111 و من خطبة له ع- يذكر فيها ملك الموت و توفيه الأنفس
هَلْ يُحَسُّ بِهِ إِذَا دَخَلَ مَنْزِلًا- أَمْ هَلْ تَرَاهُ إِذَا تَوَفَّى أَحَداً- بَلْ كَيْفَ يَتَوَفَّى الْجَنِينَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ- أَ يَلِجُ عَلَيْهِ مِنْ بَعْضِ جَوَارِحِهَا- أَمْ الرُّوحُ أَجَابَتْهُ بِإِذْنِ رَبِّهَا- أَمْ هُوَ سَاكِنٌ مَعَهُ فِي أَحْشَائِهَا- كَيْفَ يَصِفُ إِلَهَهُ- مَنْ يَعْجَزُ عَنْ صِفَةِ مَخْلُوقٍ مِثْلِهِ أما مذهب جمهور أصحابنا- و هم النافون للنفس الناطقة- فعندهم أن الروح جسم لطيف بخاري- يتكون من ألطف أجزاء الأغذية- ينفذ في العروق الضوارب- و الحياة عرض قائم بالروح و حال فيها- فللدماغ روح دماغية و حياة حالة فيها- و كذلك للقلب و كذلك للكبد- و عندهم أن لملك الموت أعوانا- تقبض الأرواح بحكم النيابة عنه- لو لا ذلك لتعذر عليه- و هو جسم أن يقبض روحين- في وقت واحد في المشرق و المغرب- لأن الجسم الواحد لا يكون في مكانين في وقت واحد- قال أصحابنا و لا يبعد أن يكون الحفظة الكاتبون هم القابضين- للأرواح عند انقضاء الأجل- قالوا و كيفية القبض ولوج الملك من الفم إلى القلب- لأنه جسم لطيف هوائي- لا يتعذر عليه النفوذ في المخارق الضيقة- فيخالط الروح التي هي كالشبيهة به- لأنها جسم لطيف بخاري-
ثم يخرج من حيث دخل و هي معه- و إنما يكون ذلك في الوقت- الذي يأذن الله تعالى له فيه- و هو حضور الأجل- فألزموا على ذلك أن يغوص الملك في الماء مع الغريق- ليقبض روحه تحت الماء- فالتزموا ذلك و قالوا ليس بمستحيل- أن يتخلل الملك الماء في مسام الماء- فإن فيه مسام و منافذ- و في كل جسم على قاعدتهم في إثبات الماء في الأجسام- . قالوا و لو فرضنا أنه لا مسام فيه- لم يبعد أن يلجه الملك فيوسع لنفسه مكانا- كما يلجه الحجر و السمك و غيرهما- و كالريح الشديدة التي تقرع ظاهر البحر- فتقعره و تحفره و قوة الملك أشد من قوة الريح- . ثم نعود إلى الشرح فنقول الملك أصله مألك بالهمز- و وزنه مفعل و الميم زائدة- لأنه من الألوكة و الألوك و هي الرسالة- ثم قلبت الكلمة و قدمت اللام- فقيل ملأك قال الشاعر-
فلست لإنسي و لكن لملأك
تنزل من جو السماء يصوب
ثم تركت همزته لكثرة الاستعمال- فقيل ملك فلما جمع ردت الهمزة إليه- فقالوا ملائكة و ملائك- قال أمية بن أبي الصلت-
و كأن برقع و الملائك حولها
سدر تواكله القوائم أجرد
و التوفي الإماتة و قبض الأرواح- قال الله تعالى- اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها- . و التقسيم الذي قسمه في وفاة الجنين حاصر- لأنه مع فرضنا إياه جسما- يقبض الأرواح التي في الأجسام- إما أن يكون مع الجنين في جوف أمه- فيقبض روحه عند حضور أجلهأو خارجا عنها- و القسم الثاني ينقسم قسمين- أحدهما أن يلج جوف أمه لقبض روحه فيقبضها- و الثاني أن يقبضها من غير حاجة إلى الولوج إلى جوفها- و ذلك بأن تطيعه الروح و تكون مسخرة- إذا أراد قبضها امتدت إليه فقبضها-
و هذه القسمة لا يمكن الزيادة عليها- و لو قسمها واضع المنطق لما زاد- . ثم خرج إلى أمر آخر- أعظم و أشرف مما ابتدأ به- فقال كيف يصف إلهه- من يعجز عن وصف مخلوق مثله- و إلى هذا الغرض كان يترامى- و إياه كان يقصد- و إنما مهد حديث الملك و الجنين- توطئة لهذا المعنى الشريف و السر الدقيق فصل في التخلص و سياق كلام للشعراء في هو هذا الفن يسميه أرباب علم البيان التخلص- و أكثر ما يقع في الشعر- كقول أبي نواس-
تقول التي من بيتها خف مركبي
عزيز علينا أن نراك تسير
أ ما دون مصر للغني متطلب
بلى إن أسباب الغنى لكثير
فقلت لها و استعجلتها بوادر
جرت فجرى في جريهن عبير
ذريني أكثر حاسديك برحلة
إلى بلد فيه الخصيب أمير
و من ذلك قول أبي تمام-
يقول في قومس صحبي و قد أخذت
منا السرى و خطا المهرية القود
أ مطلع الشمس تبغي أن تؤم بنا
فقلت كلا و لكن مطلع الجود
و منه قول البحتري-
هل الشباب ملم بي فراجعة
أيامه لي في أعقاب أيامي
لو أنه نائل غمر يجاد به
إذن تطلبته عند ابن بسطام
و منه قول المتنبي و هو يتغزل بأعرابية- و يصف بخلها و جبنها و قلة مطعمها- و هذه كلها من الصفات الممدوحة في النساء خاصة-
في مقلتي رشأ تديرهما
بدوية فتنت بها الحلل
تشكو المطاعم طول هجرتها
و صدودها و من الذي تصل
ما أسأرت في القعب من لبن
تركته و هو المسك و العسل
قالت إلا تصحو فقلت لها
أعلمتني أن الهوى ثمل
لو أن فناخسر صبحكم
و برزت وحدك عاقه الغزل
و تفرقت عنكم كتائبه
إن الملاح خوادع قتل
ما كنت فاعلة و ضيفكم
ملك الملوك و شأنك البخل
أ تمنعين قرى فتفتضحي
أم تبذلين له الذي يسل
بل لا يحل بحيث حل به
بخل و لا جور و لا وجل
و هذا من لطيف التخلص و رشيقه- و التخلص مذهب الشعراء- و المتأخرون يستعملونه كثيرا- و يتفاخرون فيه و يتناضلون- فأما التخلص في الكلام المنثور- فلا يكاد يظهر لمتصفح- الرسالة أو الخطبة إلا بعد تأمل شديد- و قد وردت منه مواضع في القرآن العزيز- فمن
أبينها و أظهرها- أنه تعالى ذكر في سورة الأعراف الأمم الخالية- و الأنبياء الماضين من لدن آدم ع- إلى أن انتهى إلى قصة موسى- فقال في آخرها بعد أن شرحها و أوضحها- وَ اخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقاتِنا- فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ- قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ- وَ إِيَّايَ أَ تُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا- إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ- تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَ تَهْدِي مَنْ تَشاءُ- أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَ ارْحَمْنا- وَ أَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ- وَ اكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَ فِي الْآخِرَةِ- إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ- قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ- وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ- فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ- وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ- وَ الَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ- الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ- الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ- يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ- وَ يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ- وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ- وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ- وَ الْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ- فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ- وَ عَزَّرُوهُ وَ نَصَرُوهُ- وَ اتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ- أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ- . و هذا من التخلصات اللطيفة المستحسنة
فصل في الاستطراد و إيراد شواهد للشعراء فيه
و اعلم أن من أنواع علم البيان نوعا يسمى الاستطراد- و قد يسمى الالتفات- و هو من جنس التخلص و شبيه به- إلا أن الاستطراد هو أن تخرج- بعد أن تمهد ما تريد أن تمهده- إلى الأمر الذي تروم ذكره فتذكره- و كأنك غير قاصد لذكره بالذات- بل قد حصل و وقع ذكره بالعرض عن غير قصد- ثم تدعه و تتركه- و تعود إلى الأمر الذي كنت في تمهيده- كالمقبل عليه و كالملغى عما استطردت بذكره- فمن ذلك قول البحتري و هو يصف فرسا-
و أغر في الزمن البهيم محجل
قد رحت منه على أغر محجل
كالهيكل المبني إلا أنه
في الحسن جاء كصورة في هيكل
وافي الضلوع يشد عقد حزامه
يوم اللقاء على معم مخول
أخواله للرستمين بفارس
و جدوده للتبعين بموكل
يهوى كما هوت العقاب و قد رأت
صيدا و ينتصب انتصاب الأجدل
متوجس برقيقتين كأنما
تريان من ورق عليه مكلل
ما إن يعاف قذى و لو أوردته
يوما خلائق حمدويه الأحول
ذنب كما سحب الرشاء يذب عن
عرف و عرف كالقناع المسبل
جذلان ينفض عذرة في غرة
يقق تسيل حجولها في جندل
كالرائح النشوان أكثر مشيه
عرضا على السنن البعيد الأطول
ذهب الأعالي حيث تذهب مقلة
فيه بناظرها حديد الأسفل
هزج الصهيل كأن في نغماته
نبرات معبد في الثقيل الأول
ملك القلوب فإن بدا أعطينه
نظر المحب إلى الحبيب المقبل
– أ لا تراه كيف استطرد- بذكر حمدويه الأحول الكاتب- و كأنه لم يقصد ذلك- و لا أراده و إنما جرته القافية- ثم ترك ذكره و عاد إلى وصف الفرس- و لو أقسم إنسان أنه ما بنى القصيدة- منذ افتتحها إلا على ذكره- و لذلك أتى بها على روي اللام- لكان صادقا فهذا هو الاستطراد- . و من الفرق بينه و بين التخلص أنك في التخلص- متى شرعت في ذكر الممدوحأو المهجو- تركت ما كنت فيه من قبل بالكلية- و أقبلت على ما تخلصت إليه- من المديح و الهجاء بيتا بعد بيت- حتى تنقضي القصيدة- و في الاستطراد تمر على ذكر الأمر- الذي استطردت به مرورا كالبرق الخاطف- ثم تتركه و تنساه و تعود إلى ما كنت فيه- كأنك لم تقصد قصد ذاك و إنما عرض عروضا- و إذا فهمت الفرق فاعلم أن الآيات التي تلوناها- إذا حققت و أمعنت النظر من باب الاستطراد- لا من باب التخلص-
و ذلك لأنه تعالى قال بعد قوله- وَ اتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ- أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ- قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً- الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ- لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحيِي وَ يُمِيتُ- فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ- الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ كَلِماتِهِ وَ اتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ- وَ مِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ- يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَ بِهِ يَعْدِلُونَ- وَ قَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً- وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى- إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ- فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً- قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ- وَ ظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ- وَ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَ السَّلْوى- كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ- وَ ما ظَلَمُونا وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ- فعاد إلى ما كان فيه أولا- ثم مر في هذه القصة- و في أحوال موسى و بني إسرائيل- حتى قارب الفراغ من السورة- . و من لطيف التخلص الذي يكاد يكون استطرادا- لو لا أنه أفسده بالخروج إلى المدح- قول أبي تمام في قصيدته- التي يمدح بها محمد بن الهيثم التي أولها-
أسقى طلولهم أجش هزيم
و غدت عليهم نضرة و نعيم
ظلمتك ظالمة البريء ظلوم
و الظلم من ذي قدرة مذموم
زعمت هواك عفا الغداة كما عفت
منها طلول باللوى و رسوم
لا و الذي هو عالم إن النوى
صبر و إن أبا الحسين كريم
ما حلت عما تعهدين و لا غدت
نفسي على إلف سواك تحوم
فلو أتم متغزلا لكان مستطردا لا محالة- و لكنه نقض الاستطراد- و غمس يده في المدح فقال بعد هذا البيت-
لمحمد بن الهيثم بن شبانة
مجد إلى جنب السماك مقيم
ملك إذا نسب الندى من ملتقى
طرفيه فهو أخ له و حميم
و مضى على ذلك إلى آخرها- . و من الاستطراد أن يحتال الشاعر- لذكر ما يروم ذكره- بوصف أمر ليس من غرضه- و يدمج الغرض الأصلي في ضمن ذلك و في غضونه- و أحسن ما يكون ذلك إذا صرح- بأنه قد استطرد و نص في شعره على ذلك- كما قال أبو إسحاق الصابي في أبيات- كتبها إلى أبي القاسم عبد العزيز بن يوسف- كاتب عضد الدولة- كتبها إليه إلى شيراز و أبو إسحاق في بغداد- و كانت أخبار فتوح عضد الدولة بفارس و كرمان- و ما والاها متواصلة مترادفة إلى العراق- و كتب عبد العزيز واصلة بها- إلى عز الدولة بختيار و الصابي يجيب عنها-
يا راكب الجسرة العيرانة الأجد
يطوي المهامة من سهل إلى جلد
أبلغ أبا القاسم نفسي الفداء له
مقالة من أخ للحق معتمد
في كل يوم لكم فتح يشاد به
بين الأنام بذكر السيد العضد
و ما لنا مثله لكننا أبدا
نجيبكم بجواب الحاسد الكمد
فأنت أكتب مني في الفتوح و ما
تجري مجيبا إلى شاوي و لا أمدي
و ما ذممت ابتدائي في مكاتبة
و لا جوابكم في القرب و البعد
لكنني رمت أن أثني على ملك
مستطرد بمديح فيه مطرد
و لقد ظرف و ملح أبو إسحاق في هذه الأبيات- و متى خلا أو عرى عن الظرف و الملاحة- و لقد كان ظرفا و لباقة كله- . و ليس من الاستطراد ما زعم ابن الأثير الموصلي- في كتابه المسمى بالمثل السائر أنه استطراد- و هو قول بعض شعراء الموصل- يمدح قرواش بن المقلد- و قد أمره أن يعبث بهجاء وزيره سليمان بن فهد- و حاجبه أبي جابر و مغنية المعروف بالبرقعيدي- في ليلة من ليالي الشتاء- و أراد بذلك الدعابة و الولع بهم- و هم في مجلس في شراب و أنس- فقال و أحسن فيما قال-
و ليل كوجه البرقعيدي ظلمة
و برد أغانيه و طول قرونه
سريت و نومي فيه نوم مشرد
كعقل سليمان بن فهد و دينه
على أولق فيه التفات كأنه
أبو جابر في خطبة و جنونه
إلى أن بدا ضوء الصباح كأنه
سنا وجه قرواش و ضوء جبينه
و ذلك لأن الشاعر قصد إلى هجاء كل واحد منهم- و وضع الأبيات لذلك- و أمره قرواش رئيسهم و أميرهم بذلك- فهجاهم و مدحه و لم يستطرد- و هذه الأبيات تشبيهات كلها مقصود بها الهجاء- لم يأت بالعرض في الشعر كما يأتي الاستطراد- . و هذا غلط من مصنف الكتاب
شرح نهج البلاغة(ابن أبي الحديد) ج 7