100 و من خطبة له ع- و هي من الخطب التي تشتمل على ذكر الملاحم
الْحَمْدُ لِلَّهِ الْأَوَّلِ قَبْلَ كُلِّ أَوَّلٍ وَ الآْخِرِ بَعْدَ كُلِّ آخِرٍ- وَ بِأَوَّلِيَّتِهِ وَجَبَ أَنْ لَا أَوَّلَ لَهُ- وَ بِآخِرِيَّتِهِ وَجَبَ أَنْ لَا آخِرَ لَهُ يقول البارئ تعالى موجود قبل كل شيء- يشير العقل إليه و يفرضه أول الموجودات- و كذلك هو موجود بعد كل شيء- يشير العقل إليه- و يفرضه آخر ما يبقى من جميع الموجودات- فإن البارئ سبحانه بالاعتبار الأول- يكون أولا قبل كل ما يفرض أولا- و بالاعتبار الثاني يكون آخرا- بعد كل ما يفرض آخرا- .
فأما قوله بأوليته وجب أن لا أول له- إلى آخر الكلام فيمكن أن يفسر على وجهين- أحدهما أنه تعالى لما فرضناه أولا مطلقا- تبع هذا الفرض أن يكون قديما أزليا- و هو المعني بقوله وجب أن لا أول- و إنما تبعه ذلك- لأنه لو لم يكن أزليا لكان محدثا- فكان له محدث و المحدث متقدم على المحدث- لكنا فرضناه أولا مطلقا- أي لا يتقدم عليه شيء فيلزم المحال و الخلف- و هكذا القول في آخريته- لأنا إذا فرضناه آخرا مطلقا- تبع هذا الفرض أن يكون مستحيل العدم- و هو المعني بقوله وجب أن لا آخر له-و إنما تبعه ذلك- لأنه لو لم يستحل عدمه لصح عدمه- لكن كل صحيح و ممكن فليفرض وقوعه- لأنه لا يلزم من فرض وقوعه محال- مع فرضنا إياه صحيحا و ممكنا- لكن فرض تحقق عدمه محال- لأنه لو عدم لما عدم بعد استمرار الوجودية إلا بضد- لكن الضد المعدم يبقى- بعد تحقق عدم الضد المعدوم- لاستحالة أن يعدمه- و يعدم معه في وقت واحد- لأنه لو كان وقت عدم الطارئ- هو وقت عدم الضد المطروء عليه- لامتنع عدم الضد المطروء عليه- لأن حال عدمه الذي هو الأثر المتجدد- تكون العلة الموجبة للأثر معدومة- و المعدوم يستحيل أن يكون مؤثرا البتة- فثبت أن الضد الطارئ- لا بد أن يبقى بعد عدم المطروء عليه و لو وقتا واحدا- لكن بقاءه بعده و لو وقتا واحدا- يناقض فرضنا كون المطروء عليه آخرا مطلقا- لأن الضد الطارئ قد بقي بعده- فيلزم من الخلف و المحال ما لزم في المسألة الأولى- .
و التفسير الثاني- ألا تكون الضمائر الأربعة راجعة- إلى البارئ سبحانه- بل يكون منها ضميران راجعين إلى غيره- و يكون تقدير الكلام بأولية الأول- الذي فرضنا كون البارئ سابقا عليه- علمنا أن البارئ لا أول له- و بآخرية الآخر الذي فرضنا أن البارئ متأخر عنه- علمنا أن البارئ لا آخر له- و إنما علمنا ذلك- لأنه لو كان سبحانه أولا لأول الموجودات- و له مع ذلك أول لزم التسلسل- و إثبات محدثين و محدثين إلى غير نهاية- و هذا محال- . و لو كان سبحانه آخرا لآخر الموجودات- و له مع ذلك آخر لزم التسلسل- و إثبات أضداد تعدم و يعدمها غيرها إلى غير نهاية- و هذا أيضا محال: وَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ شَهَادَةً- يُوَافِقُ فِيهَا السِّرُّ الْإِعْلَانَ- وَ الْقَلْبُ اللِّسَانَ-أَيُّهَا النَّاسُ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي- وَ لَا يَسْتَهْوِيَنَّكُمْ عِصْيَانِي- وَ لَا تَتَرَامَوْا بِالْأَبْصَارِ عِنْدَ مَا تَسْمَعُونَهُ مِنِّي- فَوَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَ بَرَأَ النَّسَمَةَ- إِنَّ الَّذِي أُنَبِّئُكُمْ بِهِ عَنِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ ص- وَ اللَّهِ مَا كَذَبَ الْمُبَلِّغُ وَ لَا جَهِلَ السَّامِعُ- لَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى ضِلِّيلٍ قَدْ نَعَقَ بِالشَّامِ- وَ فَحَصَ بِرَايَاتِهِ فِي ضَوَاحِي كُوفَانَ- فَإِذَا فَغَرَتْ فَاغِرَتُهُ- وَ اشْتَدَّتْ شَكِيمَتُهُ- وَ ثَقُلَتْ فِي الْأَرْضِ وَطْأَتُهُ- عَضَّتِ الْفِتْنَةُ أَبْنَاءَهَا بِأَنْيَابِهَا- وَ مَاجَتِ الْحَرْبُ بِأَمْوَاجِهَا- وَ بَدَا مِنَ الْأَيَّامِ كُلُوحُهَا- وَ مِنَ اللَّيَالِي كُدُوحُهَا- فَإِذَا أَيْنَعَ زَرْعُهُ وَ قَامَ عَلَى يَنْعِهِ- وَ هَدَرَتْ شَقَاشِقُهُ وَ بَرَقَتْ بَوَارِقُهُ- عُقِدَتْ رَايَاتُ الْفِتَنِ الْمُعْضِلَةِ- وَ أَقْبَلْنَ كَاللَّيْلِ الْمُظْلِمِ وَ الْبَحْرِ الْمُلْتَطِمِ- هَذَا وَ كَمْ يَخْرِقُ الْكُوفَةَ مِنْ قَاصِفٍ- وَ يَمُرُّ عَلَيْهَا مِنْ عَاصِفٍ- وَ عَنْ قَلِيلٍ تَلْتَفُّ الْقُرُونُ بِالْقُرُونِ- وَ يُحْصَدُ الْقَائِمُ- وَ يُحْطَمُ الْمَحْصُودُ في الكلام محذوف- و تقديره لا يجرمنكم شقاقي على أن تكذبوني- و المفعول فضلة و حذفه كثير- نحو قوله تعالى- اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ- فحذف العائد إلى الموصول- و منها قوله سبحانه- لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ- أي من رحمه- و لا بد من تقدير العائد إلى الموصول- و قد قرئ قوله وَ ما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ و ما عملت أيديهم بحذف المفعول- .
لا يجرمنكم لا يحملنكم- و قيل لا يكسبنكم- و هو من الألفاظ القرآنية- .و لا يستهوينكم أي لا يستهيمنكم يجعلكم هائمين- . و لا تتراموا بالأبصار أي لا يلحظ بعضكم بعضا- فعل المنكر المكذب- . ثم أقسم بالذي فلق الحبة و برأ النسمة- فلق الحبة من البر- أي شقها و أخرج منها الورق الأخضر- قال تعالى إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَ النَّوى- . و برأ النسمة أي خلق الإنسان- و هذا القسم لا يزال أمير المؤمنين يقسم به- و هو من مبتكراته و مبتدعاته- . و المبلغ و السامع هو نفسه ع- يقولما كذبت على الرسول تعمدا- و لا جهلت ما قاله فأنقل عنه غلطا- . و الضليل الكثير الضلال- كالشريب و الفسيق و نحوهما- .
و هذا كناية عن عبد الملك بن مروان- لأن هذه الصفات و الأمارات فيه أتم منها في غيره- لأنه قام بالشام حين دعا إلى نفسه- و هو معنى نعيقه- و فحصت راياته بالكوفة- تارة حين شخص بنفسه إلى العراق و قتل مصعبا- و تارة لما استخلف الأمراء على الكوفة- كبشر بن مروان أخيه و غيره- حتى انتهى الأمر إلى الحجاج- و هو زمان اشتداد شكيمة عبد الملك و ثقل وطأته- و حينئذ صعب الأمر جدا- و تفاقمت الفتن مع الخوارج و عبد الرحمن بن الأشعث- فلما كمل أمر عبد الملك- و هو معنى أينع زرعه هلك- و عقدت رايات الفتن المعضلة من بعده- كحروب أولاده مع بني المهلب- و كحروبهم مع زيد بن علي ع- و كالفتن الكائنة بالكوفة أيام يوسف بن عمر- و خالد القسري و عمر بن هبيرة و غيرهم- و ما جرى فيها من الظلم و استئصال الأموال- و ذهاب النفوس- .
و قد قيل إنه كنى عن معاوية- و ما حدث في أيامه من الفتن- و ما حدث بعده من فتنة يزيد و عبيد الله بن زياد- و واقعة الحسين ع- و الأول أرجح- لأن معاوية في أيام أمير المؤمنين ع- كان قد نعق بالشام و دعاهم إلى نفسه- و الكلام يدل على إنسان ينعق فيما بعد- أ لا تراه يقول لكأني أنظر إلى ضليل- قد نعق بالشام- ثم نعود إلى تفسير الألفاظ و الغريب- . النعيق صوت الراعي بغنمه و فحص براياته- من قولهم ما له مفحص قطاة أي مجثمها- كأنهم جعلوا ضواحي الكوفة مفحصا و مجثما لراياتهم- .
و كوفان اسم الكوفة- و الكوفة في الأصل اسم الرملة الحمراء- و بها سميت الكوفة- و ضواحيها نواحيها القريبة منها البارزة عنها- يريد رستاقها- . و فغرت فاغرته فتح فاه- و هذا من باب الاستعارة أي إذا فتك فتح فاه و قتل- كما يفتح الأسد فاه عند الافتراس و التأنيف للفتنة- . و الشكيمة في الأصل- حديدة معترضة في اللجام في فم الدابة- ثم قالوا فلان شديد الشكيمة- إذا كان شديد المراس شديد النفس عسر الانقياد- .
و ثقلت وطأته عظم جوره و ظلمه- و كلوح الأيام عبوسها- و الكدوح الآثار من الجراحات- . و القروح الواحد الكدح أي الخدش- . و المراد من قوله من الأيام- ثم قال و من الليالي- أن هذه الفتنة مستمرة الزمان كله- لأن الزمان ليس إلا النهار و الليل- . و أينع الزرع أدرك و نضج- و هو الينع و الينع بالفتح و الضم- مثل النضج و النضج-و يجوز ينع الزرع بغير همز ينع ينوعا- و لم تسقط الياء في المضارع لأنها تقوت بأختها- و زرع ينيع و يانع مثل نضيج و ناضج- و قد روي أيضا هذا الموضع بحذف الهمز- .
و قوله ع و قام على ينعه- الأحسن أن يكون ينع هاهنا جمع يانع- كصاحب و صحب- ذكر ذلك ابن كيسان و يجوز أن يكون أراد المصدر- أي و قام على صفة و حالة هي نضجه و إدراكه- . و هدرت شقاشقه- قد مر تفسيره في الشقشقية- و برقت بوارقه سيوفه و رماحه- و المعضلة العسرة العلاج داء معضل- . و يخرق الكوفة يقطعها- و القاصف الريح القوية- تكسر كل ما تمر عليه و تقصفه- .
ثم وعد ع بظهور دولة أخرى- فقال و عن قليل تلتف القرون بالقرون- و هذا كناية عن الدولة العباسية- التي ظهرت على دولة بني أمية- و القرون الأجيال من الناس واحدها قرن بالفتح- .و يحصد القائم و يحطم المحصود- كناية عن قتل الأمراء من بني أمية في الحرب- ثم قتل المأسورين منهم صبرا- فحصد القائم قتل المحاربة- و حطم الحصيد القتل صبرا- و هكذا وقعت الحال مع عبد الله بن علي- و أبي العباس السفاح
شرح نهج البلاغة(ابن أبي الحديد) ج 7