و من خطبة له عليه السّلام
القسم الأول
انْظُرُوا إِلَى الدُّنْيَا نَظَرَ الزَّاهِدِينَ فِيهَا- الصَّادِفِينَ عَنْهَا- فَإِنَّهَا وَ اللَّهِ عَمَّا قَلِيلٍ تُزِيلُ الثَّاوِيَ السَّاكِنَ- وَ تَفْجَعُ الْمُتْرَفَ الآْمِنَ- لَا يَرْجِعُ مَا تَوَلَّى مِنْهَا فَأَدْبَرَ- وَ لَا يُدْرَى مَا هُوَ آتٍ مِنْهَا فَيُنْتَظَرَ سُرُورُهَا مَشُوبٌ بِالْحُزْنِ- وَ جَلَدُ الرِّجَالِ فِيهَا إِلَى الضَّعْفِ وَ الْوَهْنِ- فَلَا يَغُرَّنَّكُمْ كَثْرَةُ مَا يُعْجِبُكُمْ فِيهَا- لِقِلَّةِ مَا يَصْحَبُكُمْ مِنْهَا- رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً تَفَكَّرَ فَاعْتَبَرَ- وَ اعْتَبَرَ فَأَبْصَرَ- فَكَأَنَّ مَا هُوَ كَائِنٌ مِنَ الدُّنْيَا عَنْ قَلِيلٍ لَمْ يَكُنْ- وَ كَأَنَّ مَا هُوَ كَائِنٌ مِنَ الْآخِرَةِ- عَمَّا قَلِيلٍ لَمْ يَزَلْ- وَ كُلُّ مَعْدُودٍ مُنْقَضٍ- وَ كُلُّ مُتَوَقَّعٍ آتٍ- وَ كُلُّ آتٍ قَرِيبٌ دَانٍ
اللغة
أقول: صدف: أعرض. و ثوى بالمكان: أقام به. و الفجيعة: المصيبة. و الجلد: القوّة.
و حاصل الفصل تزهيد الدنيا و التحذير منها
فأمرهم أن ينظروا إليها نظر الزاهدين فيها المعرضين عنها أمر لهم بتركها و احتقارها إلّا بمقدار الضرورة إلى ما تقوم به الضرورة ثمّ أردفه بذكر معايبها المنفرّة:
فالأوّل: إزالتها للمقيم بها المطمئنّ إليها عمّا ركن إليه منها.
الثاني: فجيعتها للمترف المتنعّم بها الّذي خدعته بأمانيها حتّى أمن فيها بسلب ما ركن إليه و أمن عليه.
الثالث: كونها لا يرجع ما تولّى منها فأدبر من شباب و صحّة و مال و عمر و نحوه. الرابع: كونها لا يدرى ما هو آت من مصائبها فينتظر و يحترز منه. الخامس: شوب سرورها بالحزن.
إذ كان مسرورها لا يعدم في كل أوان فوت مطلوب أو فقد محبوب. السادس: انتهاء قوّة أهلها و جلدهم إلى الضعف كما قال تعالى «ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَ شَيْبَةً»«» و زهّد بعض الصالحين في الدنيا فقال: عيش مشوب بسقم منساق إلى هرم مختوم بعدم مستعقب بندم هل يجوز التنافس فيه. ثمّ نهى عن الاغترار بكثرة ما يعجبهم منها و علّل حسن ذلك الانتهاء بقلّة ما يصحبهم منها فإنّ المنافسة إنّما ينبغي أن يكون باقيلا للإنسان حيث كان كان، و أشار بقليل ما يصحبهم منها إلى الكفن و نحوه. ثمّ دعا لمن تفكّر فأفاده فكره عبرة: أى انتقال ذهن إلى ما هو الحقّ من وجوب ترك الدنيا و العمل للآخرة فإفادة ذلك الانتقال إدراكا للحقّ و مشاهدة ببصر البصيرة له ثمّ أردفه بتشبيه وجود متاع الدنيا الحاضر بعدمه تنبيها على سرعة لحوق عدمه بوجوده فكأنّ وجوده شبيه بأن لم يكن لسرعة زواله و كذلك تشبيه عدم الآخرة الآن و ما يلحق فيها من الثواب و العقاب بوجودها الدائم: أى كأنّها لسرعة وجودها و لحوقها لم تزل موجودة، و نبّه بقوله: و كلّ معدود منقض. على انقضاء مدد الأعمار لكونها معدودة الأيّام و الساعات و الأنفاس. و قوله: و كلّ متوقّع آت و كلّ آت قريب دان. في صورة الضرب الأوّل من الشكل الأوّل. و نتيجته فكلّ متوقّع قريب دان.
و الإشارة به إلى الموت و ما بعده.
القسم الثاني
الْعَالِمُ مَنْ عَرَفَ قَدْرَهُ- وَ كَفَى بِالْمَرْءِ جَهْلًا أَلَّا يَعْرِفَ قَدْرَهُ- وَ إِنَّ مِنْ أَبْغَضِ الرِّجَالِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لَعَبْداً- وَكَلَهُ اللَّهُ إِلَى نَفْسِهِ- جَائِراً عَنْ قَصْدِ السَّبِيلِ- سَائِراً بِغَيْرِ دَلِيلٍ- إِنْ دُعِيَ إِلَى حَرْثِ الدُّنْيَا عَمِلَ- وَ إِنْ دُعِيَ إِلَى حَرْثِ الْآخِرَةِ كَسِلَ- كَأَنَّ مَا عَمِلَ لَهُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ- وَ كَأَنَّ مَا وَنَى فِيهِ سَاقِطٌ عَنْهُ
المعنى
أقول: حصر العالم فيمن عرف قدره، و أراد بقدره مقداره من ملك اللّه و محلّه من الوجود، و لمّا كان عرفانه بذلك مستلزما لمعرفته بنسبته إلى مخلوقات اللّه في العالمين و أنّه أيّ شيء هو منها، و لأىّ شيء وجد لا جرم كان هو العالم اللازم لحدّه السالك لما امر به غير المتعدّى طوره المرسوم له في كتاب ربّه و سنن أنبيائه. و قوله: و كفى بالمرء جهلا أن لا يعرف قدره. لمّا كان العلم مستلزما لمعرفة القدر كان عدم معرفة القدر مستلزما لعدم العلم و هو الجهل لأنّ نقيض اللازم يستلزم نقيض الملزوم، و قوله: و كفى بذلك الجهل. إشارة إلى قوّته و استلزامه للعذاب. و قوله: و إنّ من أبغض الرجال إلى اللّه. إلى قوله: قصد السبيل. قد سبق بيانه. و قوله: سائرا بغير دليل. كنّى بالدليل عن أئمّة الهدى و المرشدين إلى اللّه، و يدخل في ذلك الكتاب و السنّة. فإنّ من سار في معاملته للّه أو لعباده بغير دليل منهما كان من الهالكين. و قوله: إن دعى. إلى آخره. استعار لفظ الحرث لأعمال الدنيا و أعمال الآخرة، و وجه المشابهة كونها مستلزمة للمكاسب الاخرويّة و الدنيويّة كما أنّ الحرث كذلك، ثمّ شبّه ما عمل له من حرث الدنيا بالواجب عليه في مبادرته إليه و مواظبته عليه، و شبّه ما ا قصّر عنه من حرث الآخرة بالساقط عنه فرضه في تكاسله و قعوده عنه مع أنّ الأمر منه ينبغي أن يكون بالعكس. و باللّه التوفيق.
القسم الثالث
و منها: وَ ذَلِكَ زَمَانٌ لَا يَنْجُو فِيهِ إِلَّا كُلُّ مُؤْمِنٍ نُوَمَةٍ- إِنْ شَهِدَ لَمْ يُعْرَفْ وَ إِنْ غَابَ لَمْ يُفْتَقَدْ- أُولَئِكَ مَصَابِيحُ الْهُدَى وَ أَعْلَامُ السُّرَى- لَيْسُوا بِالْمَسَايِيحِ وَ لَا الْمَذَايِيعِ الْبُذُرِ- أُولَئِكَ يَفْتَحُ اللَّهُ لَهُمْ أَبْوَابَ رَحْمَتِهِ- وَ يَكْشِفُ عَنْهُمْ ضَرَّاءَ نِقْمَتِهِ- أَيُّهَا النَّاسُ سَيَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ- يُكْفَأُ فِيهِ الْإِسْلَامُ كَمَا يُكْفَأُ الْإِنَاءُ بِمَا فِيهِ- أَيُّهَا النَّاسُ- إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعَاذَكُمْ مِنْ أَنْ يَجُورَ عَلَيْكُمْ- وَ لَمْ يُعِذْكُمْ مِنْ أَنْ يَبْتَلِيَكُمْ- وَ قَدْ قَالَ جَلَّ مِنْ قَائِلٍ- إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَ إِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ
قال الشريف: قوله عليه السّلام: «كل مؤمن نومة» فانما أراد به الخامل الذكر القليل الشر، و المساييح: جمع مسياح، و هو الذى يسيح بين الناس بالفساد و النمائم، و المذاييع: جمع مذياع، و هو الذى إذا سمع لغيره بفاحشة أذاعها و نوه بها، و البذر: جمع بذور و هو الذى يكثر سفهه و يلغو منطقه.
اللغة
أقول: النومة: كثير النوم، و روى نومة بسكون الواو. و هو ضعيف. و كفأت الإناء: قلّبته لوجهه،
المعنى
و كنّى بالنومة عن خامل الذكر بين الناس المشتغل بربّه عنهم كما فسّره عليه السّلام بقوله: إن شهد لم يعرف و إن غاب لم يفتقد، و أشار بأولئك إلى كلّ مؤمن كذلك، و استعار لهم لفظ المصابيح و الأعلام لكونهم أسباب الهداية في سبيل اللّه، و قد سبق ذلك. و قوله: ليسوا بالمساييح. إلى قوله: ضرّاء نقمته. ظاهر. و قد فسّر السيّد- رضوان اللّه عليه- مشكله. و قوله: أيّها الناس. إلى قوله: الإناء بما فيه. إخبار بما سيكون من فساد أهل الزمان و ما يكون فيه من الفتن و ترك الدين كما سبق إشاراته، و شبّه قلبهم للزمان بقلب الإناء بما فيه و وجه الشبه خروج الإسلام عن كونه منتفعا به بعد تركهم للعمل به كما يخرج ما في الإناء الّذي كبّ عن الانتفاع. و أحسن بهذا التشبيه. فإنّ الزمان للإسلام كإناء للماء، و أشار إلى أنّ ذلك ليس بظلم بقوله: إنّ اللّه قد أعاذكم من أن يجور عليكم في قوله تعالى «وَ ما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ»«» إنّ ذلك ابتلاء منه يبتلى به عباده كما قال تعالى «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَ إِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ»«» فمن صبر نفعه صبره و من كفر فعليه كفره، و قد عرفت معنى ابتلاء اللّه لخلقه و فائدته فلا وجه لإعادته. و باللّه التوفيق.
شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 3 ، صفحهى 18