25 و من وصية له ع كان يكتبها لمن يستعمله على الصدقات
و إنما ذكرنا هنا جملا منها- ليعلم بها أنه ع كان يقيم عماد الحق- و يشرع أمثلة العدل في صغير الأمور و كبيرها- و دقيقها و جليلها- : انْطَلِقْ عَلَى تَقْوَى اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ- وَ لَا تُرَوِّعَنَّ مُسْلِماً وَ لَا تَجْتَازَنَّ عَلَيْهِ كَارِهاً- وَ لَا تَأْخُذَنَّ مِنْهُ أَكْثَرَ مِنْ حَقِّ اللَّهِ فِي مَالِهِ- فَإِذَا قَدِمْتَ عَلَى الْحَيِّ فَانْزِلْ بِمَائِهِمْ- مِنْ غَيْرِ أَنْ تُخَالِطَ أَبْيَاتَهُمْ- ثُمَّ امْضِ إِلَيْهِمْ بِالسَّكِينَةِ وَ الْوَقَارِ- حَتَّى تَقُومَ بَيْنَهُمْ فَتُسَلِّمَ عَلَيْهِمْ- وَ لَا تُخْدِجْ بِالتَّحِيَّةِ لَهُمْ ثُمَّ تَقُولَ عِبَادَ اللَّهِ- أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ وَلِيُّ اللَّهِ وَ خَلِيفَتُهُ- لآِخُذَ مِنْكُمْ حَقَّ اللَّهِ فِي أَمْوَالِكُمْ- فَهَلْ لِلَّهِ فِي أَمْوَالِكُمْ مِنْ حَقٍّ فَتُؤَدُّوهُ إِلَى وَلِيِّهِ- فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ لَا فَلَا تُرَاجِعْهُ- وَ إِنْ أَنْعَمَ لَكَ مُنْعِمٌ فَانْطَلِقْ مَعَهُ- مِنْ غَيْرِ أَنْ تُخِيفَهُ أَوْ تُوعِدَهُ- أَوْ تَعْسِفَهُ أَوْ تُرْهِقَهُ فَخُذْ مَا أَعْطَاكَ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ- فَإِنْ كَانَ لَهُ مَاشِيَةٌ أَوْ إِبِلٌ فَلَا تَدْخُلْهَا إِلَّا بِإِذْنِهِ- فَإِنَّ أَكْثَرَهَا لَهُ- فَإِذَا أَتَيْتَهَا فَلَا تَدْخُلْ عَلَيْهَا دُخُولَ مُتَسَلِّطٍ عَلَيْهِ- وَ لَا عَنِيفٍ بِهِ- وَ لَا تُنَفِّرَنَّ بَهِيمَةً وَ لَا تُفْزِعَنَّهَا- وَ لَا تَسُوءَنَّ صَاحِبَهَا فِيهَا- وَ اصْدَعِ الْمَالَ صَدْعَيْنِ ثُمَّ خَيِّرْهُ- فَإِذَا اخْتَارَ فَلَا تَعْرِضَنَّ لِمَا اخْتَارَهُ- ثُمَّ اصْدَعِ الْبَاقِيَ صَدْعَيْنِ ثُمَّ خَيِّرْهُ- فَإِذَا اخْتَارَ فَلَا تَعْرِضَنَّ لِمَا اخْتَارَهُ- فَلَا تَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يَبْقَى مَا فِيهِ- وَفَاءٌ لِحَقِّ اللَّهِ فِي مَالِهِ- فَاقْبِضْ حَقَّ اللَّهِ مِنْهُ-فَإِنِ اسْتَقَالَكَ فَأَقِلْهُ- ثُمَّ اصْنَعْ مِثْلَ الَّذِي صَنَعْتَ أَوَّلًا- حَتَّى تَأْخُذَ حَقَّ اللَّهِ فِي مَالِهِ- وَ لَا تَأْخُذَنَّ عَوْداً وَ لَا هَرِمَةً وَ لَا مَكْسُورَةً وَ لَا مَهْلُوسَةً وَ لَا ذَاتَ عَوَارٍ- وَ لَا تَأْمَنَنَّ عَلَيْهَا إِلَّا مَنْ تَثِقُ بِدِينِهِ- رَافِقاً بِمَالِ الْمُسْلِمِينَ- حَتَّى يُوَصِّلَهُ إِلَى وَلِيِّهِمْ فَيَقْسِمَهُ بَيْنَهُمْ- وَ لَا تُوَكِّلْ بِهَا إِلَّا نَاصِحاً شَفِيقاً وَ أَمِيناً حَفِيظاً- غَيْرَ مُعْنِفٍ وَ لَا مُجْحِفٍ وَ لَا مُلْغِبٍ وَ لَا مُتْعِبٍ- ثُمَّ احْدُرْ إِلَيْنَا مَا اجْتَمَعَ عِنْدَكَ- نُصَيِّرْهُ حَيْثُ أَمَرَ اللَّهُ- فَإِذَا أَخَذَهَا أَمِينُكَ- فَأَوْعِزْ إِلَيْهِ أَلَّا يَحُولَ بَيْنَ نَاقَةٍ وَ بَيْنَ فَصِيلِهَا- وَ لَا يَمْصُرَ لَبَنَهَا فَيَضُرَّ [فَيُضِرَّ] ذَلِكَ بِوَلَدِهَا- وَ لَا يَجْهَدَنَّهَا رُكُوباً- وَ لْيَعْدِلْ بَيْنَ صَوَاحِبَاتِهَا فِي ذَلِكَ وَ بَيْنَهَا- وَ لْيُرَفِّهْ عَلَى اللَّاغِبِ- وَ لْيَسْتَأْنِ بِالنَّقِبِ وَ الظَّالِعِ- وَ لْيُورِدْهَا مَا تَمُرُّ بِهِ مِنَ الْغُدُرِ- وَ لَا يَعْدِلْ بِهَا عَنْ نَبْتِ الْأَرْضِ إِلَى جَوَادِّ الطُّرُقِ- وَ لْيُرَوِّحْهَا فِي السَّاعَاتِ- وَ لْيُمْهِلْهَا عِنْدَ النِّطَافِ وَ الْأَعْشَابِ- حَتَّى تَأْتِيَنَا بِإِذْنِ اللَّهِ بُدَّناً مُنْقِيَاتٍ- غَيْرَ مُتْعَبَاتٍ وَ لَا مَجْهُودَاتٍ- لِنَقْسِمَهَا عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَ سُنَّةِ نَبِيِّهِ ص- فَإِنَّ ذَلِكَ أَعْظَمُ لِأَجْرِكَ- وَ أَقْرَبُ لِرُشْدِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ و قد كرر ع قوله- لنقسمها على كتاب الله و سنة نبيه ص-
في ثلاثة مواضع من هذا الفصل-
الأول قوله حتى يوصله إلى وليهم ليقسمه بينهم- .
الثاني قوله ع نصيره حيث أمر الله به- .
الثالث قوله لنقسمها على كتاب الله- و البلاغة لا تقتضي ذلك- و لكني أظنه أحب أن يحتاط- و أن يدفع الظنة عن نفسه- فإن الزمان كان في عهده قد فسد- و ساءت ظنون الناس- لا سيما مع ما رآه من عثمان و استئثاره بمال الفيء- . و نعود إلى الشرح- قوله ع على تقوى الله- على ليست متعلقة بانطلق- بل بمحذوف تقديره مواظبا- . قوله و لا تروعن أي لا تفزعن- و الروع الفزع رعته أروعه- و لا تروعن بتشديد الواو و ضم حرف المضارعة- من روعت للتكثير- .
قوله ع و لا تجتازن عليه كارها- أي لا تمرن ببيوت أحد من المسلمين يكره مرورك- و روي و لا تختارن عليه- أي لا تقسم ماله و تختر أحد القسمين- و الهاء في عليه ترجع إلى مسلما- و تفسير هذا سيأتي في وصيته له أن يصدع المال ثم يصدعه- فهذا هو النهي عن أن يختار على المسلم- و الرواية الأولى هي المشهورة- . قوله ع فانزل بمائهم- و ذلك لأن الغريب يحمد منه الانقباض- و يستهجن في القادم أن يخالط بيوت الحي الذي قدم عليه- فقد يكون من النساء من لا تليق رؤيته- و لا يحسن سماع صوته- و من الأطفال من يستهجن- أن يرى الغريب انبساطه على أبويه و أهله- و قد يكره القوم أن يطلع الغريب على مأكلهم و مشربهم- و ملبسهم و بواطن أحوالهم- و قد يكونون فقراء فيكرهون أن يعرف فقرهم فيحتقرهم- أو أغنياء أرباب ثروة كثيرة- فيكرهون أن يعلم الغريب ثروتهم فيحسدهم- ثم أمره أن يمضي إليهم غير متسرع- و لا عجل و لا طائش نزق- حتى يقوم بينهم فيسلم عليهمو يحييهم تحية كاملة- غير مخدجة أي غير ناقصة- أخدجت الناقة إذا جاءت بولدها ناقص الخلق- و إن كانت أيامه تامة- و خدجت ألقت الولد قبل تمام أيامه- و روي و لا تحدج بالتحية و الباء زائدة- .
ثم أمره أن يسألهم هل في أموالهم حق لله تعالى- يعني الزكاة- فإن قالوا لا فلينصرف عنهم- لأن القول قول رب المال- فلعله قد أخرج الزكاة قبل وصول المصدق إليه- . قوله و أنعم لك أي قال نعم- . و لا تعسفه أي لا تطلب منه الصدقة عسفا- و أصله الأخذ على غير الطريق- . و لا ترهقه لا تكلفه العسر و المشقة- . ثم أمره أن يقبض ما يدفع إليه من الذهب و الفضة- و هذا يدل على أن المصدق كان يأخذ العين و الورق- كما يأخذ الماشية- و أن النصاب في العين و الورق- تدفع زكاته إلى الإمام و نوابه- و في هذه المسألة اختلاف بين الفقهاء- .
قوله فإن أكثرها له- كلام لا مزيد عليه في الفصاحة و الرئاسة و الدين- و ذلك لأن الصدقة المستحقة جزء يسير من النصاب- و الشريك إذا كان له الأكثر- حرم عليه أن يدخل و يتصرف إلا بإذن شريكه- فكيف إذا كان له الأقل- . قوله فلا تدخلها دخول متسلط عليه- قد علم ع أن الظلم من طبع الولاة- و خصوصا من يتولى قبض الماشية من أربابها- على وجه الصدقة- فإنهم يدخلونها دخول متسلط حاكم قاهر- و لا يبقى لرب المال فيها تصرف- فنهى ع عن مثل ذلك- .
قوله و لا تنفرن بهيمة و لا تفزعنها- و ذلك أنهم على عادة السوء يهجهجون بالقطيع حتى تنفر الإبل- و كذلك بالشاء إظهارا للقوة و القهر- و ليتمكن أعوانهم من اختيار الجيد و رفض الرديء- . قوله و لا تسوءن صاحبها فيها- أي لا تغموه و لا تحزنوه- يقال سؤته في كذا سوائية و مسائية- .
قوله و اصدع المال صدعين و خيره- أي شقه نصفين ثم خيره- فإذا اختار أحد النصفين فلا تعرضن لما اختار- ثم اصدع النصف الذي ما ارتضاه لنفسه صدعين و خيره- ثم لا تزال تفعل هكذا- حتى تبقي من المال بمقدار الحق الذي عليه فأقبضه منه- فإن استقالك فأقله ثم اخلط المال- ثم عد لمثل ما صنعت حتى يرضى- و ينبغي أن يكون المعيبات الخمس- و هي المهلوسة و المكسورة و أخواتهما- يخرجها المصدق من أصل المال قبل قسمته ثم يقسم- و إلا فربما وقعت في سهم المصدق- إذا كان يعتمد ما أمره به من صدع المال مرة بعد مرة- .
و العود المسن من الإبل- و الهرمة المسنة أيضا- و المكسورة التي أحد قوائمها مكسورة العظم- أو ظهرها مكسور- و المهلوسة المريضة قد هلسها المرض و أفنى لحمها- و الهلاس السل- و العوار بفتح العين العيب و قد جاء بالضم- . و المعنف ذو العنف بالضم و هو ضد الرفق- و المجحف الذي يسوق المال سوقا عنيفا- فيجحف به أي يهلكه أو يذهب كثيرا من لحمه و نقية- . و الملغب المتعب و اللغوب الإعياء- . و حدرت السفينة و غيرها بغير ألف أحدرها بالضم- .
قوله بين ناقة و بين فصيلها- الأفصح حذف بين الثانية- لأن الاسمين ظاهران- و إنما تكرر إذا جاءت بعد المضمر- كقولك المال بيني و بين زيد و بين عمرو- و ذلك لأن المجرور لا يعطف عليه إلا بإعادة حرف الجر- و الاسم المضاف- و قد جاء المال بين زيد و عمرو- و أنشدوا
بين السحاب و بين الريح ملحمة قعاقع و ظبي في الجو تخترط- . و أيضا
بين الندي و بين برقة ضاحك
غيث الضريك و فارس مقدام
و من شعر الحماسة
و إن الذي بيني و بين بني أبي
و بين بني عمي لمختلف جدا
و ليس قول من يقول- إنه عطف بين الثالثة على الضمير المجرور بأولى- من قول من يقول بل عطف بين الثالثة على بين الثانية- لأن المعنى يتم بكل واحد منها- . قوله ع و لا تمصر لبنها- المصر حلب ما في الضرع جميعه- نهاه من أن يحلب اللبن كله فيبقى الفصيل جائعا- ثم نهاه أن يجهدها ركوبا- أي يتعبها و يحملها مشقة- ثم أمره أن يعدل بين الركاب في ذلك- لا يخص بالركوب واحدة بعينها- ليكون ذلك أروح لهن ليرفه على اللاغب- أي ليتركه و ليعفه عن الركوب ليستريح- و الرفاهية الدعة و الراحة- . و النقب ذو النقب- و هو رقة خف البعير حتى تكاد الأرض تجرحه- أمره أن يستأني بالبعير ذي النقب- من الأناة و هي المهلة- .
و الظالع الذي ظلع أي غمز في مشيه- . و الغدر جمع غدير الماء- و جواد الطريق حيث لا ينبت المرعى- . و النطاف جمع نطفة و هي الماء الصافي القليل- . و البدن بالتشديد السمان واحدها بادن- . و منقيات ذوات نقي و هو المخ في العظم- و الشحم في العين من السمن- و أنقت الإبل و غيرها سمنت و صار فيها نقي- و ناقة منقية و هذه الناقة لا تنقي
شرح نهج البلاغة(ابن أبي الحديد) ج 15