و من خطبة له عليه السّلام و هى من خطب الملاحم
القسم الأول
الْحَمْدُ لِلَّهِ الْمُتَجَلِّي لِخَلْقِهِ بِخَلْقِهِ- وَ الظَّاهِرِ لِقُلُوبِهِمْ بِحُجَّتِهِ- خَلَقَ الْخَلْقَ مِنْ غَيْرِ رَوِيَّةٍ- إِذْ كَانَتِ الرَّوِيَّاتُ لَا تَلِيقُ إِلَّا بِذَوِي الضَّمَائِرِ- وَ لَيْسَ بِذِي ضَمِيرٍ فِي نَفْسِهِ- خَرَقَ عِلْمُهُ بَاطِنَ غَيْبِ السُّتُرَاتِ- وَ أَحَاطَ بِغُمُوضِ عَقَائِدِ السَّرِيرَاتِ
أقول: حمد اللّه تعالى باعتبارات خمسة:
أحدها: اعتبار تجلّيه لخلقه بخلقه
و قد علمت غير مرّة أنّ تجلّيه يعود إلى إجلاء معرفته من مصنوعاته لقلوب عباده حتّى أشبهت كلّ ذرّة من مخلوقاته مرآة ظهر فيها لهم. فهم يشاهدونه على قدر قبولهم لمشاهدته و تفاوت تلك المشاهدة بحسب تفاوت أشعّة ابصار بصائرهم. فمنهم من يرى الصنيعة أوّلا و الصانع ثانيا، و منهم من يراهما معا، و منهم من يرى الصانع أوّلا، و منهم من لا يرى مع الصانع غيره.
الثاني: الظاهر لقلوبهم بحجّته
أى الواضح وجوده لقلوب منكريه بأوهامهم و ألسنتهم بقيام حجّته عليهم بذلك و هي إحكام الصنع و إتقانه في أنفسهم و إن احتاجوا إلى تنبيه ما كقوله تعالى «وَ فِي أَنْفُسِكُمْ أَ فَلا تُبْصِرُونَ» و كذلك في ملكوت السماوات و الأرض كقوله تعالى «أَ وَ لَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ»«» الآية و هو قريب ممّا مرّ.
الثالث: خلقه الخلق بلا رويّة
و فكر في كيفيّة خلقه، و أشار إلى برهان سلب الرويّة عنه بقوله: إذ كانت الرويّات لا تليق إلّا بذوى الضمائر: أى بذى قلب و حواسّ بدنيّة. و ليس بذى ضمير في نفسه. و القياس من الشكل الثاني، و ترتيبه كلّ روية فلذى ضمير، و لا شيء من واجب الوجود بذى ضمير. فينتج أنّه لا شيء من الرويّة لواجب الوجود سبحانه. و المقدّمتان جليّتان ممّا سبق غير مرّة.
الرابع: كون علمه خارقا لباطن غيب السترات
و هو إشارة إلى نفوذه في كلّ مستتر و غائب بحيث لا يحجبه ستر و لا يستره حجاب.
الخامس: كونه محيطا بغموض عقائد السريرات
أى بما دقّ من عقائد أسرار القلوب كقوله تعالى «يَعْلَمُ السِّرَّ وَ أَخْفى».
القسم الثاني
منها في ذكر النبي صلى اللّه عليه و آله و سلم:
اخْتَارَهُ مِنْ شَجَرَةِ الْأَنْبِيَاءِ- وَ مِشْكَاةِ الضِّيَاءِ وَ ذُؤَابَةِ الْعَلْيَاءِ- وَ سُرَّةِ الْبَطْحَاءِ وَ مَصَابِيحِ الظُّلْمَةِ- وَ يَنَابِيعِ الْحِكْمَةِ
اللغة
أقول: الذؤابة: ما تدلّى من الشعر و نحوه. و بطحاء مكّة: بسيط واديها.
و سرّة الوادى: أشرف موضع فيه.
و في الفصل استعارات:
الاولى: لفظ الشجرة لصنف الأنبياء عليهم السّلام
و وجه المشابهة كون ذلك الصنف ذا ثمر و فروع، ففروعه أشخاص الأنبياء، و ثمره العلوم و الكمالات النفسانيّة كما أنّ الشجرة ذات غصون و ثمر.
الثانية: لفظ المشكاة لآل إبراهيم
و وجه المشابهة أنّ هؤلاء قد ظهرت منهم الأنبياء و سطع من بيتهم ضياء النبوّة و نور الهداية كما يظهر من نور المصباح من المشكاة.
الثالثة: لفظ الذؤابة.
و يشبه أن يشير به إلى قريش، و وجه المشابهة تدلّيهم في أغصان الشرف و العلوّ عن آبائهم كتدلّى ذؤابة الشعر عن الرأس.
الرابعة: سرّة البطحاء
و أشار به إلى اختياره من أفضل بيت في مكّة.
الخامسة: استعارة لفظ المصابيح
للأنبياء أيضا. و وجه المشابهة ظاهر. و قد مرّ غير مرّة كونهم مصابيح ظلمات الجهل.
السادسة: استعارة لفظ الينابيع،
و وجه المشابهة فيضان العلم و الحكمة عنهم كفيضان الماء عن ينابيعه.
القسم الثالث و منها
طَبِيبٌ دَوَّارٌ بِطِبِّهِ قَدْ أَحْكَمَ مَرَاهِمَهُ- وَ أَحْمَى مَوَاسِمَهُ يَضَعُ ذَلِكَ حَيْثُ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ- مِنْ قُلُوبٍ عُمْيٍ وَ آذَانٍ صُمٍّ- وَ أَلْسِنَةٍ بُكْمٍ- مُتَتَبِّعٌ بِدَوَائِهِ مَوَاضِعَ الْغَفْلَةِ- وَ مَوَاطِنَ الْحَيْرَةِ لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِأَضْوَاءِ الْحِكْمَةِ- وَ لَمْ يَقْدَحُوا بِزِنَادِ الْعُلُومِ الثَّاقِبَةِ- فَهُمْ فِي ذَلِكَ كَالْأَنْعَامِ السَّائِمَةِ- وَ الصُّخُورِ الْقَاسِيَةِ- قَدِ انْجَابَتِ السَّرَائِرُ لِأَهْلِ الْبَصَائِرِ- وَ وَضَحَتْ مَحَجَّةُ الْحَقِّ لِخَابِطِهَا- وَ أَسْفَرَتِ السَّاعَةُ عَنْ وَجْهِهَا- وَ ظَهَرَتِ الْعَلَامَةُ لِمُتَوَسِّمِهَا- مَا لِي أَرَاكُمْ أَشْبَاحاً بِلَا أَرْوَاحٍ- وَ أَرْوَاحاً بِلَا أَشْبَاحٍ- وَ نُسَّاكاً بِلَا صَلَاحٍ- وَ تُجَّاراً بِلَا أَرْبَاحٍ- وَ أَيْقَاظاً نُوَّماً- وَ شُهُوداً غُيَّباً- وَ نَاظِرَةً عَمْيَاءَ- وَ سَامِعَةً صَمَّاءَ- وَ نَاطِقَةً بَكْمَاءَ رَايَةُ ضَلَالٍ قَدْ قَامَتْ عَلَى قُطْبِهَا- وَ تَفَرَّقَتْ بِشُعَبِهَا- تَكِيلُكُمْ بِصَاعِهَا- وَ تَخْبِطُكُمْ بِبَاعِهَا- قَائِدُهَا خَارِجٌ مِنَ الْمِلَّةِ- قَائِمٌ عَلَى الضَّلَّةِ- فَلَا يَبْقَى يَوْمَئِذٍ مِنْكُمْ إِلَّا ثُفَالَةٌ كَثُفَالَةِ الْقِدْرِ- أَوْ نُفَاضَةٌ كَنُفَاضَةِ الْعِكْمِ- تَعْرُكُكُمْ عَرْكَ الْأَدِيمِ- وَ تَدُوسُكُمْ دَوْسَ الْحَصِيدِ- وَ تَسْتَخْلِصُ الْمُؤْمِنَ مِنْ بَيْنِكُمُ- اسْتِخْلَاصَ الطَّيْرِ الْحَبَّةَ الْبَطِينَةَ- مِنْ بَيْنِ هَزِيلِ الْحَبِّ أَيْنَ تَذْهَبُ بِكُمُ الْمَذَاهِبُ- وَ تَتِيهُ بِكُمُ الْغَيَاهِبُ- وَ تَخْدَعُكُمُ الْكَوَاذِبُ- وَ مِنْ أَيْنَ تُؤْتَوْنَ- وَ أَنَّى تُؤْفَكُونَ- فَ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ- وَ لِكُلِّ غَيْبَةٍ إِيَابٌ- فَاسْتَمِعُوا مِنْ رَبَّانِيِّكُمْ- وَ أَحْضِرُوهُ قُلُوبَكُمْ- وَ اسْتَيْقِظُوا إِنْ هَتَفَ بِكُمْ- وَ لْيَصْدُقْ رَائِدٌ أَهْلَهُ- وَ لْيَجْمَعْ شَمْلَهُ- وَ لْيُحْضِرْ ذِهْنَهُ- فَلَقَدْ فَلَقَ لَكُمُ الْأَمْرَ فَلْقَ الْخَرَزَةِ- وَ قَرَفَهُ قَرْفَ الصَّمْغَةِ فَعِنْدَ ذَلِكَ أَخَذَ الْبَاطِلُ مَآخِذَهُ- وَ رَكِبَ الْجَهْلُ مَرَاكِبَهُ- وَ عَظُمَتِ الطَّاغِيَةُ وَ قَلَّتِ الدَّاعِيَةُ- وَ صَالَ الدَّهْرُ صِيَالَ السَّبُعِ الْعَقُورِ- وَ هَدَرَ فَنِيقُ الْبَاطِلِ بَعْدَ كُظُومٍ- وَ تَوَاخَى النَّاسُ عَلَى الْفُجُورِ- وَ تَهَاجَرُوا عَلَى الدِّينِ- وَ تَحَابُّوا عَلَى الْكَذِبِ- وَ تَبَاغَضُوا عَلَى الصِّدْقِ- فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَانَ الْوَلَدُ غَيْظاً- وَ الْمَطَرُ قَيْظاً وَ تَفِيضُ اللِّئَامُ فَيْضاً- وَ تَغِيضُ الْكِرَامُ غَيْضاً- وَ كَانَ أَهْلُ ذَلِك َ الزَّمَانِ ذِئَاباً- وَ سَلَاطِينُهُ سِبَاعاً وَ أَوْسَاطُهُ أُكَّالًا- وَ فُقَرَاؤُهُ أَمْوَاتاً وَ غَارَ الصِّدْقُ- وَ فَاضَ الْكَذِبُ- وَ اسْتُعْمِلَتِ الْمَوَدَّةُ بِاللِّسَانِ- وَ تَشَاجَرَ النَّاسُ بِالْقُلُوبِ- وَ صَارَ الْفُسُوقُ نَسَباً- وَ الْعَفَافُ عَجَباً- وَ لُبِسَ الْإِسْلَامُ لُبْسَ الْفَرْوِ مَقْلُوباً
اللغة
أقول: المواسم: المسامير الّتي تكوى. و انجابت: انكشفت. و المتوسّم: المتفرّس. و الضلّة: الضلال. و العكم بكسر العين: العدل. و البطينة: الممتلية. و الغياهب: الظلم. و تؤفكون: تصرفون. و الفنيق: الفحل المكرم. و كظوم الجمل: سكوته عن الجرّة.
المعنى
فقوله: طبيب دوّار بطبّه.
كناية عن نفسه كناية بالمستعار فإنّه طبيب مرضى الجهل و رذائل الأخلاق، و كنّى بدورانه بطبّه تعرّضه لعلاج الجهّال من دائهم و نصب نفسه لذلك، و استعار لفظ المراهم لما عنده من العلوم و مكارم الأخلاق، و لفظ المواسم لما يتمكّن منه من إصلاح من لا ينفع فيه الموعظة و التعليم بالجلد و سائر الحدود. فهو كالطبيب الكامل الّذي يملك المراهم و الأدوية و المكاوى لمن لا ينفع فيه المراهم يضع كلّ واحد من أدويته و مواسمه حيث الحاجة إليه من قلوب عمى يفتح عماها بإعدادها لقبول أنوار العلم و الهداية لسلوك سبيل اللّه، و من آذان صمّ يعدّها لقبول المواعظ، و تجوّز بلفظ الصمم في عدم انتفاع النفس بالمواعظة من جهتها فهي كالصمّاء إطلاقا لاسم الملزوم على لازمه.
إذ كان الصمم يستلزم ذلك العدم، و من ألسنة بكم يطلقها بذكر اللّه و الحكمة، و أطلق لفظ البكم مجازا في عدم المطلوب منها بوجودها و هو التكلّم بما ينبغي فإنّها لفقدها ذلك المطلوب كالبكم.
و قوله: متّبع.
صفة لطبيب، و مواضع الغفلة و مواطن الحيرة كناية عن قلوب الجهّال [الجهلة خ] و لذلك أشار إليهم بأنّهم لم يستضيئوا بأضواء الحكمة: أى لم يكسبوا شيئا من العلوم و الأخلاق و لم يقدحوا بزناد العلوم الثاقبة الّتي تثقب سترات الحجب كما يستخرج بالزناد النار.
و قوله: فهم في ذلك
أى في عدم استضاءتهم بأضواء الحكمة كالأنعام السائمة و الصخور القاسية. و وجه المشابهة بينهم و بين الأنعام استوائهم في الغفلة و الانخراط في سلك الشهوة و الغضب دون اعتبار شيء من حظّ العقل و عدم التقيّد به كما لا قيد للأنعام السائمة. و بينهم و بين الصخور قساوة قلوبهم و عدم لينها و خشيتها من ذكر اللّه و آياته كما قال تعالى «ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً»
و قوله: قد انجابت السرائر لأهل البصائر.
إشارة إلى انكشاف ما يكون بعده لنفسه القدسيّة و لمن تفرّس من اولى التجارب و الفطن السليمة ممّا يكون من ملوك بنى اميّة و عموم ظلمهم، و يحتمل أن يريد بالسرائر أسرار الشريعة و انكشافها لأهلها.
و قوله: و وضحت محجّة الحقّ لخابطها.
إشارة إلى وضوح الشريعة و بيان طريق اللّه، و فايدة القضيّة الاولى التنبيه على النظر في العواقب، و فائدة الثانية الجذب إلى اتّباع الدين و سلوك سبيل اللّه إذ لا عذر للخابطين في جهالاتهم بعد وضوح دين اللّه.
و قوله: و أسفرت الساعة عن وجهها:
أى بدت مقبلة، و لمّا كان وجه الشيء أوّل ما يبدو منه و ينظر كنّى به عمّا بدا من أمر الساعة و هو قيام الفتن و إقبالها.
و قوله: و ظهرت العلامة لمتوسّمها:
أى علامة قيام الساعة و هي الفتن المتوقّعة المتفرّسة (المتغرّسة خ) من بنى اميّة و من بعدهم، و ذكره لإسفار الساعة و علاماتها تهديد و ترغيب في العمل لها.
و قوله: ما لى أراكم أشباحا بلا أرواح.
شبّههم في عدم انتفاعهم بالعقول و عدم تحريك المواعظ و التذكير لهم بالجمادات الخالية من الأرواح، كما قال تعالى «كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ».
و قوله: و أرواحا بلا أشباح.
قيل فيه وجوه: الأوّل: أنّ ذلك مع ما قبله إشارة إلى نقصانهم: أى أنّ منهم من هو شبح بلا أرواح كما سبق، و من كان له روح و فهم فلا قوّة له بأمر الحرب و لا نهضة معه فهو كروح خلت عن بدن، فهم في طريق تفريط و إفراط. الثاني: قيل: كنّى بذلك عن عدم نهضة بعضهم إلى الحرب دون بعض إذا دعوا إليه كما لا يقوم البدن بدون الروح و لا الروح بدون البدن. الثالث: قال بعضهم: أراد أنّهم إن خافوا ذهلت عقولهم و طارت ألبابهم فكانوا كالأجسام بلا أرواح و إن أمنوا تركوا الاهتمام بامورهم و ضيّعوا الفرص و مصالح الإسلام حتّى كأنّهم في ذلك أرواح لا تعلّق لها بما يحتاج الأجسام إليه.
قوله: و نسّاكا بلا صلاح.
إشارة إلى أنّ من تزهّد منهم فزهده ظاهرىّ ليس عن صلاح سريرته. و قيل: أراد من تزهّد منهم عن جهل فإنّه و إن عمل إلّا أنّ أعماله لمّا لم تكن عن علم كانت ضايعة واقعة على غير الوجه المرضىّ و المأمور به، كما روى عن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلم: الزاهد الجاهل مسخرة الشيطان.
و قوله: و تجّارا بلا أرباح.
إشارة إلى من يتّجر منهم بالأعمال الفاسدة و هو يعتقد كونها قربة إلى اللّه مستلزمة لثوابه و ليس كذلك، و لفظ التجّار و الربح مستعاران، و وجه الاستعارتين ظاهر.
و قوله: و أيقاظا نوّما.
كنّى بنومهم عن نوم نفوسهم في مراقد الطبيعة و مماهد الغفلة فهم بهذا الاعتبار أيقاظ العيون نوّم العقول.
و قوله: و شهودا غيّبا:
أى شهودا بأبدانهم غيّبا بعقولهم عن التفطّن لمقاصد اللّه و التلقّى لأنواره من الموعظة و الأوامر الإلهيّة.
و قوله: و ناظرة عمياء.
أراد و عيونا ناظرة عمياء: أى عن تصفّح آثار اللّه للعبرة بها و الانتفاع في أمر الآخرة فهي تشبه العمى في عدم الفائدة بها.
و قوله: و سامعة صمّاء:
أى: و آذانا سامعة للأصوات صمّاء عن نداء اللّه و النافع من كلامه فهي تشبه الصمّ في عدم الفائدة المقصودة.
و قوله: و ناطقة بكماء:
أى: و ألسنة ناطقة بكماء عن النطق بما ينبغي فأشبهت البكم، و لفظ العمياء و الصمّاء و البكماء مستعار للمشابهات المذكورة، و قد راعى في ذلك التضادّ في الألفاظ و أراد ذوى عيون و آذان و ألسنة بالصفات المذكورة: أى خالية عن الفائدة.
و قوله: راية ضلالة [رأيت ضلالة خ].
لمّا نبّههم و أيقظهم بالتوبيخ و التقريع و التنقيص ألقى إليهم ما ينبغي أن يحترزوا منه و يأخذوا اهبّتهم له من ظهور الفتن المتوقّعة لبنى اميّة، و كنّى عن ظهورها بقوله: راية ضلالة، و التقدير هذه راية ضلالة، و كنّى بقيامها على قطبها عن اجتماع أهلها على قائد الفتنة و رئيسهم فيها، و كنّى بالقطب عنه كناية بالمستعار. و تفرّقها و تشعبّها انتشارها في الآفاق و تولّد فتن اخرى عنها. ثمّ استعار لفظ الكيل لأخذهم و إهلاكهم زمرة زمرة ملاحظة لشبهها بالكيّال في أخذه لما يكيل جملة جملة، و رشّح بلفظ الصاع، و كذلك استعار لفظ الخبط لايقاع السيف و الأحكام الجائرة فيهم على غير قانون دينىّ و لا نظام حقّ لشبهها بالبكرة النفور من الإبل الّتى تخبط ما تلقاه بيديها، و رشّح الاستعارة بذكر الباع. و لم يقل بيدها لأنّ ذكر الباع أبلغ في البعير عن قوّة الخبط.
و قوله: قائدها خارج عن الملّة:
أى خارج عن الدين و الشريعة فاسق عن أمر اللّه قائم على الضلّة: أى مقيم على الضلالة.
و قوله: فلا يبقى يومئذ منكم إلّا ثفالة كثفالة القدر.
استعار لفظ الثفالة و كنّى به عمّن لا خير فيه من الأرذال و من لا ذكر له و لا شهرة، و شبّه اولئك بثفالة القدر في كونهم غير معتبرين و لا ملتفت إليهم، و كذلك نفاضة العرك و هو ما يبقى في أسفل العدل من أثر الزاد أو الحنطة و نحوها. ثمّ استعار لفظ العرك لتقليب الفتن لهم و رميهم و تذليلهم بها كما يذلّل و يليّن الأديم، و كذلك استعار لفظ الدوس لإهانتهم لهم و شدّة امتهانهم إيّاهم بالبلاء، و شبّه ذلك بدوس الحصيد من الحنطة و نحوها و هو ظاهر، ثمّ أشار إلى استقصاء أهل تلك الضلالة على المؤمنين و استخلاصهم لهم لإيقاع المكروه بهم، و شبّه ذلك الاستخلاص باستخلاص الطير الحبّة السمينة الممتلية من الفارغة الهزيلة و ذلك أنّ الطير ترتاز بمنقاره سمين الحبّ من هزيله فيخلّى عن الهزيل منه. ثمّ أخذ يسألهم على سبيل التهكّم و التقريع لهم ببقائهم على غوايتهم فسألهم عن غاية أخذ مذاهب الضلال، و عمّا تتيه بهم ظلم الجهالات، و عمّا تخدعهم أوهامهم الكواذب جاذبا لهم إليه، منكرا عليهم مطلوبا آخر غير اللّه تعالى، رادعا لهم من طريق غير شريعته. ثمّ سألهم عن الجهة الّتى يؤتون منها: أى من أين أتتكم هذه الأمراض. و هو عليه السّلام يعلم أنّ الداخل إنّما دخل عليهم من جهلهم لكن هذا وجه من البلاغة و ذكرنا أنّه يسمّى تجاهل العارف و هو كقوله تعالى «فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ» و كذلك قوله: فأنّى تؤفكون: أى متى يكون انصرافكم عمّا أنتم عليه من الغفلة.
و قوله: و لكلّ أجل كتاب و لكلّ غيبة إياب.
تهديد بالإشارة إلى قرب الموت و أنّهم بمعرض أن يأخذهم على غفلتهم فيكونوا من الأخسرين أعمالا. ثمّ أمرهم بإسماع الموعظة منه. و الربّانىّ: العالم علم الربوبيّة المتبحّر فيه. ثمّ باحضار قلوبهم و هو التفاتهم بأذهانهم إلى ما يقول. ثمّ بالاستيقاظ من نوم الغفلة عند هتفه بهم و ندائه لهم. و قوله: و ليصدق رائد أهله. مثل نزّله هنا على مراده، و أصله: لا يكذب رائد أهله. فاستعار لفظ الرائد للفكر، و وجه المثل أنّ الرائد لمّا كان هو الّذي يبعثه القوم لطلب الكلاء و الماء أشبه الفكر في كونه مبعوثا من قبل النفس في طلب مرعاها و ماء حياتها من العلوم و سائر الكمالات فكنّى به عنه، و أهله على هذا البيان هو النفس فكأنّه عليه السّلام قال: فلتصدق أفكاركم و متخيّلاتكم نفوسكم، و صدقها إيّاها تصرّفها على حسب إشارة العقل فيما تقوله و تشير به دون التفات إلى مشاركة الهوى فإنّ الرائد إذا أرسلته النفس عن مشاركة ميل شهوانيّ كذبها و دلّيها بغرور، و يحتمل أن يريد بالرائد أشخاص من حضر عنده فإنّ كلّا منهم له أهل و قبيلة يرجع إليهم فأمرهم أن يصدقهم أمر لهم بتبليغ ما سمع على الوجه الّذي ينبغي و النصيحة به و الدعوة إليه كما يرجع طالب الكلاء و الماء الواجد لهما إلى قومه فيبشّرهم به و يحملهم إليه.
و قوله: و ليجمع شمله
أى ما تفرّق و تشعّب من خواطره في امور الدنيا و مهمّاتها، و ليحضر ذهنه: أى و ليوجّهه إلى ما أقول
و قوله: و لقد فلق لكم الأمر فلق الخرزة:
أى أوضح لكم أمر ما جهلتموه من الدين و أحكام الشريعة، و قيل: أمر ما سيكون من الفتن. و شقّ لكم ظلمة الجهل عنه كايتّضح باطن الخرزة بشقّها، و قرفه قرف الصمغة: أى ألقى إليكم علمه بكلّيّته و النصيحة فيه حتّى لم يدّخر عنكم شيئا كما يقرف الصمغة قارفها، يقال: تركته على مثل مقرف الصمغة، إذا لم تترك له شيئا لأنّ الصمغة تقتلع من شجرها حتّى لا تبقى عليها علقة.
و قوله: فعند ذلك.
متّصل بقوله: من بين هزيل الحبّ: أى فعند ما تفعل بكم تلك الفتن و راية الضلال ما تفعل قد أخذ الباطل مآخذه: أى استحكم و ثبت و أخذ مقارّه، و كذلك يركب الجهل مراكبه: أى كان ذلك وقت حملته ملاحظة لتشبيهه بالمستعدّ للغارة قد ركب خيله، و كنّى بمراكبه عن الجهّال.
و قوله: و عظمت الطاغية
أى الفتنة الطاغية الّتي تجاوزت في عظمها الحدّ و المقدار، و قلّت الراعية: أى رعاة الدين و أهله الّذين يحمون حوزته: أى الفرقة الراعية، و روى الداعية: أى الفرقة الداعية إلى اللّه.
و قوله: وصال الدهر صيال السبع العقور
استعار وصف الصيال للدهر ملاحظة 1 لشبهه بالسبع، و وجه الاستعارة كون الدهر مبدءا قوّيا لتلك الشرور الواقعة فأشبه السبع الضارى العقور في شدّة صياله. ثمّ استعار لفظ الفنيق للباطل و رشّح الاستعارة بذكر الهدير و الكظوم، و وجه المشابهة ظهور الباطل و إكرام أهله و تمكّنهم من الأمر و النهى كالفحل المكرّم ذى الشقشقة، و عنى بالهدير ظهورهم و تمكّنهم و بالكظوم خفاء الباطل و خمول أهله في زمان ظهور الحقّ و قوّته.
و قوله: و تواخى الناس على الفجور:
أى كان اتّصالهم و محبّة بعضهم لبعض على الفجور و اتّباع الأهواء. و تهاجروا على الدين: أى من أحسّوا منه قوّة في دينه هجروه و رفضوه. فهجرهم. و التحابّ على الكذب داخل تحت التواخى على الفجور، و التباغض على الصدق داخل تحت التهاجر على الدين، و الغرض بتعداد ذلك تنفير السامعين عن تلك الرذائل و تخويفهم بوقوعها.
و قوله: فإذا كان ذلك كان الولد غيظا:
أى إذا احدث ذلك اشتغل كلّ امرء بنفسه لينجو بها. فيكون الولد الّذي هو أعزّ محبوب غيظا لوالده: أى من أسباب محنته و غيظه، و أطلق لفظ الغيظ عليه إطلاقا لاسم السبب على المسبّب.
و قوله: و المطر قيظا.
جعل وقوع المطر قيظا من علامات تلك الشرور و هو أيضا ممّا يعدّ شرّا لأنّه لا يثير نباتا و لا يقوم عليه زرع و يفسد الثمار القائمة، و كأنّه كنّى به عن انقلاب أحوال الخير شرورا.
و قوله: و كان أهل ذلك الزمان. إلى قوله: أمواتا.
أهل كلّ زمان ينقسمون إلى ملوك أكابر، و أوساط، و أدانى. فإذا كان زمان العدل كان أهله في نظام سلكه فيفيض عدل الملوك على من يليهم ثمّ بواسطتهم على من يليهم حتّى ينتهى إلى أدانى الناس، و إذا كان زمان الجور فاض الجور كذلك فكانت السلاطين سباعا ضارية مفترسة لكلّ ذى سمن، و كان أهل ذلك الزمان و أكابره ذئابا ضارية على أوساط الناس و كانت الأوساط أكّالا لهم، و كانت الفقراء أمواتا لانقطاع مادّة حياتهم ممّن هو أعلى منهم رتبة، و تجوّز بلفظ الأموات عن غاية الشدّة و البلاء لكون الموت غاية ذلك إطلاقا لاسم السبب الغائيّ على مسبّبه. ثمّ استعار لفظ الغيض لقلّة الصدق و الفيض لظهور الكذب و كثرته ملاحظة لشبهها بالماء، و استعمال المودّة باللسان إشارة إلى النفاق و هو التودّد بالقول مع التباعد بالقلوب و عقدها على البغض و الحسد، و استعار لفظ التشاجر بالقلوب ملاحظة لشبهها بالرماح فكما أنّ الرمح يشجر به فكذلك قلوب بعضهم تعقد على هلاك بعض و الطعن فيه بأنواع المهلكات، و كذلك لفظ النسب للفسوق، و وجه المشابهة كون الفسق بينهم يومئذ هو سبب التواصل و التزاور و التحابّ كما أنّ النسب كذلك، و صار العفاف عجبا لقلّة وجوده و ندرته بينهم، و لبس الإسلام لبس الفرو مقلوبا من أحسن التشبيه و أبلغه و المشبّه به هاهنا هو لبس الفرو و وجه الشبه كونه مقلوبا، و بيانه أنّه لمّا كان الغرض من الإسلام أن يكون باطنا ينتفع به القلب و يظهر فيه منفعته فقلّب المنافقون غرضه و استعملوه بظاهر ألسنتهم دون قلوبهم أشبه قلبهم له لبس الفرو.
إذ كان أصله أن يكون حمله ظاهرا لمنفعة الحيوان الّذي هو لباسه فاستعمله الناس مقلوبا. و باللّه التوفيق.
شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 3 ، صفحهى 39