعْلَمُوا أَنَّ مَا نَقَصَ مِنَ الدُّنْيَا- وَ زَادَ فِي الآْخِرَةِ- خَيْرٌ مِمَّا نَقَصَ مِنَ الآْخِرَةِ- وَ زَادَ فِي الدُّنْيَا- فَكَمْ مِنْ مَنْقُوصٍ رَابِحٍ وَ مَزِيدٍ خَاسِرٍ- إِنَّ الَّذِي أُمِرْتُمْ بِهِ أَوْسَعُ مِنَ الَّذِي نُهِيتُمْ عَنْهُ- وَ مَا أُحِلَّ لَكُمْ أَكْثَرُ مِمَّا حُرِّمَ عَلَيْكُمْ- فَذَرُوا مَا قَلَّ لِمَا كَثُرَ وَ مَا ضَاقَ لِمَا اتَّسَعَ- قَدْ تَكَفَّلَ لَكُمْ بِالرِّزْقِ- وَ أُمِرْتُمْ بِالْعَمَلِ- فَلَا يَكُونَنَّ الْمَضْمُونُ لَكُمْ طَلَبُهُ- أَوْلَى بِكُمْ مِنَ الْمَفْرُوضِ عَلَيْكُمْ عَمَلُهُ- مَعَ أَنَّهُ وَ اللَّهِ لَقَدِ اعْتَرَضَ الشَّكُّ- وَ دَخَلَ الْيَقِينُ- حَتَّى كَأَنَّ الَّذِي ضُمِنَ لَكُمْ قَدْ فُرِضَ عَلَيْكُمْ- وَ كَأَنَّ الَّذِي فُرِضَ عَلَيْكُمْ قَدْ وَضِعَ عَنْكُمْ- فَبَادِرُوا الْعَمَلَ وَ خَافُوا بَغْتَةَ الْأَجَلِ- فَإِنَّهُ لَا يُرْجَى مِنْ رَجْعَةِ الْعُمُرِ- مَا يُرْجَى مِنْ رَجْعَةِ الرِّزْقِ- مَا فَاتَ الْيَوْمَ مِنَ الرِّزْقِ رُجِيَ غَداً زِيَادَتُهُ- وَ مَا فَاتَ أَمْسِ مِنَ الْعُمُرِ- لَمْ يُرْجَ الْيَوْمَ رَجْعَتُهُ- الرَّجَاءُ مَعَ الْجَائِي وَ الْيَأْسُ مَعَ الْمَاضِي- فَاتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ- وَ لَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ لقائل أن يقول أما كونه واصل الحمد له- من عباده بالنعم منه عليهم فمعلوم- فكيف قال إنه يصل النعم المذكورة بالشكر- و الشكر من أفعال العباد- و ليس من أفعاله ليكون واصلا للنعم به- و جواب هذا القائل- هو أنه لما وفق العباد للشكر- بعد أن جعل وجوبه في عقولهم مقررا و بعد أن أقدرهم عليه- صار كأنه الفاعل له- فأضافه إلى نفسه توسعا- كما يقال أقام الأمير الحد و قتل الوالي اللص- فأما حمده سبحانه على البلاء كحمده على الآلاء- فقد تقدم القول فيه- و من الكلام المشهور سبحان من لا يحمد على المكروه سواه- و السر فيه أنه تعالى إنما يفعل المكروه بنا لمصالحنا- فإذا حمدناه عليه فإنما حمدناه على نعمه أنعم بها- و إن كانت في الظاهر بلية و ألما- .
فإن قلت فقد كان الأحسن في البيان أن يقول- نحمده على بلائه كما نحمده على آلائه- قلت إنما عكس لأنه جاء باللفظين- في معرض ذكر النعم و الشكر عليها- فاستهجن أن يلقبها بلفظة الحمد على البلاء للمنافرة- التي تكون بينهما- فقال نحمده على هذه الآلاء التي أشرنا إليها- التي هي آلاء في الحقيقة- و هذا ترتيب صحيح منتظم- .
ثم سأل الله أن يعينه على النفس البطيئة عن المأمور به- السريعة إلى المنهي عنه- و من دعاء بعض الصالحين- اللهم إني أشكو إليك عدوا بين جنبي- قد غلب علي- . و فسر قوم من أهل الطريقة و الحقيقة قوله تعالى- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا-الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ- وَ لْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً- قالوا أراد مجاهدة النفوس- ومن كلام رسول الله ص أبت الأنفس إلا حب المال و الشرف- و إن حبهما لأذهب بدين أحدكم- من ذئبين ضاريين باتا في زريبة غنم إلى الصباح- فما ذا يبقيان منها- .
ثم شرع في استغفار الله سبحانه من كل ذنب- و عبر عن ذلك بقوله مما أحاط به علمه- و أحصاه كتابه- لأنه تعالى عالم بكل شيء- و محيط بكل شيء- و قد أوضح ذلك بقوله- علم غير قاصر- و كتاب غير مغادر- أي غير مبق شيئا لا يحصيه- قال تعالى ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ- صَغِيرَةً وَ لا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها- .
ثم قال و نؤمن به إيمان من عاين و شاهد- لأن إيمان العيان أخلص- و أوثق من إيمان الخبر- فإنه ليس الخبر كالعيان- و هذا إشارة إلى إيمان العارفين- الذين هو ع سيدهم و رئيسهم- و لذلكقال لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا- . و قوله تصعدان القول إشارة إلى قوله تعالى- إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ- وَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ- و روي تسعدان القول بالسين- أي هما شهادتان بالقلب يعاضدان الشهادة باللسان- و يسعدانها- .
ثم ذكر أنهما شهادتان لا يخف ميزان هما فيه- و لا يثقل ميزان رفعا عنه- . أما أنه لا يثقل ميزان رفعا عنه فهذا لا كلام فيه- و إنما الشأن في القضية الأولى- لأن ظاهر هذا القول يشعر بمذهب المرجئة الخلص- و هم أصحاب مقاتل بن سليمان- القائلون إنه لا يضر مع الشهادتين معصية أصلا- و إنه لا يدخل النار- من في قلبه ذرة من الإيمان-و لهم على ذلك احتجاج- قد ذكرناه في كتبنا الكلامية- فنقول في تأويل ذلك- إنه لم يحكم بهذا على مجرد الشهادتين- و إنما حكم بهذا على شهادتين مقيدتين- قد وصفهما بأنهما يصعدان القول- و يرفعان العمل- و تانك الشهادتان المقيدتان بذلك القيد- إنما هو الشهادتان- اللتان يقارنهما فعل الواجب و تجنب القبيح- لأنه إن لم يقارنهما ذلك لم يرفعا العمل- و إذا كان حكمه ع بعد خفة ميزان هما فيه- إنما هو على شهادتين مقيدتين لا مطلقتين- فقد بطل قول من يجعل هذا الكلام حجة للمرجئة- . ثم أخذ في الوصاة بالتقوى- و قال إنما الزاد في الدنيا الذي يزود منه- لسفر الآخرة و بها المعاذ مصدر من عذت بكذا- أي لجأت إليه و اعتصمت به- .
ثم وصفهما أعني الزاد و المعاذ- فقال زاد مبلغ- أي يبلغك المقصد و الغاية التي تسافر إليها- و معاذ منجح أي يصادف عنده النجاح- . دعا إليها أسمع داع يعني البارئ سبحانه- لأنه أشد الأحياء أسماعا لما يدعوهم إليه- و بناء أفعل هاهنا من الرباعي- كما جاء ما أعطاه للمال و ما أولاه للمعروف- و أنت أكرم لي من زيد أي أشد إكراما- و هذا المكان أقفر من غيره أي أشد إقفارا- و في المثل أفلس من ابن المذلق- و روي دعا إليها أحسن داع أي أحسن داع دعا- و لا بد من تقرير هذا المميز- لأنه تعالى لا توصف ذاته بالحسن- و إنما يوصف بالحسن أفعاله- . و وعاها خير واع أي من وعاها عنه تعالى و عقلها- و أجاب تلك الدعوة فهو خير واع- . و قيل عنى بقوله- أسمع داع رسول الله ص- و عنى بقوله خير واع نفسه- لأنه أنزل فيه وَ تَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ- و الأول أظهر- .
ثم قال فأسمع داعيها- أي لم يبق أحدا من المكلفين- إلا و قد أسمعه تلك الدعوة و فازوا عليها- أفلح من فهمها و أجاب إليها- لا بد من تقدير هذا- و إلا فأي فوز يحصل لمن فهم و لم يجب- و التقوى خشية الله سبحانه- و مراقبته في السر و العلن- و الخشية أصل الطاعات- و إليها وقعت الإشارة بقوله تعالى- إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ- و قوله سبحانه وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً- وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ- . قوله حتى أسهرت لياليهم- و أظمأت هواجرهم- من قول العرب نهاره صائم و ليله قائم- نقلوا الفعل إلى الظرف- و هو من باب الاتساع الذي يجرون فيه الظروف مجرى المفعول به- فيقولون الذي سرته يوم الجمعة أي سرت فيه- و قالو يوم شهدناه سليما و عامرا- أي شهدنا فيه سليما- و قد اتسعوا فأضافوا إلى الظروف فقالوا-
يا سارق الليلة أهل الدار
و قال تعالى بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ- فأخرجوهما بالإضافة عن الظرفية- . قوله ع فأخذوا الراحة النصب- يروى فاستبدلوا الراحة- و النصب التعب و استقربوا الأجل رأوه قريبا- . فإن قلت لما ذا كرر لفظة الأجل- و في تكرارها مخالفة لفن البيان- قلت إنه استعملها في الموضعين بمعنيين مختلفين- فقوله استقربوا الأجل يعني المدة- و قوله فلاحظوا الأجل يعني الموت نفسه- .و يروى موتر و موتر بالتشديد- و لا تؤسى جراحه لا تطب و لا تصلح- أسوت الجرح أي أصلحته- و لا ينقع لا يروى- شرب حتى نقع أي شف عليله- و ماء ناقع و هو كالناجع- و ما رأيت شربه انقع منها- . و إلى قوله ع- يجمع ما لا يأكل- و يبني ما لا يسكن- نظر الشاعر فقال-
أموالنا لذوي الميراث نجمعها
و دورنا لخراب الدهر نبنيها
و قال آخر
أ لم تر حوشبا أمسى يبني
بناء نفعه لبني بقيلة
يؤمل أن يعمر عمر نوح
و أمر الله يطرق كل ليلة
قوله و من غيرها أنك ترى المرحوم مغبوطا- و المغبوط مرحوما- أي يصير الفقير غنيا و الغني فقيرا- و قد فسره قوم فقالوا- أراد أنك ترى- من هو في باطن الأمر مرحوم مغبوطا- و ترى من هو في باطن الأمر مغبوط مرحوما- أي تحسب ذاك و تتخيله و هذا التأويل غير صحيح- لأن قوله بعده ليس ذلك إلا نعيما زل و بؤسا نزل- و يكذبه و يصدق التفسير الأول- . و أضحى فيئها من أضحى الرجل إذا برز للشمس- ثم قال لا جاء يرد و لا ماض يرتد- أي يسترد و يسترجع- أخذه أبو العتاهية فقال-
فلا أنا راجع ما قد مضى لي
و لا أنا دافع ما سوف يأتي
و إلى قوله ما أقرب الحي من الميت للحاقه به- و ما أبعد الميت من الحي لانقطاعه عنه- نظر الشاعر فقال-
يا بعيدا عني و ليس بعيدا
من لحاقي به سميع قريب
صرت بين الورى غريبا- كما أنك تحت الثرى وحيد غريب- فإن قلت- ما وجه تقسيمه ع الأمور التي عددها- إلى الفناء و العناء و الغير و العبر- قلت لقد أصاب الثغرة و طبق المفصل- أ لا تراه ذكر في الفناء رمي الدهر الإنسان- عن قوس الردى- و في العناء جمع ما لا يأكل- و بناء ما لا يسكن- و في الغير الفقر بعد الغنى و الغنى بعد الفقر- و في العبر اقتطاع الأجل الأمل- فقد ناط بكل لفظة ما يناسبها- . و قد نظر بعض الشعراء إلى قوله ع- ليس شيء بشر من الشر إلا عقابه- و ليس شيء بخير من الخير إلا ثوابه- فقال
خير البضائع للإنسان مكرمة
تنمي و تزكو إذا بارت بضائعه
فالخير خير و خير منه فاعله
و الشر شر و شر منه صانعه
إلا أن أمير المؤمنين ع استثنى العقاب و الثواب- و الشاعر جعل مكانهما فاعل الخير و الشر- . ثم ذكر أن كل شيء من أمور الدنيا المرغبة و المرهبة- سماعه أعظم من عيانه- و الآخرة بالعكس و هذا حق- أما القضية الأولى فظاهرة- و قد قال القائل-
اهتز عند تمني وصلها طربا
و رب أمنية أحلى من الظفر
و لهذا يحرص الواحد منا على الأمر- فإذا بلغه برد و فتر- و لم يجده كما كان يظن في اللذة- و يوصف لنا البلد البعيد عنا- بالخصب و الأمن و العدل- و سماح أهله و حسن نسائه و ظرف رجاله- فإذا سافرنا إليه لم نجده كما وصف- بل ربما وجدنا القليل من ذلك- و يوصف لنا الإنسان الفاضل بالعلم- بفنون من الآداب و الحكم- و يبالغ الواصفون في ذلك- فإذا اختبرناه وجدناه دون ما وصف- و كذلك قد يخاف الإنسان حبسا أو ضربا أو نحوهما- فإذا وقع فيهما هان ما كان يتخوفه- و وجد الأمر دون ذلك- و كذلك القتل و الموت- فإن ما يستعظمه الناس منهما- دون أمرهما في الحقيقة- و قد قال أبو الطيب و هو حكيم الشعراء-
كل ما لم يكن من الصعب في الأنفس
سهل فيها إذا هو كانا
و يقال في المثل لج الخوف تأمن- و أما أحوال الآخرة فلا ريب أن الأمر فيها بالضد من ذلك- لأن الذي يتصوره الناس من الجنة- أنها أشجار و أنهار و مأكول و مشروب و جماع- و أمرها في الحقيقة أعظم من هذا و أشرف- لأن ملاذها الروحانية المقارنة لهذه الملاذ المضادة لها- أعظم من هذه الملاذ بطبقات عظيمة- و كذلك أكثر الناس يتوهمون- أن عذاب النار يكون أياما و ينقضي- كما يذهب إليه المرجئة- أو أنه لا عذاب بالنار لمسلم أصلا- كما هو قول الخلص من المرجئة- و أن أهل النار يألفون عذابها- فلا يستضرون به إذا تطاول الأمد عليهم- و أمر العذاب أصعب مما يظنون- خصوصا على مذهبنا في الوعيد- و لو لم يكن إلا آلام النفوس- باستشعارها سخط الله تعالى عليها- فإن ذلك أعظم من ملاقاة جرم النار لبدن الحي- .
و في هذا الموضع أبحاث شريفة دقيقة- ليس هذا الكتاب موضوعا لها- . ثم أمرهم بأن يكتفوا- من عيان الآخرة و غيبها بالسماع و الخبر لأنه لا سبيل- و نحن في هذه الدار إلى أكثر من ذلك- . و إلى قوله ما نقص من الدنيا و زاد في الآخرة- خير مما نقص من الآخرة- و زاد في الدنيا- نظر أبو الطيب فقال- إلا أنه أخرجه في مخرج آخر-
بلاد ما اشتهيت رأيت فيها
فليس يفوتها إلا كرام
فهلا كان نقص الأهل فيها
و كان لأهلها منها التمام
ثم قال فكم من منقوص في دنياه و هو رابح في آخرته- و كم من مزيد في دنياه و هو خاسر في آخرته ثم قال إن الذي أمرتم به أوسع من الذي نهيتم عنه- و ما أحل لكم أكثر مما حرم عليكم- الجملة الأولى هي الجملة الثانية بعينها- و إنما أتى بالثانية تأكيدا للأولى و إيضاحا لها- و لأن فن الخطابة و الكتابة هكذا هو- و ينتظم كلتا الجملتين معنى واحد- و هو أن فيما أحل الله غنى عما حرم- بل الحلال أوسع- أ لا ترى أن المباح من المآكل و المشارب- أكثر عددا و أجناسا من المحرمات- فإن المحرم ليس إلا الكلب و الخنزير- و أشياء قليلة غيرهما- و المحرم من المشروب الخمر و نحوها من المسكر- و ما عدا ذلك حلال أكله و شربه- و كذلك القول في النكاح و التسري- فإنهما طريقان مهيعان إلى قضاء الوطر- و السفاح طريق واحد- و الطريقان أكثر من الطريق الواحد- .
فإن قلت فكيف قال إن الذي أمرتم به- فسمى المباح مأمورا به- قلت سمى كثير من الأصوليين المباح مأمورا به- و ذلك لاشتراكه مع المأمور به- في أنه لا حرج في فعله فأطلق عليه اسمه- و أيضا فإنه لما كان كثير من الأمور التي عددناها مندوبا- أطلق عليه لفظ الأمر- لأن المندوب مأمور به- و ذلك كالنكاح و التسري و أكل اللحوم- التي هي سبب قوة البدن- و شرب ما يصلح المزاج من الأشربة- التي لا حرج في استعمالها- و قال بعض العقلاء لبنيه يا بني- إنه ليس كل شيء من اللذة ناله أهل الخسارة بخسارتهم- إلا ناله أهل المروءة و الصيانة بمروءتهم و صيانتهم- فاستتروا بستر الله و دخل إنسان على علي بن موسى الرضا ع- و عليه ثياب مرتفعة القيمة- فقال يا ابن رسول الله- أ تلبس مثل هذا- فقال له مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ- الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَ الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ
ثم أمر بالعمل و العبادة- و نهى عن الحرص على طلب الرزق- فقال إنكم أمرتم بالأول و ضمن لكم الثاني- فلا تجعلوا المضمون حصوله لكم- هو المخصوص بالحرص و الاجتهاد- بل ينبغي أن يكون الحرص و الاجتهاد فيما أمرتم بعمله- و هو العبادة- و قد يتوهم قوم أنه ارتفع طلبه بالمضنون- كقولك المضروب أخوه- و هذا غلط لأنه لم يضمن طلبه- و إنما ضمن حصوله و لكنه ارتفع- لأنه مبتدأ و خبره أولى- و هذا المبتدأ و الخبر في موضع نصب- لأنه خبر يكونن- أو ارتفع لأنه بدل من المضنون- و هذا أحسن و أولى من الوجه الأول- و هو بدل الاشتمال- . ثم ذكر أن رجعة العمر غير مرجوة- و رجعة الرزق مرجوة- أوضح ذلك بأن الإنسان قد يذهب منه اليوم درهم- فيستعيضه أي يكتسب عوضه في الغد دينارا- و أما أمس نفسه- فمستحيل أن يعود و لا مثله- لأن الغد و بعد الغد محسوب من عمره- و ليس عوضا من الأمس الذاهب-
و هذا الكلام يقتضي أن العمر مقدور- و أن المكاسب و الأرزاق إنما هي بالاجتهاد- و ليست محصورة مقدرة- و هذا يناقض في الظاهر ما تقدم من قوله- إن الرزق مضمون فلا تحرصوا عليه- فاحتاج الكلام إلى تأويل- و هو أن العمر هو الظرف الذي يوقع المكلف فيه- الأعمال الموجبة له السعادة العظمى- المخلصة له من الشقاوة العظمى- و ليس له ظرف يوقعها فيه إلا هو خاصة- فكل جزء منه إذا فات- من غير عمل لما بعد الموت- فقد فات على الإنسان بفواته- ما لا سبيل له إلى استدراكه بعينه و لا اغترام مثله- لأن المثل الذي له إنما هو زمان آخر- و ليس ذلك في مقدور الإنسان- و الزمان المستقبل الذي يعيش فيه الإنسان- لم يكتسبه هو لينسب إليه فيقال- إنه حصله عوضا مما انقضى و ذهب من عمره- و إنما هو فعل غيره- و مع ذلك فهو معد و مهيأ- لأفعال من العبادة توقع فيه- كما كان الجزء الماضي معدا لأفعال توقع فيه- فليس أحدهما عوضا عن الآخر و لا قائما مقامه- و أما المنافع الدنيوية كالمآكل و المشارب و الأموال- فإن الإنسان إذا فاته شيء منها- قدر على ارتجاعه بعينه- إن كانت عينه باقية- و ما لا تبقى عينه يقدر على اكتساب مثله- و الرزق و إن كان مضمونا من الله- إلا أن للحركة فيه نصيبا- إما أن يكون شرطا- أو أن يكون هو بذاته من أثر قدرة الإنسان- كحركته و اعتماده و سائر أفعاله- و يكون الأمر بالتوكل و النهي عن الاجتهاد- في طلب الرزق على هذا القول- إنما هو نهي عن الحرص- و الجشع و التهالك في الطلب- فإن ذلك قبيح يدل على دناءة الهمة و سقوطها- .
ثم هذه الأغراض الدنيوية- إذا حصلت أمثالها بعد ذهابها قامت مقام الذاهب- لأن الأمر الذي يراد الذاهب له- يمكن حصوله بهذا المكتسب- و ليس كذلك الزمان الذاهب من العمر- لأن العبادات و الأعمال التي كان أمس متعينا لها- لا يمكن حصولها اليوم على حد حصولها أمس- فافترق البابان- باب الأعمال و باب الأرزاق- . و قوله الرجاء مع الجائي- و اليأس مع الماضي- كلام يجري مجرى المثل- و هو تأكيد للمعنى الأول- و جعل الجائي مرجوا- لأنه لا يعلم غيبه قال الشاعر-
ما مضى فات و المقدر غيب
و لك الساعة التي أنت فيها
– و قوله حق تقاته أي حق تقيته أي خوفه- اتقى يتقي تقية و تقاة- و وزنها فعلة و أصلها الياء- و مثلها اتخم تخمة و اتهم تهمة
شرح نهج البلاغة(ابن أبي الحديد) ج 7