110 و من خطبة له ع
أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أُحَذِّرُكُمُ الدُّنْيَا- فَإِنَّهَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ- حُفَّتْ بِالشَّهَوَاتِ وَ تَحَبَّبَتْ بِالْعَاجِلَةِ- وَ رَاقَتْ بِالْقَلِيلِ وَ تَحَلَّتْ بِالآْمَالِ- وَ تَزَيَّنَتْ بِالْغُرُورِ لَا تَدُومُ حَبْرَتُهَا- وَ لَا تُؤْمَنُ فَجْعَتُهَا- غَرَّارَةٌ ضَرَّارَةٌ حَائِلَةٌ زَائِلَةٌ- نَافِدَةٌ بَائِدَةٌ أَكَّالَةٌ غَوَّالَةٌ- لَا تَعْدُو- إِذَا تَنَاهَتْ إِلَى أُمْنِيَّةِ أَهْلِ الرَّغْبَةِ فِيهَا وَ الرِّضَاءِ بِهَا- أَنْ تَكُونَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى- كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ- فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ- فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ- وَ كانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً- لَمْ يَكُنِ امْرُؤٌ مِنْهَا فِي حَبْرَةٍ- إِلَّا أَعْقَبَتْهُ بَعْدَهَا عَبْرَةً- وَ لَمْ يَلْقَ مِنْ سَرَّائِهَا بَطْناً- إِلَّا مَنَحَتْهُ مِنْ ضَرَّائِهَا ظَهْراً- وَ لَمْ تَطُلَّهُ فِيهَا دِيمَةُ رَخَاءٍ- إِلَّا هَتَنَتْ عَلَيْهِ مُزْنَةُ بَلَاءٍ- وَ حَرِيٌّ إِذَا أَصْبَحَتْ لَهُ مُنْتَصِرَةً- أَنْ تُمْسِيَ لَهُ مُتَنَكِّرَةً- وَ إِنْ جَانِبٌ مِنْهَا اعْذَوْذَبَ وَ احْلَوْلَى- أَمَرَّ مِنْهَا جَانِبٌ فَأَوْبَى- لَا يَنَالُ امْرُؤٌ مِنْ غَضَارَتِهَا رَغَباً- إِلَّا أَرْهَقَتْهُ مِنْ نَوَائِبِهَا تَعَباً- وَ لَا يُمْسِي مِنْهَا فِي جَنَاحِ أَمْنٍ- إِلَّا أَصْبَحَ عَلَى قَوَادِمِ خَوْفٍ- غَرَّارَةٌ غُرُورٌ مَا فِيهَا فَانِيَةٌ- فَانٍ مَنْ عَلَيْهَا- لَا خَيْرَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَزْوَادِهَا إِلَّا التَّقْوَى-مَنْ أَقَلَّ مِنْهَا اسْتَكْثَرَ مِمَّا يُؤْمِنُهُ- وَ مَنِ اسْتَكْثَرَ مِنْهَا اسْتَكْثَرَ مِمَّا يُوبِقُهُ- وَ زَالَ عَمَّا قَلِيلٍ عَنْهُ- كَمْ مِنْ وَاثِقٍ بِهَا قَدْ فَجَعَتْهُ- وَ ذِي طُمَأْنِينَةٍ قَدْ صَرَعَتْهُ- وَ ذِي أُبَّهَةٍ قَدْ جَعَلَتْهُ حَقِيراً- وَ ذِي نَخْوَةٍ قَدْ رَدَّتْهُ ذَلِيلًا- سُلْطَانُهَا دُوَلٌ وَ عَيْشُهَا رَنَقٌ- وَ عَذْبُهَا أُجَاجٌ وَ حُلْوُهَا صَبِرٌ- وَ غِذَاؤُهَا سِمَامٌ وَ أَسْبَابُهَا رِمَامٌ- حَيُّهَا بِعَرَضِ مَوْتٍ- وَ صَحِيحُهَا بِعَرَضِ سُقْمٍ- مُلْكُهَا مَسْلُوبٌ- وَ عَزِيزُهَا مَغْلُوبٌ- وَ مَوْفُورُهَا مَنْكُوبٌ- وَ جَارُهَا مَحْرُوبٌ- أَ لَسْتُمْ فِي مَسَاكِنِ- مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ أَطْوَلَ أَعْمَاراً- وَ أَبْقَى آثَاراً وَ أَبْعَدَ آمَالًا- وَ أَعَدَّ عَدِيداً وَ أَكْثَفَ جُنُوداً- تَعَبَّدُوا لِلدُّنْيَا أَيَّ تَعَبُّدٍ- وَ آثَرُوهَا أَيَّ إِيْثَارٍ- ثُمَّ ظَعَنُوا عَنْهَا بِغَيْرِ زَادٍ مُبَلِّغٍ- وَ لَا ظَهْرٍ قَاطِعٍ- فَهَلْ بَلَغَكُمْ أَنَّ الدُّنْيَا سَخَتْ لَهُمْ نَفْساً بِفِدْيَةٍ- أَوْ أَعَانَتْهُمْ بِمَعُونَةٍ- أَوْ أَحْسَنَتْ لَهُمْ صُحْبَةً- بَلْ أَرْهَقَتْهُمْ بِالْفَوَادِحِ- وَ أَوْهَقَتْهُمْ بِالْقَوَارِعِ- وَ ضَعْضَعَتْهُمْ بِالنَّوَائِبِ- وَ عَفَّرَتْهُمْ لِلْمَنَاخِرِ وَ وَطِئَتْهُمْ بِالْمَنَاسِمِ- وَ أَعَانَتْ عَلَيْهِمْ رَيْبَ الْمَنُونِ- فَقَدْ رَأَيْتُمْ تَنَكُّرَهَا لِمَنْ دَانَ لَهَا- وَ آثَرَهَا وَ أَخْلَدَ إِلَيْهَا- حِينَ ظَعَنُوا عَنْهَا لِفِرَاقِ الْأَبَدِ- وَ هَلْ زَوَّدَتْهُمْ إِلَّا السَّغَبَ- أَوْ أَحَلَّتْهُمْ إِلَّا الضَّنْكَ- أَوْ نَوَّرَتْ لَهُمْ إِلَّا الظُّلْمَةَ- أَوْ أَعْقَبَتْهُمْ إِلَّا النَّدَامَةَ- أَ فَهَذِهِ تُؤْثِرُونَ أَمْ إِلَيْهَا تَطْمَئِنُّونَ- أَمْ عَلَيْهَا تَحْرِصُونَ- فَبِئْسَتِ الدَّارُ لِمَنْ لَمْ يَتَّهِمْهَا- وَ لَمْ يَكُنْ فِيهَا عَلَى وَجَلٍ مِنْهَا- فَاعْلَمُوا وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ- بِأَنَّكُمْ تَارِكُوهَا وَ ظَاعِنُونَ عَنْهَا- وَ اتَّعِظُوا فِيهَا بِالَّذِينَ قَالُوا- مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً- حُمِلُوا إِلَى قُبُورِهِمْ- فَلَا يُدْعَوْنَ رُكْبَاناً- وَ أُنْزِلُوا الْأَجْدَاثَ فَلَا يُدْعَوْنَ ضِيفَاناً- وَ جُعِلَ لَهُمْ مِنَ الصَّفِيحِ أَجْنَانٌ- وَ مِنَ التُّرَابِ أَكْفَانٌ وَ مِنَ الرُّفَاتِ جِيرَانٌ- فَهُمْ جِيرَةٌ لَا يُجِيبُونَ دَاعِياً- وَ لَا يَمْنَعُونَ ضَيْماً وَ لَا يُبَالُونَ مَنْدَبَةً- إِنْ جِيدُوا لَمْ يَفْرَحُوا- وَ إِنْ قُحِطُوا لَمْ يَقْنَطُوا- جَمِيعٌ وَ هُمْ آحَادٌ وَ جِيرَةٌ وَ هُمْ أَبْعَادٌ- مُتَدَانُونَ لَا يَتَزَاوَرُونَ- وَ قَرِيبُونَ لَا يَتَقَارَبُونَ- حُلَمَاءُ قَدْ ذَهَبَتْ أَضْغَانُهُمْ- وَ جُهَلَاءُ قَدْ مَاتَتْ أَحْقَادُهُمْ- لَا يُخْشَى فَجْعُهُمْ- وَ لَا يُرْجَى دَفْعُهُمْ- اسْتَبْدَلُوا بِظَهْرِ الْأَرْضِ بَطْناً- وَ بِالسَّعَةِ ضِيقاً وَ بِالْأَهْلِ غُرْبَةً- وَ بِالنُّورِ ظُلْمَةً فَجَاءُوهَا كَمَا فَارَقُوهَا- حُفَاةً عُرَاةً قَدْ ظَعَنُوا عَنْهَا بِأَعْمَالِهِمْ- إِلَى الْحَيَاةِ الدَّائِمَةِ وَ الدَّارِ الْبَاقِيَةِ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى- كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ- نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ خضرة أي ناضرة- و هذه اللفظة من الألفاظ النبوية-
قال النبي ص إن الدنيا حلوة خضرة- و إن الله مستخلفكم فيها- فناظر كيف تعملون- . و حفت بالشهوات كان الشهوات- مستديرة حولها- كما يحف الهودج بالثياب- و حفوا حوله يحفون حفا أطافوا به- قال الله تعالى وَ تَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ- . قوله و تحببت بالعاجلة- أي تحببت إلى الناس بكونها لذة عاجلة- و النفوس مغرمة مولعة بحب العاجل- فحذف الجار و المجرور القائم مقام المفعول- . قوله و راقت بالقليل- أي أعجبت أهلها- و إنما أعجبتهم بأمر قليل ليس بدائم- .
قوله و تحلت بالآمال من الحلية- أي تزينت عند أهلها بما يؤملون منها- . قوله و تزينت بالغرور- أي تزينت عند الناس بغرور لا حقيقة له- . و الحبرة السرور و حائلة متغيرة- و نافدة فانية و بائدة منقضية- و أكالة قتالة و غوالة مهلكة- و الغول ما غال أي أهلك- و منه المثل الغضب غول الحلم- . ثم قال- إنها إذا تناهت إلى أمنية ذوي الرغبات فيها- لا تتجاوز أن تكون كما وصفها الله تعالى به و هو قوله- وَ اضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا- كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ- فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ- فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ- وَ كانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً- . فاختلط أي فالتف بنبات الأرض- و تكاثف به أي بسبب ذلك الماء و بنزوله عليه- و يجوز أن يكون تقديره فاختلط بنبات الأرض- لأنه لما غذاه و أنماه فقد صار مختلطا به- و لما كان كل واحد من المختلطين مشاركا- لصاحبه في مسمى الاختلاط جاز- فاختلط به نبات الأرض- كما يجوز فاختلط هو بنبات الأرض- . و الهشيم ما تهشم و تحطم الواحدة هشيمة- و تذروه الرياح تطيره- و كان الله على ما يشاء من الإنشاء و الإفناء مقتدرا- .
قوله من يلق من سرائها بطنا- إنما خص السراء بالبطن و الضراء بالظهر- لأن الملاقي لك بالبطن ملاق بالوجه- فهو مقبل عليك- و المعطيك ظهره مدبر عنك- . و قيل لأن الترس بطنه إليك- و ظهره إلى عدوك و قيل لأن المشي في بطون الأودية- أسهل من السير على الظراب و الآكام- . و طله السحاب يطله إذا أمطره مطرا قليلا- يقول إذا أعطت قليلا من الخير- أعقبت ذلك بكثير من الشر- لأن التهتان الكثير المطر- هتن يهتن بالكسر هتنا و هتونا و تهتانا- .
قوله و حري أي جدير و خليق- يقال بالحري أن يكون هذا الأمر كذا- و هذا الأمر محراة لذلك أي مقمنة مثل محجاة- و ما أحراه مثل ما أحجاه و أحر به مثل أحج به- و تقول هو حري أن يفعل ذلك بالفتح- أي جدير و قمين لا يثنى و لا يجمع قال الشاعر-
و هن حري ألا يثبنك نقرة
و أنت حري بالنار حين تثيب
– فإذا قلت هو حر بكسر الراء- و حري بتشديدها على فعيل ثنيت و جمعت- فقلت هما حريان و حريان- و حرون مثل عمون و أحراء أيضا- و في المشدد حريون و أحرياء و هي حرية و حرية- و هن حريات و حريات و حرايا- . فإن قلت- فهلا قال و حرية إذا أصبحت- لأنه يخبر عن الدنيا- قلت أراد شأنها فذكر- أي و شأنها خليق أن يفعل كذا- . و اعذوذب صار عذبا- و احلولى صار حلوا- و من هاهنا أخذ الشاعر قوله-
ألا إنما الدنيا غضارة أيكة
إذا اخضر منها جانب جف جانب
فلا تكتحل عيناك منها بعبرة
على ذاهب منها فإنك ذاهب
و ارتفع جانب المذكور بعد إن- لأنه فاعل فعل مقدر يفسره الظاهر- أي و إن اعذوذب جانب منها- لأن إن تقتضي الفعل و تطلبه- فهي كإذا في قوله تعالى- إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ- . و أمر الشيء أي صار مرا- و أوبى صار وبيا- و لين الهمز لأجل السجع- . و الرغب- مصدر رغبت في الأمر رغبة و رغبا أي أردته- . يقول لا ينال الإنسان منها إرادته- إلا أرهقته تعبا- يقال أرهقه إثما أي حمله و كلفه- .
فإن قلت- لم خص الأمن بالجناح و الخوف بالقودام- قلت لأن القوادم مقاديم الريش- و الراكب عليها بعرض خطر عظيم و سقوط قريب- و الجناح يستر و يقي البرد و الأذى- قال أبو نواس-
تغطيت من دهري بظل جناحه
فصرت أرى دهري و ليس يراني
فلو تسأل الأيام ما اسمي لما درت
و أين مكاني ما عرفن مكاني
– و الهاء في جناحه ترجع إلى الممدوح بهذا الشعر- . و توبقه تهلكه و الأبهة الكبر- و الرنق بفتح النون مصدر رنق الماء- أي تكدر و بالكسر الكدر- و قد روي هاهنا بالفتح و الكسر- فالكسر ظاهر- و الفتح على تقدير حذف المضاف أي ذو رنق- . و ماء أجاج قد جمع المرارة و الملوحة- أج الماء يؤج أجاجا- و الصبر بكسر الباء هذا النبات المر نفسه- ثم سمي كل مر صبرا- و السمام جمع سم لهذا القاتل- يقال سم و سم بالفتح و الضم و الجمع سمام و سموم- . و رمام بالية و أسبابها حبالها- و موفورها و ذو الوفر و الثروة منها- و المحروب المسلوب أي لا تحمى جارا و لا تمنعه- .
ثم أخذ قوله تعالى- وَ سَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ- وَ تَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ- وَ ضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ- فقال أ لستم في مساكن من كان قبلكم أطول أعمارا- نصب أطول بأنه خبر كان- و قد دلنا الكتاب الصادق- على أنهم كانوا أطول أعمارا بقوله- فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً- و ثبت بالعيان أنهم أبقى آثارا- فإن من آثارهم الأهرام- و الإيوان و منارة الإسكندرية و غير ذلك- و أما بعد الآمال فمرتب على طول الأعمار- فكلما كانت أطول كانت الآمال أبعد- و إن عنى به علو الهمم- فلا ريب أنهم كانوا- أعلى همما من أهل هذا الزمان- و قد كان فيهم من ملك معمورة الأرض كلها- و كذلك القول في أعد عديدا- و أكثف جنودا- و العديد العدو الكثير- و أعد منهم أي أكثر- .
قوله و لا ظهر قاطع- أي قاطع لمسافة الطريق- . و الفوادح المثقلات فدحه الدين أثقله- و يروى بالقوادح بالقاف- و هي آفة تظهر في الشجر- و صدوع تظهر في الأسنان- . و أوهقتهم جعلتهم في الوهق- بفتح الهاء و هو حبل كالطول- و يجوز التسكين مثل نهر و نهر- . و القوارع المحن و الدواهي- و سميت القيامة قارعة- في الكتاب العزيز من هذا المعنى- و ضعضعتهم أذلتهم قال أبو ذؤيب-أنى لريب الدهر لا أتضعضع- و ضعضعت البناء أهدمته- . و عفرتهم للمناخر- ألصقت أنوفهم بالعفر و هو التراب- و المناسم جمع منسم بكسر السين و هو خف البعير- .و دان لها أطاعها و دان لها أيضا ذل- و أخلد إليها مال قال تعالى- وَ لكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ- . و السغب الجوع- يقول إنما زودتهم الجوع- و هذا مثل كما قال-و مدحته فأجازني الحرمانا- و معنى قوله أو نورت لهم إلا الظلمة أي بالظلمة- و هذا كقوله هل زودتهم إلا السغب- و هو من باب إقامة الضد مقام الضد- أي لم تسمح لهم بالنور بل بالظلمة- و الضنك الضيق- .
ثم قال فبئست الدار- و حذف الضمير العائد إليها و تقديره هي- كما قال تعالى نِعْمَ الْعَبْدُ و تقديره هو- . و من لم يتهمها من لم يسؤ ظنا بها و الصفيح الحجارة- و الأجنان القبور الواحد جنن و المجنون المقبور- و منه قول الأعرابية لله درك من مجنون في جنن- و الأكنان جمع كن و هو الستر- قال تعالى وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً- . و الرفات العظام البالية- و المندبة الندب على الميت- لا يبالون بذلك لا يكترثون به- و جيدوا مطروا- و قحطوا انقطع المطر عنهم فأصابهم القحط- و هو الجدب و إلى معنى قوله ع- فهم جيرة لا يجيبون داعيا- و لا يمنعون ضيما- جميع و هم آحاد و جيرة و هم أبعاد- متدانون لا يتزاورون- و قريبون لا يتقاربون- نظر البحتري فقال-
بنا أنت من مجفوة لم تؤنب
و مهجورة في هجرها لم تعتب
و نازحة و الدار منها قريبة
و ما قرب ثاو في التراب مغيب
و قد قال الشعراء و الخطباء في هذا المعنى كثيرا- فمن ذلك قول الرضي أبي الحسن رحمه الله- في مرثية لأبي إسحاق الصابي-
أعزز علي بأن نزلت بمنزل
متشابه الأمجاد بالأوغاد
في عصبة جنبوا إلى آجالهم
و الدهر يعجلهم عن الإرواد
ضربوا بمدرجة الفناء قبابهم
من غير أطناب و لا أوتاد
ركب أناخوا لا يرجى منهم
قصد لإتهام و لا إنجاد
كرهوا النزول فأنزلتهم وقعة
للدهر نازلة بكل مقاد
فتهافتوا عن رحل كل مذلل
و تطاوحوا عن سرج كل جواد
بادون في صور الجميع و إنهم
متفردون تفرد الآحاد
فقوله بادون في صور الجمع… البيت- هو قوله ع جمع و هم آحاد بعينه- و قال الرضي رحمه الله تعالى أيضا-
متوسدين على الخدود كأنما
كرعوا على ظمإ من الصهباء
صور ضننت على العيون بحسنها
أمسيت أوقرها من البوغاء
و نواظر كحل التراب جفونها
قد كنت أحرسها من الأقذاء
قربت ضرائحهم على زوارها
و نأوا عن الطلاب أي تناء
قوله قربت ضرائحهم… البيت- هو معنى قوله ع و جيرة و هم أبعاد بعينه- . و من هذا المعنى قول بعض الأعراب-
لكل أناس مقبر في ديارهم
فهم ينقصون و القبور تزيد
فكائن ترى من دار حي قد أخرجت
و قبر بأكناف التراب جديد
هم جيرة الأحياء أما مزارهم
فدان و أما الملتقى فبعيد
و من كلام ابن نباتة- وحيدا على كثرة الجيران بعيدا على قرب المكان- . و منه قوله أسير وحشة الانفراد- فقير إلى اليسير من الزاد- جار من لا يجير و ضيف من لا يمير- حملوا و لا يرون ركبانا- و انزلوا و لا يدعون ضيفانا- و اجتمعوا و لا يسمون جيرانا- و احتشدوا و لا يعدون أعوانا- و هذا كلام أمير المؤمنين ع بعينه المذكور في هذه الخطبة- و قد أخذه مصالتة- . و منه قوله طحنتهم طحن الحصيد- و غيبتهم تحت الصعيد- فبطون الأرض لهم أوطان- و هم في خرابها قطان عمروا فأخربوا- و اقتربوا فاغتربوا و اصطحبوا و ما اصطحبوا- . و منه قوله غيبا كأشهاد- عصبا كآحاد- همودا في ظلم الإلحاد إلى يوم التناد- .
و اعلم أن هذه الخطبة ذكرها- شيخنا أبو عثمان الجاحظ في كتاب البيان و التبيين- و رواها لقطري بن الفجاءة- و الناس يروونها لأمير المؤمنين ع- و قد رأيتها في كتاب المونق لأبي عبيد الله المرزباني- مروية لأمير المؤمنين ع- و هي بكلام أمير المؤمنين أشبه- و ليس يبعد عندي- أن يكون قطري قد خطب بها- بعد أن أخذها عن بعض أصحاب أمير المؤمنين ع- فإن الخوارج كانوا أصحابه و أنصاره- و قد لقي قطري أكثرهم
شرح نهج البلاغة(ابن أبي الحديد) ج 7