و من خطبة له عليه السّلام
الفصل الأول
كُلُّ شَيْءٍ خَاشِعٌ لَهُ- وَ كُلُّ شَيْءٍ قَائِمٌ بِهِ- غِنَى كُلِّ فَقِيرٍ- وَ عِزُّ كُلِّ ذَلِيلٍ- وَ قُوَّةُ كُلِّ ضَعِيفٍ- وَ مَفْزَعُ كُلِّ مَلْهُوفٍ- مَنْ تَكَلَّمَ سَمِعَ نُطْقَهُ- وَ مَنْ سَكَتَ عَلِمَ سِرَّهُ- وَ مَنْ عَاشَ فَعَلَيْهِ رِزْقُهُ- وَ مَنْ مَاتَ فَإِلَيْهِ مُنْقَلَبُهُ- لَمْ تَرَكَ الْعُيُونُ فَتُخْبِرَ عَنْكَ- بَلْ كُنْتَ قَبْلَ الْوَاصِفِينَ مِنْ خَلْقِكَ- لَمْ تَخْلُقِ الْخَلْقَ لِوَحْشَةٍ- وَ لَا اسْتَعْمَلْتَهُمْ لِمَنْفَعَةٍ- وَ لَا يَسْبِقُكَ مَنْ طَلَبْتَ- وَ لَا يُفْلِتُكَ مَنْ أَخَذْتَ- وَ لَا يَنْقُصُ سُلْطَانَكَ مَنْ عَصَاكَ- وَ لَا يَزِيدُ فِي مُلْكِكَ مَنْ أَطَاعَكَ- وَ لَا يَرُدُّ أَمْرَكَ مَنْ سَخِطَ قَضَاءَكَ- وَ لَا يَسْتَغْنِي عَنْكَ مَنْ تَوَلَّى عَنْ أَمْرِكَ- كُلُّ سِرٍّ عِنْدَكَ عَلَانِيَةٌ- وَ كُلُّ غَيْبٍ عِنْدَكَ شَهَادَةٌ- أَنْتَ الْأَبَدُ فَلَا أَمَدَ لَكَ- وَ أَنْتَ الْمُنْتَهَى فَلَا مَحِيصَ عَنْكَ- وَ أَنْتَ الْمَوْعِدُ فَلَا مَنْجَى مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ- بِيَدِكَ نَاصِيَةُ كُلِّ دَابَّةٍ- وَ إِلَيْكَ مَصِيرُ كُلِّ نَسَمَةٍ- سُبْحَانَكَ مَا أَعْظَمَ مَا نَرَى مِنْ خَلْقِكَ- وَ مَا أَصْغَرَ عِظَمَهُ فِي جَنْبِ قُدْرَتِكَ- وَ مَا أَهْوَلَ مَا نَرَى مِنْ مَلَكُوتِكَ- وَ مَا أَحْقَرَ ذَلِكَ فِيمَا غَابَ عَنَّا مِنْ سُلْطَانِكَ- وَ مَا أَسْبَغَ نِعَمَكَ فِي الدُّنْيَا- وَ مَا أَصْغَرَهَا فِي نِعَمِ الْآخِرَةِ أقول: هذا الفصل من أشرف الفصول المشتملة على توحيد اللّه و تنزيهه و إجلاله و تعظيمه.
اللغة
و اللهف: الحزن، و الملهوف: المظلوم يستغيث. و الأبد: الدائم. و الأمد: الغاية. و حاص عن الشيء: عدل و هرب. و المحيص: المهرب.
و فيه اعتبارات ثبوتيّة و سلبيّة:
أمّا الثبوتيّة فعشرة:
الأوّل: خشوع كلّ شيء له
و الخشوع مراد هنا بحسب الاشتراك اللفظىّ.
إذ الخشوع من الناس يعود إلى تطأ منهم و خضوعهم للّه و من الملائكة دؤو بهم في عبادتهم ملاحظة لعظمته، و من سائر الممكنات انفعالها عن قدرته و خضوعها في رقّ الإمكان و الحاجة إليه، و المشترك و إن كان لا يستعمل في جميع مفهوماته حقيقة فقد بيّنّا أنّه يجوز استعماله مجازا فيها بحسب القرينة و هى هنا إضافته إلى كلّ شيء أو لأنّه في قوّة المتعدّد كقوله تعالى «إِنَّ اللَّهَ وَ مَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ»«» فكأنّه قال: الملك خاشع له و البشر خاشع له، و هذا الاعتبار يستلزم وصفه تعالى باعتبارين: أحدهما: كونه عظيما، و الثاني: كونه غنيّا: أمّا العظيم فينقسم إلى ما يكبر حاله في النفس و لكن يتصوّر أن يحيط بكماله العقول و يقف على كنه حقيقته، و إلى ما يمكن أن يحيط به بعض العقول و إن فات أكثرها، و هذان القسمان إنّما يطلق عليهما لفظ العظمة بالإضافة، و قياس كلّ إلى ما دونه فيما هو عظيم فيه، و إلى ما لا يتصوّر أن يحيط به العقل أصلا و ذلك هو العظيم المطلق الّذي جاوز حدود العقول أن يقف على صفات كماله و نعوت جلاله، و ليس هو إلّا اللّه تعالى، و أمّا الغنىّ فسنذكره.
الثاني: قيام كلّ شيء به
و اعلم أنّ جميع الممكنات إمّا جواهر أو أعراض و ليس شيء منها يقوم بذاته في الوجود: أمّا الأعراض فظاهر لظهور حاجتها إلى المحلّ الجوهرىّ، و أمّا الجواهر فلأنّ قوامها في الوجود إنّما يكون بقيام عللها و تنتهى إلى الفاعل الأوّل جلّت عظمته فهو إذن الفاعل المطلق الّذى به قوام كلّ موجود في الوجود، و إذ ثبت أنّه تعالى غنىّ عن كلّ شيء في كلّ شيء و ثبت أنّ به قوام كلّ شيء ثبت أنّه القيّوم المطلق. إذ مفهوم القيّوم هو القائم بذاته المقيم لغيره فكان هذا الاعتبار مستلزما لهذا الوصف.
الثالث: كونه تعالى غنى كلّ فقير
و يجب أن يحمل الفقر على ما هو أعمّ من الفقر المتعارف و هو مطلق الحاجة ليعمّ التمجيد كما أنّ الغنى هو سلب مطلق الحاجة، و إذ ثبت أنّ كلّ ممكن فهو مفتقر في طرفيه منته في سلسلة الحاجة إليه، و أنّه تعالى المقيم له في الوجود ثبت أنّه تعالى رافع حاجة كلّ موجود بل كلّ ممكن و هو المراد بكونه غنى له، و أطلق عليه تعالى لفظ الغنى و إن كان الغنى به مجازا إطلاقا لاسم السبب على المسبّب.
الرابع: كونه عزّ كلّ ذليل
و قد سبق أنّ معنى العزيز هو الخطير الّذى يقلّ وجود مثله و يشتدّ الحاجة و يصعب الوصول إليه فما اجتمعت فيه هذه المفهومات الثلاثة سمّى عزيزا، و سبق أيضا أنّ هذه المفهومات مقولة بالزيادة و النقصان على ما تصدق عليه، و أنّه ليس الكمال في واحد منها إلّا للّه سبحانه، و يقابله الذليل و ثبت أنّه تعالى عزّ كلّ موجود لأنّ كلّ موجود سواه إنّما يتحقّق فيه هذه المفهومات الثلاثة منه سبحانه الناظم لسلسلة الوجود و الواضع لكلّ من الموجودات في رتبته من النظام الكلّىّ فمنه عزّ كلّ موجود، و كلّ موجود ذليل في رقّ الإمكان و الحاجة إليه في إفاضة المفهومات الثلاثة عليه فهو إذن عزّ كلّ ذليل و إطلاق لفظ العزّ عليه كإطلاق لفظ الغنى.
الخامس: و قوّة كلّ ضعيف
القوّة تطلق على كمال القدرة و على شدّة الممانعة و الدفع و يقابلها الضعف و هما مقولان بالزيادة و النقصان على من يطلقان عليه، و إذ ثبت أنّه تعالى مستند جميع الموجودات و المفيض على كلّ قابل ما يستعدّ له و يستحقّه فهو المعطى لكلّ ضعيف عادم القوّة من نفسه كماله و قوّته فمنه قوّة كلّ ضعيف بالمعنيين المذكورين لها، و روى أنّ الحسن قال: و اعجبا لنبىّ اللّه لوط عليه السّلام إذ قال لقومه: لو أنّ لى بكم قوّة أو آوى إلى ركن شديد أ تراه أراد ركنا أشدّ من اللّه تعالى. و إطلاق لفظ القوّة عليه كإطلاق لفظ الغنى أيضا.
السادس: كونه مفزع كلّ ملهوف
أى إليه ملجأ كلّ مضطرّ في ضرورته حال حزن أو خوف أو ظلم كما قال تعالى «ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ»«» «وَ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ»«» فكلّ مفزع و ملجأ غيره فلمضطرّ لا لكلّ مضطرّ و مجاز لا حقيقة و إضافيّ لا حقيقىّ، و هذا الاعتبار يستلزم كمال القدرة للّه لشهادة فطرة ذى الضرورة بنسبة جميع أحوال وجوده إلى جوده و يستلزم كمال العلم لشهادة فطرته باطّلاعه على ضرورته، و كذلك كونه سميعا و بصيرا و خالقا و مجيبا للدعوات و قيّوما و نحوها من الاعتبارات.
السابع:
كونه من تكلّم سمع نطقه.
الثامن: من سكت علم سرّه
و هما إشارتان إلى وصفى السميع و العليم، و لمّا كان السميع يعود إلى العالم بالمسموعات استلزم الوصفان إحاطته بما أظهر العبد و أبداه و ما أسرّه و أخفاه في حالتى نطقه و سكوته، و قد سبقت الإشارة إلى ذلك.
التاسع:
و من عاش فعليه رزقه.
العاشر: و من مات فإليه منقلبه
و هما إشارتان إلى كونه تعالى مبدء للعباد في وجودهم و ما يقوم به عاجلا و منتهى و غاية لهم آجلا فإليه رجوع الأحياء منهم و الأموات، و به قيام وجودهم حالتى الحياة و المماة.
الحادى عشر من الاعتبارات السلبيّة: لم تراك العيون فتخبر عنك
و فيه التفات من الغيبة إلى الخطاب كقوله تعالى «إِيَّاكَ نَعْبُدُ» و هذا الالتفات و عكسه يستلزم شدّة عناية المتكلّم بالمعنى المنتقل إليه، و حسنه معلوم في علم البيان، و اعلم أنّ هذا الكلام لا بدّ فيه من تجوّز أو إضمار، و ذلك إن جعلنا الرائى هو العيون كما عليه اللفظ و يصدق حقيقة لزم إسناد قوله فتخبر إليها مجازا لكون الإخبار ليس لها، و إن راعينا عدم المجاز لزم أن يكون التقدير: لم ترك العيون فتخبر عنك أربابها، أو لم ترك أرباب العيون فتخبر عنك. فيلزم الاضمار و يلزم التعارض بينه و بين المجاز لكن قد علمت في مقدّمات اصول الفقه: أنّهما سيّان في المرتبة، و غرض الكلام تنزيهه تعالى عن وصف المشبّهة و نحوهم و إخبارهم عنه بالصفات الّتى من شأنها أن يخبر عنها الراءون عن مشاهدة حسيّة مع اعترافهم بأنّ إخبارهم ذلك من غير رؤية، و لمّا كان الإخبار عن المحسوسات و ما من شأنه أن يحسّ إنّما يصدق إذا استند إلى الحسّ لا جرم استلزم سلبه لرؤية العيون له سلب الإخبار عنه من جهتها و كذب الإخبار عنه بما لا يعلم إلّا من جهتها، و يخبر و إن كان في صورة الإثبات إلّا أنّه منفىّ لنفى لازمه و هى رؤية العيون له. إذ كان الإخبار من جهتها يستلزم رؤيتها، و نصبه بإضمار أن عقيب الفاء في جواب النفى، و الكلام في تقدير شرطيّة متّصلة صورتها لو صحّ إخبار العيون عنك لكانت قد رأتك لكنّها لم تراك فلم تصحّ أن تخبر عنك، فأمّا قوله: بل كنت قبل الواصفين من خلقك. فتعليل لسلب الرؤية المستلزم لسلب الإخبار عنها بقياس ضمير تقدير كبراه: و كلّ من كان قبل واصفيه لم يروه فلم يخبروا عنه، و هذه الكبرى من المظنونات المشهورات في بادى النظر، و هى كما علمت من موادّ قياس الخطيب و إن كانت إذا تعقّبت لم يوجد كلّيّة. إذ ليس كلّما وجد قبلنا بطل إخبارنا عنه، و يمكن حمل هذا القول على وجه التحقيق و هو أن نقول: المراد بقبليّته تعالى للواصفين قبليّة وجوده بالعليّة الذاتيّة و هو بهذا الاعتبار مستلزمة لتنزيهه تعالى عن الجسميّة و لواحقها المستلزم لامتناع الرؤية المستلزم لكذب الإخبار عنه من وجه المشابهة الحسيّة.
الثاني عشر: كونه لم تخلق الخلق لوحشة
و هو إشارة إلى تنزيهه عن الطبع المستوحش و المستأنس، و قد سبق بيان ذلك في الخطبة الاولى.
الثالث عشر: و لا استعملتهم لمنفعة
أى لم يكن خلقه لهم لمنفعة تعود إليه، و قد سبق بيان أنّ جلب المنفعة و دفع المضرّة من لواحق المزاج- المنزّه قدس اللّه تعالى عنه- .
الرابع عشر: و لا يسبقك من طلبت
أى لا يفوتك هربا.
الخامس عشر: و لا يفلتك من أخذت
أى لا يفلت منك بعد أخذه فحذف حرف الجرّ، و عدّى الفعل بنفسه كما قال تعالى «وَ اخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ» و هذان الاعتباران يستلزمان كمال ملكه و تمام قدرته و إحاطة علمه. إذ أىّ ملك فرض فقد ينجو من يده الهارب و يفلت من أسره المأخوذ بالحيلة و نحوها.
السادس عشر:
و لا ينقص سلطانك من عصاك.
السابع عشر: و لا يزيد في ملكك من أطاعك
و هما تنزيه له تعالى من أحوال ملوك الدنيا. إذ كان كمال سلطان أحدهم بزيادة جنوده و كثرة مطيعه و قلّة المخالف و العاصى له، و نقصان ملكه بعكس ذلك و هو سبب لتسلّط أعدائه عليه و طمعهم فيه. فأمّا سلطانه تعالى فلما كان لذاته و كمال قدرته مستوليا و هو مالك الملك يؤتى الملك من يشاء و ينزع الملك ممّن يشاء و يذلّ من يشاء بيده الخير و هوعلى كلّ شيء قدير. لم يتصوّر خروج العاصى بعصيانه عن سلطانه حتّى يؤثّر في نقصانه، و لم يكن لطاعة الطائع تأثير في زيادة ملكه.
الثامن عشر: و لا يردّ أمرك من سخط قضائك
يريد بالأمر هنا القدر النازل على وفق القضاء الإلهىّ و هو تفصيل القضاء كما بيّناه، و هذا الاعتبار أيضا يستلزم تمام قدرة اللّه و كمال سلطانه. إذ كان ما علم وجوده فلا بدّ من وجوده سواء كان محبوبا للعبد أو مكروها له كما قال تعالى «وَ يَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ»«» «إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ ما لَهُ مِنْ دافِعٍ»«» «وَ إِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَ إِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»«» و إنّما خصّص المستخطّ للقضاء بالعجز عن ردّ الأمر. إذ كان من شأنه أن لو قدر لردّ القدر.
التاسع عشر: و لا يستغنى عنك من تولّى عن أمرك
أراد بالأمر هاهنا ظاهره، و هو أمر عباده بطاعته و عبادته، و ظاهر أنّ من تولّى عن أمر اللّه فهو إليه أشدّ فقرا و أنقص ذاتا ممّن تولّى أمره، و هذا الاعتبار يستلزم كمال سلطانه و غناه المطلق.
العشرون:
كلّ سرّ عندك علانية.
الحادى و العشرون: و كلّ غيب عندك شهادة
هذان الاعتباران يستلزمان كمال علمه و إحاطته بجميع المعلومات، و لمّا كانت نسبة علمه تعالى إلى المعلومات على سواء لا جرم استوى بالنسبة إليه السرّ و العلانية، و أيضا فإنّ السرّ و الغيب إنّما يطلقان بالقياس إلى مخفىّ عنه و غائب عنه و هى القلوب المحجوبة بحجب الطبيعة و أستار الهيئات البدنيّة و الأرواح المستولى عليها نقصان الإمكان الحاكم عليها بجهل أحوال ما هو أكمل منها، و كلّ ذلك ممّا تنزّه قدس الصانع عنه.
الثاني و العشرون: أنت الأبد فلا أمد لك
أى أنت الدائم فلا غاية لك يقف عندها وجودك، و ذلك لاستلزام وجوب وجوده امتناع عدمه و انتهائه بالغاية، و قال بعض الشارحين: أراد أنت ذو الأبد كما قيل: أنت خيال. أى ذو خيال من الخيلاء و هو الكبر. و أقول في تقرير ذلك: إنّه لمّا كان الأزل و الأبد لازمين لوجوداللّه تعالى أطلق الأبد على وجوده مجازا للمبالغة في الدوام و كان أحدهما هو بعينه الآخر كقولهم: أنت الطلاق. للمبالغة في البينونة.
الثالث و العشرون:
و أنت المنتهى فلا محيص عنك.
الرابع و العشرون: و أنت الموعد فلا منجا منك إلّا إليك:
أمّا أنّه تعالى المنتهى و الموعد فلقوله تعالى «وَ أَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى»«» و قوله «إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً» و المنتهى في كلامه عليه السّلام الغاية، و قد سبق بيان أنّه تعالى غاية الكلّ و مرجعه و أمّا أنّه لا معدل عنه و لا ملجأ منه إلّا إليه فإشارة إلى ضرورة لقائه كقوله تعالى «وَ ظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ».
الخامس و العشرون: بيدك ناصية كلّ دابّة
أى في ملكك و تحت تصريف قدرتك كقوله تعالى «ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها»«» و إنّما خصّت الناصية لحكم الوهم بأنّه تعالى في جهة فوق فيكون أخذه بالناصية، و لأنّها أشرف ما في الدابّة فسلطانه تعالى على الأشرف يستلزم القهر و الغلبة و تمام القدرة.
السادس و العشرون: و إليك مصير كلّ نسمة
و قد سبق أنّه تعالى منتهى الكلّ، و إليه مصيره.
و قوله: سبحانك ما أعظم ما نرى من خلقك. إلى آخره.
تنزيه و تقديس للّه تعالى عن أحكام الأوهام على صفاته بشبهيّة مدركاتها و تعجّب في معرض التمجيد من عظم ما يشاهد من مخلوقاته كأطباق الأفلاك و العناصر و ما يتركّب عنها، ثمّ من حقارة هذه العظمة بالقياس إلى ما تعبّره العقول من مقدوراته و ما يمكن في كمال قدرته من الممكنات الغير المتناهية، و ظاهر أنّ نسبة الموجود إلى الممكن في العظم و الكثرة يستلزم حقارته و صغره، ثمّ من هول ما وصلت إليه العقول من عظمة ملكوته، ثمّ من حقارته بالقياس إلى ما غاب عنها و حجبت عن إدراكه بأستار القدرة و حجب العزّة من الملأ الأعلى و سكّان حظائر القدس و حال العالم العلوي، ثمّ من سبوغ نعمة اللّه تعالى على عباده في الدنيا و حقارة تلك النعم بالقياس إلى النعمة الّتى أعدّها لهم في الآخرة، و ظاهر أنّ نعم الدنيا إذا اعتبرت إلى نعم الآخرة في الدوام و الكثرة و الشرف كانت بالقياس إليها في غاية الحقارة. و باللّه التوفيق.
منها:
مِنْ مَلَائِكَةٍ أَسْكَنْتَهُمْ سَمَاوَاتِكَ- وَ رَفَعْتَهُمْ عَنْ أَرْضِكَ- هُمْ أَعْلَمُ خَلْقِكَ بِكَ- وَ أَخْوَفُهُمْ لَكَ وَ أَقْرَبُهُمْ مِنْكَ- لَمْ يَسْكُنُوا الْأَصْلَابَ- وَ لَمْ يُضَمَّنُوا الْأَرْحَامَ- وَ لَمْ يُخْلَقُوا مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ- وَ لَمْ يَتَشَعَّبْهُمْ رَيْبُ الْمَنُونِ- وَ إِنَّهُمْ عَلَى مَكَانِهِمْ مِنْكَ- وَ مَنْزِلَتِهِمْ عِنْدَكَ وَ اسْتِجْمَاعِ أَهْوَائِهِمْ فِيكَ- وَ كَثْرَةِ طَاعَتِهِمْ لَكَ وَ قِلَّةِ غَفْلَتِهِمْ عَنْ أَمْرِكَ- لَوْ عَايَنُوا كُنْهَ مَا خَفِيَ عَلَيْهِمْ مِنْكَ- لَحَقَّرُوا أَعْمَالَهُمْ وَ لَزَرَوْا عَلَى أَنْفُسِهِمْ- وَ لَعَرَفُوا أَنَّهُمْ لَمْ يَعْبُدُوكَ حَقَّ عِبَادَتِكَ- وَ لَمْ يُطِيعُوكَ حَقَّ طَاعَتِكَ
اللغة
أقول: المهين: الحقير. و التشعّب: الاقتسام و التفريق. و المنون: الدهر. و ريبة: ما يكره من حوادثه. و المكانة: المنزلة. و كنه الشيء: نهاية حقيقته. و زريت عليه: عبث فعله.
المعنى
و اعلم أنّ من في صدر هذا الفصل لبيان الجنس، و ذلك أنّه عليه السّلام لمّا شرع في بيان عظمة اللّه تعالى و جلاله جعل مادّة ذلك التعظيم تعديد مخلوقاته و ذكر الأشرف فالأشرف منها
فذكر الملائكة السماوية، و أشار إلى أفضليّتهم بأوصاف:
الأوّل: كونهم أعلم خلق اللّه به
و هو ظاهر. إذ ثبت أنّ كلّ مجرّد كان علمه أبعد عن منازعة النفس الأمّارة بالسوء الّتي هي مبدء الغفلة و السهو و النسيان كان أكمل في معارفه و علومه ممّن عداه، و لأنّ الملائكة السماويّة وسائط لغيرهم في وصول العلم و سائر الكمالات إلى الخلق فكانوا كالاستادين لمن عداهم، و ظاهر أنّ الاستاد أعلى درجة من التلميذ، و قد عرفت في الخطبة الاولى أنّ المعارف مقولة بحسب التشكيك.
الثاني: كونهم أخوف له
و ذلك لكونهم أعلم بعظمة اللّه و جلاله و كلّ من كان أعلم بذلك كان أخوف و أشدّ خشية: أمّا الاولى: فلما مرّ، و أمّا الثانية: فلقوله تعالى «إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ»«» فحصر الخشية في العلماء.
و بحسب تفاوت العلم بالشدّة و الضعف يكون تفاوت الخشية بهما.
الثالث: كونهم أقرب منه
و المراد لا القرب المكانىّ لتنزّهه تعالى عن المكان بل قرب المنزلة و الرتبة منه. و ظاهر أنّ من كان أعلم به و أخوف منه كان أقرب منزلة عنده لقوله تعالى «إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ»«».
الرابع من سلب النقصانات البشريّة عنهم
كونهم لم يسكنوا الأصلاب، و لم يضمّنوا الأرحام، و لم يخلقوا من ماء مهين، و لم يختلف عليهم حوادث الدهر. و ظاهر كون هذه الامور الأربعة نقصانات تلزم الحيوان العنصرىّ لاستلزامها التغيّر و مخالطة المحالّ المستقذرة و معاناة الأسقام و الأمراض و سائر الهيئات البدنيّة المانعة عن التوجّه إلى اللّه فكان سلبها عمّن لا يجوز عليه من كمالاته.
و قوله: و إنّهم على مكانتهم [مكانهم خ] منك. إلى آخره.
لمّا بيّن عظمة الملائكة بالنسبة إلى من عداهم شرع في المقصود و هو بيان عظمة اللّه تعالى بالنسبة إليهم، و حقارتهم على عظمتهم بالقياس إلى عظمته و كبريائه: أى أنّهم مع كونهم على هذه الأحوال الّتي توجب لهم العظمة و الإجلال من قرب منزلتهم منك و كمال محبّتهم لك و غرقهم في أنوار كبريائك عن الالتفات إلى غيرك لو عرفوا كنه معرفتك لصغرت في أعينهم أعمالهم، و علموا أن لا نسبة لعبادتهم إلى عظمتك و جلال وجهك، و لمّا كان كمال العبادة و مطابقتها للأمر المطاع بحسب العلم بعظمته، و كان ذات الحقّ سبحانه أعظم من أن يطّلع عليه بالكنه ملك مقرّب أو نبيّ مرسل لا جرم كانت عبادة الملائكة بحسب معارفهم القاصرة عن كنه حقيقته.
فكلّ من كانت معرفته أتمّ كانت عبادة من دونه مستحقرة في جانب عبادته حتّى لو زادت معارفهم به و أمكن اطّلاعهم على كنه حقيقته لزادت عبادتهم و كانت أكمل فاستحقروا ما كانوا فيه و عابوا أنفسهم بقصور الطاعة و العبادة عمّا يستحقّه كماله المطلق، و عبّر بقلّة الغفلة عن عدمها في حقّهم مجازا إطلاقا لاسم اللازم على ملزومه.
إذ كان كلّ معدوم قليل و لا ينعكس، و جعل قلّة الغفلة في مقابلة كثرة الطاعة، و يحتمل أن يريد بقلّة الغفلة قوّة معرفة بعضهم بالنسبة إلى بعض مجازا أيضا إطلاقا لاسم الملزوم على لازمه. إذ كانت قلّة الغفلة مستلزمة لقوّة المعرفة و زيادتها، و قد سبق ذكر أنواع الملائكة السماويّة و غيرهم، و ذكر نكت من أحوالهم في الخطبة الاولى.
الفصل الثاني
قوله: سُبْحَانَكَ خَالِقاً وَ مَعْبُوداً- بِحُسْنِ بَلَائِكَ عِنْدَ خَلْقِكَ خَلَقْتَ دَاراً- وَ جَعَلْتَ فِيهَا مَأْدُبَةً- مَشْرَباً وَ مَطْعَماً وَ أَزْوَاجاً- وَ خَدَماً وَ قُصُوراً- وَ أَنْهَاراً وَ زُرُوعاً وَ ثِمَاراً- ثُمَّ أَرْسَلْتَ دَاعِياً يَدْعُو إِلَيْهَا- فَلَا الدَّاعِيَ أَجَابُوا- وَ لَا فِيمَا رَغَّبْتَ رَغِبُوا- وَ لَا إِلَى مَا شَوَّقْتَ إِلَيْهِ اشْتَاقُوا- أَقْبَلُوا عَلَى جِيفَةٍ قَدِ افْتَضَحُوا بِأَكْلِهَا- وَ اصْطَلَحُوا عَلَى حُبِّهَا- وَ مَنْ عَشِقَ شَيْئاً أَعْشَى بَصَرَهُ- وَ أَمْرَضَ قَلْبَهُ- فَهُوَ يَنْظُرُ بِعَيْنٍ غَيْرِ صَحِيحَةٍ- وَ يَسْمَعُ بِأُذُنٍ غَيْرِ سَمِيعَةٍ- قَدْ خَرَقَتِ الشَّهَوَاتُ عَقْلَهُ- وَ أَمَاتَتِ الدُّنْيَا قَلْبَهُ- وَ وَلِهَتْ عَلَيْهَا نَفْسُهُ- فَهُوَ عَبْدٌ لَهَا- وَ لِمَنْ فِي يَدَيْهِ شَيْءٌ مِنْهَا- حَيْثُمَا زَالَتْ زَالَ إِلَيْهَا- وَ حَيْثُمَا أَقْبَلَتْ أَقْبَلَ عَلَيْهَا- لَا يَنْزَجِرُ مِنَ اللَّهِ بِزَاجِرٍ- وَ لَا يَتَّعِظُ مِنْهُ بِوَاعِظٍ- وَ هُوَ يَرَى الْمَأْخُوذِينَ عَلَى الْغِرَّةِ- حَيْثُ لَا إِقَالَةَ وَ لَا رَجْعَةَ- كَيْفَ نَزَلَ بِهِمْ مَا كَانُوا يَجْهَلُونَ- وَ جَاءَهُمْ مِنْ فِرَاقِ الدُّنْيَا مَا كَانُوا يَأْمَنُونَ- وَ قَدِمُوا مِنَ الْآخِرَةِ عَلَى مَا كَانُوا يُوعَدُونَ- فَغَيْرُ مَوْصُوفٍ مَا نَزَلَ بِهِمْ- اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِمْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ- وَ حَسْرَةُ الْفَوْتِ فَفَتَرَتْ لَهَا أَطْرَافُهُمْ- وَ تَغَيَّرَتْ لَهَا أَلْوَانُهُمْ- ثُمَّ ازْدَادَ الْمَوْتُ فِيهِمْ وُلُوجاً- فَحِيلَ بَيْنَ أَحَدِهِمْ وَ بَيْنَ مَنْطِقِهِ- وَ إِنَّهُ لَبَيْنَ أَهْلِهِ يَنْظُرُ بِبَصَرِهِ- وَ يَسْمَعُ بِأُذُنِهِ عَلَى صِحَّةٍ مِنْ عَقْلِهِ- وَ بَقَاءٍ مِنْ لُبِّهِ- يُفَكِّرُ فِيمَ أَفْنَى عُمُرَهُ- وَ فِيمَ أَذْهَبَ دَهْرَهُ- وَ يَتَذَكَّرُ أَمْوَالًا جَمَعَهَا أَغْمَضَ فِي مَطَالِبِهَا- وَ أَخَذَهَا مِنْ مُصَرَّحَاتِهَا وَ مُشْتَبِهَاتِهَا- قَدْ لَزِمَتْهُ تَبِعَاتُ جَمْعِهَا- وَ أَشْرَفَ عَلَى فِرَاقِهَا- تَبْقَى لِمَنْ وَرَاءَهُ يَنْعَمُونَ فِيهَا- وَ يَتَمَتَّعُونَ بِهَا- فَيَكُونُ الْمَهْنَأُ لِغَيْرِهِ وَ الْعِبْءُ عَلَى ظَهْرِهِ- وَ الْمَرْءُ قَدْ غَلِقَتْ رُهُونُهُ بِهَا- فَهُوَ يَعَضُّ يَدَهُ نَدَامَةً- عَلَى مَا أَصْحَرَ لَهُ عِنْدَ الْمَوْتِ مِنْ أَمْرِهِ- وَ يَزْهَدُ فِيمَا كَانَ يَرْغَبُ فِيهِ أَيَّامَ عُمُرِهِ- وَ يَتَمَنَّى أَنَّ الَّذِي كَانَ يَغْبِطُهُ بِهَا- وَ يَحْسُدُهُ عَلَيْهَا قَدْ حَازَهَا دُونَهُ- فَلَمْ يَزَلِ الْمَوْتُ يُبَالِغُ فِي جَسَدِهِ- حَتَّى خَالَطَ لِسَانُهُ سَمْعَهُ- فَصَارَ بَيْنَ أَهْلِهِ لَا يَنْطِقُ بِلِسَانِهِ- وَ لَا يَسْمَعُ بِسَمْعِهِ- يُرَدِّدُ طَرْفَهُ بِالنَّظَرِ فِي وُجُوهِهِمْ- يَرَى حَرَكَاتِ أَلْسِنَتِهِمْ- وَ لَا يَسْمَعُ رَجْعَ كَلَامِهِمْ- ثُمَّ ازْدَادَ الْمَوْتُ الْتِيَاطاً فَقُبِضَ بَصَرُهُ كَمَا قُبِضَ سَمْعُهُ وَ خَرَجَتِ الرُّوحُ مِنْ جَسَدِهِ- فَصَارَ جِيفَةً بَيْنَ أَهْلِهِ- قَدْ أَوْحَشُوا مِنْ جَانِبِهِ- وَ تَبَاعَدُوا مِنْ قُرْبِهِ- لَا يُسْعِدُ بَاكِياً وَ لَا يُجِيبُ دَاعِياً- ثُمَّ حَمَلُوهُ إِلَى مَخَطٍّ فِي الْأَرْضِ- فَأَسْلَمُوهُ فِيهِ إِلَى عَمَلِهِ- وَ انْقَطَعُوا عَنْ زَوْرَتِهِ
اللغة
أقول: المأدبة بضمّ الدال و فتحها: الطعام يصنع و يدعى إليه. و الوله: التحيّر لشدّة الوجد و المحبّة. و أغمض: أى اذداد من مطالبها و تساهل في وجوه اكتسابها و لم يحفظ دينه. و التبعة: ما يلحق من إثم و عقاب. و المهنأ: المصدر من هنؤ بالضمّ و هنىء بالكسر. و العبء: الحمل. و أصحر: انكشف. و رجع الكلام: جوابه و ترديده. و الالتياط: الالتصاق. و المخطّ: موضع الخطّ كناية عن القبر يخطّ أوّلا ثمّ يحفر، و يروى بالحاء. و محطّ القوم: منزلهم.
و في هذا الفصل نكت:
الاولى: أنّ خالقا و معبودا حالان انتصبا عمّا في سبحانك من معنى الفعل:
أى اسبّحك خالقا و معبودا، و أشار بذلك إلى وجوب تنزيهه في هذين الاعتبارين أعنى اعتبار كونه خالقا للخلق و معبودا لهم عن الشركاء و الأنداد فإنه لمّا تفرّد بالإبداع و الخلق، و استحقّ بذلك التفرّد تفرّده بعبادة الكلّ له وجب تنزيهه عن مساو له في الاعتبارين.
الثانية: قوله: بحسن بلائك عند خلقك خلقت دارا الجارّ و المجرور متعلّق بخلقت، و لفظ الدار مستعار للإسلام، و لفظ المأدبة للجنّة، و الداعى هو الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلم. و قد جمعها الخبر في بعض أمثاله صلّى اللّه عليه و آله و سلم إنّ اللّه جعل الإسلام دارا و الجنّة مأدبة و الداعى إليها محمّدا. و وجه الاستعارة الاولى أنّ الإسلام يجمع أهله و يحميهم كالدار، و وجه الثانية: أنّ الجنّة مجتمع الشهوات و منتجع اللذّات كالمأدبة، و يحتمل أن يريد بالدار الآخرة باعتبار كونها مجمعا و مستقرّا و المأدبة فيها الجنّة، و المنصوبات الثمانية مميّزات لتلك المأدبة، و ظاهر أنّ وجود الإسلام و الجنّة و الدعوة إليها بلاء حسن من اللّه لخلقه، و قد عرفت معنى ابتلائه تعالى، و قال بعض الشارحين: إنّ قوله: بحسن بلائك متعلّق بسبحانك أو بمعبود و هو بعيد.
الثالثة: قوله: فلا الداعى أجابوا. إلى قوله: بواعظ
شرح لحال العصاة الّذين لم يجيبوا داعى اللّه، و بيان لعيوبهم و غرقهم في حبّ الباطل من الدنيا و فائدته: أمّا للمنتهين اللازمين لأوامر اللّه المجيبين لدعوته فتنفيرهم عن الركون إلى هؤلاء و الوقوع فيما وقعوا فيه، و أمّا لهؤلاء فتنبيههم من مراقد غفلاتهم بتذكيرهم عيوبهم لعلّهم يرجعون، و استعار لفظ الجيفة للدنيا، و وجه المشابهة أنّ لذّات الدنيا و قيناتها في نظر العقلاء و اعتبار الصالحين منفور عنها و مهروب منها و مستقذرة كالجيفة و إلى ذلك أشار الواصف لها:
و ما هي إلّا جيفة مستحيلة عليها كلاب همهنّ اجتذابها
فإن تجتنبها كنت سلما لأهلها
و إن تجتذبها نازعتك كلابها
و يمكن أخذ معنى البيت الثاني في وجه الاستعارة المذكورة، و كذلك استعار لفظ الافتضاح للاشتهار باقتنائها و جمعها و الخروج بها عن شعائر الصالحين، و وجه الاستعارة أنّه لمّا كان الإقبال على جمع الدنيا و الاشتغال بها عن اللّه من أعظم الكبائر و المساوى في نظر الشارع و السالكين لطريق اللّه، و كان الافتضاح عبارة عن انكشاف المساوى المتعارف قبحها لا جرم أشبه الاشتهار بجمعها و انكشاف الحرص عليها الافتضاح، و يمكن أن يصدق الافتضاح هاهنا حقيقة، و كنّى بأكلها عن جمعها، و تجوّز بلفظ الاصطلاح في التوافق على محبّتها إطلاقا لاسم الملزوم على لازمه فإنّ الاصطلاح عبارة عن التراضى بعد التغاضب و يلزمه الاتّفاق على الأحوال، و قوله: من عشق شيئا أعمى بصره و أمرض قلبه. كبرى قياس دلّ على صغراه قوله: و اصطلحوا على حبّها. لأنّ الاصطلاح على محبّة الشيء يستلزم شدّة محبّته و هومعنى العشق و نتيجته أنّ المذكورين في معرض الذمّ قد أعشت الدنيا أبصارهم و أمرضت قلوبهم، و استعار لفظ البصر لنور البصيرة ملاحظة لشبه المعقول بالمحسوس، و لفظ العشاء لظلمة الجهل ملاحظة للشبه بالظلمة العارضة للعين بالليل، و إسناد الإعشاء إلى الدنيا يحتمل أن يكون حقيقة لما يستلزمه حبّها من الجهل و الغفلة عن أحوال الآخرة، و يحتمل أن يريد بالبصر حقيقته، و يكون لفظ العشاء مستعارا لعدم استفادتهم بأبصارهم عبرة تصرفهم عن حبّ الدنيا إلى ملاحظة أحوال الآخرة، و يؤيّده قوله: فهو ينظر بعين غير صحيحة، و كنّى بعدم صحّتها عمّا يلزم العين غير الصحيحة من عدم الانتفاع بها في تحصيل الفائدة، و كذلك استعار لفظ المرض للداء الأكبر و هو الجهل استعارة لفظ المحسوس للمعقول، و قوله: فهو يسمع باذن غير سميعة، و كنّى بذلك عن عدم إفادتها عبرة من المواعظ و الزواجر الإلهيّة كما سبق، و كذلك استعار لفظ التخريق لتفرّق عقله في مهمّات الدنيا و مطالبها.
و وجه الاستعارة أنّ العقل إذا استعمل فيما خلق لأجله من اتّخاذ الزاد ليوم المعاد و اقتباس العلم و الحكمة من تصفّح جزئيّات الدنيا و الاستدلال منها على وجود الصانع و ما ينبغي له و نحو ذلك ممّا هو كماله المستعدّ في الآخرة فإنّه يكون منتظما منتفعا به، و أمّا إن استعمل فيما لا ينبغي من جميع متفرّقات الدنيا و توزيع الهمّة في تحصيل جزئيّاتها و ضبطها حتّى يكون أبدا في الحزن و الأسف على فوات ما فات، و في الخوف من زوال ما يحصل، و في الهمّة و الحرص على جمع ما لم يحصل بعد فإنّه يكون كالثوب المخرّق الّذي لا ينتفع به صاحبه. و نحوه قول الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلم: من جعل الدنيا أكبر همّه فرّق اللّه عليه همّه، و جعل فقره بين عينيه.
الحديث، و نسبة ذلك التخريق إلى الشهوات ظاهرة. إذ كان زمام عقله بيد شهوته فهى تفرّقه و تمزّقه على حسب تصرّفاتها و ميولها إلى أنواع المشتهيات، و كذلك استعار لفظ الإماتة لقلبه، و وجه المشابهة خروجه عن الانتفاع به الانتفاع الحقيقىّ الباقى كالميّت، و الضمير في قوله: عليها يعود إلى الدنيا: أى و ولّهت الدنيا على نفسها، و كنّى بالتولّه عن شدّة المحبّة لها و أطلقه مجازا تسمية للشيء بما هو من غاياته، و كذلك استعار لفظ العبد له لكونه محبّها و المتجرّد لتحصيلها متصرّفا بحسب تصريفها و دائرا في حركاته حيث دارت فإن كانت في يده أقبل عليها بالعمارة و الحفظ، و إن زالت عنه أنصب إلى تحصيلها و خدمة من كانت في يده لغرضها فهو في ذلك كالعبد لها بل أخسّ حالا كما قال عليه السّلام في موضع آخر: عبد الشهوة أذلّ من عبد الرقّ. إذا الباعث لعبد الرقّ على الخدمة و الانقياد قد يكون قسريّا، و الباعث لعبد الشهوة طبيعىّ، و شتّان ما بينهما.
الرابعة: قوله: و هو يرى المأخوذين على الغرّة
فالواو في قوله: و هو للحال، و هو شروع في وصف نزول الموت بالغافلين عن الاستعداد له و لما ورائه من أحوال الآخرة و كيفيّة قبض الموت لأرواحهم من مبدء نزوله بهم. إلى آخره، و كيفيّة أحوالهم مع أهليهم و إخوانهم معه، و هو وصف لا مزيد على وضوحه و بلاغته و فائدته تذكير العصاة بأهوال الموت و تنبيههم من غفلتهم في الباطل بذلك على وجوب العمل له، و تثبيت للسالكين إلى اللّه على ما هم عليه، و مراده بقوله: ما كانوا يجهلون. لا الموت فإنّه معلوم لكلّ أحد، بل تفصيل سكراته و أهواله. و ما كانوا يأمنون. إشارة إلى الموت و ما بعده فإنّ الغافل حال انهماكه في لذّات الدنيا لا يعرض له خوف الموت بل يكون في تلك الحال آمنا منه، و قوله: فغير موصوف ما نزل بهم: أى ليس ذلك ممّا يمكن استقصائه بوصف بل غايته التمثيل كما ورد في التوراة: أنّ مثل. الموت كمثل شجرة شوك أدرجت في بدن بن آدم فتعلّقت كلّ شوكة بعرق و عصب ثمّ جذبها رجل شديد الجذب فقطع ما قطع و ابقى ما ابقى، و استعار لفظ الولوج لما يتصوّر من فراق الحياة لعضوعضو فأشبه ذلك دخول جسم في جسم آخر، و كذلك استعار لفظ العبء للآثام الّتي تحملها النفس، و رشّح بذكر الظهر استعارة لفظ المحسوس للمعقول.
الخامسة: قوله: و المرء قد غلقت رهونه بها.
ضربه مثلا لحصول المرء في تبعات ما جمع و ارتباطه بها عن الوصول إلى كماله و انبعاثه إلى سعادته بعد الموت، و قد كان يمكنه فكاكها بالتوبة و الأعمال الصالحة فأشبه ما جمع من الهيئات الرديئة في نفسه عن اكتساب الأموال فارتهنت بها بما على الرهن من المال، و قال بعض الشارحين: أراد أنّه لمّا أشفى على الفراق صارت الأموال الّتي جمعها مستحقّة لغيره و لم يبق له فيها تصرّف فاشبهت الرهن الّذي غلّق على صاحبه فخرج عن كونه مستحقّا لصاحبه و صار مستحقّا للمرتهن. و هذا و إن كان محتملا إلّا أنّه يضيّع فائدة قوله: بها. لأنّ الضمير يعود إلى الأموال المجموعة و هو إشارة إلى المال الّذي تعلّق الرهن به فلا تكون هي نفس الرهن، و قوله: و هو يعضّ يده. كناية عمّا يلزم ذلك من الأسف و الحزن و الندم على تفريطه في جنب اللّه حيث انكشف له حال الموت انقطاع سببه من اللّه، و فوت ما كان يتوهّم بقائه عليه ممّا اشتغل به عن ربّه، و حيث يتحسّر على ذلك التفريط كما قال تعالى «أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَ إِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ»«» و يتمنّى هداية اللّه فيقول: لو أنّ اللّه هدانى لكنت من المتّقين، أو الرجعة إلى الدنيا لامتثال ما فرّطت فيه من الأوامر الإلهيّة فيقول حين يرى العذاب: لو أنّ لى كرّة فأكون من المحسنين، و كما قال تعالى «وَ يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا»«» و قد نبّه عليه السّلام في هذا الكلام على أنّ آلة النطق تبطل من الإنسان حال الموت قبل آلتى السمع و البصر بقوله: فحيل بين أحدهم و بين منطقه، و إنّه لبين أهله ينظر ببصره و يسمع باذنه على صحّة من عقله. ثمّ نبّه على بطلان آلة السمع بعدها قبل آلة البصر و أنّ آلة البصر تبطل مع المفارقة بقوله: حتّى خالط سمعه.
إلى قوله: يرى حركات ألسنتهم و لا يسمع رجع كلامهم. و ذلك لعلمه عليه السّلام بأسرار الطبيعة، و ليس كلامه مطلقا بل في بعض الناس و أغلب ما يكون ذلك فيمن تعرّض الموت الطبيعىّ لآلاته، و إلّا فقد تعرّض الآفة لقوّة البصر و آلته قبل آلة السمع و آلة النطق، و الّذي يلوح من أسباب ذلك أنّه لمّا كان السبب العامّ القريب للموت هو انطفاء الحرارة الغريزيّة عن فناء الرطوبة الأصليّة الّتي منها خلقنا، و كان فناء تلك الرطوبة عن عمل الحرارة الغريزيّة فيها التجفيف و التحليل و قد تعينها على ذلك الأسباب الخارجيّة من الأهوية و استعمال الأدوية المجفّفة و سائر المخفّفات كان كلّ عضو أيبس من طبيعته و أبرد أسرع إلى البطلان و أسبق إلى الفساد.
إذا عرفت ذلك فنقول: أمّا أنّ آلة النطق أسرع فسادا من آلة السمع فلأنّ آلة النطق مبنيّة على الأعصاب المحرّكة و مركّبة منها، و آلة السمع من الأعصاب المفيدة للحسّ، و اتّفق الأطبّاء على أنّ الأعصاب المحرّكة أيبس و أبرد لكونها منبعثة من مؤخّر الدماغ دون الأعصاب المفيدة للحسّ فإنّ جلّها منبعث من مقدّم الدماغ فكانت لذلك أقرب إلى البطلان، و لأنّ النطق أكثر شرائط من السماع لتوقّفه مع الآلة و سلامتها على الصوت و سلامة مخارجه و مجارى النفس، و الأكثر شرطا أسرع إلى الفساد، و أمّا بطلان آلة السمع قبل البصر فلأنّ منبت الأعصاب الّتي هى محلّ القوّة السامعة أقرب إلى مؤخّر الدماغ من منابت محلّ القوّة الباصرة الصماخ الّذي رتّبت فيه قوّة السمع احتاج أن يكون مكشوفا غير مسدود عنه سبيل الهواء بخلاف العصب الّذي هو آلة البصر فكانت لذلك أصلب، و الأصلب أيبس و أسرع فسادا. هذا مع أنّه قد يكون ذلك لتحلّل الروح الحامل للسمع قبل الروح الحامل للبصر أو لغير ذلك. و اللّه أعلم، و أمّا سبب النفرة الطبيعيّة من الميّت و التوحّش من قربه فحكم الوهم على المتخيّلة بمحاكاة حاله في نفس المتوهّم، و عزل العقل في ذلك الوضع حتّى أنّ المجاور لميّت في موضع منفرد يتخيّل أنّ الميّت يجذبه إليه و يصيّره بحالة مثل حالته المنفورة عنها طبعا.
السادسة: قوله: و أسلموه فيه إلى عمله
إشارة إلى أنّ كلّ ثواب و عقاب اخروىّ يفاض على النفس فبحسب استعدادها بأعمالها السابقة الحسنة و السيّئة فعمل الإنسان هو النافع أو الضارّ له حين لا ناصر له، و لمّا كان ميله عليه السّلام في هذا الكلام إلى الإنذار و التخويف لا جرم ذكر إسلامهم له إلى عمله لأنّ الإسلام إنّما يكون إلى العدوّ فلمّا حاول أن ينفّر عن قبح الأعمال نبّه على أنّ عمل الإنسان القبيح يكون كعدوّه القوىّ عليه يسلم إليه.
الفصل الثالث:
قوله: حَتَّى إِذَا بَلَغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ- وَ الْأَمْرُ مَقَادِيرَهُ- وَ أُلْحِقَ آخِرُ الْخَلْقِ بِأَوَّلِهِ- وَ جَاءَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ مَا يُرِيدُهُ- مِنْ تَجْدِيدِ خَلْقِهِ- أَمَادَ السَّمَاءَ وَ فَطَرَهَا- وَ أَرَجَّ الْأَرْضَ وَ أَرْجَفَهَا- وَ قَلَعَ جِبَالَهَا وَ نَسَفَهَا- وَ دَكَّ بَعْضُهَا بَعْضاً مِنْ هَيْبَةِ جَلَالَتِهِ- وَ مَخُوفِ سَطْوَتِهِ- وَ أَخْرَجَ مَنْ فِيهَا فَجَدَّدَهُمْ بَعْدَ إِخْلَاقِهِمْ- وَ جَمَعَهُمْ بَعْدَ تَفَرُّقِهِمْ- ثُمَّ مَيَّزَهُمْ لِمَا يُرِيدُهُ مِنْ مَسْأَلَتِهِمْ- عَنْ خَفَايَا الْأَعْمَالِ وَ خَبَايَا الْأَفْعَالِ- وَ جَعَلَهُمْ فَرِيقَيْنِ- أَنْعَمَ عَلَى هَؤُلَاءِ وَ انْتَقَمَ مِنْ هَؤُلَاءِ- فَأَمَّا أَهْلُ الطَّاعَةِ فَأَثَابَهُمْ بِجِوَارِهِ- وَ خَلَّدَهُمْ فِي دَارِهِ- حَيْثُ لَا يَظْعَنُ النُّزَّالُ- وَ لَا تَتَغَيَّرُ بِهِمُ الْحَالُ- وَ لَا تَنُوبُهُمُ الْأَفْزَاعُ- وَ لَا تَنَالُهُمُ الْأَسْقَامُ وَ لَا تَعْرِضُ لَهُمُ الْأَخْطَارُ- وَ لَا تُشْخِصُهُمُ الْأَسْفَارُ- وَ أَمَّا أَهْلُ الْمَعْصِيَةِ- فَأَنْزَلَهُمْ شَرَّ دَارٍ وَ غَلَّ الْأَيْدِيَ إِلَى الْأَعْنَاقِ- وَ قَرَنَ النَّوَاصِيَ بِالْأَقْدَامِ- وَ أَلْبَسَهُمْ سَرَابِيلَ الْقَطِرَانِ- وَ مُقَطَّعَاتِ النِّيرَانِ- فِي عَذَابٍ قَدِ اشْتَدَّ حَرُّهُ- وَ بَابٍ قَدْ أُطْبِقَ عَلَى أَهْلِهِ- فِي نَارٍ لَهَا كَلَبٌ وَ لَجَبٌ- وَ لَهَبٌ سَاطِعٌ وَ قَصِيفٌ هَائِلٌ- لَا يَظْعَنُ مُقِيمُهَا- وَ لَا يُفَادَى أَسِيرُهَا- وَ لَا تُفْصَمُ كُبُولُهَا- لَا مُدَّةَ لِلدَّارِ فَتَفْنَى- وَ لَا أَجَلَ لِلْقَوْمِ فَيُقْضَى
اللغة
أقول: الرجّ، و الرجف: الاضطراب الشديد، و يروى رجّها بغير همزة، و هو الأشهر. و نسفها: قلعها من اصولها و بثّها. و دكّ بعضها بعضا: تصادمت. و تنوبهم: تعودهم. و الخطر: الإشراف على الهلاك. و شخص: خرج من منزله إلى آخر، و أشخصه: غيّره. و الكلب: الشدّة. و الجلب و اللجب: الصوت. و القصيف: الصوت الشديد. و الكبول: الأغلال واحدها كبل. و فصمها: كسرها.
المعنى
و أشار بقوله: حتّى إذا بلغ الكتاب أجله. إلى غاية الناس في موتهم، و هو بلوغ الوقت المعلوم الّذي يجمع له الناس و هو يوم القيامة، و أراد بالأمر القضاء و مقاديره و تفاصيله من الآثار الّتي توجد على وفقه كما سبق بيانه، و لحوق الخلق بأوّله إشارة إلى توافيهم في الموت و تساويهم فيه كما نطقت الشريعة به، و تجديد الخلق بعثهم و إعادتهم، و أمّا إمادة السماء و شقّها و ارجاج الأرض و نسف الجبال فظاهر الشريعة الناطق بخراب هذا العالم ناطق به، و أمّا من زعم بقائه فربّما عدلوا إلى التأويل،
و الّذي يحتمل أن يقال في ذلك وجوه:
أحدها
أنّ القيامة لمّا كانت عندهم عبارة عن موت الإنسان و مفارقته لهذا البدن و لما يدرك بواسطته من الأجسام و الجسمانيّات و وصوله إلى مبدئه الأوّل كان عدمه عن هذه الأشياء مستلزم لغيبوبتها عنه و عدمها و خرابها بالنسبة فيصدق عليه أنّه إذا انقطع نظره عن جميع الموجودات سوى مبدئه الأوّل- جلّت عظمته- أنّها قد عدمت و تفرّقت، و كذلك إذا انقطع نظره عن عالم الحسّ و الخيال و متعلّقاتهما من الأجسام و الجسمانيّات و اتّصل بالملأ الأعلى فبالحرىّ أن يتبدّل الأرض و السماوات بالنسبة إليه فيصير عالم الأجسام و الجسمانيّات أرضا له و عالم المفارقات سمائه.
الثاني:
أنّ هذه الموجودات المشار إليها لمّا كانت مقهورة بلجام الإمكان في قبض القدرة الإلهيّة كان ما نسب إليها من الانشقاق و الانفطار و الارجاج و النسف و غيرها امورا ممكنة في نفسها و إن امتنعت بالنظر إلى الأسباب الخارجيّة فعبّر عمّا يمكن بالواقع مجازا. و حسنه في العربيّة معلوم، و فائدته التهويل بما بعد الموت و التخويف للعصاة بتلك الأهوال.
الثالث:
قالوا: يحتمل أن يريد بالأرض القوابل للجود الإلهىّ استعارة فعلى هذا إمادة السماء عبارة عن حركاتها و اتّصالات كواكبها الّتي هى أسباب معدّة لقوابل هذا العالم، و انفطارها إفاضة الجود بسبب تلك المعدّات على القوابل، و ارجاج الأرض إعداد الموادّ لإعادة أمثال هذه الأبدان أو لنوع آخر بعد فناء النوع الإنسانيّ، و قلع الجبال و نسفها و دقّها إشارة إلى زوال موانع الاستعدادات لنوع آخر إن كان، أولا عادة بناء هذا النوع استعارة. و وجهها أنّ الأرض بنسف الجبال يستوى سطحها و يعتدل فكذلك قوابل الجود يستعدّ و يعتدل لأن يفاض عليها صورة نوع اخرى لأبناء هذا النوع.
الرابع:
قالوا: يحتمل أن يريد بالسماء سماء الجود الإلهىّ، و بالأرض عالم الإنسان. فعلى هذا يكون إمادة السماء عبارة عن ترتيب كلّ استحقاق لقابله في القضاء الإلهىّ، و الفطر عبارة عن الفيض، و ارجاج الأرض و إرجافها عبارة عن الهرج و المرج الواقع بين أبناء نوع الانسان، و قلع جبالها و نسفها و دكّ بعضها بالبعض عبارة عن إهلاك الجبابرة و المعاندين للناموس الإلهىّ و قتل بعضهم ببعض. كلّ ذلك بأسباب قهريّة مستندة إلى هيبة جلال اللّه و عظمته، و إخراج من فيها و تجديدهم إشارة إلى ظهور ناموس آخر مجدّد لهذا الناموس و المتّبع له إذن قوم آخرون هم كنوع جديد، و تمييزهم فريقين منعم عليهم و منتقم منهم ظاهر فإنّ المستعدّين لاتّباع الناموس الشرعىّ و القائلين به هم المنعم عليهم المثابون، و التاركين له المعرضين عنه هم المنتقم منهم المعاقبون، فأمّا صفة الفريقين و ما أعدّ لكلّ منهم بعد الموت فعلى ما نطق به الكتاب العزيز و وصفته هذه الألفاظ الكريمة. و على تقدير التأويلات السابقة لمن عدل عن الظواهر فثواب أهل الطاعة جوار بارئهم و ملاحظة الكمال المطلق لهم، و خلودهم في داره: بقائهم في تلك النعمة غير جائز عليهم الفناء كما تطابق عليه الشرع و البرهان، و كونهم غير ظاعنين و لا متغيّرى الأحوال و لا فزعين و لا ينالهم سقم و لا خطر و لا يشخصهم سفر فلأنّ كلّ ذلك من لواحق الأبدان و الكون في الحياة الدنيا فحيث زالت زالت عوارضها و لواحقها، و أمّا جزاء أهل المعصية فإنزالهم شرّ دار، و هى جهنّم الّتي هي أبعد بعيد عن جوار اللّه، و غلّ أيديهم إلى أعناقهم إشارة إلى قصور قواهم العقليّة عن تناول ثمار المعرفة، و اقتران النواصى بالأقدام إشارة إلى انتكاس رؤسهم عن مطالعة أنوار الحضرة الإلهيّة، و إلباسهم سرابيل القطران: استعار لفظ السرابيل للهيئات البدنيّة المتمكّنة من جواهر نفوسهم، و وجه المشابهة اشتمالها عليها و تمكّنها منها كالسربال للبدن، و نسبتها إلى القطران إشارة إلى شدّة استعدادهم للعذاب، و ذلك أنّ اشتغال النار فيما يمسح بالقطران أشدّ، و نحوه قوله تعالى «سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ»«» و كذلك مقطّعات النيران: إشارة إلى تلك الهيئات الّتي تمكّنت من جواهر نفوسهم، و نسبتها إلى النار لكونها ملبوس أهلها فهى منها كما قال تعالى «قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ»«» و لمّا كان سبب الخروج من النار هو الخروج إلى اللّه من المعاصى بالتوبة، و الرجوع إلى تدبّر الآيات و العبر النوافع. و كان البدن و حواسّه أبواب الخروج إلى اللّه فبعد الموت تغلق تلك الأبواب فلا جرم يبقى الكفّار وراء طبق تلك الأبواب في شدائد حرارة ذلك العذاب، و لهب النار و لجبها و أصواتها الهايلة: استعارة لأوصاف النار المحسوسة المستلزمة للهيبة و الخوف حسّا للنار المعقولة الّتي هي في الحقيقة أشدّ- نعوذ باللّه منها- و إنّما عدل إلى المحسوس للغفلة عن صفات تلك النار و عدم تصوّر أكثر الخلق لها إلّا من هذه الأوصاف المحسوسة، و كونها لا يظعن مقيمها كناية عن التخليد و ذلك في حقّ الكفّار، و لفظ الأسير و الفدية استعارة، و كذلك لفظ الكبول استعارة لقيود الهيئات البدنيّة المتمكّنة من جواهر نفوس الكفّار فكما لا ينفصم القيد الوثيق من الحديد و لا ينفكّ المكبّل به كذلك النفوس المقيّدة بالهيئات الرديئة البدنيّة عن المشى في بيداء جلال اللّه و عظمته و التنزّه في جنان حظائر قدسه و مقامات أصفيائه، و لمّا كان الأجل مفارقة البدن لم يكن لهم بعد موتهم أجل، إذ لا أبدان بعد الأبدان و لا خلاص من العذاب للزوم الملكات الرديئة لأعناق نفوسهم، و تمكّنها منها. فهذا ما عساهم يتأوّلونه أو يعبّرون به عن الأسرار الّتي يدّعونها تحت هذه العبارات الواضحة الّتى وردت الشريعة بها. لكنّك قد علمت أنّ العدول إلى هذه التأويلات و أمثالها مبنىّ على امتناع المعاد البدنىّ، و ذلك ممّا صرّحت به الشريعة تصريحا لا يجوز العدول عنه، و نصوصا لا يحتمل التأويل، و إذا حملنا الكلام على ما وردت به الشريعة فهذا الكلام منه عليه السّلام أفصح ما يوصف به حال القيامة و المعاد. و التعرّض لشرحه يجرى مجرى إيضاح الواضحات. و باللّه التوفيق.
الفصل الرابع
و منها في ذكر النبي صلى اللّه عليه و آله و سلم:
قَدْ حَقَّرَ الدُّنْيَا وَ صَغَّرَهَا- وَ أَهْوَنَ بِهَا وَ هَوَّنَهَا- وَ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ زَوَاهَا عَنْهُ اخْتِيَاراً- وَ بَسَطَهَا لِغَيْرِهِ احْتِقَاراً- فَأَعْرَضَ عَنِ الدُّنْيَا بِقَلْبِهِ- وَ أَمَاتَ ذِكْرَهَا عَنْ نَفْسِهِ- وَ أَحَبَّ أَنْ تَغِيبَ زِينَتُهَا عَنْ عَيْنِهِ- لِكَيْلَا يَتَّخِذَ مِنْهَا رِيَاشاً- أَوْ يَرْجُوَ فِيهَا مَقَاماً- بَلَّغَ عَنْ رَبِّهِ مُعْذِراً- وَ نَصَحَ لِأُمَّتِهِ مُنْذِراً- وَ دَعَا إِلَى الْجَنَّةِ مُبَشِّراً- نَحْنُ شَجَرَةُ النُّبُوَّةِ- وَ مَحَطُّ الرِّسَالَةِ- وَ مُخْتَلَفُ الْمَلَائِكَةِ- وَ مَعَادِنُ الْعِلْمِ وَ يَنَابِيعُ الْحُكْمِ- نَاصِرُنَا وَ مُحِبُّنَا يَنْتَظِرُ الرَّحْمَةَ- وَ عَدُوُّنَا وَ مُبْغِضُنَا يَنْتَظِرُ السَّطْوَةَ
اللغة
أقول: الرياش: اللباس.
المعنى
و الفصل اقتصاص لحال الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلم و أوصافه الحميدة ليبنى عليها ممادح نفسه بعد. فتحقيره للدنيا و تصغيرها و تهوينها إشارة إلى ما كان يجذب الخلق به عنها من ذكر مذامّها و تعديد معايبها، و إهوانه بها إشارة إلى زهده فيها، و علمه بإزواء اللّه إيّاها عنه اختيارا إشارة إلى أنّ زهده فيها كان عن علم منه باختيار اللّه له ذلك و تسبّب أسبابه و هو وجه مصلحته ليستعدّ نفسه بذلك لكمال النبوّة و القيام بأعباء الخلافة الأرضيّة و بسطها لغيره احتقارا لها،. و قد عرفت معنى الاختيار من اللّه لخلقه غير مرّة. فكان إعراضه عنها بقلبه إماتة ذكرها عن نفسه، و محبّته لأن تغيب زينتها عن عينه لئلّا يتّخذ منها رياشا و لا يرجو فيها مقاما جذبا للعناية الإلهيّة له عن الالتفات إلى الالتقاط إلى الكمالات المعلومة له، و عن أن ينحطّ لمحبّتها عن مقامه الّذي قضت العناية الإلهيّة بنظام العالم بسببه. ثمّ أعقب ذلك بذكر ثلاثة أحوال هى ثمرة النبوّة الّتي هى ثمرة الزهد المشار اليه، و هى تبليغ رسالة ربّه إعذارا إلى خلقه أن يقولوا يوم القيامة: إنّا كنّا عن هذا غافلين، و النصح لهم إنذارا بالعذاب الأليم في عاقبة الإعراض عن اللّه، و دعائه إلى الجنّة مبشّرا لمن سلك سبيل اللّه و نهجه المستقيم بما أعدّ له فيها من النعيم المقيم. ثمّ عقّب اقتصاص تلك الممادح بالإشارة إلى فضيلة نفسه، و ذلك منه في معرض المفاخرة بينه و بين مشاجريه كمعاوية فأشار إلى فضيلته من جهة اتّصاله بالرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلم إذ كان من البيت الّذي هو شجرة النبوّة و محطّ الرسالة و معدن العلم و ينبوع الحكمة بأفضل مكان بعد الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلم كما سبق بيانه في بيان فضائله، و لفظ الشجرة و المعادن و الينابيع مستعار كما سبق، و إذا كان من تلك الشجرة كما علمت و لكلّ غصن من الشجرة قسط من الثمرة بحسب قوّته و قربه من الأصل و عناية الطبيعة به علمت مقدار فضيلته و نسبتها إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلم. و قوله بعد ذلك: ناصرنا ومحبّنا. إلى آخره. ترغيب في نصرته و محبّته و جذب إليها بالوعد برحمة اللّه و إفاضة بركاته و تنفير عن عداوته و بغضه بلحوق سطوة اللّه، و لعلّ ذلك هو غايته هنا من ذكر فضيلته. و باللّه التوفيق و العصمة.
شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحرانی)، ج 3 ، صفحهى 50