32 و من كتاب له ع إلى معاوية
وَ أَرْدَيْتَ جِيلًا مِنَ النَّاسِ كَثِيراً- خَدَعْتَهُمْ بِغَيِّكَ وَ أَلْقَيْتَهُمْ فِي مَوْجِ بَحْرِكَ- تَغْشَاهُمُ الظُّلُمَاتُ وَ تَتَلَاطَمُ بِهِمُ الشُّبُهَاتُ- فَجَارُوا عَنْ وِجْهَتِهِمْ وَ نَكَصُوا عَلَى أَعْقَابِهِمْ- وَ تَوَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ وَ عَوَّلُوا عَلَى أَحْسَابِهِمْ- إِلَّا مَنْ فَاءَ مِنْ أَهْلِ الْبَصَائِرِ- فَإِنَّهُمْ فَارَقُوكَ بَعْدَ مَعْرِفَتِكَ- وَ هَرَبُوا إِلَى اللَّهِ مِنْ مُوَازَرَتِكَ- إِذْ حَمَلْتَهُمْ عَلَى الصَّعْبِ وَ عَدَلْتَ بِهِمْ عَنِ الْقَصْدِ- فَاتَّقِ اللَّهَ يَا مُعَاوِيَةُ فِي نَفْسِكَ- وَ جَاذِبِ الشَّيْطَانَ قِيَادَكَ- فَإِنَّ الدُّنْيَا مُنْقَطِعَةٌ عَنْكَ وَ الآْخِرَةَ قَرِيبَةٌ مِنْكَ- وَ السَّلَامُ أرديتهم أهلكتهم- و جيلا من الناس أي صنفا من الناس- و الغي الضلال و جاروا عدلوا عن القصد- و وجهتهم بكسر الواو يقال هذا وجه الرأي- أي هو الرأي بنفسه- و الاسم الوجه بالكسر و يجوز بالضم- . قوله و عولوا على أحسابهم أي لم يعتمدوا على الدين- و إنما أردتهم الحمية و نخوة الجاهلية- فأخلدوا إليها و تركوا الدين- و الإشارة إلى بني أمية و خلفائهم- الذين اتهموه ع بدم عثمان- فحاموا عن الحسب- و لم يأخذوا بموجب الشرع في تلك الواقعة-ثم استثنى قوما فاءوا أي رجعوا عن نصرة معاوية- و قد ذكرنا في أخبار صفين من فارق معاوية- و رجع إلى أمير المؤمنين ع- أو فارقه و اعتزل الطائفتين- . قوله حملتهم على الصعب أي على الأمر الشاق- و الأصل في ذلك البعير المستصعب- يركبه الإنسان فيغرر بنفسه
ذكر بعض ما دار بين علي و معاوية من الكتب
و أول هذا الكتاب من عبد الله علي أمير المؤمنين ع- إلى معاوية بن أبي سفيان- أما بعد فإن الدنيا دار تجارة- و ربحها أو خسرها الآخرة- فالسعيد من كانت بضاعته فيها الأعمال الصالحة- و من رأى الدنيا بعينها و قدرها بقدرها- و إني لأعظك مع علمي بسابق العلم فيك- مما لا مرد له دون نفاذه- و لكن الله تعالى أخذ على العلماء أن يؤدوا الأمانة- و أن ينصحوا الغوي و الرشيد- فاتق الله و لا تكن ممن لا يرجو لله وقارا- و من حقت عليه كلمة العذاب فإن الله بالمرصاد- و إن دنياك ستدبر عنك و ستعود حسرة عليك- فاقلع عما أنت عليه من الغي و الضلال- على كبر سنك و فناء عمرك- فإن حالك اليوم كحال الثوب المهيل- الذي لا يصلح من جانب إلا فسد من آخر- و قد أرديت جيلا من الناس كثيرا- خدعتهم بغيك- إلى آخر الكتاب- .
قال أبو الحسن علي بن محمد المدائني- فكتب إليه معاوية- من معاوية بن أبي سفيان إلى علي بن أبي طالب- أما بعد فقد وقفت على كتابك- و قد أبيت على الفتن إلا تماديا- و إني لعالم أن الذي يدعوك إلى ذلك- مصرعك الذي لا بد لك منه- و إن كنت موائلا فازدد غيا إلى غيك- فطالما خف عقلك- و منيت نفسك ما ليس لك- و التويت على من هو خير منك- ثم كانت العاقبة لغيرك- و احتملت الوزر بما أحاط بك من خطيئتك و السلام- .
فكتب علي ع إليه أما بعد فإن ما أتيت به من ضلالك- ليس ببعيد الشبه مما أتى به أهلك و قومك- الذين حملهم الكفر و تمني الأباطيل- على حسد محمد ص حتى صرعوا مصارعهم حيث علمت- لم يمنعوا حريما و لم يدفعوا عظيما- و أنا صاحبهم في تلك المواطن- الصالي بحربهم و الفال لحدهم- و القاتل لرءوسهم و رءوس الضلالة- و المتبع إن شاء الله خلفهم بسلفهم- فبئس الخلف خلف أتبع سلفا محله و محطه النار- و السلام- .
قال فكتب إليه معاوية- أما بعد فقد طال في الغي ما استمررت أدراجك- كما طالما تمادي عن الحرب نكوصك و إبطاؤك- فتوعد وعيد الأسد و تروغ روغان الثعلب- فحتام تحيد عن لقاء مباشرة الليوث الضارية- و الأفاعي القاتلة و لا تستبعدنها- فكل ما هو آت قريب إن شاء الله و السلام- .
قال فكتب إليه علي ع أما بعد فما أعجب ما يأتيني منك- و ما أعلمني بما أنت إليه صائر- و ليس إبطائي عنك إلا ترقبا لما أنت له مكذب- و أنا به مصدق- و كأني بك غدا و أنت تضج من الحرب- ضجيج الجمال من الأثقال- و ستدعوني أنت و أصحابك إلى كتاب تعظمونه بألسنتكم- و تجحدونه بقلوبكم و السلام- .
قال فكتب إليه معاوية-أما بعد فدعني من أساطيرك- و اكفف عني من أحاديثك- و اقصر عن تقولك على رسول الله ص- و افترائك من الكذب ما لم يقل- و غرور من معك و الخداع لهم- فقد استغويتهم- و يوشك أمرك أن ينكشف لهم فيعتزلوك- و يعلموا أن ما جئت به باطل مضمحل و السلام- .
قال فكتب إليه علي ع أما بعد- فطالما دعوت أنت و أولياؤك أولياء الشيطان الرجيم- الحق أساطير الأولين- و نبذتموه وراء ظهوركم- و جهدتم بإطفاء نور الله بأيديكم و أفواهكم- وَ اللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ- و لعمري ليتمن النور على كرهك- و لينفذن العلم بصغارك و لتجازين بعملك- فعث في دنياك المنقطعة عنك ما طاب لك- فكأنك بباطلك و قد انقضى- و بعملك و قد هوى- ثم تصير إلى لظى لم يظلمك الله شيئا- وَ ما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ- .
قال فكتب إليه معاوية- أما بعد فما أعظم الرين على قلبك- و الغطاء على بصرك- الشره من شيمتك و الحسد من خليقتك- فشمر للحرب و اصبر للضرب- فو الله ليرجعن الأمر إلى ما علمت و العاقبة للمتقين- هيهات هيهات أخطأك ما تمنى- و هوى قلبك مع من هوى- فاربع على ظلعك و قس شبرك بفترك- لتعلم أين حالك من حال من يزن الجبال حلمه- و يفصل بين أهل الشك علمه و السلام- .
قال فكتب إليه علي ع- أما بعد فإن مساوئك مع علم الله تعالى فيك- حالت بينك و بين أن يصلح لك أمرك- و أن يرعوي قلبك- يا ابن الصخر اللعين زعمت أن يزن الجبال حلمك- و يفصل بين أهل الشك علمك- و أنت الجلف المنافق الأغلف القلب- القليل العقل الجبان الرذل- فإن كنت صادقا فيما تسطر- و يعينك عليه أخو بني سهم فدع الناس جانبا- و تيسر لما دعوتني إليه من الحرب- و الصبر على الضرب و أعف الفريقين من القتال- ليعلم أينا المرين على قلبه المغطى على بصره- فأنا أبو الحسن قاتل جدك و أخيك و خالك- و ما أنت منهم ببعيد و السلام
قلت و أعجب و أطرب ما جاء به الدهر- و إن كانت عجائبه و بدائعه جمة- أن يفضى أمر علي ع- إلى أن يصير معاوية ندا له و نظيرا مماثلا- يتعارضان الكتاب و الجواب- و يتساويان فيما يواجه به أحدهما صاحبه- و لا يقول له علي ع كلمة إلا قال مثلها- و أخشن مسا منها- فليت محمدا ص كان شاهد ذلك- ليرى عيانا لا خبرا أن الدعوة التي قام بها- و قاسى أعظم المشاق في تحملها- و كابد الأهوال في الذب عنها- و ضرب بالسيوف عليها لتأييد دولتها- و شيد أركانها و ملأ الآفاق بها- خلصت صفوا عفوا لأعدائه الذين كذبوه- لما دعا إليها- و أخرجوه عن أوطانه لما حض عليها- و أدموا وجهه و قتلوا عمه و أهله- فكأنه كان يسعى لهم و يدأب لراحتهم- كما قال أبو سفيان في أيام عثمان- و قد مر بقبر حمزة و ضربه برجله و قال- يا أبا عمارة إن الأمر الذي اجتلدنا عليه بالسيف- أمسى في يد غلماننا اليوم يتلعبون به- ثم آل الأمر إلى أن يفاخر معاوية عليا- كما يتفاخر الأكفاء و النظراء- .
إذا عير الطائي بالبخل مادر
و قرع قسا بالفهاهة باقل
و قال السها للشمس أنت خفية
و قال الدجى يا صبح لونك حائل
و فاخرت الأرض السماء سفاهة
و كاثرت الشهب الحصى و الجنادل
فيا موت زر إن الحياة ذميمة
و يا نفس جدي إن دهرك هازل
ثم أقول ثانيا لأمير المؤمنين ع ليت شعري- لما ذا فتح باب الكتابو الجواب بينه و بين معاوية- و إذا كانت الضرورة قد قادت إلى ذلك- فهلا اقتصر في الكتاب إليه على الموعظة- من غير تعرض للمفاخرة و المنافرة- و إذا كان لا بد منهما فهلا اكتفى بهما- من غير تعرض لأمر آخر- يوجب المقابلة و المعارضة بمثله- و بأشد منه- وَ لا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ- فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ- و هلا دفع هذا الرجل العظيم الجليل نفسه- عن سباب هذا السفيه الأحمق- هذا مع أنه القائل- من واجه الناس بما يكرهون قالوا فيه ما لا يعلمون- أي افتروا عليه و قالوا فيه الباطل- .
أيها الشاتمي لتحسب مثلي
إنما أنت في الضلال تهيم
لا تسبنني فلست بسبي
إن سبي من الرجال الكريم
و هكذا جرى في القنوت و اللعن- قنت بالكوفة على معاوية و لعنه في الصلاة و خطبة الجمعة- و أضاف إليه عمرو بن العاص و أبا موسى- و أبا الأعور السلمي و حبيب بن مسلمة- فبلغ ذلك معاوية بالشام فقنت عليه- و لعنه بالصلاة و خطبة الجمعة- و أضاف إليه الحسن و الحسين و ابن عباس و الأشتر النخعي- و لعله ع قد كان يظهر له من المصلحة حينئذ- ما يغيب عنا الآن و لله أمر هو بالغه
شرح نهج البلاغة(ابن أبي الحديد) ج 16