خطبه۱شرح ابن میثم بحرانی قسمت اول

۱-  و من خطبه له علیه السّلام یذکر فیها ابتداء خلق السماء و الأرض، و خلق آدم. و فیها ذکر الحج

الفصل الاول فی تصدیرها بذکر اللّه جلّ جلاله و تمجیده و الثناء علیه بما هو أهله

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِی لَا یَبْلُغُ مِدْحَتَهُ الْقَائِلُونَ-  وَ لَا یُحْصِی نَعْمَاءَهُ الْعَادُّونَ-  وَ لَا یُؤَدِّی حَقَّهُ الْمُجْتَهِدُونَ-  الَّذِی لَا یُدْرِکُهُ بُعْدُ الْهِمَمِ-  وَ لَا یَنَالُهُ غَوْصُ الْفِطَنِ-  الَّذِی لَیْسَ لِصِفَتِهِ حَدٌّ مَحْدُودٌ-  وَ لَا نَعْتٌ مَوْجُودٌ وَ لَا وَقْتٌ مَعْدُودٌ-  وَ لَا أَجَلٌ مَمْدُودٌ-  فَطَرَ الْخَلَائِقَ بِقُدْرَتِهِ-  وَ نَشَرَ الرِّیَاحَ بِرَحْمَتِهِ-  وَ وَتَّدَ بِالصُّخُورِ مَیَدَانَ أَرْضِهِ: أَوَّلُ الدِّینِ مَعْرِفَتُهُ وَ کَمَالُ مَعْرِفَتِهِ التَّصْدِیقُ بِهِ-  وَ کَمَالُ التَّصْدِیقِ بِهِ تَوْحِیدُهُ-  وَ کَمَالُ تَوْحِیدِهِ الْإِخْلَاصُ لَهُ-  وَ کَمَالُ الْإِخْلَاصِ لَهُ نَفْیُ الصِّفَاتِ عَنْهُ-  لِشَهَادَهِ کُلِّ صِفَهٍ أَنَّهَا غَیْرُ الْمَوْصُوفِ-  وَ شَهَادَهِ کُلِّ مَوْصُوفٍ أَنَّهُ غَیْرُ الصِّفَهِ-  فَمَنْ وَصَفَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ فَقَدْ قَرَنَهُ-  وَ مَنْ قَرَنَهُ فَقَدْ ثَنَّاهُ وَ مَنْ ثَنَّاهُ فَقَدْ جَزَّأَهُ-  وَ مَنْ جَزَّأَهُ فَقَدْ جَهِلَهُ وَ مَنْ جَهِلَهُ فَقَدْ أَشَارَ إِلَیْهِ-  وَ مَنْ أَشَارَ إِلَیْهِ فَقَدْ حَدَّهُ وَ مَنْ حَدَّهُ فَقَدْ عَدَّهُ-  وَ مَنْ قَالَ فِیمَ فَقَدْ ضَمَّنَهُ-  وَ مَنْ قَالَ عَلَا مَ فَقَدْ أَخْلَى مِنْهُ: کَائِنٌ لَا عَنْ حَدَثٍ مَوْجُودٌ لَا عَنْ‏  عَدَمٍ-  مَعَ کُلِّ شَیْ‏ءٍ لَا بِمُقَارَنَهٍ وَ غَیْرُ کُلِّ شَیْ‏ءٍ لَا بِمُزَایَلَهٍ-  فَاعِلٌ لَا بِمَعْنَى الْحَرَکَاتِ وَ الْآلَهِ-  بَصِیرٌ إِذْ لَا مَنْظُورَ إِلَیْهِ مِنْ خَلْقِهِ-  مُتَوَحِّدٌ إِذْ لَا سَکَنَ یَسْتَأْنِسُ بِهِ وَ لَا یَسْتَوْحِشُ لِفَقْدِهِ

 

أقول: اعلم أنّ هذه الخطبه مشتمله على مباحث عظیمه و نکت مهمه على ترتیب طبیعیّ فلنعقد فیها خمسه فصول.

                  

الفصل الاول فی تصدیرها بذکر اللّه جلّ جلاله و تمجیده و الثناء علیه بما هو أهله و هو قوله:

الحمد للّه إلى قوله: و لا یستوحش لفقده.

أقول: المدح و المدیح الثناء الحسن، و المدحه فعله من المدح و هی الهیئه و الحاله التی ینبغی أن یکون المدح علیها، و الإحصاء إنهاء العدّ و الإحاطه بالمعدود یقال: أحصیت الشی‏ء أی أنهیت عدّه، و هو من لواحق العدد و لذلک نسبه إلى العادّین، و النعماء النعمه، و هو اسم یقام مقام المصدر، و أدّیت حقّ فلان إذا قابلت إحسانه بإحسان مثله، و الإدراک اللحقوق و النیل و الإصابه و الوصول و الوجدان، و الهمّه هی العزم الجازم و الإراده یقال: فلان بعید الهمّه إذا کانت إرادته تتعلّق بعلیّات الامور دون محقرّاتها، و الغوص الحرکه فی عمق الشی‏ء من قولهم غاض فی الماء إذا ذهب فی عمقه، و الفطن جمع فطنه و هی فی اللغه الفهم، و هو عند العلماء عباره عن جوده استعداد الذهن لتصوّر ما یرد علیه، و حدّ الشی‏ء منتهاه، و الحدّ المنع، و منه سمّى العلماء تعریف الشی‏ء بأجزائه حدّا لأنّه یمنع أن یدخل فی المحدود ما لیس منه أو یخرج منه ما هو منه، و النعت الصفه، و الأجل المدّه المضروبه للشی‏ء، و الفطره الشقّ و الابتداع قال ابن عبّاس: ما کنت أدری ما معنى قوله تعالى: «فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ» حتّى جائنی أعرابیّان یختصمان على بئر فقال أحدهما أنا فطرتها أی ابتدعتها، و الخلائق جمع خلیقه و هی إمّا بمعنى المخلوق یقال: هم خلیقه اللّه و خلق اللّه أی مخلوقه أو بمعنی الطبیعه لأنّ الخلیقه هی الطبیعه أیضا، و النشر البسط، و وتد بالفتح أی ضرب الوتد فی حائط أو فی غیره، و الصخوره الحجاره العظام، و المیدان الحرکه بتمایل و هو الاسم من ماد یمید میدا و منه غصن میّاد متمایل، و الدین فی أصل‏ اللغه یطلق على معان، منها العاده، و منها الإذلال یقال دانه أی أذّله و ملّکه و منه بیت الحماسه دنّاهم کما دانوا، و منها المجازاه کقوله تعالى «إِنَّا لَمَدِینُونَ» أی مجزیّون، و المثل المشهور کما تدین تدان، و منها الطاعه یقال: دان له أی أطاعه کقول عمرو بن کلثوم: عصینا لملک فینا أن تدینا، و یطلق فی العرف الشرعی على الشرائع الصادره بواسطه الرسل علیهم السّلام و قرنه أی جعل له قرینا و المقارنه الاجتماع مأخوذ من قرن الثور و غیره و منه القرن للمثل فی السنّ و کذلک القرن من الناس أهل الزمان الواحد قال

         إذا ذهب القرن الّذی أنت فیهم            و خلّفت فی قرن فأنت قریب‏

 

و المزائله المفارقه و هی مفاعله من الطرفین و المتوحّد بالأمر المنفرد به عمّن یشارکه فیه، و السکن بفتح الکاف کلّ ما سکت إلیه، و الاستیناس بالشی‏ء میل الطبع إلیه و سکون و کذلک التأنّس و منه الأنیس و هو المونس، و الاستیحاش ضدّ الاستیناس و هو نفره الطبع بسبب فقد المؤانس، و اعلم أنّا نفتقر فی بیان نظام کلامه علیه السّلام فی هذا الفصل إلى تقدیم مقدّمه فنقول: الصفه أمر یعتبره العقل لأمر آخر و لا یمکن أن یعقل إلّا باعتباره معه، و لا یلزم من تصوّر العقل شیئا لشی‏ء أن یکون ذلک المتصوّر موجودا لذلک الشی‏ء فی نفس الأمر بیان ذلک ما قیل فی رسم المضاف: إنّه الأمر الّذی تعقّل ماهیّته بالقیاس إلى غیره و لیس له وجود سوى معقولیّته بالقیاس إلى ذلک الغیر، و الصفه تنقسم باعتبار العقل إلى حقیقیّه و إضافیّه و سلبیّه، و ذلک لأنّ نسبه العقل للصفه إلى غیرها إمّا أن یعقل معها نسبته من المنسوب إلیه أو لا یعقل فإن کان الأوّل فهو المضاف الحقیقیّ و حقیقته أنّه المعقول بالقیاس إلى غیر یکون بإزائه یعقل له إلیه نسبه و لا یکون له وجود سوى معقولیّته بالقیاس إلیه ککونه تعالى خالقا و رازقا و ربّا فإنّ حقیقه هذه الصفات هی کونها معقوله بالقیاس إلى مخلوقیّه و مرزوقیّه و مربوبیّه موازیه، و إن کان الثانی فالمنسوب إلیه إمّا أن یکون موجودا للمضاف أو لیس بموجود له، و الأوّل هو الصفات الحقیقیّه ککونه تعالى حیّا فإنّه أمر یعقل بالقیاس إلى صحّه العلم و القدره له و لیس بإزاء أمر یعقل منه نسبه إلیه، و الثانی هو الصفات السلبیّه ککونه تعالى لیس بجسم و لا بعرض و غیرها فإنّها امور تعقل له بالقیاس إلى امور غیر موجوده له تعالى ثمّ نقول: إنّه لا یلزم من اتّصاف ذاته سبحانه بهذه الأنواع الثلاثه من الصفات ترکیب و لا کثره فی ذاته لأنّها اعتبارات عقلیّه تحدثها عقولنا عند المقائسه إلى الغیر و لم یلزم من ذلک أن تکون موجوده فی نفس الأمر و إن لم تعقل، و لمّا کان دأب العقلاء أن یصفوا خالقهم سبحانه بما هو أشرف طرفی النقیض لما تقرّر فی عقولهم من أعظمیته و مناسبه اشرف الطرفین للأعظمیّته کان ما وصف به تعالى من الصفات الحقیقیّه و الإضافیّه و السلبیّه کلّها کذلک، فإذا عرفت ما قلناه فاعلم أنّه علیه السّلام شرع أوّلا فی الاعتبارات السلبیّه و قدّمها على الثبوتیّه لدقیقه و هى أنّه قد ثبت فی علم السلوک إلى اللّه أنّ التوحید المحقّق و الإخلاص المطلق لا یتقرّر إلّا بنقض کلّ ما عداه عنه و تنزیهه عى کلّ لا حق له و طرحه عن درجه الاعتبار و هو المسمى فی عرف المجرّدین و أهل العرفان بمقام التخلیّه و النقض و التفریق، و ما لا یتحقّق الشی‏ء إلّا به کان اعتباره مقدّما على اعتباره، و لهذا الترتیب کان أجلّ کلمه نطق بها فی التوحید قولنا: لا إله إلّا اللّه إذ کان الجزء الأوّل منها مشتملا على سلب کلّ ما عدا الحقّ سبحانه مستلزما لغسل درن کلّ شبهه لخاطر سواه، و هو مقام التنزیه و التخلیه حتّى إذا أنزح کلّ ثان عن محلّ عرفانه استعدّ بجوده للتخلیه بنور وجوده و هو ما اشتمل علیه الجزء الثانی من هذه الکلمه، و لمّا بیّنا أنّه علیه السّلام کان لسان العارفین و الفاتح لأغلاق الطریق إلى الواحد الحقّ تعالى و المعلّم المرشد لکیفیّه السلوک، و کانت الأوهام البشریّه حاکمه بمثلیته تعالى لمدرکاتها و العقول قاصره عن إدراک حقیقته و الواصل إلى ساحل عزّته و المنزّه له عمّا لا یجوز علیه إذا أمکن وجوده نادرا لم یکن للأوهام الواصفه له تعالى بما لا یجوز علیه معارض فی أکثر الخلق بل کانت جاریه على حکمها قائده لعقولها إلى تلک الأحکام الباطله کالمشبّهه و نحوهم لا جرم بدء علیه السّلام بذکر السلب إذ کان تقدیمه مستلزما لغسل درن الحکم الوهمیّ فی حقّه تعالى عن لوح الخیال و الذکر حتّى إذا أورد عقب ذلک ذکره تعالى بما هو أهله ورد على ألواح صافیه من کدر الباطل فانتقشت بالحقّ کما قال: فصادف قلبا خالیا فتمکّنا، ثمّ إنّه علیه السّلام بدء بتقدیم حمد اللّه تعالى على الکلّ هاهنا و فی سائر خطبه جریا على العاده فی افتتاح الخطب و تصدیرها، و سرّ ذلک تأدیب الخلق بلزوم الثناء على اللّه تعالى، و الاعتراف بنعمته عند افتتاح کلّ خطاب لاستلزام ذلک ملاحظه حضره الجلال و الالتفات إلیها عامّه الأحوال‏ و قد بیّنا أنّ الحمد یفید معنى الشکر و یفید ما هو أعمّ من ذلک و هو التعظیم المطلق و بجمیع أقسامه مراد هاهنا لکون الکلام فی معرض التمجید المطلق.

 

قوله الّذی لا یبلغ مدحته القائلون.

 أقول أراد تنزیهه تعالى عن إطّلاع العقول البشریّه على کیفیّه مدحه سبحانه کما هی، و بیان هذا الحکم أنّ الثناء الحسن على الشی‏ء إنّما یکون کما هو إذا کان ثناء علیه بما هو کذلک فی نفس الأمر، و ذلک غیر ممکن فی حقّ الواجب الوجود سبحانه إلّا بتعقّل حقیقته و ما لها من صفات الجلال و نعوت الکمال کما هی و عقول البشر قاصره عن هذا المقام فالقول و إن صدر عن المادحین بصوره المدح المتعارف بینهم و على ما هو دأبهم من وصفه تعالى بما هو أشرف من طرفی النقیض فلیس بکمال مدحه فی نفس الأمر لعدم اطّلاعهم على ما به یکون المدح الحقّ فی حقّه تعالى و إن تصوّر بصوره المدح الحقّ و أشار إلى تأدیب الخلق و تنبیههم على بطلان ما تحکّم به أوهامهم فی حقّه تعالى من الصفات و أنّه لیس الأمر کما حکمت به إذ قال فی موضع آخر، و قد سأله بعضهم عن التوحید فقال: التوحید أن لا تتوهّمه، فجعل التوحید عباره عن سلب الحکم الوهمیّ فی حقّه تعالى فاستلزم ذلک أنّ من أجرى علیه حکما وهمیّا فلیس بموحّد له على الحقیقه، و إلى هذا النحو أشار الباقر محمّد بن علیّ علیه السّلام مخاطبا و هل سمّى عالما قادرا إلّا لأنّه وهب العلم للعلماء، و القدره للقادرین فکلّ ما میّزتموه بأوهامکم فی أدّق معانیه فهو مخلوق مصنوع مثلکم مردود إلیکم، و الباری تعالى واهب الحیاه و مقدّر الموت، و لعلّ النمل الصغار تتوهّم أن للّه تعالى زبانیین کما لها فإنّها تتصوّر أنّ عدمها نقصان لمن لا یکونان له، فهکذا شأن الخلق فیما یصفون به بآرائهم فإنّ أوهامها حاکمه له بکلّ ما یعدّونه کمالا فی حقّهم ما لم تقو عقولهم على ردّ بعض تلک الأحکام الوهمیّه و لولا رادع الشرع کقوله علیه السّلام تفکّروا فی الخلق و لا تتفکّروا فی الخالق لصرّحوا بکثیر من تلک الأحکام فی حقّه سبحانه و تعالى عمّا یصفون، و یحتمل أن یکون المراد تنزیهه تعالى عن بلوغ العقول و الأوهام تمام الثناء الحسن علیه و إحصائه أتی أنّ العبد کان کلّما بلغ مرتبه من مراتب المدح و الثناء کان ورائها أطوار من استحقاق الثناء و التعظیم أعلى کما أشار إلیه سیّد المرسلین‏ صلى اللّه علیه و آله بقوله: لا احصى ثناء علیک أنت کما أثنیت على نفسک، و فی تخصیصه علیه السّلام القائلین دون المادحین بالذکر نوع لطف فإنّ القائل لمّا کان أعمّ من المادح و کان سلب العامّ مستلزما لسلب الخاصّ من غیر عکس کان ذکر القائلین أبلغ فی التنزیه إذا التقدیر لا واحد من القائلین ببالغ مدحه اللّه سبحانه.

 

قوله و لا یحصى نعماؤه العادّون.

 أقول: المراد أنّ جزئیّات نعم اللّه و أفرادها لا یحیط بها حصر الإنسان و عدّه لکثرتها و بیان هذا الحکم بالنقل و العقل أمّا النقل فقوله تعالى «وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها»«» و هذه الآیه هى منشأ هذا الحکم و مصدره، و أمّا العقل فلأنّ نعم اللّه تعالى على العبد منها ظاهره و منها باطنه کما قال تعالى «أَ لَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَکُمْ»«» و یکفینا فی صدق هذا الحکم التنبیه على بعض جزئیّات نعم اللّه تعالى على العبد فنقول: إنّ من جمله نعمه تعالى على الإنسان أن أکرمه بملائکته و جعله مسجودا لهم و مخدوما، و جعلهم فی ذلک على مراتب فلنذکر أقربهم إلیه و أخصّهم به، و هم الملائکه الّذین یتولّون إصلاح بدنه و القیام بمهمّاته و حوائجه، و إن کانوا فی ذلک أیضا على مراتب فجعل سبحانه لهم رئیسا هو له کالوزیر الناصح المشفق من شأنه تمییز الأصلح و الأنفع له و الأمر به، و جعل بین یدی ذلک الوزیر ملکا آخرا هو کالحاجب له و المتصرّف بین یدیه من شأنه تمییز صداقه الأصدقاء للملک من عداوه الأعداء له، و جعل لذلک الحاجب ملکا خازنا یضبط عنه ما یتعرّفه من الامور لیطالعها الوزیر عند الحاجه، ثمّ جعل بین یدیه ملکین آخرین أحدهما ملک الغضب و هو کصاحب الشرطه موکّل بالخصومات و الغلبه و البطش و الانتقام، و الثانی ملک اللذّه و المتولّی لمشتهیات الإنسان بالطلب و الأمر بالاستحضار، و بین یدیه ملائکه اخرى تسعى فی تحصیل ما یأمر به و یطلبه، ثمّ جعله سبحانه وراء هؤلاء سبعه اخرى من الملائکه دأبهم إصلاح غذاء الإنسان، فالأوّل موکّل بجذب الغذاء إلى داخل المعده إذ الغذاء لا یدخل بنفسه فإنّ الإنسان لو وضع اللقمه فی فیه و لم یکن لها جاذب لم تدخل، و الثانی موکلّ بحفظه  فی المعده إلی تمام نضجه و حصول الغرض منه، و الثالث موکّل بطبخه و تنضیجه، و الرابع موکّل بتفریق صفوته و خلاصته فی البدن سدّ البدل ما یتحلّل منه، و الخامس موکّل بالزیاده فی أقطار الجسم على التناسب الطبیعی بما یوصله إلیه الرابع فهما کالبانی و المناول، و السادس موکّل بفصل صوره الدم من الغذاء، و السابع الّذی یتولّى دفع الفضله الغیر المنتفع بها عن المعده، ثمّ وکّل تعالى خمسه اخرى فی خدمته شأنهم أن یوردوا علیه الأخبار من خارج، و جعل لکلّ واحد منهم طریقا خاصّا و فعلا خاصّا به، و جعل لهم رئیسا یبعثهم و یرجعون إلیه بما عملوه، و جعل لذلک الرئیس خازنا کاتبا یضبط عنه ما یصل إلیه من تلک الأخبار، ثمّ جعل بین هذا الخازن و بین الخازن الأوّل ملکا قویّا على التصرف و الحرکه سریع الانتقال بحیث ینتقل فی اللحظه الواحده من المشرق إلى المغرب و من تخوم الأرض إلى السماء العلیا قادرا على التصرّفات العجیبه، و جعله مؤتمرا للوزیر تاره و للحاجب اخرى و هو موکّل بتفتیش الخزانتین و مراجعه الخازنین بإذن الوزیر واسطه الحاجب إذا أراد استعلام أمر من تلک الامور، فهذه الملائکه الّتی خصّ اللّه تعالى بها بدنه و جعلها أقرب الملائکه المتصرفین فی خدمته إلیه، ثمّ إنّ وراء هؤلاء أطوارا اخر من الملائکه الأرضیّه کالملائکه الموکّلین بأنواع الحیوانات الّتی ینتفع بها الإنسان و بها تکون مسخّره له و أنواع النبات و المعادن و العناصر الأربعه و الملائکه السماویه الّتی لا یعلم عددهم إلّا اللّه سبحانه و تعالى کما قال «وَ ما یَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّکَ إِلَّا هُوَ»«» فإنّ کلّ واحد منها موکّل بفعل خاصّ و له مقام خاصّ لا یتعدّاه و لا یتجاوزه کما قال تعالى حکایه عنهم «وَ ما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ»«» و هم بأسرهم متحرّکون بمصالح الإنسان و منافعه من أوّل حیاته إلى حین وفاته بإذن المدبّر الحکیم دع ما سوى الملائکه من سائر الموجودات فی هذا العالم المشتمله على منافعه و ما أفاض علیه من القوّه العقلیّه الّتی هی سبب الخیرات الباقیه و النعم الدائمه الّتی لا تنقطع موادّها و لا یتناهى تعدادها فإنّ کلّ ذلک فی الحقیقه نعم إلهیّه و مواهب ربانیّه للعبد بحیث لو اختلّ شی‏ء منها لاختلّت منفعته من تلک الجهه، و معلوم أنّه لو قطع وقته أجمع‏ بالنظر إلى آثار رحمه اللّه تعالی فی نوع من هذه النعم لانتها دونها فکره و قصر عنها إحصاؤه و حصره، و هو مع ذلک کلّه غافل عن شکر اللّه جاهل بمعرفه اللّه مصرّ على معصیه اللّه فحقّ أن یقول سبحانه و تعالى بعد تنبیهه له على ضروب نعمه و الامتنان بها علیه «وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها» «إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ کَفَّارٌ»«» ظلوم لنفسه بمعصیه اللّه معتاد للکفر بآلاء اللّه قتل الإنسان ما أکفره إنّ الإنسان لکفور مبین فسبحان الّذی لا تحصى نعماؤه و لا تستقصی آلاؤه، و غایه هذا الحکم تنبیه الغافلین من مراقد الطبیعه على لزوم شکر اللّه سبحانه، و الاعتراف بنعمه المستلزم لدوام إخطاره بالبال.

 

قوله و لا یؤدّی حقّه المجتهدون.

أقول: هذا الحکم ظاهر الصدق من وجهین أحدهما أنّه لمّا کان أداء حقّ النعمه هو مقابله الإحسان بجزاء مثله و ثبت فی الکلمه السابقه أنّ نعم اللّه سبحانه لا تحصى لزم من ذلک أنّه لا یمکن مقابلتها بمثل. الثانی أنّ کلّ ما نتعاطاه من أفعالنا الاختیاریّه مستندا إلى جوارحنا و قدرتنا و إرادتنا و سائر أسباب حرکاتنا و هى بأسرها مستنده إلى جوده و مستفاده من نعمته، و کذلک ما یصدر عنّا من الشکر و الحمد و سائر العبادات نعمه فتقابل نعمه بنعمه، و روى أنّ هذا الخاطر خطر لداود علیه السّلام و کذلک لموسى علیه السّلام فقال: یا ربّ کیف أشکرک و أنا لا أستطیع أن أشکرک إلّا بنعمه ثانیه من نعمک، و فی روایه اخرى و شکری ذلک نعمه اخرى توجب علىّ الشکر لک فأوحى اللّه تعالى إلیه إذا عرفت هذا فقد شکرتنی، و فی خبر آخر إذا عرفت أنّ النعم منّی رضیت منک بذلک شکرا، فأمّا ما یقال فی العرف: من أنّ فلانا مؤدّ لحقّ اللّه تعالى فلیس المراد منه جزاء النعمه بل لمّا کانت المطلوبات للّه تعالى من التکالیف الشرعیّه و العقلیّه تسمّى حقوقا له لا جرم سمّى المجتهد فی الامتثال مؤدّیا لحقّ اللّه، و ذلک الأداء فی الحقیقه من أعظم نعمه تعالى على عبده إذ کانت الامتثال و سائر أسباب السلوک الموصل إلى اللّه تعالى کلّها مستنده إلى جوده و عنایته و إلیه الإشاره بقوله تعالى «یَمُنُّونَ عَلَیْکَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَیَّ إِسْلامَکُمْ بَلِ اللَّهُ یَمُنُّ عَلَیْکُمْ أَنْ هَداکُمْ لِلْإِیمانِ إِنْ کُنْتُمْ صادِقِینَ»«» و ما کان فی الحقیقه نعمه اللّه لا یکون أداء لنعمه اللّه و جزاء لها و إن اطلق ذلک فی العرف إذ کان من شأن الحقّ المفهوم المتعارف بین الخلق استلزامه وجوب الجزاء و الأداء لیسارعوا إلى الإیتان به رغبه و رهبه فیحصل المقصود من التکلیف حتّى لو لم یعتقدوا أنّه حقّ للّه بل هو مجرّد نفع خالص لهم لم یهتمّوا به غایه الاهتمام إذ کانت غایته غیر متصوّره لهم کما هی، و قلمّا تهتمّ النفوس، بأمر لا تتصوّر غایته و منفعته خصوصا مع المشقّه اللازمه فی تحمّله إلّا بباعث قاهر من خارج.

 

قوله الّذی لا یدرکه بعد الهمم و لا یناله غوص الفطن.

 أقول: إسناد الغوص هاهنا إلى الفطن على سبیل الاستعاره إذ الحقیقه إسناده إلى الحیوان بالنسبه إلى الماء و هو مستلزم لتشبیه المعقولات بالماء، و وجه الاستعاره هاهنا أنّ صفات الجلال و نعوت الکمال لمّا کانت فی عدم تناهیها و الوقوف على حقائقها و أغوارها تشبه البحر الخضم الّذی لا یصل السائح له إلى ساحل، و لا ینتهی الغائص فیه إلى قرار، و کان السائح لذلک البحر و الحائض فی تیّاره هى الفطن الثاقبه لا جرم کانت الفطنه شبیهه بالغائص فی البحر فأسند الغوص إلیها، و فی معناه الغوص فی الفکر و الغوص فی النوم، و یقرب منه إسناد الإدراک إلى بعد الهمم إذ کان الإدراک حقیقه فی لحقوق جسم لجسم آخر و إضافه الغوص إلى الفطن و البعد إلى الهم إضافه لمعنى الصفه بلفظ المصدر إلى الموصوف، و التقدیر لا تناله الفطن الغائصه و لا تدرکه الهمم البعیده، و وجه الحسن فی هذه الإضافه و تقدیم الصفه أنّ المقصود لمّا کان هو المبالغه فی عدم إصابه ذاته تعالى بالفطنه من حیث هى ذات غوص و بالهمّه من حیث هى بعیده کانت تلک الحیثیّه مقصوده بالقصد الأوّل، و قد بیّنا أنّ البلاغه تقتضی تقدیم الأهمّ و المقصود الأوّل على ما لیس کذلک، و برهان هذا المطلوب ظاهر فإنّ حقیقته تعالى لمّا کانت بریّه عن جهات الترکیبات عریّه عن اختلاف الجهات مترعه عن تکثّر المتکثّرات، و کانت الأشیاء إنّما تعلم بما هى من جهه حدودها المؤلّفه من أجزائها فإذن صدق أنّ واجب الوجود لیس بمرکّب و ما لیس بمرکّب لیس بمدرک الحقیقه و صدق أنّ واجب الوجود لیس بمدرک الحقیقه فلا تدرکه همّه و إن بعدت و لا تناله فطنه و إن اشتدّت فکلّ سائح فی بحار جلاله غریق فکلّ مدّع للوصول فبأنوار کبریائه حریق لا إله إلّا هو سبحانه و تعالى عمّا یقولون علوّا کبیرا.

 

قوله الّذی لیس لصفته حدّ محدود و لا نعت موجود.

 أقول: المراد لیس لمطلق ما تعتبره عقولنا له من الصفات السلبیّه و الإضافیّه نهایه معقوله تقف عندها فیکون حدّا له، و لیس لمطلق ما یوصف به أیضا وصف موجود یجمعه فیکون نعتا له و منحصرا فیه قال ابو الحسن الکندرى-  رحمه اللّه- : و یمکن أن یؤول حدّ محدود على ما یأوّل به کلام العرب: و لا یرى الضبّ بها ینحجر، أى لیس بها ضبّ فینحجر حتّى یکون المراد أنّه لیس له صفه فتحدّ إذ هو تعالى واحد من کلّ وجه منزّه عن الکثره بوجه ما فیمتنع أن یکون له صفه تزید على ذاته کما فی سائر الممکنات، و صفاته المعلومه لیست من ذلک فی شی‏ء إنّما هى نسب و إضافات لا یوجب وصفه بها کثره فی ذاته قال: و ممّا یؤکّد هذا التأویل قوله بعد ذلک فمن وصف اللّه سبحانه فقد قرنه، و هذا التأویل حسن و هو راجع إلى ما ذکرناه فی المعنى، و أمّا وصفه الحدّ بکونه محدودا فللمبالغه على طریقه قولهم شعر شاعر، و على هذا التأویل یکون قوله و لا نعت موجود سلبا للنعت عن ذاته سبحانه إذ التقدیر لیس له صفه تحدّ و لا نعت، و قیل معنى قوله لیس لصفته حدّ أى لیس لها غایه بالنسبه إلى متعلّقاتها کالعلم بالنسبه إلى المعلومات و القدره إلى المقدورات.

 

قوله و لا وقت معدود و لا أجل ممدود.

 أقول: وصف الوقت بکونه معدودا کقوله تعالى «فِی أَیَّامٍ مَعْدُوداتٍ» و کقوله «وَ ما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ»«» و هو المعلوم الداخل فی الإحصاء و العدّ، و ذلک أنّ العدّ لا یتعلّق بالوقت الواحد من حیث هو واحد فإنّه من تلک الحیثیّه لیس معدودا بل مبدء للعدد و إنّما یتعلّق به من حیث إنّه داخل فی الأوقات الکثیره الموجوده فی الزمان إمّا بالفرض أو بالفعل الّتی یلحق جملتها عند اعتبار التفصیل کونها معدوده إذ یقال: هذا الفرد معدود فی هذه الجمله أى داخل فی عدّها و مراده فی هذین الحکمین نفی نسبه ذاته و ما یلحقها إلى الکون فی الزمان و أن یکون ذات أجل ینتهی إلیه فینقطع وجودها بانتهائه و بیان ذلک من وجهین أحدهما أنّ الزمان من لواحق الحرکه الّتی هى من لواحق الجسم فلمّا کان الباری سبحانه منزّها عن الجسمیّه استحال أن یکون فی زمان، الثانی أنّه‏   تعالى إن أوجد الزمان و هو فی الزمان لزم کون الزمان متقدّما على نفسه و إن أوجده بدون أن یکون فیه کان غنیّا فی وجوده عنه فهو المطلوب فإذن صدق هذین السلبین فی حقّه معلوم، و قد حصل فی هذه القرائن الأربع السجع المتوازی مع نوع من التجنیس.   


قوله الّذی فطر الخلائق بقدرته و نشر الریاح برحمته و وتد بالصخور میدان أرضه.

أقول: لمّا قدّم الصفات السلبیّه شرع فی الصفات الثبوتیّه و هذه الاعتبارات الثلاثه موجوده فی القرآن الکریم أمّا الأوّل فقوله تعالى «الَّذِی فَطَرَکُمْ أَوَّلَ مَرَّهٍ»«» و أمّا الثانی فقوله تعالى «وَ هُوَ الَّذِی أَرْسَلَ الرِّیاحَ بُشْراً بَیْنَ یَدَیْ رَحْمَتِهِ»«» و أمّا الثالث فقوله تعالى «وَ أَلْقى‏ فِی الْأَرْضِ رَواسِیَ أَنْ تَمِیدَ بِکُمْ»«» و قوله «وَ الْجِبالَ أَوْتاداً»«»

أمّا المراد بقوله فطر الخلائق بقدرته فاعتباره من حیث استناد المخلوقات إلى قدرته و وجودها عنها، و لمّا کانت حقیقه الفطر الشقّ فی الأجسام کانت نسبته هاهنا إلى الخلق استعاره، و للإمام فخر الدین فی بیان وجه الاستعاره فی أمثال هذا الموضع بحث لطیف قال: و ذلک أنّ المخلوق قبل دخوله فی الوجود کان معدودا محضا و العقل یتصوّر من العدم ظلمه متّصله لا انفراج فیها و لا شقّ، فإذا أخرج الموجد المبتدع من العدم إلى الوجود فکأنّه بحسب التخیّل و التوهّم شقّ ذلک العدم و فطره و أخرج ذلک الموجود منه. قلت: إلّا أنّ ذلک الشقّ و الفطر على هذا التقدیر لا یکون للموجود المخرج بل للعدم الّذی خرج هذا الموجود منه اللّهم إلّا على تقدیر حذف المضاف و إقامه المضاف إلیه مقامه حتّى یکون التقدیر الّذی فطر عدم الخلائق. و هو استعمال شائع فی العرف و العربیّه کثیرا و حسنه بین الناس ظاهر و مثله فالق الحبّ و النوى على قول بعض المفسّرین کما سنبیّنه، و قال ابن‏  الأنباری: لمّا کان أصل الفطر شقّ الشی‏ء عند ابتدائه فقوله فطر الخلائق أی خلقهم و أنشأهم بالترکیب و التألیف الّذی سبیله أن یحصل فیه الشقّ و التألیف عند ضمّ بعض الأشیاء إلى بعض، ثمّ إنّ الفطر کما یکون شقّ إصلاح کقوله تعالى «فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ» کذلک یکون شقّ إفساد کقوله تعالى «إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ» «و هَلْ تَرى‏ مِنْ فُطُورٍ»

و أمّا  قوله و نشر الریاح برحمته فبیانه أنّ نشر الریاح و بسطها لمّا کان سببا عظیما من أسباب بقاء أنواع الحیوان و النبات و استعدادات الأمزجه للصحّه و النموّ و غیرها حتّى قال کثیر من الأطبّاء: إنّها تستحیل روحا حیوانیّا، و کانت عنایه اللّه سبحانه و تعالى و عموم رحمته شامله لهذا العالم و هى مستند کلّ موجود لا جرم کان نشرها برحمته، و من أظهر آثار الرحمه الإلهیّه بنشر الریاح حملها للسحاب المقرع بالماء و إثارتها له على وفق الحکمه لیصیب الأرض المیته فینبت بها الزرع و یملاء الضرع کما قال سبحانه «مَنْ یُرْسِلُ الرِّیاحَ بُشْراً بَیْنَ یَدَیْ رَحْمَتِهِ»«» و قال «یُرْسِلَ الرِّیاحَ مُبَشِّراتٍ وَ لِیُذِیقَکُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ»«» و قال «وَ أَرْسَلْنَا الرِّیاحَ لَواقِحَ-  فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَیْناکُمُوهُ»«» و المراد تنبیه الغافلین على ضروب نعم اللّه بذکر هذه النعمه الجلیله لیستدیموها بدوام شکره و المواظبه على طاعته کما قال تعالى «وَ اذْکُرُوا نِعْمَهَ اللَّهِ عَلَیْکُمْ» و لقوله «لِتَسْتَوُوا عَلى‏ ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْکُرُوا نِعْمَهَ رَبِّکُمْ إِذَا اسْتَوَیْتُمْ عَلَیْهِ وَ تَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِی سَخَّرَ لَنا هذا وَ ما»«» قال إنّ بعض العرب یستعمل الریح فی العذاب و الریاح فی الرحمه و کذلک نزل القرآن الکریم قال تعالى «بِرِیحٍ صَرْصَرٍ» و قال «الرِّیحَ الْعَقِیمَ» و قال «یُرْسِلَ الرِّیاحَ مُبَشِّراتٍ-  و الرِّیاحَ لَواقِحَ» و أمثاله.

قوله و وتد بالصخور میدان أرضه.

أقول: المراد نسبه نظام الأرض إلى قدرته سبحانه، و هاهنا بحثان.

البحث الأوّل فی أنّ قول القائل وتدت کذا بکذا

معناه جعلته و تداله و الموتود هاهنا فی الحقیقه إنّما هو الأرض و قد جعل الموتود هنا هو میدان الأرض و هو عرض من الأعراض لا یتصوّر جعل الجبل وتدا له إلّا أنّا نقول: لمّا کان المیدان علّه حامله على إیجاد الجبال و إیتاد الأرض بها کان الاهتمام به أشدّ فلذلک قدمّه و أضافه إضافه الصفه إلى الموصوف و إن کان التقدیر وتد بالصخور أرضه المائده.

البحث الثانی أنّ تعلیل وجود الجبال بمیدان الأرض

ورد هاهنا و فی القرآن الکریم فی مواضع کقوله تعالى «وَ أَلْقى‏ فِی الْأَرْضِ رَواسِیَ أَنْ تَمِیدَ بِکُمْ» و کقوله «وَ الْجِبالُ‏ کَذَّبَتْ» و لا بدّ من البحث عن وجه هذا التعلیل، و فیه خمسه أوجه

الوجه الأوّل قال المفسّرون فی معنى هذه الآیات:

إنّ السفینه إذا القیت على وجه الماء فإنّها تمیل من جانب إلى جانب و تتحرّک فإذا وضعت الأجرام الثقیله فیها استقرّت على وجه الماء و سکنت قالوا فکذلک لمّا خلق اللّه تعالى الأرض على وجه الماء اضطربت و مادت فخلق اللّه علیها هذا الجبال و وتدها بها فاستقرّت على وجه الماء بسبب ثقل الجبال قال الإمام فخر الدین و یتوجّه على هذا الکلام أن یقال: لا شکّ أنّ الأرض أثقل من الماء و الأثقل یغوص فیه و لا یبقى طافیا علیه و إذا لم یبق کذلک امتنع أن یقال: إنّها تمید و تمیل بخلاف السفینه إذ کانت مرکّبه من الأخشاب و داخلها مجوّف مملوّ من الهواء فلذلک تبقى طافیه على الماء فلا جرم تمیل و تضطرب إلى أن ترسى بالأجرام الثقیله فإذن الفرق ظاهر.

الوجه الثانی ما ذکره هو

قال: إنّه قد ثبت بالدلائل الیقینیّه أنّ الأرض کره، و ثبت أیضا أنّ هذه الجبال على سطح الأرض جاریه مجرى خشونات و تضریسات حاصله على وجه الکره فإذا ثبت هذا فلو فرضنا أن هذه الخشونات ما کانت حاصله بل کانت الأرض کره حقیقیه خالیه عن الخشونات و التضریسات لصارت بحیث تتحرّک بالاستداره بأدنى سبب لأنّ الجرم البسیط یجب کونه متحرّکا على نفسه و إن لم یجب ذلک عقلا إلّا أنّها تصیر بأدنی سبب تتحرّک على هذا الوجه أمّا إذا حصل على سطح کره الأرض هذه الجبال فکانت کالخشونات الواقعه على وجه الکره فکلّ واحد من هذه الجبال إنّما یتوجّه بطبعه إلى مرکز العالم و توجّه ذلک الجبل نحو مرکز العالم بثقله العظیم و قوّته الشدیده یکون جاریا مجرى الوتد الّذی یمنع کره الأرض من الاستداره و کان تخلیق هذه الجبال على الأرض کالأوتاد المعدوده فی الکره المانعه من الحرکه المستدیره.

الوجه الثالث أن نقول:

لمّا کانت فائده الوتد أن یحفظ الموتود فی بعض المواضع عن الحرکه و الاضطراب حتّى یکون قارّا ساکنا، و کان من لوازم ذلک السکون فی بعض الأشیاء صحّه الاستقرار على ذلک الشی‏ء و التصرّف علیه و کان من فائده وجود الجبال و التصریسات الموجوده فی وجه الأرض أن لا یکون مغموره بالماء لیحصل للحیوان الاستقرار و التصرّف علیها لا جرم کان بین الأوتاد و الجبال الخارجه من الماء فی الأرض اشتراک فی کونهمامستلزمین لصحّه الاستقرار مانعین من عدمه لا جرم حسنت استعاره نسبه الإتیاد إلى الصخور و الجبال، و أمّا إشعاره بالمیدان، فلانّ الحیوان کما یکون صادقا علیه أنّه غیره مستقرّ على الأرض بسبب انغمارها فی الماء لو لم توجد الجبال کذلک یصدق على الأرض أنّهما غیر مستقرّه تحته و مضطربه بالنسبه إلیه فثبت حینئذ أنّه لو لا وجود الجبال فی سطح الأرض لکانت مضطربه و مائده بالنسبه إلى الحیوان لعدم تمکّنه من الاستقرار علیها.

الوجه الرابع قال بعض العلماء:

إنّه یحتمل أن تکون الإشاره بالصخور إلى الأنبیاء و الأولیاء و العلماء و بالأرض إلى الدنیا أمّا وجه التجوّز بالصخور عن الأنبیاء و العلماء فلأنّ الصخور و الجبال لمّا کانت على غایه من الثبات و الاستقرار مانعه لما یکون تحتها من الحرکه و الاضطراب عاصمه لما یلتجى‏ء إلیها من الحیوان عمّا یوجب له الهرب فیسکن بذلک اضطرابه و قلقه أشبهت الأوتاد من بعض هذه الجهات، ثمّ لمّا کانت الأنبیاء و العلماء هم السبب فی انتظام امور الدنیا و عدم اضطراب أحوال أهلها کانوا کالأوتاد للأرض فلا جرم صحّت استعاره لفظ الصخور لهم، و لذلک یحسن فی العرف أن یقال: فلان جبل منیع یأوی إلیه کلّ ملهوف إذا کان یرجع إلیه فی المهمّات و الحوائج و العلماء أوتاد اللّه فی الأرض.

الوجه الخامس

أنّ المقصود من جعل الجبال کالأوتاد فی الأرض أن یهتدى بها على طرقها و المقاصد فیها فلا تمید جهاتها المشتبهه بأهلها و لا تمیل بهم فیتیهون فیها عن طرقهم و مقاصدهم و باللّه التوفیق.

قوله أوّل الدین معرفته.

أقول: لمّا کان الدین فی اللغه الطاعه کما سبق و فی العرف الشرعیّ هو الشریعه الصادره بواسطه الرسل علیهم السلام و کان اتّباع الشریعه طاعه مخصوص کان ذلک تخصیصا من الشارع للعامّ بأحد مسمّیاته و لکثره استعماله فیه صار حقیقه دون سائر المسمّیات لأنّه المتبادر إلى الفهم حال إطلاق لفظه الدین، و اعلم أنّ معرفه الصانع سبحانه على مراتب فأولیها و أدناها أن یعرف العبد أنّ للعالم صانعا، الثانیه أن یصدّق بوجوده، الثالثه أن یترقّی بجذب العنایه الإلهیّه إلى توحیده و تنزیهه عن الشرکاء، الرابعه مرتبه الإخلاص له، الخامسه نفی الصفات الّتی تعتبرها الأذهان له عنه و هی غایه العرفان و منتهى قوّه الإنسان، و کلّ مرتبه من المراتب الأربع الاولى مبدء لما بعدها من المراتب، و کلّ من الأربع الأخیره کمال لما قبلها، ثمّ إنّ المرتبتین الأولیین مرکوزتان فی الفطر الإنسانیّه بل فیما هو أعمّ منها و هی الفطر الحیوانیّه و لذلک فإنّ الأنبیاء علیهم السلام لم یدعوا الخلق إلى تحصیل هذا القدر من المعرفه، و أیضا فلو کان حصول هذا القدر من المعرفه متوّقفا على دعوه الأنبیاء و صدقهم مع أنّ صدقهم مبنىّ على معرفه أنّ هاهنا صانعا للخلق أرسلهم للزم الدور، و إنّما کانت أوّل مرتبه دعوا إلیها من المعرفه هی توحید الصانع و نفی الکثره عنه المشتمل علیها أوّل کلمه نطق بها الداعی إلى اللّه و هی قولنا: لا إله إلّا اللّه فقال صلى اللّه علیه و آله من قال لا إله إلّا اللّه خالصا مخلصا دخل الجنّه. ثمّ استعدّت أذهان الخلق بما نطقت به من التوحید الظاهر نبّههم على أنّ فیها قوّه إعداد لتوحید أعلى و أخفى من الأوّل فقال: من قال لا إله إلّا اللّه خالصا مخلصا دخل الجنّه، و ذلک إشاره إلى حذف کلّ قید من درجه الاعتبار مع الوحده المطلقه إذا عرفت ذلک فاعلم أنّه یحتمل أن یکون مراده بالمعرفه المرتبه الاولى من مراتب المعرفه و حینئذ یکون معنى قوله أوّل الدین معرفته ظاهرا فإنّ ذلک القدر أوّل متحصّل فی النفس من الدین الحقّ، و یحتمل أن یکون مراده المعرفه التامّه الّتی هی غایه العارف و نهایه مراتب‏ السلوک و حینئذ یکون المراد من کونها أوّل الدین هو أولیّتها فی العقل و هو إشاره إلى کونها علّه غائیّه إذ العلّه الغائیّه متقدّمه فی العقل على ما هی علّه له و إن تأخّرت فی الوجود، و بیان ذلک أنّ المعرفه التامّه الّتی هی غایه سعى العارف غیر حاصله فی مبدء الأمر بل یحتاج فی کمال ما حصل له من مراتب المعرفه و تحصیل المعرفه التامّه إلى الریاضه بالزهد و العباده و تلقى الأوامر الإلهیّه بالقبول الّتی هی سبب إتمام الدین فیستعدّ أوّلا بسببها للتصدیق بوجوده یقینا ثمّ لتوحیده ثمّ للإخلاص له ثمّ لنفی کلّ ما عداه عنه فیغرق فی تیّار بحار العظمه و کلّ مرتبه أدرکها فهی کمال لما قبلها إلى أن تتمّ المعرفه المطلوبه له بحسب ما فی وسعه و بکمال المعرفه یتمّ الدین و ینتهی السفر إلى اللّه.

 

قوله و کمال معرفته التصدیق إلى قوله نفی الصفات عنه.

أقول: ترتیب هذه المقدّمات على هذا الوجه یسمّى قیاسا مفصولا و هو القیاس المرکّب‏ الّذی تطوی فیه النتائج و عند ذکرها یتبیّن أنّ المقصود منها بیان أنّ کمال معرفته نفی الصفات عنه، و هذا القیاس تنحلّ إلى قیاسات تشبه قیاس المساواه لعدم الشرکه بین مقدّمتی کلّ منها فی تمام الأوسط فیحتاج فی إنتاج کلّ منها إلى قیاس آخر، و المطلوب من الترکیب الأوّل و هو قوله و کمال معرفته التصدیق به و کمال التصدیق به توحیده أنّ کمال معرفته توحیده، و إنّما یلزم عنه هذا المطلوب بقیاس آخر، صورته أنّ معرفته کمال و کمالها توحیده و کلّما کان کمال کماله توحیده کان کماله توحیده فینتج أنّ کمال معرفته توحیده، أمّا المقدّمه الاولى فإنّ التوحید کمال التصدیق و هو کمال المعرفه، و أمّا الثانیه فلأنّ کمال کمال الشی‏ء کمال الشی‏ء و هکذا فی باقی الترکیب و المطلوب من ترکیب هذه النتیجه مع المقدّمه الثالثه و هى قوله و کمال توحیده الإخلاص له أنّ کمال معرفته الإخلاص له، و من ترکیب هذه النتیجه مع المقدّمه الرابعه و هی قوله کمال الإخلاص له نفی الصفات عنه یحصل المطلوب، و اعلم أنّ فی إطلاق الکمال هاهنا تنبیها على أنّ معرفه اللّه تعالى مقوله بحسب التشکیک إذ کانت قابله للزیاده و النقصان، و بیان ذلک أنّ ذات اللّه تعالی لمّا کانت بریّه عن أنحاء الترکیب لم یکن معرفته ممکنه إلّا بحسب رسوم ناقصه تترکّب من سلوب و إضافات تلزم ذاته المقدّسه لزوما عقلیّا فتلک السلوب و الإضافات لمّا لم تکن متناهیه لم یمکن أن تقف المعرفه بحسبها عند حدّ واحد بل تکون متفاوته بحسب زیادتها و نقصانها و خفائها و جلائها، و کذلک کمال التصدیق و التوحید و الإخلاص، و إذا تقرّر ذلک فلنشرع فی تقدیر المقدّمات،

أمّا المقدّمه الاولى و هی أنّ کمال معرفته التصدیق به، و بیان ذلک أن المتصوّر لمعنى إله العالم عارف به من تلک الجهه معرفه ناقصه تمامها الحکم بوجوده و وجوبه إذ من ضروره کونه موجد للعالم کونه موجودا فإنّ ما لم یکن موجودا استحال بالضروره أن یصدر عنه أثر موجود فهذا الحکم اللاحی هو کمال معرفته،

و أمّا الثانیه و هی قوله و کمال التصدیق به توحیده فبیانها أنّ من صدّق بوجود الواجب ثمّ جهل مع ذلک کونه واحدا کان تصدیقه به تصدیقا ناقصا تمامه توحیده، إذ کانت الواحده المطلقه لازمه لوجود الواجب فإنّ طبیعه واجب الوجود بتقدیر أن تکون مشترکه بین اثنین فلا بدّ لکلّ واحد منهما من ممیّز وراء ما به الاشتراک فیلزم الترکیب فی ذاتیهما و کلّ مرکّب ممکن فیلزمه الجهل بکونه واجب الوجود و إن تصوّر معناه و حکم بوجوده،

و أمّا الثالثه و هی قوله و کمال توحیده الإخلاص له ففیها إشاره إلى أنّ التوحید المطلق للعارف نّما یتمّ بالإخلاص له و هو الزهد الحقیقیّ الّذی هو عباره عن تنحیه کلّ ما سوى الحقّ الأوّل عن سنن الإیثار، و بیان ذلک أنّه ثبت فی علم السلوک أنّ العارف ما دام ملتفتا مع ملاحظه جلال اللّه و عظمته إلى شی‏ء سواه فهو بعد واقف دون مقام الوصول جاعل مع اللّه غیرا حتّى أنّ أهل الإخلاص لیعدّون ذلک شرکا خفیّا کما قال بعضهم: من کان فی قلبه مثقال خردله سوى جلالک فاعلم أنّه مریض و إنّهم لیعتبرون فی تحقّق الإخلاص أن یغیب العارف عن نفسه حال ملاحظته لجلال اللّه و أن لحظها فمن حیث هی لاحظه لا من حیث هی متزیّنه بزینه الحقّ فإذن التوحید المطلق أن لا یعتبر معه غیره مطلقا، و ذلک هو المراد بقوله و کمال توحیده الإخلاص له،

 

و أمّا المقدّمه الرابعه و هی أنّ کمال الإخلاص له نفی الصفات عنه فقد بیّن علیه السّلام صدقها بقیاس برهانیّ مطویّ النتائج أیضا استنتج منه أنّ کلّ من وصف اللّه سبحانه فقد جهله،

 

و ذلک قوله علیه السّلام لشهاده کلّ صفه أنّها غیر الموصوف، و شهاده کلّ موصوف أنّه غیر الصفه إلى قوله و من جزّاه فقد جهله، و بیان صحّه المقدّمات

 

أمّا قوله لشهاده کلّ صفه أنّها غیر الموصوف و بالعکس فهو توطئه الاستدلال ببیان المغائره بین الصفه و الموصوف، و المراد بالشهاده هاهنا شهاده الحال فإنّ حال الصفه تشهد بحاجتها إلى الموصوف و عدم قیامها بدونه و حال الموصوف تشهد بالاستغناء عن الصفه و القیام بالذات بدونها فلا تکون الصفه نفس الموصوف،

 

و أمّا قوله فمن وصف اللّه سبحانه فقد قرنه فهو ظاهر لأنّه لمّا قرّر کون الصفه مغایره للموصوف لزم أن تکون زائده على الذات غیر منفکّه عنها فلزم من وصفه بها أن تکون مقارنه لها و إن کانت تلک المقارنه على وجه لا یستدعی زمانا و لا مکانا،

 

و أمّا قوله و من قرنه فقد ثنّاه فلأنّ من قرنه بشی‏ء من الصفات فقد اعتبر فی مفهومه أمرین أحدهما الذات و الآخر الصفه فکان واجب الوجود عباره عن شیئین أو أشیاء فکانت فیه کثره و حینئذ ینتج هذا الترکیب أنّ من وصف اللّه سبحانه فقد ثنّاه،

 

و أمّا قوله و من ثنّاه فقد جزّاه فظاهر أنّه إذا کانت الذات عباره عن مجموع امور کانت تلک الامور أجزاء لتلک الکثره من حیث إنّها تلک الکثره و هی مبادئ لها، و ضمّ هذه المقدّمه إلى نتیجه الترکیب الأوّل ینتج أنّ من وصف اللّه سبحانه فقد جزّاه،

 

و أمّا قوله و من جزّاه فقد جهله فلأنّ کلّ ذی جزء فهو یفتقر إلى جزء و جزئه غیره فکلّ ذی جزء فهو مفتقر إلى غیره و المفتقر إلى الغیر ممکن فالمتصوّر فی الحقیقه لأمر هو ممکن الوجود لا الواجب الوجود بذاته فیکون إذن جاهلا به و ضمّ هذه المقدّمه إلى نتیجه ما قبلها ینتج أنّ من وصف اللّه سبحانه فقد جهله و حینئذ یتبیّن المطلوب و هو أنّ کمال الإخلاص له نفی الصفات عنه إذ الإخلاص له و الجهل به ممّا لا یجتمعان، و إذا کان الإخلاص منافیا للجهل به الّذی هو لازم لإثبات الصفه له کان إذن منافیا لإثبات الصفه له لأنّ معانده اللازم تستلزم معانده الملزوم، و إذ بطل أن یکون الإخلاص فی إثبات الصفه له تثبت أنّه فی نفی الصفه عنه و عند هذا یظهر المطلوب الأوّل و هو أنّ کمال معرفته نفی الصفات عنه و ذلک هو التوحید المطلق و الإخلاص المحقّق الّذی هو نهایه العرفان و غایه سعی العارف من کلّ حرکه حسیّه و عقلیّه و ما یکون فی نفس الأمر من غیر تعقّل نقص کلّ ما عداه عنه معه فهو الوحده المطلقه المبرّاه عن کلّ لاحق، و هذا مقام حسرت عنه نوافذ الأبصار، و کلّت فی تحقیقه صوارم الأفکار، و أکثر الناس فیه الأقوال فانتهت بهم الحال إلى إثبات المعانی و ارتکاب الأحوال فلزمهم فی ذلک الضلال ما لزمهم من المحال فإن قلت: هذا یشکل من وجهین أحدهما أنّ الکتب الإلهیّه و السنن النبویّه مشحونه بوصفه تعالى بالأوصاف المشهوره کالعلم و القدره و الحیاه و السمع و البصر و غیرها و على ما قلتم یلزم أن لا یوصف سبحانه بشی‏ء منها، الثانی أنّه علیه السّلام صرّح بإثبات الصفه له فی قوله لیس لصفته حدّ محدود و لو کان مقصوده بنفی الصفات ما ذکرتم لزم التناقض فی کلامه علیه السّلام فالأولى إذن أن یخصّ قوله نفى الصفات عنه بنفی المعانی کما ذهب إلیه الأشعری، و نفی الأحوال کما ذهب إلیه المثبتون من المعتزله و بعض الأشعریّه لیبقى للصفات المشهوره الجاریه علیه تعالى و لإثباته علیه السّلام الصفه للّه فی موضع آخر محمل، أو یختصّ بنفی صفات المخلوقین کما أشار علیه السّلام فی آخر الخطبه لا یجرون إلیه صفات المصنوعین، و کما ذکره الشیخ المفید من الشیعه فی کتاب الإرشاد عنه جلّ أن تحلّه الصفات لشهاده العقول أنّ کلّ من حلّته الصفات مصنوع. قلت: قد سبق منّا بیان أنّ کلّ ما یوصف به تعالى من‏ الصفات الحقیقیّه و السلبیّه و الإضافیّه اعتبارات تحدّثها عقولنا عند مقائسه ذاته سبحانه إلى غیرها، و لا یلزم ترکیب فی ذاته و لا کثره فیکون وصفه تعالى بها أمرا معلوما من الدین لیعمّ التوحید و التنزیه کلّ طبقه من الناس، و لمّا کانت عقول الخلق على مراتب من التفاوت کان الإخلاص الّذی ذکره علیه السّلام أقصى ما تنتهی إلیه القوى البشریّه عند غرقها فی أنوار کبریاء اللّه و هو أن تعتبره فقط من غیر ملاحظه شی‏ء آخر، و کان إثباته علیه السّلام الصفه فی موضع آخر و وصفه فی الکتاب العزیز و سنن النبویّه إشاره إلى الاعتبارات الّتی ذکرناها إذ کان من هو دون درجه الإخلاص لا یمکن أن یعرف اللّه سبحانه بدونها و باللّه التوفیق.

 

قوله و من أشار إلیه فقد حدّه و من حدّه فقد عدّه.

أقول: یشیر إلى البرهان على أحد أمرین أحدهما أنّه یحتمل أن یکون مراده امتناع الإشاره العقلیّه إلیه و تعلّقها به فعلى هذا یکون تقریر المقدّمه الاولى من هذا البرهان أنّ من وجّه ذهنه طالبا لکنه ذاته المقدّسه و زعم أنّه وجدها و أحاط بها و أشار إلیها من جهه ما هى فقد أوجب له حدّا یقف ذهنه عنده إذ الحقیقه إنّما تعلم من جهه ما هی و یشیر العقل إلى کنهها إذا کانت مرکّبه و قد علمت أنّ کلّ مرکّب محدود فی المعنى و لأنّ الإشاره العقلیّه ملوّثه بالإشاره الوهمیّه و الخیالیّه مشوبه بهما و هما مستلزمان لإثبات الحدّ کما سیأتی، و أمّا تقریر المقدّمه الثانیه فظاهر إذ کان حدّ الشی‏ء إنّما یتألّف من کثره معتبره فیه و کلّ ذی کثره معدود فی نفسه و نتیجه هذا البرهان أنّ من‏ أشار إلیه فقد عدّه، و أمّا استحاله أن یکون معدودا فلما علمت فیما سبق أنّ الکثره مستلزمه للإمکان، الثانی أنّه یحتمل أن یکون مراده أیضا نفی الإشاره الحسیّه الظاهره و الباطنه إلیه و بیان تنزیهه عن الوحده العددیّه، و یکون تقریر المقدّمه الاولى أنّ من أشار إلیه بأحد الحواسّ فقد جعل له حدّا أو حدودا أو نهایات تحیط به، و ذلک أنّ کلّ ما یشار إلیه بالحسّ أیضا أو الباطن فلا بدّ و أن یشار إلیه فی حیّز مخصوص و على وضع مخصوص و ما کان کذلک فلا بدّ و أن یکون له حد أو حدود فإذن لو کان مشار إلیها بأحدها لکان محدودا، و أمّا تقریر المقدّمه الثانیه فالمراد بالعدّ هاهنا جعله مبدء کثره یصلح أن‏ یکون عادّا لها، و ذلک أنّ کلّ ما أدرک على وضع مخصوص و فی جهه فالعقل حاکم بإمکان وجود أمثاله فمن حدّه بالإشاره الحسیّه فقد جعله مبدء کثره یصلح أن یعدّ بها و یکون معدودا بالنسبه إلیها، و أمّا کونه فی نفسه معدودا و ذلک کونه مرکّبا من امور لأنّ الواحد بهذا المعنى لیس مجرّد الوحده فقط و إلّا لما تعلّقت الإشاره الحسیّه به بل لا بدّ معها من الوضع کما علمت و على الوجهین یکون مجتمعا من أمرین أو أمور فیکون مرکّبا و کلّ مرکّب ممکن على ما مرّ و إذا استحال أن یکون واحدا بهذا المعنى کانت الإشاره إلیه مطلقا یستلزم الجهل به من حیث هو واحد واجب الوجود، و أعلم أنّه لیس إذا بطل أن یکون واحدا فإنّ للواحد مفهومات اخر بها یقال له واحد فإنّه یقال واحد لما لا یشارکه فی حقیقه الخاصّه به غیره و یقال واحد لما لا تترکّب حقیقته و تأتلف من معانی متعدّده الأجزاء قوام و لا أجزاء حدّ و یقال واحد لما لم یفته من کماله شی‏ء بل کلّ کمال ینبغی أن یکون له فهو حاصل له بالفعل و الباری سبحانه واحد بهذه الاعتبارات الثلاثه

 

قوله و من قال فیم فقد ضمنّه و من قال علام فقد أخلى منه.

أقول: أصل فیم و علام فیما و علی ما حرفان دخلا على ما الاستفهامیّه فحذف ألفها لاتّصالها بهما تخفیفا فی الاستفهام خاصّه و هاتان القضیّتان فی تقدیر شرطیّتین متّصلتین یراد منهما تأدیب الخلق أن یستفهموا عنه سبحانه على هذین الوجهین، و بیان المراد منهما باستثناء نقیضی تالیهما و حذف الاستثناء هاهنا الّذی هو کبرى القیاس على ما هو المعتاد فی قیاس الضمیر، و اعلم أنّ تقدیر المتّصله الاولى لو صحّ السؤال منه بفیم لکان له محلّ یتضمّنه و یصدق علیه أنّه فیه صدق العرض بالمحلّ لکنّه یمتنع کونه فی محلّ فیمتنع السؤال عنه بفیم بیان الملازمه أنّ مفهوم فی لمّا کان موجودا فی ما کان الاستفهام بفیم استفهاما عن مطلق المحلّ و الظرف و لا یصحّ الاستفهام عن المحلّ لشی‏ء إلّا إذا صحّ کونه فیه بیان بطلان التالی أنّه لو صحّ کونه فی محلّ لکان إمّا أن یجب کونه فیه فیلزم أن یکون محتاجا إلى ذلک المحلّ و المحتاج إلى الغیر ممکن بالذات و إن لم یجب حلوله فیه جاز أن یستغنی عنه و الغنیّ فی وجوده عن المحلّ یستحیل أن یعرض له و إذا استحال أن یکون فی محلّ کان السؤال عنه بفیم جهلا، و أمّا تقدیر المتّصله الثانیه فهو أنّه لو جاز السؤال عنه بعلام لجاز خلوّ بعض‏ الجهات و الأماکن عنه لکنّه لا یجوز خلوّ مکان عنه فامتنع الاستفهام عنه بعلام بیان الملازمه هو أن مفهوم على و هو العلوّ و الفوقانیّه لمّا کان موجودا فی ما کانت استفهاما عن شی‏ء هو فوقه و عال علیه، و ذلک یستلزم أمرین أحدهما بواسطه الآخر و لازم له فالّذی هو بواسطه و لا لازم لها هو أخلا سائر الجهات عنه و هو ما ذکره علیه السّلام و أمّا الواسطه الملزومه فهى إثبات الجهه المعیّنه و هى جهه فوق إذا کان اختصاصه بجهه معیّنه یستلزم نفی کونه فی سائر الجهات، و إنّما جعل علیه السّلام لازم هذه المتّصله کونه قد أخلى منه لیستلزم من إبطال اللازم و هو الخلوّ عنه بطلان اختصاصه بالجهه المعیّنه لیلزم منه بطلان المقدّم و هو صحّه السؤال عنه بعلام، فأمّا بطلان التالی فلقوله «وَ هُوَ اللَّهُ فِی السَّماواتِ وَ فِی الْأَرْضِ یَعْلَمُ سِرَّکُمْ وَ جَهْرَکُمْ«»» و قوله «وَ هُوَ مَعَکُمْ أَیْنَ ما کُنْتُمْ» فإن قلت: إنّ مثبت الجهه لا یجهل هذه الآیات بل له أن یقول: لا تنافی بین إثبات الجهه المعیّنه و بین مقتضی هذه الآیات لأنّ المقصود من کونه فی السماء و الأرض أی بعلمه و کذلک من معیّته للخلق و کونه فی جهه فوق إنّما هو بذاته فحینئذ لا یکون هذه الآیات منافیه لغرضه قلت: إنّما جعل علیه السّلام قوله فقد أخلى منه لازما فی هذه القضیّه لأنّ نفى هذا اللازم بهذه الآیات ظاهر و کذلک إنّ مثبت الجهه إنّما یعتمد فی إثباتها على ظواهر الآیات الدالّه على ذلک کقوله تعالى «الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى‏» فکانت معارضه مقتضاها بظواهر هذه الآیات أنفع فی الخطابه و أنجع فی قلوب العامّه من الدلائل العقلیّه على نفی الجهه، و دلاله هذه الآیات على عدم خلوّ مکان من الأمکنه منه تعالى یستلزم دلالتها على عدم اختصاصه بجهه فوق، و المعارضه کما تکون بما یقتضی إبطال مقتضی الدلیل کذلک تکون بما یقتضی إبطال لازم مقتضاه فکانت مستلزمه لعدم جواز الاستفهام عنه بعلام و لو قال: و من قال علام فقد أثبت له جهه لم یمکن إبطال هذا اللازم إلّا بالدلیل العقلیّ لکون الظواهر النقلیّه مشعره بإثبات الجهه له فلذلک عدل علیه السّلام إلى هذا اللازم کما بیّنه لوجود ما یبطله فی القرآن الکریم و هى الآیات المذکوره حتّى إذا عدل المثبت للجهه عن ظواهر هذه الآیات إلى التأویل بإحاطه العلم مثلا ألزمناه مثله فی نحو قوله «الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ‏  اسْتَوى‏» فقلنا: المراد من الاستواء الاستیلاء بالقدره أو العلم کما هو مذکور فی الکتب الکلامیّه، و إنّما خصّ علیه السّلام جهه العلوّ بإنکار اعتقادها و التحذیر منه لکون کلّ معتقد للّه جهه یخصّصه بها لما یتوهّم من کونها شرف الجهات و لأنّها نطق بها القرآن الکریم فکانت الشبهه فی إثباتها أقوى فلذلک خصّها بالذکر.

 

قوله کائن لا عن حدث موجود لا عن عدم.

أقول: الکائن اسم الفاعل من کان و هو یستعمل فی اللغه على ثلاثه أوجه، أحدها أن تکون بصیغتها دالّه على الحدث و الزمان و یسمّى فی عرف النحاه کان التامّه کقوله: إذا کان الشتاء فاد فئونی أی إذا حدث و وجد، الثانی أن تدلّ على الزمان وحده و یحتاج فی الدلاله على الحدث إلى خبر یتمّ به و هى الناقصه و استعمالها هو الأکثر کقوله تعالى «إِنَّ إِبْراهِیمَ کانَ أُمَّهً قانِتاً لِلَّهِ» الثالث أن تکون زائده خالیه عن الدلاله على حدث أو زمان کقوله: على کان المسوّمه العراب أی على المسوّمه. إذا عرفت ذلک فاعلم أنّ مفهوم کائن أنّه شی‏ء ما له کون، و لمّا کان ذلک الشی‏ء هو ذات اللّه تعالى و کانت ذاته مقدّسه عن الزمان استحال أن یقصد وصفه بالکون الدالّ على الزمان، و لمّا احترز بقوله لا عن حدث استحال أن یدلّ کونه على الحدث و هو المسبوقیّه بالعدم أیضا و إذا بطل أن یکون کونه مستلزما للزمان و مسبوقیّه العدم لم یکن له دلاله إلّا على الوجود المجرّد عن هذین القیدین، و من هذا القبیل قوله تعالى «وَ کانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِیماً» و أمثاله و قول الرسول صلى اللّه علیه و آله کان اللّه و لا شی‏ء، و أمّا قوله موجود لا عن عدم فالمراد أیضا أنّ وجوده لیس بحادث، و بیانه أنّ الموجود من حیث هو موجود إمّا أن یکون وجوده مسبوقا بالعدم و حاصلا عنه و هو المحدث أو لا یکون و هو القدیم فأمّا کلیّه هذا الحکم فلأنّه لو کان محدثا لکان ممکنا و لو کان ممکنا لما کان واجب الوجود فینتج أنّه لو کان محدثا لما کان واجب الوجود لکنّه واجب الوجود فینتج أنّه لیس بمحدث، أمّا المقدّمتان فجلیّتان، و أمّا بطلان تالی النتیجه فمقتضی البراهین الإلهیّه، و اعلم أنّ هذه القضیّه مؤکّده لمقتضى القضیّه الاولى و لیس مقتضاها عین ما أفادته الاولى إذ کان فی الکلمه الاولى مقصود آخر و هو تعلیم الخلق کیفیّه إطلاق لفظه الکون على اللّه تعالى و إشعارهم أنّ المراد منها لیس ما یتبادر إلیه الذهن من‏ مفهومها حال إطلاقها و هو الحدوث و یحتمل أن یکون مراده فی الاولى نفی الحدوث الذاتی أو ما أعمّ منه و من الزمان، و فی الثانیه نفی الحدوث الزمانی و اللّه أعلم.

 

قوله مع کلّ شی‏ء لا بمقارنه و غیر کلّ شی‏ء لا بمزائله.

 أقول: إنّ کونه تعالى مع غیره و غیره غیره إضافتان عارضتان له بالنسبه إلى جمیع الموجودات إذ کلّها منه و یصدق علیه أن یقال: إنّه معها و إنّه متقدّم علیها و لکن باعتبارین مختلفین فإنّ المعیّه نفس إضافه تحدثها العقول بنسبته إلى آثاره و مساوقه وجوده لوجوداتها و إحاطه علمه بکلّیتها و جزئیّتها کما قال «وَ هُوَ مَعَکُمْ أَیْنَ ما کُنْتُمْ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِیرٌ» و التقدّم نسبه تحدثها له باعتبار کونه علّه لها ثمّ لمّا کانت المعیّه أعمّ من المقارنه لاعتبار الزمان و المکان فی مفهومها المتعارف لم یکن معیّه للأشیاء على سبیل المقارنه لها لبرائه ذاته المقدّسه عن الزمان و المکان فلذلک احترز بقوله لا بمقارنه و أمّا أنّه غیرها لا بمزائله فیحتمل وجهین، أحدهما و هو الأظهر أنّ المغائره لمّا کانت أعمّ من المزائله لدخول الزمان و المکان فی مفهومها أیضا کانت مغایرته للأشیاء غیر معتبر فیها المزائله لتقدّس ذاته عن الزمان و المکان فلذلک احترز بقوله لا بمزائله، الثانی أن یقال: إنّ کونه تعالى غیر کلّ شی‏ء معناه أنّه ممیّز بذاته عن کلّ شی‏ء إذ لا یشارک شیئا من الأشیاء فی معنی جنسی و لا نوعی فلا یحتاج أن ینفصل عنها بفصل ذاتی أو عرضیّ بل هو مباین لها بذاته لا بمزائله، و یکون معنى المزائله المفارقه بأحد الامور المذکوره بعد الاشتراک فی أحد الامور المذکوره، و اعلم أن هذین القیدین کاسران للأحکام الوهمیّه باعتبار الزمان و المکان و الأوصاف المخلوقه المتعارفه بین الخلق المعتبره بینهم فی مفهوم المعیّه و الغیریّه منبّهان للعقول على ما وراء حکم الوهم من عظمه اللّه سبحانه و تقدّس ذاته عن صفات الممکنات و کذلک قوله کائن لا عن حدث موجود لا عن عدم فإنّه ردّ للوهم الحاکمه بمماثلته تعالى للمحدثات.

 

قوله فاعل لا بمعنی الحرکات و الآله.

أقول: الحرکه عباره عن حصول المتحیّز فی حیّز بعد أن کان فی حیّز آخر إن قلنا بثبوت الجوهر الفرد و إلّا فهى عباره عن انتقال المتحیّز من حیّز إلى حیّز آخر أو غیره من التعریفات، و الآله هى ما یؤثّر الفاعل فی منفعله القریب منه بواسطه، و المراد بیان‏ أنّه فاعل إلّا أنّ ما صدر عنه تعالى من الآثار لیس بحسب حرکه و لا بتوسّط آله کما یفتقر غیره فی نسبه صدور الفعل عنه إلیه أمّا أنّه لا یفتقر إلى الحرکه فلأنّ معنى الحرکه إنّما یعرض للجسم و الباری تعالى منزّه عن الجسمیّه فیستحیل صدق مسمّى الحرکه فی حقّه، و أمّا أنّ فعله لیس بتوسّط آله فبیانه من وجهین: أحدهما لو کان کذلک لکانت تلک الآله إن کانت من فعله فإمّا بتوسّط آله اخرى أو بدونها فإن کانت بدونها فقد صدق أنّه فاعل لا بمعنى الآله و إن کان فعله لها بتوسّط آله اخرى فالکلام فیها کالکلام فی الأولى و یلزم التناقض، و أمّا إن لم تکن تلک الآله من فعله و لم یمکنه الفعل بدونها کان الباری تعالى مفتقرا فی تحقّق فعله إلى الغیر و المفتقر إلى الغیر ممکن بالذات فالواجب بالذات ممکن بالذات هذا خلف. الثانی أنّه تعالى لو فعل بالآله لکان بدونها غیر مستقلّ بإیجاد الفعل فکان ناقصا بذاته مستکملا بالآله، و النقص على اللّه تعالى محال فتوقّف فعله على الآله محال فإذن هو الفاعل المطلق بالإبداع و محض الاختراع المبرء عن نقصان الذات المنزّه عن الحاجه إلى الحرکات و الآلات.

 

قوله بصیر إذ لا منظور إلیه من خلقه.

 أقول: البصیر فعیل بمعنى الفاعل من البصر، و البصر حقیقه فی حاسّه العین مجاز فی القوّه الّتی بها العلم، و المنظور إلیه هو المشاهد بتقلیب الحدقه نحوه، و المراد وصفه تعالى بکونه بصیرا حال مالا یتحقّق المبصرات، و إذ لیس کونه بصیرا، بمعنى أنّ له آله البصر لتنزّهه عن الحواسّ وجب العدول إلى المجاز و هو أن یکون بصیرا بمعنی أنّه عالم، و قرینه ذلک.

قوله إذ لا منظور إلیه من خلقه لأنّ البصر أمر إضافیّ یلحق ذاته بالنسبه إلى مبصر و هو أمر یلحق ذاته أزلا و أبدا و لا شی‏ء من المبصرات بالحسّ موجود أزلا لقیام البراهین العقلیّه على حدوث العالم حتّى یمکن أن یلحقه النسبه بالقیاس إلیه فوجب أن لا یکون من حیث هو هو بصیرا بهذا المعنى، و یحتمل أنّ الإشاره بإذ فی قوله إذ لا منظور إلیه إلى اعتبار کونه مقدّما على آثاره من جهه ما هو متقدّم فإنّه بالنظر إلى تلک الجهه لا منظور إلیه من خلقه معه و هو عالم لذاته و بذاته مطلقا و إذ لیس بصیرا بالمعنی المذکور فهو إذن بصیر بالصفه الّتی ینکشف بها کمال نعوت المبصرات، و بها تظهر الأسرار و الخفیّات فهو الّذی یشاهد و یرى حتّى لا یعزب عنه ما تحت الثرى و إن تجهر بالقول فإنّه یعلم السرّ و أخفى‏

و هذه الآله و إن عدّت کمالا فإنّما هى کمال خاصّ بالحیوان، و کماله بها و إن کان ظاهرا إلّا أنّه ضعیف قاصر إذ لا یمتدّ إلى ما بعد و لا یتغلغل فی باطن و إن قرب بل یتناول الظواهر و یقصر عن البواطن، و قد قیل: إنّ الحظّ الّذی للعبد من البصر أمران، أحدهما أن یعلم أنّه خلق له البصر لینظر إلى الآیات و عجائب ملکوت السماوات فلا یکون نظره إلّا اعتبارا حکى أنّه قیل لعیسى علیه السّلام هل أحد من الخلق مثلک فقال: من کان نظره عبره و صمته فکره و کلامه ذکرا فهو مثلی، الثانی أن یعلم أنّه من اللّه بمراى و مسمع فلا یستهین بنظره إلیه و إطّلاعه علیه و من أخفى من غیر اللّه ما لا یخفیه من اللّه تعالى فقد استهان بنظر اللّه تعالى، إلیه و المراقبه إحدى ثمرات الإیمان بهذا الصفه فمن قارب معصیته و هو یعلم أنّ اللّه یراه فما أجرئه و ما أخسره، و من ظنّ أنّ اللّه تعالى لا یراه فما أکفره.

 

قوله متوحّد إذ لا سکن یستأنس به و لا یستوحش لفقده.

 أقول: المراد وصفه تعالى بالتفرّد بالوحدانیّه و أشار بقوله إذ لا سکن إلى اعتبار أنّ تفرّده بالوحدانیّه لذاته فهو من تلک الحیثیّه متفرّد بالوحدانیّه لا على وجه الانفراد عن مثل له کما هو المفهوم المتعارف من انفراد بعض الناس عن بعض ممّن عادته مشارکته فی مشاوراته و محادثاته، و انفراد أحد المتألّفین من الحیوانات عن الآخر و هو الأنیس الّذی یستأنس بوجوده معه و یستوحش لفقده و غیبته عنه إذ کان الاستیناس و الاستیحاش متعلّقین بمیل الطبع إلى الشی‏ء و نفرته عنه و هما من توابع المزاج، و لمّا کان الباری سبحانه منزّها من الجسمیّه و المزاج وجب أن یکون منزّها عن الاستیناس و التوحش فهو المنفرد بالوحدانیّه المطلقه لا بالقیاس إلى شی‏ء یعقل ذلک التفرّد بالنسبه إلیه. و اعلم أنّ القیود الثلاثه الزائده على قوله فاعل و بصیر و متوحّد فی الفصول الثلاثه مستلزمه للتنبیه على عظمه اللّه تعالى کما بیّناه فی قوله لا بمقارنه و لا بمزائله، و ذلک لأنّ الأوهام البشریّه حاکمه بحاجه الفاعل إلى الآله و البصیر إلى وجود المبصر و المتوحّد إلى أن یکون فی مقابلته أنیس مثله انفرد عنه، و لمّا کانت ذات اللّه سبحانه منزّهه عن جمیع ذلک أراد علیه السّلام کسر الوهم و معارضه أحکامه بتنبیه العقول علیها فذکر هذه القیود الثلاثه و باللّه التوفیق.

 

شرح ابن میثم بحرانی جلد اول

       

 

 

 

 

 

 

 

 

 

بازدیدها: ۱۰۴

دیدگاه‌ها

دیدگاهتان را بنویسید

نشانی ایمیل شما منتشر نخواهد شد. بخش‌های موردنیاز علامت‌گذاری شده‌اند *

این سایت از اکیسمت برای کاهش هرزنامه استفاده می کند. بیاموزید که چگونه اطلاعات دیدگاه های شما پردازش می‌شوند.