71 و من خطبة له ع علم فيها الناس الصلاة على النبي ص
اللَّهُمَّ دَاحِيَ الْمَدْحُوَّاتِ وَ دَاعِمَ الْمَسْمُوكَاتِ- وَ جَابِلَ الْقُلُوبِ عَلَى فِطَرَاتِهَا شَقِيِّهَا وَ سَعِيدِهَا- اجْعَلْ شَرَائِفَ صَلَوَاتِكَ- وَ نَوَامِيَ بَرَكَاتِكَ عَلَى مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ وَ رَسُولِكَ- الْخَاتِمِ لِمَا سَبَقَ وَ الْفَاتِحِ لِمَا انْغَلَقَ- وَ الْمُعْلِنِ الْحَقَّ بِالْحَقِّ وَ الدَّافِعِ جَيْشَاتِ الْأَبَاطِيلِ- وَ الدَّامِغِ صَوْلَاتِ الْأَضَالِيلِ- كَمَا حُمِّلَ فَاضْطَلَعَ قَائِماً بِأَمْرِكَ مُسْتَوْفِزاً فِي مَرْضَاتِكَ- غَيْرَ نَاكِلٍ عَنْ قُدُمٍ وَ لَا وَاهٍ فِي عَزْمٍ- وَاعِياً لِوَحْيِكَ حَافِظاً لِعَهْدِكَ- مَاضِياً عَلَى نَفَاذِ أَمْرِكَ حَتَّى أَوْرَى قَبَسَ الْقَابِسِ- وَ أَضَاءَ الطَّرِيقَ لِلْخَابِطِ- وَ هُدِيَتْ بِهِ الْقُلُوبُ بَعْدَ خَوْضَاتِ الْفِتَنِ وَ الآْثَامِ- وَ أَقَامَ بِمُوضِحَاتِ الْأَعْلَامِ وَ نَيِّرَاتِ الْأَحْكَامِ- فَهُوَ أَمِينُكَ الْمَأْمُونُ وَ خَازِنُ عِلْمِكَ الْمَخْزُونِ- وَ شَهِيدُكَ يَوْمَ الدِّينِ وَ بَعِيثُكَ بِالْحَقِّ- وَ رَسُولُكَ إِلَى الْخَلْقِ- اللَّهُمَّ افْسَحْ لَهُ مَفْسَحاً فِي ظِلِّكَ- وَ اجْزِهِ مُضَاعَفَاتِ الْخَيْرِ مِنْ فَضْلِكَ- اللَّهُمَّ وَ أَعْلِ عَلَى بِنَاءِ الْبَانِينَ بِنَاءَهُ- وَ أَكْرِمْ لَدَيْكَ مَنْزِلَتَهُ وَ أَتْمِمْ لَهُ نُورَهُ- وَ اجْزِهِ مِنِ ابْتِعَاثِكَ لَهُ مَقْبُولَ الشَّهَادَةِ- مَرْضِيَّ الْمَقَالَةِ ذَا مَنْطِقٍ عَدْلٍ وَ خُطْبَةٍ فَصْلٍ- اللَّهُمَّ اجْمَعْ بَيْنَنَا وَ بَيْنَهُ فِي بَرْدِ الْعَيْشِ وَ قَرَارِ النِّعْمَةِ- وَ مُنَى الشَّهَوَاتِ وَ أَهْوَاءِ اللَّذَّاتِ وَ رَخَاءِ الدَّعَةِ- وَ مُنْتَهَى الطُّمَأْنِينَةِ وَ تُحَفِ الْكَرَامَةِ
دحوت الرغيف دحوا بسطته- و المدحوات هنا الأرضون- . فإن قلت قد ثبت أن الأرض كرية- فكيف تكون بسيطة و البسيط هو المسطح- و الكري لا يكون مسطحا- . قلت الأرض بجملتها شكل كرة- و ذلك لا يمنع أن تكون كل قطعة منها مبسوطة- تصلح لأن تكون مستقرا و مجالا للبشر و غيرهم من الحيوان- فإن المراد بانبساطها هاهنا- ليس هو السطح الحقيقي الذي لا يوجد في الكرة- بل كون كل قطعة منها صالحة- لأن يتصرف عليها الحيوان لا يعني به غير ذلك- . و داحي المدحوات- ينتصب لأنه منادى مضاف- تقديره يا باسط الأرضين المبسوطات- قوله و داعم المسموكات- أي حافظ السموات المرفوعات- دعمت الشيء إذا حفظته من الهوى بدعامه- و المسموك المرفوع قال-
إن الذي سمك السماء بنى لنا
بيتا دعائمه أعز و أطول
و يجوز أن يكون عنى بكونها مسموكة كونها ثخينة- و سمك الجسم هو البعد- الذي يعبر عنه المتكلمون بالعمق- و هو قسيم الطول و العرض- و لا شيء أعظم ثخنا من الأفلاك- . فإن قلت كيف قال- إنه تعالى دعم السموات و هي بغير عمد- . قلت إذا كان حافظا لها من الهوى بقدرته و قوته- فقد صدق عليه كونه داعما لها- لأن قوته الحافظة تجري مجرى الدعامة- . قوله و جابل القلوب أي خالقها- و الجبل الخلق و جبلة الإنسان خلقته- و فطراتها بكسر الفاء و فتح الطاء جمع فطرة و يجوز كسر الطاء- كما قالوا في سدرة سدرات و سدرات- و الفطرة الحالة التي يفطر الله عليها الإنسان- أي يخلقه عليها خاليا من الآراء-و الديانات و العقائد و الأهوية- و هي ما يقتضيه محض العقل- و إنما يختار الإنسان بسوء نظره ما يفضي به إلى الشقوة- و هذا معنىقول النبي ص كل مولود يولد على الفطرة- فإنما أبواه يهودانه أو ينصرانه
– قوله شقيها و سعيدها بدل من القلوب و تقدير الكلام- و جابل الشقي من القلوب و السعيد على ما فطرت عليه- . و النوامي الزوائد- و الخاتم لما سبق أي لما سبق من الملل- و الفاتح لما انغلق من أمر الجاهلية- و المعلن الحق بالحق- أي المظهر للحق الذي هو خلاف الباطل بالحق- أي بالحرب و الخصومة- يقال حاق فلان فلانا فحقه أي خاصمه فخصمه- و يقال ما فيه حق أي خصومة- . قوله و الدافع جيشات الأباطيل جمع جيشة- من جاشت القدر إذا ارتفع غليانها- . و الأباطيل جمع باطل على غير قياس- و المراد أنه قامع ما نجم من الباطل- . و الدامغ المهلك من دمغه أي شجه حتى بلغ الدماغ- و مع ذلك يكون الهلاك- . و الصولات جمع صولة و هي السطوة- و الأضاليل جمع ضلال على غير قياس- . قوله كما حمل أي لأجل أنه يحمل- و العرب تستعمل هذه الكاف بمعنى التعليل- قال الشاعر
فقلت له أبا الملحاء خذها
كما أوسعتنا بغيا و عدوا
أي هذه الضربة لبغيك علينا و تعديك- . و قوله كما حمل يعني حمل أعباء الرسالة- فاضطلع أي نهض بها قويا فرس ضليع أي قوي- و هي الضلاعة أي القوة- . مستوفزا أي غبر بطيء- بل يحث نفسه و يجهدها في رضا الله سبحانه- و الوفز العجلة و المستوفز المستعجل- .غير ناكل عن قدم أي غير جبان و لا متأخر عن إقدام- و المقدام المتقدم- يقال مضى قدما أي تقدم و سار و لم يعرج- . قوله و لا واه في عزم- وهى أي ضعف و الواهي الضعيف- . واعيا لوحيك أي فاهما- وعيت الحديث أي فهمته و عقلته- . ماضيا على نفاذ أمرك في الكلام حذف تقديره- ماضيا مصرا على نفاذ أمرك- كقوله تعالى فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ- و لم يقل مرسلا لأن الكلام يدل بعضه على بعض- . و قوله حتى أورى قبس القابس- يقال ورى الزند يري أي خرج ناره و أوريته أنا- و القبس شعله من النار- و المراد بالقبس هاهنا نور الحق- و القابس الذي يطلب النار- يقال قبست منه نارا- و أقبسني نارا أي أعطانيها- . و قال الراوندي أقبست الرجل علما- و قبسته نارا أعطيته- فإن كنت طلبتها له قلت أقبسته نارا- .
و قال الكسائي أقبسته نارا و علما سواء- قال و يجوز قبسته بغير همزة فيهما- . قوله و أضاء الطريق للخابط- أي جعل الطريق للخابط مضيئة- و الخابط الذي يسير ليلا على غير جادة واضحة- . و هذه الألفاظ كلها استعارات و مجازات- . و خوضات الفتن جمع خوضة- و هي المرة الواحدة من خضت الماء و الوحل أخوضهما- و تقدير الكلام و هديت به القلوب إلى الأعلام الموضحة- بعد أن خاضت في الفتن أطوارا- و الأعلام جمع علم- و هو ما يستدل به على الطريق كالمنارة و نحوها- . و الموضحة التي توضح للناس الأمور و تكشفها- و النيرات ذوات النور- . قوله فهو أمينك المأمون- أي أمينك على وحيك- و المأمون من ألقاب رسول الله ص قال كعب بن زهير-
سقاك أبو بكر بكأس روية
و انهلك المأمون منها و علكا
و خازن علمك المخزون بالجر صفة علمك- و العلم الإلهي المخزون- هو ما اطلع الله تعالى عليه و رسوله من الأمور الخفية- التي لا تتعلق بالأحكام الشرعية كالملاحم- و أحكام الآخرة و غير ذلك- لأن الأمور الشرعية لا يجوز أن تكون مخزونة عن المكلفين- . و قوله و شهيدك يوم الدين أي شاهدك- قال سبحانه فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ- وَ جِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً- . و البعيث المبعوث فعيل بمعنى مفعول- كقتيل و جريح و صريع و مفسحا مصدر أي وسع له مفسحا- . و قوله في ظلك يمكن أن يكون مجازا- كقولهم فلان يشملني بظله أي بإحسانه و بره- و يمكن أن يكون حقيقة- و يعني به الظل الممدود الذي ذكره الله تعالى- فقال وَ ظِلٍّ مَمْدُودٍ وَ ماءٍ مَسْكُوبٍ- .
و قوله و أعل على بناء البانين بناءه- أي اجعل منزلته في دار الثواب أعلى المنازل- . و أتمم له نوره- من قوله تعالى رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا- و قد روي أنه تطفأ سائر الأنوار إلا نور محمد ص- ثم يعطى المخلصون من أصحابه أنوارا يسيرة- يبصرون بها مواطئ الأقدام- فيدعون إلى الله تعالى بزيادة تلك الأنوار و إتمامها- ثم إن الله تعالى يتم نور محمد ص- فيستطيل حتى يملأ الآفاق فذلك هو إتمام نوره ص- . قوله من ابتعاثك له أي في الآخرة- . مقبول الشهادة- أي مصدقا فيما يشهد به على أمته و على غيرها من الأمم- .
و قوله ذا منطق عدل أي عادل- و هو مصدر أقيم مقام اسم الفاعل- كقولك رجل فطر و صوم أي مفطر و صائم- . و قوله و خطبة فصل أي يخطب خطبة فاصلة يوم القيامة- كقوله تعالى إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَ ما هُوَ بِالْهَزْلِ- أي فاصل يفصل بين الحق و الباطل- و هذا هو المقام المحمود الذي- ذكره الله تعالى في الكتاب- فقال عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً- و هو الذي يشار إليه في الدعوات في قولهم- اللهم آت محمدا الوسيلة و الفضيلة و الدرجة الرفيعة- و ابعثه المقام المحمود- .
قوله في برد العيش- تقول العرب عيش بارد و معيشة باردة- أي لا حرب فيها و لا نزاع- لأن البرد و السكون متلازمان كتلازم الحر و الحركة- . و قرار النعمة أي مستقرها- يقال هذا قرار السيل أي مستقره- و من أمثالهم لكل سائلة قرار- . و منى الشهوات ما تتعلق به الشهوات من الأماني- و أهواء اللذات ما تهواه النفوس و تستلذه- و الرخاء المصدر من قولك- رجل رخى البال فهو بين الرخاء أي واسع الحال- . و الدعة السكون و الطمأنينة و أصلها الواو- .
و منتهى الطمأنينة غايتها التي ليس بعدها غاية- . و التحف جمع تحفة- و هي ما يكرم به الإنسان من البر و اللطف- و يجوز فتح الحاء معنى الصلاة على النبي و الخلاف في جواز الصلاة على غيره فإن قلت ما معنى الصلاة على الرسول ص- التي قال الله تعالى فيها-إِنَّ اللَّهَ وَ مَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَ سَلِّمُوا تَسْلِيماً- . قلت الصلاة من الله تعالى هي- الإكرام و التبجيل و رفع المنزلة- و الصلاة منا على النبي ص هي الدعاء له بذلك- فقوله سبحانه هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ- أي هو الذي يرفع منازلكم في الآخرة- و قوله وَ مَلائِكَتِهِ أي يدعون لكم بذلك- . و قيل جعلوا لكونهم مستجابي الدعوة- كأنهم فاعلون التعظيم للمؤمن و رفع المنزلة- و نظيره قوله حياك الله أي أحياك الله و أبقاك- و حييتك أي دعوت لك بأن يحييك- لأنك لاعتمادك على إجابة دعوتك و وثوقك بذلك- كأنك تحييه و تبقيه على الحقيقة- و هكذا القول في قوله سبحانه- إِنَّ اللَّهَ وَ مَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ- .
و قد اختلف في الصلاة على النبي ص هل هي واجبة أم لا- . فمن الناس من لم يقل بوجوبها- و جعل الأمر في هذه الآية للندب و منهم من قال إنها واجبة- . و اختلفوا في حال وجوبها- فمنهم من أوجبها كلما جرى ذكره-و في الحديث من ذكرت عنده فلم يصل علي دخل النار و أبعده الله- و منهم من قال تجب في كل مجلس مرة واحدة و إن تكرر ذكره- و منهم من أوجبها في العمر مرة واحدة- و كذلك قال في إظهار الشهادتين- . و اختلف أيضا في وجوبها في الصلاة المفروضة- فأبو حنيفة و أصحابه لا يوجبونها فيها- و روي عن إبراهيم النخعي أنهم كانوا يكتفون- يعني الصحابة عنها بالتشهد- و هو السلام عليك أيها النبي و رحمة الله و بركاته- و أوجبها الشافعي و أصحابه- و اختلف أصحابه في وجوب الصلاة على آل محمد ص- فالأكثرون على أنها واجبة- و أنها شرط في صحة الصلاة- .
فإن قلت- فما تقول في الصلاة على الصحابة و الصالحين من المسلمين- . قلت القياس جواز الصلاة على كل مؤمن- لقوله تعالى هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَ مَلائِكَتُهُ- و قوله وَ صَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ- و قوله أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ رَحْمَةٌ- و لكن العلماء قالوا- إذا ذكر أحد من المسلمين تبعا للنبي ع- فلا كلام في جواز ذلك- و أما إذا أفردوا أو ذكر أحد منهم- فأكثر الناس كرهوا الصلاة عليه- لأن ذلك شعار رسول الله فلا يشركه فيه غيره- . و أما أصحابنا من البغداديين فلهم اصطلاح آخر- و هو أنهم يكرهون إذا ذكروا عليا ع أن يقولوا- صلى الله عليه و لا يكرهون أن يقولوا صلوات الله عليه- و جعلوا اللفظة الأولى مختصة بالرسول ص- و جعلوا اللفظة الثانية مشتركة فيها بينهما ع- و لم يطلقوا لفظ الصلاة على أحد من المسلمين- إلا على علي وحده.
شرح نهج البلاغة(ابن أبي الحديد) ج 6