232 و من خطبة له ع في التوحيد
و تجمع هذه الخطبة من أصول العلم- ما لا تجمعه خطبة غيرها- : مَا وَحَّدَهُ مَنْ كَيَّفَهُ وَ لَا حَقِيقَتَهُ أَصَابَ مَنْ مَثَّلَهُ- وَ لَا إِيَّاهُ عَنَى مَنْ شَبَّهَهُ- وَ لَا صَمَدَهُ مَنْ أَشَارَ إِلَيْهِ وَ تَوَهَّمَهُ- كُلُّ مَعْرُوفٍ بِنَفْسِهِ مَصْنُوعٌ وَ كُلُّ قَائِمٍ فِي سِوَاهُ مَعْلُولٌ- فَاعِلٌ لَا بِاضْطِرَابِ آلَةٍ مُقَدِّرٌ لَا بِجَوْلِ فِكْرَةٍ- غَنِيٌّ لَا بِاسْتِفَادَةٍ- لَا تَصْحَبُهُ الْأَوْقَاتُ وَ لَا تَرْفِدُهُ الْأَدَوَاتُ- سَبَقَ الْأَوْقَاتَ كَوْنُهُ- وَ الْعَدَمَ وُجُودُهُ وَ الِابْتِدَاءَ أَوَّلُهُ هذا الفصل يشتمل على مباحث متعددة-
أولها قوله ما وحده من كيفه- و هذا حق لأنه إذا جعله مكيفا- جعله ذا هيئة و شكل- أو ذا لون و ضوء إلى غيرهما من أقسام الكيف- و متى كان كذلك كان جسما و لم يكن واحدا- لأن كل جسم قابل للانقسام- و الواحد حقا لا يقبل الانقسام- فقد ثبت أنه ما وحده من كيفه- .
و ثانيها قوله و لا حقيقته أصاب من مثله- و هذا حق لأنه تعالى لا مثل له- و قد دلت الأدلة الكلامية و الحكمية على ذلك- فمن أثبت له مثلا فإنه لم يصب حقيقته تعالى- و السجعة الأخرى تعطي هذا المعنى أيضا- من غير زيادة عليه- و هي قوله ع و لا إياه عنى من شبهه- و لهذا قال شيوخنا إن المشبه لا يعرف الله- و لا تتوجه عباداته و صلواته إلى الله تعالى- لأنه يعبد شيئا يعتقده جسما- أو يعتقده مشابها لبعض هذه الذوات المحدثة- و العبادة تنصرف إلى المعبود بالقصد- فإذا قصد بها غير الله تعالى لم يكن قد عبد الله سبحانه و لا عرفه- و إنما يتخيل و يتوهم أنه قد عرفه و عبده- و ليس الأمر كما تخيل و توهم- .
و ثالثها قوله ع و لا صمده من أشار إليه- أي أثبته في جهة كما تقول الكرامية- الصمد في اللغة العربية السيد- و الصمد أيضا الذي لا جوف له- و صار التصميد في الاصطلاح العرفي عبارة عن التنزيه- و الذي قال ع حق لأن من أشار إليه- أي أثبته في جهة كما تقوله الكرامية فإنه ما صمده- لأنه ما نزهه عن الجهات- بل حكم عليه بما هو من خواص الأجسام- و كذلك من توهمه سبحانه- أي من تخيل له في نفسه صورة أو هيئة أو شكلا- فإنه لم ينزهه عما يجب تنزيهه عنه- .
و رابعها قوله كل معروف بنفسه مصنوع- هذا الكلام يجب أن يتأول- و يحمل على أن كل معروف بالمشاهدة و الحس فهو مصنوع- و ذلك لأن الباري سبحانه معروف من طريقين- إحداهما من أفعاله و الأخرى بنفسه- و هي طريقة الحكماء الذين بحثوا في الوجود من حيث هو وجود- فعلموا أنه لا بد من موجود واجب الوجود- فلم يستدلوا عليه بأفعاله بل أخرج لهم البحث في الوجود- أنه لا بد من ذات يستحيل عدمها من حيث هي هي- . فإن قلت كيف يحمل كلامه- على أن كل معروف بالمشاهدة و الحس فهو مصنوع- و هذا يدخل فيه كثير من الأعراض كالألوان- و إذا دخل ذلك فسدت عليه الفقرة الثانية-و هي قوله ع و كل قائم فيما سواه معلول- لأنها للأعراض خاصة- فيدخل أحد مدلول الفقرتين في الأخرى فيختل النظم- قلت يريد ع بالفقرة الأولى- كل معروف بنفسه من طريق المشاهدة مستقلا بذاته- غير مفتقر في تقومه إلى غيره فهو مصنوع- و هذا يختص بالأجسام خاصة- و لا يدخل الألوان و غيرها من الأعراض فيه- لأنها متقومة بمحالها- .
و خامسها قوله و كل قائم في سواه معلول- أي و كل شيء يتقوم بغيره فهو معلول- و هذا حق لا محالة كالأعراض- لأنها لو كانت واجبة لاستغنت في تقومها عن سواها- لكنها مفتقرة إلى المحل الذي يتقوم به ذواتها- فإذا هي معلولة لأن كل مفتقر إلى الغير- فهو ممكن فلا بد له من مؤثر- .
و سادسها قوله فاعل لا باضطراب آلة- هذا لبيان الفرق بينه و بيننا- فإننا نفعل بالآلات- و هو سبحانه قادر لذاته فاستغنى عن الآلة- .
و سابعها قوله مقدر لا بجول فكرة- هذا أيضا للفرق بيننا و بينه- لأنا إذا قدرنا أجلنا أفكارنا و ترددت بنا الدواعي- و هو سبحانه يقدر الأشياء على خلاف ذلك- .
و ثامنها قوله غني لا باستفادة- هذا أيضا للفرق بيننا و بينه- لأن الغني منا من يستفيد الغنى بسبب خارجي- و هو سبحانه غني بذاته من غير استفادة أمر يصير به غنيا- و المراد بكونه غنيا أن كل شيء من الأشياء يحتاج إليه- و أنه سبحانه لا يحتاج إلى شيء من الأشياء أصلا- .
و تاسعها قوله لا تصحبه الأوقات- هذا بحث شريف جدا- و ذلك لأنه سبحانه ليس بزمان و لا قابل للحركة- فذاته فوق الزمان و الدهر- أما المتكلمون فإنهم يقولون-إنه تعالى كان و لا زمان و لا وقت- و أما الحكماء فيقولون- إن الزمان عرض قائم بعرض آخر- و ذلك العرض الآخر قائم بجسم- معلول لبعض المعلولات الصادرة عنه سبحانه- فالزمان عندهم و إن كان لم يزل- إلا أن العلة الأولى ليست واقعة تحته- و ذلك هو المراد بقوله- لا تصحبه الأوقات إن فسرناه على قولهم- و تفسيره على قول المتكلمين أولى- .
و عاشرها قوله و لا ترفده الأدوات- رفدت فلانا إذا أعنته و المراد الفرق بيننا و بينه لأننا مرفودون بالأدوات و لولاها لم يصح منا الفعل- و هو سبحانه بخلاف ذلك- . و حادي عشرها قوله سبق الأوقات كونه- إلى آخر الفصل هذا تصريح بحدوث العالم- . فإن قلت ما معنى قوله و العدم وجوده- و هل يسبق وجوده العدم- مع كون عدم العالم في الأزل لا أول له- قلت ليس يعني بالعدم هاهنا- عدم العالم بل عدم ذاته سبحانه- أي غلب وجود ذاته عدمها و سبقها- فوجب له وجود يستحيل تطرق العدم إليه- أزلا و أبدا بخلاف الممكنات- فإن عدمها سابق بالذات على وجودها و هذا دقيق: بِتَشْعِيرِهِ الْمَشَاعِرَ عُرِفَ أَنْ لَا مَشْعَرَ لَهُ- وَ بِمُضَادَّتِهِ بَيْنَ الْأُمُورِ عُرِفَ أَنْ لَا ضِدَّ لَهُ- وَ بِمُقَارَنَتِهِ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ عُرِفَ أَنْ لَا قَرِينَ لَهُ- ضَادَّ النُّورَ بِالظُّلْمَةِ وَ الْوُضُوحَ بِالْبُهْمَةِ- وَ الْجُمُودَ بِالْبَلَلِ وَ الْحَرُورَ بِالصَّرْدِ-مُؤَلِّفٌ بَيْنَ مُتَعَادِيَاتِهَا مُقَارِنٌ بَيْنَ مُتَبَايِنَاتِهَا- مُقَرِّبٌ بَيْنَ مُتَبَاعِدَاتِهَا مُفَرِّقٌ بَيْنَ مُتَدَانِيَاتِهَا- لَا يُشْمَلُ بِحَدٍّ وَ لَا يُحْسَبُ بِعَدٍّ- وَ إِنَّمَا تَحُدُّ الْأَدَوَاتُ أَنْفُسَهَا- وَ تُشِيرُ الآْلَاتُ إِلَى نَظَائِرِهَا المشاعر الحواس قال بلعاء بن قيس-
و الرأس مرتفع فيه مشاعره
يهدي السبيل له سمع و عينان
قال بجعله تعالى المشاعر عرف أن لا مشعر له- و ذلك لأن الجسم لا يصح منه فعل الأجسام- و هذا هو الدليل الذي يعول عليه المتكلمون- في أنه تعالى ليس بجسم- . ثم قال و بمضادته بين الأمور عرف أن لا ضد له- و ذلك لأنه تعالى لما دلنا بالعقل على أن الأمور المتضادة- إنما تتضاد على موضوع تقوم به و تحله- كان قد دلنا على أنه تعالى لا ضد له- لأنه يستحيل أن يكون قائما بموضوع يحله- كما تقوم المتضادات بموضوعاتها- .
ثم قال و بمقارنته بين الأشياء عرف أن لا قرين له- و ذلك لأنه تعالى قرن بين العرض و الجوهر- بمعنى استحالة انفكاك أحدهما عن الآخر- و قرن بين كثير من الأعراض- نحو ما يقوله أصحابنا في حياتي القلب و الكبد- و نحو الإضافات التي يذكرها الحكماء- كالبنوة و الأبوة و الفوقية و التحتية- و نحو كثير من العلل و المعلولات و الأسباب و المسببات- فيما ركبه في العقول من وجوب هذه المقارنة- و استحالة انفكاك أحد الأمرينعن الآخر- علمنا أنه لا قرين له سبحانه- لأنه لو قارن شيئا على حسب هذه المقارنة- لاستحال انفكاكه عنه- فكان محتاجا في تحقق ذاته تعالى إليه- و كل محتاج ممكن فواجب الوجود ممكن- هذا محال- .
ثم شرع في تفصيل المتضادات فقال- ضاد النور بالظلمة و هما عرضان عند كثير من الناس- و فيهم من يجعل الظلمة عدمية- . قال و الوضوح بالبهمة يعني البياض و السواد- . قال و الجمود بالبلل يعني اليبوسة و الرطوبة- . قال و الحرور بالصرد يعني الحرارة و البرودة- و الحرور هاهنا مفتوح الحاء- يقال إني لأجد لهذا الطعام- حرورا و حرورة في فمي أي حرارة- و يجوز أن يكون في الكلام مضاف محذوف- أي و حرارة الحرور بالصرد- و الحرور هاهنا يكون الريح الحارة- و هي بالليل كالسموم بالنهار- و الصرد البرد- .
ثم قال و إنه تعالى مؤلف بين هذه المتباعدات- المتعاديات المتباينات و ليس المراد من تأليفه بينها- جمعه إياها في مكان واحد- كيف و ذلك مستحيل في نفسه- بل هو سبحانه مؤلف لها في الأجسام المركبة- حتى خلع منها صورة مفردة هي المزاج- ألا ترى أنه جمع الحار و البارد و الرطب و اليابس- فمزجه مزجا مخصوصا حتى انتزع منه طبيعة مفردة- ليست حارة مطلقة و لا باردة مطلقة- و لا رطبة مطلقة و لا يابسة مطلقة و هي المزاج- و هو محدود عند الحكماء- بأنه كيفية حاصلة من كيفيات متضادة- و هذا هو محصول كلامه ع بعينه- . و العجب من فصاحته في ضمن حكمته- كيف أعطى كل لفظة من هذه اللفظات- ما يناسبها و يليق بها- فأعطى المتباعدات لفظة مقرب- لأن البعد بإزاء القرب-و أعطى المتباينات لفظة مقارن- لأن البينونة بإزاء المقارنة- و أعطى المتعاديات لفظة مؤلف- لأن الائتلاف بإزاء التعادي- .
ثم عاد ع فعكس المعنى- فقال مفرق بين متدانياتها- فجعل الفساد بإزاء الكون و هذا من دقيق حكمته ع- و ذلك لأن كل كائن فاسد- فلما أوضح ما أوضح في الكون و التركيب و الإيجاد- أعقبه بذكر الفساد و العدم فقال- مفرق بين متدانياتها- و ذلك لأن كل جسم مركب من العناصر المختلفة الكيفيات- المتضادة الطبائع فإنه سيئول إلى الانحلال و التفرق- . ثم قال لا يشمل بحد- و ذلك لأن الحد الشامل ما كان مركبا من جنس و فصل- و الباري تعالى منزه عن ذلك- لأنه لو شمله الحد على هذا الوجه يكون مركبا- فلم يكن واجب الوجود و قد ثبت أنه واجب الوجود- و يجوز أن يعنى به أنه ليس بذي نهاية فتحويه الأقطار و تحده- .
ثم قال و لا يحسب بعد يحتمل أن يريد- لا تحسب أزليته بعد أي لا يقال له- منذ وجد كذا و كذا- كما يقال للأشياء المتقاربة العهد- و يحتمل أن يريد به أنه ليس مماثلا للأشياء- فيدخل تحت العدد- كما تعد الجواهر و كما تعد الأمور المحسوسة- . ثم قال و إنما تحد الأدوات أنفسها- و تشير الآلات إلى نظائرها- هذا يؤكد معنى التفسير الثاني- و ذلك لأن الأدوات كالجوارح- إنما تحد و تقدر ما كان مثلها من ذوات المقادير- و كذلك إنما تشير الآلات و هي الحواس- إلى ما كان نظيرا لها في الجسمية و لوازمها- و الباري تعالى ليس بذي مقدار و لا جسم- و لا حال في جسم- فاستحال أن تحده الأدوات و تشير إليه الآلات:
مَنَعَتْهَا مُنْذُ الْقِدْمَةَ وَ حَمَتْهَا قَدْ الْأَزَلِيَّةَ- وَ جَنَّبَتْهَا لَوْلَا التَّكْمِلَةَ بِهَا تَجَلَّى صَانِعُهَا لِلْعُقُولِ- وَ بِهَا امْتَنَعَ عَنْ نَظَرِ الْعُيُونِ- وَ لَا تَجْرِي عَلَيْهِ الْحَرَكَةُ وَ السُّكُونُ- وَ كَيْفَ يَجْرِي عَلَيْهِ مَا هُوَ أَجْرَاهُ- وَ يَعُودُ فِيهِ مَا هُوَ أَبْدَاهُ وَ يَحْدُثُ فِيهِ مَا هُوَ أَحْدَثَهُ- إِذاً لَتَفَاوَتَتْ ذَاتُهُ وَ لَتَجَزَّأَ كُنْهُهُ- وَ لَامْتَنَعَ مِنَ الْأَزَلِ مَعْنَاهُ- وَ لَكَانَ لَهُ وَرَاءٌ إِذْ وُجِدَ لَهُ أَمَامٌ- وَ لَالْتَمَسَ التَّمَامَ إِذْ لَزِمَهُ النُّقْصَانُ- وَ إِذاً لَقَامَتْ آيَةُ الْمَصْنُوعِ فِيهِ- وَ لَتَحَوَّلَ دَلِيلًا بَعْدَ أَنْ كَانَ مَدْلُولًا عَلَيْهِ- وَ خَرَجَ بِسُلْطَانِ الِامْتِنَاعِ- مِنْ أَنْ يُؤَثِّرَ فِيهِ مَا يُؤَثِّرُ فِي غَيْرِهِ قد
اختلف الرواة في هذا الموضع من وجهين- أحدهما قول من نصب القدمة و الأزلية و التكملة- فيكون نصبها عنده على أنها مفعول ثان- و المفعول الأول الضمائر المتصلة بالأفعال- و تكون منذ و قد و لو لا- في موضع رفع بأنها فاعلة- و تقدير الكلام أن إطلاق لفظة منذ- على الآلات و الأدوات يمنعها عن كونها قديمة- لأن لفظة منذ وضعت لابتداء الزمان- كلفظة من لابتداء المكان- و القديم لا ابتداء له و كذلك إطلاق لفظة قد- على الآلات و الأدوات تحميها و تمنعها من كونها أزلية- لأن قد لتقريب الماضي من الحال- تقول قد قام زيد- فقد دل على أن قيامه قريب من الحال- التي أخبرت فيهابقيامه- و الأزلي لا يصح ذلك فيه- و كذلك إطلاق لفظة لو لا على الأدوات و الآلات- يجنبها التكملة و يمنعها من التمام المطلق- لأن لفظة لو لا وضعت لامتناع الشيء لوجود غيره- كقولك لو لا زيد لقام عمرو- فامتناع قيام عمرو إنما هو لوجود زيد- و أنت تقول في الأدوات و الآلات و كل جسم- ما أحسنه لو لا أنه فان و ما أتمه لو لا كذا- فيكون المقصد و المنحى بهذا الكلام على هذه الرواية- بيان أن الأدوات و الآلات محدثة ناقصة- و المراد بالآلات و الأدوات أربابها- .
الوجه الثاني قول من رفع القدمة- و الأزلية و التكملة- فيكون كل واحد منها عنده فاعلا- و تكون الضمائر المتصلة بالأفعال مفعولا أولا- و منذ و قد و لو لا مفعولا ثانيا- و يكون المعنى أن قدم الباري و أزليته و كماله- منعت الأدوات و الآلات من إطلاق لفظة- منذ و قد و لو لا عليه سبحانه- لأنه تعالى قديم كامل- و لفظتا منذ و قد لا يطلقان إلا على محدث- لأن إحداهما لابتداء الزمان و الأخرى لتقريب الماضي من الحال- و لفظة لو لا لا تطلق إلا على ناقص- فيكون المقصد و المنحى بهذا الكلام على هذه الرواية- بيان قدم الباري تعالى و كماله- و أنه لا يصح أن يطلق عليه- ألفاظ تدل على الحدوث و النقص- .
قوله ع بها تجلى صانعها للعقول- و بها امتنع عن نظر العيون- أي بهذه الآلات و الأدوات التي هي حواسنا و مشاعرنا- و بخلقه إياها و تصويره لها تجلى للعقول و عرف- لأنه لو لم يخلقها لم يعرف- و بها امتنع عن نظر العيون- أي بها استنبطنا استحالة كونه مرئيا بالعيون- لأنا بالمشاعر و الحواس كملت عقولنا- و بعقولنا استخرجنا الدلالة على أنه لا تصح رؤيته- فإذن بخلقه الآلات و الأدوات لنا عرفناه عقلا- و بذلكأيضا عرفنا أنه يستحيل- أن يعرف بغير العقل- و أن قول من قال- إنا سنعرفه رؤية و مشافهة بالحاسة باطل- .
قوله ع لا تجري عليه الحركة و السكون- هذا دليل أخذه المتكلمون عنه ع- فنظموه في كتبهم و قرروه- و هو أن الحركة و السكون معان محدثة- فلو حلت فيه لم يخل منها- و ما لم يخل من المحدث فهو محدث- . فإن قلت إنه ع لم يخرج كلامه هذا المخرج- و إنما قال كيف يجري عليه ما هو أجراه- و هذا نمط آخر غير ما يقرره المتكلمون- قلت بل هو هو بعينه- لأنه إذا ثبت أنه هو الذي أجرى الحركة و السكون- أي أحدثهما لم يجز أن يجريا عليه- لأنهما لو جريا عليه لم يخل- إما أن يجريا عليه على التعاقب- و ليسا و لا واحد منهما بقديم- أو يجريا عليه على أن أحدهما قديم ثم تلاه الآخر- و الأول باطل بما يبطل به حوادث لا أول لها- و الثاني باطل بكلامه ع- و ذلك لأنه لو كان أحدهما قديما معه سبحانه- لما كان أجراه لكن قد قلنا أنه أجراه- أي أحدثه و هذا خلف محال- و أيضا فإذا كان أحدهما قديما معه- لم يجز أن يتلوه الآخر لأن القديم لا يزول بالمحدث- .
ثم قال ع إذا لتفاوتت ذاته و لتجزأ كنهه- و لامتنع من الأزل معناه- هذا تأكيد لبيان استحالة جريان الحركة و السكون عليه- تقول لو صح عليه ذلك لكان محدثا- و هو معنى قوله لامتنع من الأزل معناه- و أيضا كان ينبغي أن تكون ذاته منقسمة- لأن المتحرك الساكن لا بد أن يكون متحيزا- و كل متحيز جسم و كل جسم منقسم أبدا- و في هذا إشارة إلى نفي الجوهر الفرد- .
ثم قال ع و لكان له وراء إذا وجد له أمام- هذا يؤكد ما قلناه إنه إشارة إلى نفي الجوهر الفرد- يقول لو حلته الحركة لكان جرما و حجما- و لكان أحد وجهيه غير الوجه الآخر لا محالة- فكان منقسما- و هذا الكلام لا يستقيم إلا مع نفي الجوهر الفرد- لأن من أثبته يقول يصح أن تحله الحركة- و لا يكون أحد وجهيه غير الآخر- فلا يلزم أن يكون له وراء و أمام- . ثم قال ع و لا التمس التمام إذ لزمه النقصان- هذا إشارة إلى ما يقوله الحكماء- من أن الكون عدم و نقص- و الحركة وجود و كمال فلو كان سبحانه يتحرك و يسكن- لكان حال السكون ناقصا قد عدم عنه كماله- فكان ملتمسا كماله بالحركة الطارئة على السكون- و واجب الوجود يستحيل أن يكون له حالة نقصان- و أن يكون له حالة بالقوة و أخرى بالفعل- .
قوله ع إذا لقامت آية المصنوع فيه- و ذلك لأن آية المصنوع- كونه متغيرا منتقلا من حال إلى حال- لأنا بذلك استدللنا على حدوث الأجسام- فلو كان تعالى متغيرا متحركا منتقلا من حال إلى حال- لتحقق فيه دليل الحدوث فكان مصنوعا- و قد ثبت أنه الصانع المطلق سبحانه- . قوله ع و لتحول دليلا بعد أن كان مدلولا عليه- يقول إنا وجدنا دليلنا على الباري سبحانه- أنما هو الأجسام المتحركة- فلو كان الباري متحركا لكان دليلا على غيره- و كان فوقه صانع آخر صنعه و أحدثه- لكنه سبحانه لا صانع له و لا ذات فوق ذاته- فهو المدلول عليه و المنتهى إليه- . قوله ع و خرج بسلطان الامتناع- من أن يؤثر فيه ما أثر في غيره- في هذا الكلام يتوهم سامعه أنه عطف على قوله- لتفاوتت و لتجزأ و لامتنع-و لكان له و لالتمس و لقامت- و لتحول و ليس كذلك- لأنه لو كان معطوفا عليها لاختل الكلام و فسد- لأنها كلها مستحيلات عليه تعالى- و المراد لو تحرك لزم هذه المحالات كلها- .
و قوله و خرج بسلطان الامتناع- ليس من المستحيلات عليه بل هو واجب له- و من الأمور الصادقة عليه- فإذا فسد أن يكون معطوفا عليها- وجب أن يكون معطوفا على ما كان مدلولا عليه- و تقدير الكلام كان يلزم- أن يتحول الباري دليلا على غيره- بعد أن كان مدلولا عليه- و بعد أن خرج بسلطان الامتناع من أن يؤثر فيه- ما أثر في غيره- و خروجه بسلطان الامتناع المراد به- وجوب الوجود و التجريد- و كونه ليس بمتحيز و لا حال في المتحيز- فهذا هو سلطان الامتناع الذي به خرج عن أن يؤثر فيه- ما أثر في غيره من الأجسام و الممكنات:
الَّذِي لَا يَحُولُ وَ لَا يَزُولُ وَ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْأُفُولُ- لَمْ يَلِدْ فَيَكُونَ مَوْلُوداً وَ لَمْ يُولَدْ فَيَصِيرَ مَحْدُوداً- جَلَّ عَنِ اتِّخَاذِ الْأَبْنَاءِ وَ طَهُرَ عَنْ مُلَامَسَةِ النِّسَاءِ- لَا تَنَالُهُ الْأَوْهَامُ فَتُقَدِّرَهُ وَ لَا تَتَوَهَّمُهُ الْفِطَنُ فَتُصَوِّرَهُ- وَ لَا تُدْرِكُهُ الْحَوَاسُّ فَتُحِسَّهُ وَ لَا تَلْمِسُهُ الْأَيْدِي فَتَمَسَّهُ- وَ لَا يَتَغَيَّرُ بِحَالٍ وَ لَا يَتَبَدَّلُ فِي الْأَحْوَالِ- وَ لَا تُبْلِيهِ اللَّيَالِي وَ الْأَيَّامُ وَ لَا يُغَيِّرُهُ الضِّيَاءُ وَ الظَّلَامُ هذا الفصل كله واضح مستغن عن الشرح- إلا قوله ع لم يلدفيكون مولودا- لأن لقائل أن يقول- كيف يلزم من فرض كونه والدا أن يكون مولودا- في جوابه أنه ليس معنى الكلام- أنه يلزم من فرض وقوع أحدهما وقوع الآخر- و كيف و آدم والد و ليس بمولود- و إنما المراد أنه يلزم من فرض صحة كونه والدا- صحة كونه مولودا و التالي محال و المقدم محال- و إنما قلنا إنه يلزم من فرض صحة كونه والدا- صحة كونه مولودا لأنه لو صح أن يكون والدا- على التفسير المفهوم من الوالدية- و هو أن يتصور من بعض أجزائه- حي آخر من نوعه على سبيل الاستحالة لذلك الجزء- كما نعقله في النطفة المنفصلة من الإنسان- المستحيلة إلى صورة أخرى- حتى يكون منها بشر آخر من نوع الأول- لصح عليه أن يكون هو مولودا من والد آخر قبله- و ذلك لأن الأجسام متماثلة في الجسمية- و قد ثبت ذلك بدليل عقلي- واضح في مواضعه التي هي أملك به- و كل مثلين فإن أحدهما يصح عليه ما يصح على الآخر- فلو صح كونه والدا يصح كونه مولودا- .
و أما بيان أنه لا يصح كونه مولودا- فلأن كل مولود متأخر عن والده بالزمان- و كل متأخر عن غيره بالزمان محدث- فالمولود محدث و الباري تعالى قد ثبت أنه قديم- و أن الحدوث عليه محال- فاستحال أن يكون مولودا و تم الدليل: وَ لَا يُوصَفُ بِشَيْءٍ مِنَ الْأَجْزَاءِ- وَ لَا بِالْجَوَارِحِ وَ الْأَعْضَاءِ وَ لَا بِعَرَضٍ مِنَ الْأَعْرَاضِ- وَ لَا بِالْغَيْرِيَّةِ وَ الْأَبْعَاضِ- وَ لَا يُقَالُ لَهُ حَدٌّ وَ لَا نِهَايَةٌ وَ لَا انْقِطَاعٌ وَ لَا غَايَةٌ- وَ لَا أَنَّ الْأَشْيَاءَ تَحْوِيهِ فَتُقِلَّهُ أَوْ تُهْوِيَهُ- أَوْ أَنَّ شَيْئاً يَحْمِلُهُ فَيُمِيلَهُأَوْ يَعْدِلَهُ- لَيْسَ فِي الْأَشْيَاءِ بِوَالِجٍ وَ لَا عَنْهَا بِخَارِجٍ- يُخْبِرُ لَا بِلِسَانٍ وَ لَهَوَاتٍ- وَ يَسْمَعُ لَا بِخُرُوقٍ وَ أَدَوَاتٍ يَقُولُ وَ لَا يَلْفِظُ- وَ يَحْفَظُ وَ لَا يَتَحَفَّظُ وَ يُرِيدُ وَ لَا يُضْمِرُ- يُحِبُّ وَ يَرْضَى مِنْ غَيْرِ رِقَّةٍ- وَ يُبْغِضُ وَ يَغْضَبُ مِنْ غَيْرِ مَشَقَّةٍ- يَقُولُ لِمَنْ أَرَادَ كَوْنَهُ كُنْ فَيَكُونُ- لَا بِصَوْتٍ يَقْرَعُ وَ لَا بِنِدَاءٍ يُسْمَعُ- وَ إِنَّمَا كَلَامُهُ سُبْحَانَهُ فِعْلٌ مِنْهُ أَنْشَأَهُ وَ مَثَّلَهُ- لَمْ يَكُنْ مِنْ قَبْلِ ذَلِكَ كَائِناً- وَ لَوْ كَانَ قَدِيماً لَكَانَ إِلَهاً ثَانِياً
في هذا الفصل مباحث
أولها– أن الباري سبحانه لا يوصف بشيء من الأجزاء- أي ليس بمركب لأنه لو كان مركبا لافتقر إلى أجزائه- و أجزاؤه ليست نفس هويته- و كل ذات تفتقر هويتها إلى أمر من الأمور فهي ممكنة- لكنه واجب الوجود فاستحال أن يوصف بشيء من الأجزاء- .
و ثانيها أنه لا يوصف بالجوارح و الأعضاء- كما يقول مثبتو الصورة- و ذلك لأنه لو كان كذلك لكان جسما- و كل جسم ممكن و واجب الوجود غير ممكن- .
و ثالثها أنه لا يوصف بعرض من الأعراض- كما يقوله الكرامية- لأنه لو حله العرض لكان ذلك العرض- ليس بأن يحل فيه أولى- من أن يحل هو في العرض- لأن معنىالحلول حصول العرض في حيز المحل- تبعا لحصول المحل فيه- فما ليس بمتحيز لا يتحقق فيه معنى الحلول- و ليس بأن يجعل محلا أولى من أن يجعل حالا- .
و رابعها أنه لا يوصف بالغيرية و الأبعاض- أي ليس له بعض و لا هو ذو أقسام- بعضها غيرا للبعض الآخر- و هذا يرجع إلى البحث الأول- .
و خامسها أنه لا حد له و لا نهاية- أي ليس ذا مقدار و لذلك المقدار طرف و نهاية- لأنه لو كان ذا مقدار لكان جسما- لأن المقدار من لوازم الجسمية- و قد ثبت أنه تعالى ليس بجسم- .
و سادسها أنه لا انقطاع لوجوده و لا غاية- لأنه لو جاز عليه العدم في المستقبل لكان وجوده الآن- متوقفا على عدم سبب عدمه- و كل متوقف على الغير فهو ممكن في ذاته- و الباري تعالى واجب الوجوب فاستحال عليه العدم- و أن يكون لوجوده انقطاع أو ينتهي إلى غاية يعدم عندها- .
و سابعها أن الأشياء لا تحويه فتقله- أي ترفعه أو تهويه أي تجعله هاويا إلى جهة تحت- لأنه لو كان كذلك- لكان ذا مقدار أصغر من مقدار الشيء الحاوي له- لكن قد بينا أنه يستحيل عليه المقادير- فاستحال كونه محويا- .
و ثامنها أنه ليس يحمله شيء فيميله إلى جانب- أو يعدله بالنسبة إلى جميع الجوانب- لأن كل محمول مقدر و كل مقدر جسم- و قد ثبت أنه ليس بجسم- .
و تاسعها أنه ليس في الأشياء بوالج أي داخل- و لا عنها بخارج هذا مذهب الموحدين- و الخلاف فيه مع الكرامية و المجسمة- و ينبغي أن يفهم قوله ع و لا عنها بخارج- أنه لا يريد سلب الولوج- فيكون قد خلا من النقيضين لأن ذلك محال- بل المراد بكونه ليس خارجا عنها- أنه ليس كما يعتقده كثير من الناس- أن الفلك الأعلى المحيط لا يحتوي عليه- و لكنه ذات موجودة متميزة بنفسها- قائمة بذاتها- خارجة عن الفلك في الجهة العليا- بينها و بين الفلك بعد إما غير متناه- على ما يحكى عن ابن الهيصم- أو متناه على ما يذهب إليه أصحابه- و ذلك أن هذه القضية و هي قولنا- الباري خارج عن الموجودات كلها- على هذا التفسير ليست مناقضة للقضية الأولى- و هي قولنا الباري داخل العالم- ليكون القول بخلوه عنهما قولا بخلوه عن النقيضين- أ لا ترى أنه يجوز أن تكون القضيتان كاذبتين معا- بألا يكون الفلك المحيط محتويا عليه- و لا يكون حاصلا في جهة خارج الفلك- و لو كانت القضيتان متناقضتين لما استقام ذلك- و هذا كما تقول زيد في الدار زيد في المسجد- فإن هاتين القضيتين ليستا متناقضتين- لجواز ألا يكون زيد في الدار و لا في المسجد- فإن هاتين لو تناقضتا لاستحال الخروج عن النقيضين- لكن المتناقض زيد في الدار زيد ليس في الدار- و الذي يستشنعه العوام من قولنا- الباري لا داخل العالم و لا خارج العالم- غلط مبني على اعتقادهم و تصورهم أن القضيتين تتناقضان- و إذا فهم ما ذكرناه بان أنه ليس هذا القول بشنيع- بل هو سهل و حق أيضا- فإنه تعالى لا متحيز و لا حال في المتحيز- و ما كان كذلك استحال أن يحصل في جهة- لا داخل العالم و لا خارج العالم- و قد ثبت كونه غير متحيز و لا حال في المتحيز- من حيث كان واجب الوجود- فإذن القول بأنه ليس في الأشياء بوالج و لا عنها بخارج- صواب و حق- .
و عاشرها أنه تعالى يخبر بلا لسان و لهوات- و ذلك لأن كونه تعالى مخبرا هو كونه فاعلا للخبر- كما أن كونه ضاربا هو كونه فاعلا للضرب- فكما لا يحتاج في كونه ضاربا- إلى أداة و جارحة يضرب بها- كذلك لا يحتاج في كونه مخبرا- إلى لسان و لهوات يخبر بها- .
و حادي عشرها أنه تعالى يسمع بلا حروف و أدوات- و ذلك لأن الباري سبحانه حي لا آفة به- و كل حي لا آفة به- فواجب أن يسمع المسموعات و يبصر المبصرات-و لا حاجة به سبحانه إلى حروف و أدوات- كما نحتاج نحن إلى ذلك لأنا أحياء بحياة تحلنا- و الباري تعالى حي لذاته- فلما افترقنا فيما به كان سامعا و مبصرا- افترقنا في الحاجة إلى الأدوات و الجوارح- .
و ثاني عشرها أنه يقول و لا يتلفظ- هذا بحث لفظي و ذلك لأنه قد ورد السمع بتسميته قائلا- و قد تكرر في الكتاب العزيز ذكر هذه اللفظة- نحو قوله إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى وَ قالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ- و لم يرد في السمع إطلاق كونه متلفظا عليه- و في إطلاقه إيهام كونه ذا جارحة- فوجب الاقتصار على ما ورد و ترك ما لم يرد- .
و ثالث عشرها أنه تعالى يحفظ و لا يتحفظ- أما كونه يحفظ فيطلق على وجهين- أحدهما أنه يحفظ بمعنى أنه يحصي أعمال عباده و يعلمها- و الثاني كونه يحفظهم و يحرسهم من الآفات و الدواهي- و أما كونه لا يتحفظ فيحتمل معنيين- أحدهما أنه لا يجوز أن يطلق عليه أنه يتحفظ الكلام- أي يتكلف كونه حافظا له و محيطا و عالما به- كالواحد منا يتحفظ الدرس ليحفظه- فهو سبحانه حافظ غير متحفظ- و الثاني أنه ليس بمتحرز و لا مشفق على نفسه- خوفا أن تبدر إليه بادرة من غيره- .
و رابع عشرها أنه يريد و لا يضمر- أما كونه مريدا فقد ثبت بالسمع- نحو قوله تعالى يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ- و بالعقل لاختصاص أفعاله بأوقات مخصوصة- و كيفيات مخصوصة جاز أن تقع على خلافها- فلا بد من مخصص لها بما اختصت به- و ذلك كونه مريدا- و أما كونه لا يضمر فهو إطلاق لفظي- لم يأذن فيه الشرع- و فيه إيهام كونه ذا قلب- لأن الضمير في العرف اللغوي ما استكن في القلب- و الباري ليس بجسم- .
و خامس عشرها أنه يحب و يرضى من غير رقة- و يبغض و يغضب من غير مشقة- و ذلك لأن محبته للعبد إرادته أن يثيبه- و رضاه عنه أن يحمد فعله- و هذا يصح و يطلق على الباري لا كإطلاقه علينا- لأن هذه الأوصاف يقتضي إطلاقها علينا رقة القلب- و الباري ليس بجسم- و أما بغضه للعبد فإرادة عقابه و غضبه- كراهية فعله و وعيده بإنزال العقاب به- و في الأغلب إنما يطلق ذلك علينا- و يصح منا مع مشقة تنالنا من إزعاج القلب و غليان دمه- و الباري ليس بجسم- .
و سادس عشرها أنه يقول لما أراد كونه- كن فيكون من غير صوت يقرع و نداء يسمع- هذا مذهب شيخنا أبي الهذيل- و إليه يذهب الكرامية و أتباعها من الحنابلة و غيرهم- و الظاهر أن أمير المؤمنين ع أطلقه- حملا على ظاهر لفظ القرآن- في مخاطبة الناس بما قد سمعوه و أنسوا به- و تكرر على أسماعهم و أذهانهم- فأما باطن الآية و تأويلها الحقيقي- فغير ما يسبق إلى أذهان العوام فليطلب من موضعه- .
و سابع عشرها أن كلامه سبحانه فعل منه أنشأه- و مثله لم يكن من قبل ذلك كائنا- و لو كان قديما لكان إلها ثانيا- هذا هو دليل المعتزلة- على نفي المعاني القديمة التي منها القرآن- و ذلك لأن القدم عندهم أخص صفات الباري تعالى- أو موجب عن الأخص- فلو أن في الوجود معنى قديما قائما بذات الباري- لكان ذلك المعنى مشاركا للباري في أخص صفاته- و كان يجب لذلك المعنى جميع ما وجب للباري من الصفات- نحو العالمية و القادرية و غيرهما فكان إلها ثانيا- . فإن قلت ما معنى قوله ع و مثله- قلت يقال مثلت له كذا تمثيلا- إذا صورت له مثاله بالكتابة أو بغيرها- فالباري مثل القرآن لجبريل ع بالكتابة- في اللوح المحفوظ فأنزله على محمد ص- .
و أيضا يقال مثل زيد بحضرتي إذا حضر قائما- و مثلته بين يدي زيد أي أحضرته منتصبا- فلما كان الله تعالى فعل القرآن واضحا بينا- كان قد مثله للمكلفين: لَا يُقَالُ كَانَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ- فَتَجْرِيَ عَلَيْهِ الصِّفَاتُ الْمُحْدَثَاتُ- وَ لَا يَكُونُ بَيْنَهَا وَ بَيْنَهُ فَصْلٌ- وَ لَا لَهُ عَلَيْهَا فَضْلٌ فَيَسْتَوِيَ الصَّانِعُ وَ الْمَصْنُوعُ- وَ يَتَكَافَأَ الْمُبْتَدَعُ وَ الْبَدِيعُ- خَلَقَ الْخَلَائِقَ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ خَلَا مِنْ غَيْرِهِ- وَ لَمْ يَسْتَعِنْ عَلَى خَلْقِهَا بِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ- وَ أَنْشَأَ الْأَرْضَ فَأَمْسَكَهَا مِنْ غَيْرِ اشْتِغَالٍ- وَ أَرْسَاهَا عَلَى غَيْرِ قَرَارٍ وَ أَقَامَهَا بِغَيْرِ قَوَائِمَ- وَ رَفَعَهَا بِغَيْرِ دَعَائِمَ- وَ حَصَّنَهَا مِنَ الْأَوَدِ وَ الِاعْوِجَاجِ- وَ مَنَعَهَا مِنَ التَّهَافُتِ وَ الِانْفِرَاجِ- أَرْسَى أَوْتَادَهَا وَ ضَرَبَ أَسْدَادَهَا- وَ اسْتَفَاضَ عُيُونَهَا وَ خَدَّ أَوْدِيَتَهَا- فَلَمْ يَهِنْ مَا بَنَاهُ وَ لَا ضَعُفَ مَا قَوَّاهُ عاد
ع إلى تنزيه الباري تعالى عن الحدوث- فقال لا يجوز أن يوصف به- فتجري عليه الصفات المحدثات كما تجري على كل محدث- و روي: فتجري عليه صفات المحدثات و هو أليق- ليعود إلى المحدثات ذوات الصفات ما بعده- و هو قوله ع و لا يكون بينه و بينها فصل- لأنه لا يحسن أن يعود الضمير في قوله و بينها- إلى الصفات بل إلى ذوات الصفات- .
قال لو كان محدثا لجرت عليه صفات الأجسام المحدثة- فلم يكن بينه و بين الأجسام المحدثة فرق- فكان يستوي الصانع و المصنوع و هذا محال- . ثم ذكر أنه خلق الخلق غير محتذ لمثال- و لا مستفيد من غيره كيفية الصنعة بخلاف الواحد منا- فإن الواحد منا لا بد أن يحتذي في الصنعة- كالبناء و النجار و الصانع و غيرها- . قال ع و لم يستعن على خلقها بأحد من خلقه- لأنه تعالى قادر لذاته لا يعجزه شيء- .
ثم ذكر إنشاءه تعالى الأرض- و أنه أمسكها من غير اشتغال منه بإمساكها- و غير ذلك من أفعاله و مخلوقاته- ليس كالواحد منا يمسك الثقيل- فيشتغل بإمساكه عن كثير من أموره- . قال و أرساها- جعلها راسية على غير قرار تتمكن عليه- بل واقفة بإرادته التي اقتضت وقوفها- و لأن الفلك يجذبها من جميع جهاتها كما قيل- أو لأنه يدفعها من جميع جهاتها- أو لأن أحد نصفيها صاعد بالطبع و الآخر هابط بالطبع- فاقتضى التعادل وقوفها أو لأنها طالبة للمركز فوقفت- . و الأود الاعوجاج و كرر لاختلاف اللفظ- . و التهافت التساقط و الأسداد جمع سد- و هو الجبل و يجوز ضم السين- . و استفاض عيونها بمعنى أفاض أي جعلها فائضة- .و خد أوديتها أي شقها- فلم يهن ما بناه أي لم يضعف:
هُوَ الظَّاهِرُ عَلَيْهَا بِسُلْطَانِهِ وَ عَظَمَتِهِ- وَ هُوَ الْبَاطِنُ لَهَا بِعِلْمِهِ وَ مَعْرِفَتِهِ- وَ الْعَالِي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مِنْهَا بِجَلَالِهِ وَ عِزَّتِهِ- لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ مِنْهَا طَلَبَهُ- وَ لَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ فَيَغْلِبَهُ- وَ لَا يَفُوتُهُ السَّرِيعُ مِنْهَا فَيَسْبِقَهُ- وَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى ذِي مَالٍ فَيَرْزُقَهُ- خَضَعَتِ الْأَشْيَاءُ لَهُ وَ ذَلَّتْ مُسْتَكِينَةً لِعَظَمَتِهِ- لَا تَسْتَطِيعُ الْهَرَبَ مِنْ سُلْطَانِهِ إِلَى غَيْرِهِ- فَتَمْتَنِعَ مِنْ نَفْعِهِ وَ ضَرِّهِ- وَ لَا كُفْءَ لَهُ فَيُكَافِئَهُ- وَ لَا نَظِيرَ لَهُ فَيُسَاوِيَهُ- هُوَ الْمُفْنِي لَهَا بَعْدَ وُجُودِهَا- حَتَّى يَصِيرَ مَوْجُودُهَا كَمَفْقُودِهَا- وَ لَيْسَ فَنَاءُ الدُّنْيَا بَعْدَ ابْتِدَاعِهَا- بِأَعْجَبَ مِنْ إِنْشَائِهَا وَ اخْتِرَاعِهَا- وَ كَيْفَ وَ لَوِ اجْتَمَعَ جَمِيعُ حَيَوَانِهَا مِنْ طَيْرِهَا وَ بَهَائِمِهَا- وَ مَا كَانَ مِنْ مُرَاحِهَا وَ سَائِمِهَا- وَ أَصْنَافِ أَسْنَاخِهَا وَ أَجْنَاسِهَا- وَ مُتَبَلِّدَةِ أُمَمِهَا وَ أَكْيَاسِهَا- عَلَى إِحْدَاثِ بَعُوضَةٍ مَا قَدَرَتْ عَلَى إِحْدَاثِهَا- وَ لَا عَرَفَتْ كَيْفَ السَّبِيلُ إِلَى إِيجَادِهَا- وَ لَتَحَيَّرَتْ عُقُولُهَا فِي عِلْمِ ذَلِكَ وَ تَاهَتْ- وَ عَجَزَتْ قُوَاهَا وَ تَنَاهَتْ- وَ رَجَعَتْ خَاسِئَةً حَسِيرَةً- عَارِفَةً بِأَنَّهَا مَقْهُورَةٌ مُقِرَّةً بِالْعَجْزِ عَنْ إِنْشَائِهَا- مُذْعِنَةً بِالضَّعْفِ عَنْ إِفْنَائِهَا الظاهر الغالب القاهر و الباطن العالم الخبير- .
و المراح بضم الميم النعم ترد إلى المراح بالضم أيضا- و هو الموضع الذي تأوي إليه النعم- و ليس المراح ضد السائم على ما يظنه بعضهم- و يقول إن عطف أحدهما على الآخر- عطفعلى المختلف و المتضاد- بل أحدهما هو الآخر و ضدهما المعلوفة- و إنما عطف أحدهما على الآخر- على طريقة العرب في الخطابة- و مثله في القرآن كثير نحو قوله سبحانه- لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَ لا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ- .
و أسناخها جمع سنخ بالكسر و هو الأصل -و قوله لو اجتمع جميع الحيوان على إحداث بعوضة- هو معنى قوله سبحانه إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ- لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَ لَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ- . فإن قلت ما معنى قوله- لا تستطيع الهرب من سلطانه إلى غيره- فتمتنع من نفعه و ضره- و هلا قال من ضره- و لم يذكر النفع فإنه لا معنى لذكره هاهنا- قلت هذا كما يقول المعتصم بمعقل حصين عن غيره- ما يقدر اليوم فلان لي على نفع و لا ضر- و ليس غرضه إلا ذكر الضرر- و إنما يأتي بذكر النفع على سبيل سلب القدرة عن فلان- على كل ما يتعلق بذلك المعتصم- و أيضا فإن العفو عن المجرم نفع له- فهو ع يقول إنه ليس شيء من الأشياء- يستطيع أن يخرج إذا أجرم من سلطان الله تعالى إلى غيره- فيمتنع من بأس الله تعالى- و يستغني عن أن يعفو عنه لعدم اقتداره عليه:
وَ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ يَعُودُ بَعْدَ فَنَاءِ الدُّنْيَا وَحْدَهُ لَا شَيْءَ مَعَهُ- كَمَا كَانَ قَبْلَ ابْتِدَائِهَا كَذَلِكَ يَكُونُ بَعْدَ فَنَائِهَا- بِلَا وَقْتٍ وَ لَا مَكَانٍ وَ لَا حِينٍ وَ لَا زَمَانٍ- عُدِمَتْ عِنْدَ ذَلِكَ الآْجَالُ وَ الْأَوْقَاتُ- وَ زَالَتِ السِّنُونَ وَ السَّاعَاتُ- فَلَا شَيْءَإِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ- الَّذِي إِلَيْهِ مَصِيرُ جَمِيعِ الْأُمُورِ- بِلَا قُدْرَةٍ مِنْهَا كَانَ ابْتِدَاءُ خَلْقِهَا- وَ بِغَيْرِ امْتِنَاعٍ مِنْهَا كَانَ فَنَاؤُهَا- وَ لَوْ قَدَرَتْ عَلَى الِامْتِنَاعِ لَدَامَ بَقَاؤُهَا- لَمْ يَتَكَاءَدْهُ صُنْعُ شَيْءٍ مِنْهَا إِذْ صَنَعَهُ- وَ لَمْ يَؤُدْهُ مِنْهَا خَلْقُ مَا بَرَأَهُ وَ خَلَقَهُ- وَ لَمْ يُكَوِّنْهَا لِتَشْدِيدِ سُلْطَانٍ- وَ لَا لِخَوْفٍ مِنْ زَوَالٍ وَ نُقْصَانٍ- وَ لَا لِلِاسْتِعَانَةِ بِهَا عَلَى نِدٍّ مُكَاثِرٍ- وَ لَا لِلِاحْتِرَازِ بِهَا مِنْ ضِدٍّ مُثَاوِرٍ- وَ لَا لِلِازْدِيَادِ بِهَا فِي مُلْكِهِ- وَ لَا لِمُكَاثَرَةِ شَرِيكٍ فِي شِرْكِهِ- وَ لَا لِوَحْشَةٍ كَانَتْ مِنْهُ- فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَأْنِسَ إِلَيْهَا- ثُمَّ هُوَ يُفْنِيهَا بَعْدَ تَكْوِينِهَا- لَا لِسَأَمٍ دَخَلَ عَلَيْهِ فِي تَصْرِيفِهَا وَ تَدْبِيرِهَا- وَ لَا لِرَاحَةٍ وَاصِلَةٍ إِلَيْهِ- وَ لَا لِثِقَلِ شَيْءٍ مِنْهَا عَلَيْهِ- لَا يُمِلُّهُ طُولُ بَقَائِهَا فَيَدْعُوَهُ إِلَى سُرْعَةِ إِفْنَائِهَا- وَ لَكِنَّهُ سُبْحَانَهُ دَبَّرَهَا بِلُطْفِهِ- وَ أَمْسَكَهَا بِأَمْرِهِ وَ أَتْقَنَهَا بِقُدْرَتِهِ- ثُمَّ يُعِيدُهَا بَعْدَ الْفَنَاءِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ مِنْهُ إِلَيْهَا- وَ لَا اسْتِعَانَةٍ بِشَيْءٍ مِنْهَا عَلَيْهَا- وَ لَا لِانْصِرَافٍ مِنْ حَالِ وَحْشَةٍ إِلَى حَالِ اسْتِئْنَاسٍ- وَ لَا مِنْ حَالِ جَهْلٍ وَ عَمًى إِلَى عِلْمٍ وَ الْتِمَاسٍ- وَ لَا مِنْ فَقْرٍ وَ حَاجَةٍ إِلَى غِنًى وَ كَثْرَةٍ- وَ لَا مِنْ ذُلٍّ وَ ضَعَةٍ إِلَى عِزٍّ وَ قُدْرَةٍ شرع أولا في ذكر إعدام الله سبحانه الجواهر- و ما يتبعها و يقوم بها من الأعراض قبل القيامة- و ذلك لأن الكتاب العزيز قد ورد به- نحو قوله تعالى كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ- و معلوم أنه بدأه عن عدم- فوجب أن تكون الإعادة عن عدم أيضا- و قال تعالى هُوَ الْأَوَّلُ وَ الْآخِرُ- و إنما كان أولا لأنه كان موجودا- و لاشيء منالأشياء بموجود- فوجب أن يكون آخرا كذلك- هذا هو مذهب جمهور أصحابنا و جمهور المسلمين- .
ثم ذكر أنه يكون وحده سبحانه بلا وقت و لا مكان- و لا حين و لا زمان- و ذلك لأن المكان أما الجسم- الذي يتمكن عليه جسم آخر أو الجهة- و كلاهما لا وجود له بتقدير عدم الأفلاك- و ما في حشوها من الأجسام أما الأول فظاهر- و أما الثاني فلأن الجهة- لا تتحقق إلا بتقدير وجود الفلك- لأنها أمر إضافي بالنسبة إليه- فبتقدير عدمه لا يبقى للجهة تحقق أصلا- و هذا هو القول في عدم المكان حينئذ- و أما الزمان و الوقت و الحين- فكل هذه الألفاظ تعطي معنى واحدا- و لا وجود لذلك المعنى بتقدير عدم الفلك- لأن الزمان هو مقدار حركة الفلك- فإذا قدرنا عدم الفلك فلا حركة و لا زمان- .
ثم أوضح ع ذلك و أكده فقال- عدمت عند ذلك الآجال و الأوقات- و زالت السنون و الساعات- لأن الأجل هو الوقت الذي- يحل فيه الدين أو تبطل فيه الحياة- و إذا ثبت أنه لا وقت ثبت أنه لا أجل- و كذلك لا سنة و لا ساعة لأنها أوقات مخصوصة- . ثم عاد ع إلى ذكر الدنيا فقال- بلا قدرة منها كان ابتداء خلقها- و بغير امتناع منها كان فناؤها- يعني أنها مسخرة تحت الأمر الإلهي- .
قال و لو قدرت على الامتناع لدام بقاؤها- لأنها كانت تكون ممانعة للقديم سبحانه في مراده- و إنما تمانعه في مراده لو كانت قادرة لذاتها- و لو كانت قادرة لذاتها و أرادت البقاء لبقيت- . قوله ع لم يتكاءده بالمد أي لم يشق عليه- و يجوز لم يتكأده بالتشديد و الهمزة- و أصله من العقبة الكئود و هي الشاقة- .
قال و لم يؤده أي لم يثقله- . ثم ذكر أنه تعالى لم يخلق الدنيا ليشد بها سلطانه- و لا لخوفه من زوال أو نقص يلحقه- و لا ليستعين بها على ند مماثل له- أو يحترز بها عن ضد محارب له- أو ليزداد بها ملكه ملكا- أو ليكاثر بها شريكا في شركته له- أو لأنه كان قبل خلقها مستوحشا- فأراد أن يستأنس بمن خلق- . ثم ذكر أنه تعالى سيفنيها بعد إيجادها- لا لضجر لحقه في تدبيرها و لا لراحة تصله في إعدامها- و لا لثقل شيء منها عليه حال وجودها- و لا لملل أصابه فبعثه على إعدامها- .
ثم عاد ع فقال- إنه سبحانه سيعيدها إلى الوجود بعد الفناء- لا لحاجة إليها و لا ليستعين ببعضها على بعض- و لا لأنه استوحش حال عدمها فأحب أن يستأنس بإعادتها- و لا لأنه فقد علما عند إعدامها- فأراد بإعادتها استجداد ذلك العلم- و لا لأنه صار فقيرا عند إعدامها- فأحب أن يتكثر و يثري بإعادتها- و لا لذل أصابه بإفنائها فأراد العز بإعادتها- . فإن قلت إذا كان يفنيها لا لكذا و لا لكذا- و كان من قبل أوجدها لا لكذا و لا لكذا- ثم قلتم إنه يعيدها لا لكذا و لا لكذا- فلأي حال أوجدها أولا و لأي حال أفناها ثانيا- و لأي حال أعادها ثالثا خبرونا عن ذلك- فإنكم قد حكيتم عنه عليه السلام الحكم و لم تحكوا عنه العلة- قلت إنما أوجدها أولا للإحسان إلى البشر ليعرفوه- فإنه لو لم يوجدهم لبقي مجهولا لا يعرف- ثم كلف البشر ليعرضهم للمنزلة الجليلة- التي لا يمكن وصولهم إليها إلا بالتكليف و هي الثواب- ثم يفنيهم لأنه لا بد من انقطاع التكليف- ليخلص الثواب من مشاق التكاليف- و إذا كان لا بد من انقطاعه- فلا فرق بين انقطاعه بالعدم المطلق-أو بتفريق الأجزاء- و انقطاعه بالعدم المطلق قد ورد به الشرع- و فيه لطف زائد للمكلفين- لأنه أردع و أهيب في صدورهم من بقاء أجزائهم- و استمرار وجودها غير معدومة- .
ثم إنه سبحانه يبعثهم و يعيدهم- ليوصل إلى كل إنسان ما يستحقه من ثواب أو عقاب- و لا يمكن إيصال هذا المستحق إلا بالإعادة- و إنما لم يذكر أمير المؤمنين ع هذه التعليلات- لأنه قد أشار إليها فيما تقدم من كلامه- و هي موجودة في فرش خطبه- و لأن مقام الموعظة غير مقام التعليل- و أمير المؤمنين ع في هذه الخطبة يسلك مسلك الموعظة- في ضمن تمجيد الباري سبحانه و تعظيمه- و ليس ذلك بمظنة التعليل و الحجاج
شرح نهج البلاغة(ابن أبي الحديد) ج 13