109 و من خطبة له ع
إِنَّ أَفْضَلَ مَا تَوَسَّلَ بِهِ الْمُتَوَسِّلُونَ- إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى- الْإِيمَانُ بِهِ وَ بِرَسُولِهِ وَ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ- فَإِنَّهُ ذِرْوَةُ الْإِسْلَامِ- وَ كَلِمَةُ الْإِخْلَاصِ فَإِنَّهَا الْفِطْرَةُ- وَ إِقَامُ الصَّلَاةِ فَإِنَّهَا الْمِلَّةُ- وَ إِيتَاءُ الزَّكَاةِ فَإِنَّهَا فَرِيضَةٌ وَاجِبَةٌ- وَ صَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ فَإِنَّهُ جُنَّةٌ مِنَ الْعِقَابِ- وَ حَجُّ الْبَيْتِ وَ اعْتِمَارُهُ- فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الْفَقْرَ وَ يَرْحَضَانِ الذَّنْبَ- وَ صِلَةُ الرَّحِمِ- فَإِنَّهَا مَثْرَاةٌ فِي الْمَالِ وَ مَنْسَأَةٌ فِي الْأَجَلِ- وَ صَدَقَةُ السِّرِّ فَإِنَّهَا تُكَفِّرُ الْخَطِيئَةَ- وَ صَدَقَةُ الْعَلَانِيَةِ فَإِنَّهَا تَدْفَعُ مِيتَةَ السُّوءِ- وَ صَنَائِعُ الْمَعْرُوفِ فَإِنَّهَا تَقِي مَصَارِعَ الْهَوَانِ- أَفِيضُوا فِي ذِكْرِ اللَّهِ فَإِنَّهُ أَحْسَنُ الذِّكْرِ- وَ ارْغَبُوا فِيمَا وَعَدَ الْمُتَّقِينَ فَإِنَّ وَعْدَهُ أَصْدَقُ الْوَعْدِ- وَ اقْتَدُوا بِهَدْيِ نَبِيِّكُمْ فَإِنَّهُ أَفْضَلُ الْهَدْيِ- وَ اسْتَنُّوا بِسُنَّتِهِ فَإِنَّهَا أَهْدَى السُّنَنِ- وَ تَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ أَحْسَنُ الْحَدِيثِ- وَ تَفَقَّهُوا فِيهِ فَإِنَّهُ رَبِيعُ الْقُلُوبِ- وَ اسْتَشْفُوا بِنُورِهِ فَإِنَّهُ شِفَاءُ الصُّدُورِ- وَ أَحْسِنُوا تِلَاوَتَهُ فَإِنَّهُ أَنْفَعُ الْقَصَصِ- وَ إِنَّ الْعَالِمَ الْعَامِلَ بِغَيْرِ عِلْمِهِ- كَالْجَاهِلِ الْحَائِرِ الَّذِي لَا يَسْتَفِيقُ مِنْ جَهْلِهِ- بَلِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِ أَعْظَمُ وَ الْحَسْرَةُ لَهُ أَلْزَمُ- وَ هُوَ عِنْدَ اللَّهِ أَلْوَمُ ذكر ع ثمانية أشياء كل منها واجب- .
أولها الإيمان بالله و برسوله- و يعني بالإيمان هاهنا مجرد التصديق بالقلب- مع قطع النظر عما عدا ذلك من التلفظ بالشهادة- و من الأعمال الواجبة و ترك القبائح- و قد ذهب إلى أن ماهية الإيمان هو مجرد التصديق القلبي- جماعة من المتكلمين- و هو و إن لم يكن مذهب أصحابنا- فإن لهم أن يقولوا- إن أمير المؤمنين ع جاء بهذا اللفظ على أصل الوضع اللغوي- لأن الإيمان في أصل اللغة هو التصديق- قال سبحانه و تعالى- وَ ما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا- وَ لَوْ كُنَّا صادِقِينَ- أي لست بمصدق لنا- لا إن كنا صادقين و لا إن كنا كاذبين- و مجيئه ع به على أصل الوضع اللغوي- لا يبطل مذهبنا في مسمى الإيمان- لأنا نذهب إلى أن الشرع- استجد لهذه اللفظة مسمى ثانيا- كما نذهب إليه في الصلاة و الزكاة و غيرهما- فلا منافاة إذا بين مذهبنا- و بين ما أطلقه ع- .
و ثانيها الجهاد في سبيل الله- و إنما قدمه على التلفظ بكلمتي الشهادة- لأنه من باب دفع الضرر عن النفس- و دفع الضرر عن النفس مقدم- على سائر الأعمال المتعلقة بالجوارح- و التلفظ بكلمتي الشهادة من أعمال الجوارح- و إنما أخره عن الإيمان- لأن الإيمان من أفعال القلوب- فهو خارج عما يتقدم عليه- و دفع الضرر من الأفعال المختصة بالجوارح- و أيضا فإن الإيمان أصل الجهاد- لأنه ما لم يعلم الإنسان- على ما ذا يجاهد لا يجاهد- و إنما جعله ذروة الإسلام أي أعلاه- لأنه ما لم تتحصن دار الإسلام بالجهاد- لا يتمكن المسلمون من القيام بوظائف الإسلام- فكان إذا من الإسلام بمنزلة الرأس من البدن- .
و ثالثها كلمة الإخلاص- يعني شهادة أن لا إله إلا الله- و شهادة أن محمدا رسول الله- قال فإنها الفطرة- يعني هي التي فطر الناس عليها- و الأصل الكلمة الأولى- لأنها التوحيد و عليها فطر البشر كلهم- و الكلمة الثانية تبع لها فأجريت مجراها- و إنما أخرت هذه الخصلة عن الجهاد- لأن الجهاد كان هو السبب- في إظهار الناس لها و نطقهم بها- فصار كالأصل بالنسبة إليها- .
و رابعها إقام الصلاة أي إدامتها- و الأصل أقام إقواما- فحذفوا عين الفعل- و تارة يعوضون عن العين المفتوحة هاء- فيقولون إقامة قال فإنها الملة- و هذا مثل قول النبي ص الصلاة عماد الدين- فمن تركها فقد هدم الدين- .
و خامسها إيتاء الزكاة- و إنما أخرها عن الصلاة- لأن الصلاة آكد افتراضا منها- و إنما قال في الزكاة فإنها فريضة واجبة- لأن الفريضة لفظ يطلق على الجزء المعين المقدر في السائمة- باعتبار غير الاعتبار الذي يطلق به- على صلاة الظهر لفظ الفريضة- و الاعتبار الأول من القطع- و الثاني من الوجوب- و قال فإنها فريضة واجبة- مثل أن يقول- فإنها شيء مقتطع من المال موصوف بالوجوب- .
و سادسها صوم شهر رمضان- و هو أضعف وجوبا من الزكاة- و جعله جنة من العقاب أي سترة- .
و سابعها الحج و العمرة- و هما دون فريضة الصوم- و قال إنهما ينفيان الفقر- و يرحضان الذنب أي يغسلانه- رحضت الثوب و ثوب رحيض- و هذا الكلام يدل على وجوب العمرة- و قد ذهب إليه كثير من الفقهاء العلماء- .
و ثامنها صلة الرحم و هي واجبة- و قطيعة الرحم محرمة- قال فإنها مثراة في المال أي تثريه و تكثره- . و منسأة في الأجل أي تنسؤه و تؤخره- و يقال نسأ الله في أجلك- و يجوز أنسأه بالهمزة- . فإن قلت فما الحجة على تقديم وجوب الصلاة- ثم الزكاة ثم الصوم ثم الحج
قلت أما الصلاة فلأن تاركها يقتل- و إن لم يجحد وجوبها- و غيرها ليس كذلك- و إنما قدمت الزكاة على الصوم- لأن الله تعالى قرنها بالصلاة- في كثير من الكتاب العزيز- و لم يذكر صوم شهر رمضان إلا في موضع واحد- و كثرة تأكيد الشيء و ذكره دليل على أنه أهم- و إنما قدم الصوم على الحج- لأنه يتكرر وجوبه- و الحج لا يجب في العمر إلا مرة واحدة- فدل على أنه أهم عند الشارع من الحج- .
ثم قال ع و صدقة السر- فخرج من الواجبات إلى النوافل- قال فإنها تكفر الخطيئة- و التكفير هو إسقاط عقاب مستحق- بثواب أزيد منه أو توبة- و أصله في اللغة الستر و التغطية- و منه الكافر لأنه يغطي الحق- و سمي البحر كافرا لتغطيته ما تحته- و سمي الفلاح كافرا- لأنه يغطي الحب في الأرض المحروثة- .
ثم قال و صدقة العلانية- فإنها تدفع ميتة السوء- كالغرق و الهدم و غيرها- . قال و صنائع المعروف- فإنها تقي مصارع الهوان- كأسر الروم للمسلم- أو كأخذ الظلمة لغير المستحق للأخذ- . ثم شرع في وصايا أخر عددها- و الهدي السيرة- وفي الحديث و اهدوا هدي عمار- يقال هدى فلان هدي فلان أي سار سيرته- . و سمي القرآن حديثا اتباعا لقول الله تعالى- نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً- و استدل أصحابنا بالآية على أنه محدث- لأنه لا فرق بين حديث و محدث في اللغة- فإن قالوا إنما أراد أحسن الكلام- قلنا لعمري إنه كذلك- و لكنه لا يطلق على الكلام القديم لفظة حديث- لأنه إنما سمي الكلام و المحاورة و المخاطبة حديثا- لأنه أمر يتجدد حالا فحالا- و القديم ليس كذلك- .
ثم قال تفقهوا فيه فإنه ربيع القلوب- من هذا أخذ ابن عباس قوله- إذا قرأت ألم حم وقعت في روضات دمثات- . ثم قال فإنه شفاء الصدور- و هذا من الألفاظ القرآنية- . ثم سماه قصصا- اتباعا لما ورد في القرآن من قوله- نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ- . ثم ذكر أن العالم الذي لا يعمل بعلمه- كالجاهل الحائر الذي لا يستفيق من جهله- .
ثم قال بل الحجة عليه أعظم- لأنه يعلم الحق و لا يعمل به- فالحجة عليه أعظم من الحجة على الجاهل- و إن كانا جميعا محجوجين- أما أحدهما فبعلمه- و أما الآخر فبتمكنه من أن يعلم- . ثم قال و الحسرة له ألزم- لأنه عند الموت يتأسف- ألا يكون عمل بما علم- و الجاهل لا يأسف ذلك الأسف- . ثم قال و هو عند الله ألوم- أي أحق أن يلام- لأن المتمكن عالم بالقوة- و هذا عالم بالفعل- فاستحقاقه اللوم و العقاب أشد
شرح نهج البلاغة(ابن أبي الحديد) ج 7