خطبه 213 شرح ابن میثم بحرانی

و من كلام له عليه السّلام قاله عند تلاوته: رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَ لَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللّهِ
إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى جَعَلَ الذِّكْرَ جِلاءً لِلْقُلُوبِ- تَسْمَعُ بِهِ بَعْدَ الْوَقْرَةِ وَ تُبْصِرُ بِهِ بَعْدَ الْعَشْوَةِ- وَ تَنْقَادُ بِهِ بَعْدَ الْمُعَانَدَةِ- وَ مَا بَرِحَ لِلَّهِ عَزَّتْ آلَاؤُهُ فِي الْبُرْهَةِ بَعْدَ الْبُرْهَةِ- وَ فِي أَزْمَانِ الْفَتَرَاتِ عِبَادٌ نَاجَاهُمْ فِي فِكْرِهِمْ- وَ كَلَّمَهُمْ فِي ذَاتِ عُقُولِهِمْ- فَاسْتَصْبَحُوا بِنُورِ يَقَظَةٍ فِي الْأَبْصَارِ وَ الْأَسْمَاعِ وَ الْأَفْئِدَةِ- يُذَكِّرُونَ بِأَيَّامِ اللَّهِ وَ يُخَوِّفُونَ مَقَامَهُ- بِمَنْزِلَةِ الْأَدِلَّةِ فِي الْفَلَوَاتِ- مَنْ أَخَذَ الْقَصْدَ حَمِدُوا إِلَيْهِ طَرِيقَهُ وَ بَشَّرُوهُ بِالنَّجَاةِ- وَ مَنْ أَخَذَ يَمِيناً وَ شِمَالًا ذَمُّوا إِلَيْهِ الطَّرِيقَ- وَ حَذَّرُوهُ مِنَ الْهَلَكَةِ- وَ كَانُوا كَذَلِكَ مَصَابِيحَ تِلْكَ الظُّلُمَاتِ- وَ أَدِلَّةَ تِلْكَ الشُّبُهَاتِ- وَ إِنَّ لِلذِّكْرِ لَأَهْلًا أَخَذُوهُ مِنَ الدُّنْيَا بَدَلًا- فَلَمْ تَشْغَلْهُمْ تِجَارَةٌ وَ لَا بَيْعٌ عَنْهُ- يَقْطَعُونَ بِهِ أَيَّامَ الْحَيَاةِ- وَ يَهْتِفُونَ بِالزَّوَاجِرِ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ فِي أَسْمَاعِ الْغَافِلِينَ- وَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ وَ يَأْتَمِرُونَ بِهِ- وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يَتَنَاهَوْنَ عَنْهُ- فَكَأَنَّمَا قَطَعُوا الدُّنْيَا إِلَى الْآخِرَةِ وَ هُمْ فِيهَا- فَشَاهَدُوا مَا وَرَاءَ ذَلِكَ- فَكَأَنَّمَا اطَّلَعُوا غُيُوبَ أَهْلِ الْبَرْزَخِ فِي طُولِ الْإِقَامَةِ فِيهِ- وَ حَقَّقَتِ الْقِيَامَةُ عَلَيْهِمْ عِدَاتِهَا- فَكَشَفُوا غِطَاءَ ذَلِكَ لِأَهْلِ الدُّنْيَا- حَتَّى كَأَنَّهُمْ يَرَوْنَ مَا لَا يَرَى النَّاسُ وَ يَسْمَعُونَ مَا لَا يَسْمَعُونَ- فَلَوْ مَثَّلْتَهُمْ لِعَقْلِكَ فِي مَقَاوِمِهِمُ الْمَحْمُودَةِ- وَ مَجَالِسِهِمُ الْمَشْهُودَةِ- وَ قَدْ نَشَرُوا دَوَاوِينَ أَعْمَالِهِمْ- وَ فَرَغُوا لِمُحَاسَبَةِ أَنْفُسِهِمْ عَلَى كُلِّ صَغِيرَةٍ وَ كَبِيرَةٍ- أُمِرُوا بِهَا فَقَصَّرُوا عَنْهَا أَوْ نُهُوا عَنْهَا فَفَرَّطُوا فيهَا وَ حَمَّلُوا ثِقَلَ أَوْزَاِرِهمْ ظُهُورَهُمْ- فَضَعُفُوا عَنِ الِاسْتِقْلَالِ بِهَا- فَنَشَجُوا نَشِيجاً وَ تَجَاوَبُوا نَحِيباً- يَعِجُّونَ إِلَى رَبِّهِمْ مِنْ مَقَامِ نَدَمٍ وَ اعْتِرَافٍ- لَرَأَيْتَ أَعْلَامَ هُدًى وَ مَصَابِيحَ دُجًى- قَدْ حَفَّتْ بِهِمُ الْمَلَائِكَةُ- وَ تَنَزَّلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ- وَ فُتِحَتْ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَ أُعِدَّتْ لَهُمْ مَقَاعِدُ الْكَرَامَاتِ- فِي مَقْعَدٍ اطَّلَعَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِيهِ- فَرَضِيَ سَعْيَهُمْ وَ حَمِدَ مَقَامَهُمْ- يَتَنَسَّمُونَ بِدُعَائِهِ رَوْحَ التَّجَاوُزِ- رَهَائِنُ فَاقَةٍ إِلَى فَضْلِهِ وَ أُسَارَى ذِلَّةٍ لِعَظَمَتِهِ- جَرَحَ طُولُ الْأَسَى قُلُوبَهُمْ وَ طُولُ الْبُكَاءِ عُيُونَهُمْ- لِكُلِّ بَابِ رَغْبَةٍ إِلَى اللَّهِ مِنْهُمْ يَدٌ قَارِعَةٌ- يَسْأَلُونَ مَنْ لَا تَضِيقُ لَدَيْهِ الْمَنَادِحُ- وَ لَا يَخِيبُ عَلَيْهِ الرَّاغِبُونَ- فَحَاسِبْ نَفْسَكَ لِنَفْسِكَ فَإِنَّ غَيْرَهَا مِنَ الْأَنْفُسِ لَهَا حَسِيبٌ غَيْرُكَ

اللغة

أقول: الوقرة: الغفلة من الوقر و هو الصمم.

و العشوة: الغفلة من العشاء و هو ظلمة العين بالليل دون النهار.

و البرهة: المدّة الطويلة من الزمان.

و يهتفون: يصيحون.

و البرزخ: ما بعد الموت من مكان و زمان.

و النشج: الصوت في ترديد النفس عند البكاء.

و المنادح: جمع مندح و هو المتّسع.

المعنى
فقوله: إنّ اللّه سبحانه. إلى قوله: بعد المعاندة.

إنّما يتّضح بالإشارة إلى الذكر و فضيلته و فائدته: الذكر هو القرآن الكريم لقوله تعالى وَ هذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ«» و نحوه، و قيل: هو إشارة إلى تحميده تعالى و تسبيحه و تكبيره و تهليله و الثناء عليه و نحو ذلك، و أمّا فضيلته فمن القرآن قوله تعالى فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ«» و قوله اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً«» و قوله فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ«» الآية، و قوله فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ«» الآية. و أمّا من الأخبار فقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ذاكر اللّه في الغافلين كالمقاتل في الفارّين، و قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يقول اللّه: أنا مع عبدى ما ذكرنى و تحرّكت بى شفتاه، و قوله: ما عمل ابن آدم من عمل أنجى له من عذاب اللّه من ذكر اللّه. قالوا: يا رسول اللّه و لا الجهاد في سبيل اللّه. قال: و لا الجهاد في سبيل اللّه إلّا أن تضرب بسيفك إلى أن ينقطع ثمّ تضرب به حتّى ينقطع- ثلاثا- و قوله: من أحبّ أن يرتع في رياض الجنّة فليكثر منه ذكر اللّه. و نحو ذلك. فأمّا فائدته: فاعلم أنّ المؤثّر من الذكر و النافع منه ما كان على الدوام أو في أكثر الأوقات مع حضور القلب، و بدونهما فهو قليل الجدوى. و بذينك الاعتبارين هو المقدّم على ساير العبادات بل هو روح العبادات العمليّة و غاية ثمرتها، و له أوّل يوجب الانس باللّه و آخر يوجبه الانس باللّه، و ذلك أنّ المريد في مبدء أمره قد يكون متكلّفا لذكر أمر ليصرف إليه قلبه و لسانه عن الوسواس فإن وفّق للمداومة أنس به و انغرس في قلبه حبّ المذكور، و ممّا ينبّه على ذلك أنّ أحدنا يمدح بين يديه شخص و يذكر بحميد الخصال فيحبّه و يعشقه بالوصف و كثرة الذكر ثمّ إذا عشق بكثرة الذكر اضطرّ إلى كثرة الذكر آخرا بحيث لا يصبر عنه فإنّ من أحبّ شيئا أكثر ذكره و من أكثر من ذكر شي‏ء و إن كان متكلّفا أحبّه، و قد شاهدنا ذلك كثيرا.
كذلك أوّل ذكر اللّه متكلّف إلى أن يثمر الانس به و الحبّ له. ثمّ يمتنع الصبر عنه آخرا فيثمر الثمرة، و لذلك قال بعضهم: كابدت القرآن عشرين سنة. ثمّ تنعّمت به عشرين سنة. و لا يصدر التنعّم إلّا عن الانس و الحبّ و لا يصدر الانس إلّا من المداومة على المكابدة حتّى يصير التكلّف طبعا. ثمّ إذا حصل الانس باللّه انقطع عن غير اللّه، و ما سوى اللّه يفارقه عند الموت فلا تبقى معه في القبر أهل و لا مال و لا ولد و لا ولاية و لا تبقى إلّا المحبوب المذكور فيتمتّع به و يتلذّذ بانقطاع العوائق الصارفة عنه من أسباب الدنيا و محبوباتها. إذا عرفت ذلك فقوله: جعله جلاء. إشارة إلى فائدته و هى استعداد النفوس بمداومته على الوجه الّذي ذكرناه لمحبّة المذكور و الإعراض عمّا سواه، و استعار لفظ الجلاء لإزالة كلّ ما سوا المذكور عن لوح القلب بالذكر كما يزال خبث المرآة بالصقال، و تجوّز بلفظ السمع في إقبالها على ما ينبغي أن يسمع من أوامر اللّه و نواهيه و ساير كلامه، و الوقرة لإعراضها عنها، و كذلك بلفظ البصر في إدراكها للحقايق و ما ينبغي لها، و لفظ العشوة لعدم ذلك الإدراك إطلاقا في المجازات الأربعة لاسم السبب على المسبّب. و انقياد هاله: أي للحقّ، و سلوك طريقه بعد المعاندة فيه و الانحراف عنه. و قوله: و ما برح. إلى قوله: عقولهم. إشارة إلى أنّه لم يخلو المدد و أزمان الفترات قطّ من عباد اللّه و أولياء له و ألهمهم معرفته و أفاض على أفكارهم و عقولهم صور الحقّ و كيفيّة الهداية إليه مكاشفة، و تلك الإفاضة و الإلهام هو المراد بالمناجات و التكلّم منه. و قوله: فاستصبحوا.
إلى قوله: و الأفئدة. أى استضاءوا بمصباح نور اليقظة، و اليقظة في الافئدة فطانتها و استعدادها الكامل لما ينبغي لها من الكمالات العقليّة، و نور تلك اليقظة هو ما يفاض عليها بسبب استعدادها بتلك الفطانة و يقظة الأبصار و الأسماع بتتّبعها لإبصار الامور النافعة المحصّلة منها عبرة و كمالا نفسانيّا و سماع النافع من الكلام، و أنوار اليقظه فيهما ما يحصل بسبب ذلك الإبصار و السماع من أنوار الكمالات النفسانيّة.

ثمّ شرع في وصف حالهم في هديهم لسبيل اللّه بأيّامه، و هى كناية عن شدايده النازلة بالماضين من الامم، و أصله أنّها يقع في الأيّام، و يحتمل أن يكون مجازا إطلاقا لاسم المحلّ على الحالّ، و مقام اللّه كناية عن عظمته و جلالته المستلزمة للهيبة و الخوف. و شبّههم بالأدلّة في الفلوات، و وجه الشبه كونهم هادين لسبيل اللّه كما تهدى الأدلّة، و كما أنّ الأدلّة تحمد من أخذ القصد في الطريق طريقه و تبشّره بالنجاة و من انحرف عنها يمينا و شمالا ذمّوا إليه طريقه و حذّروه من الهلكة كذلك الهداة إلى اللّه من سلك سبيل اللّه العدل إليه و قصد فيها حمدوا إليه طريقه و بشّروه بالنجاة من المهالك، و من انحرف عنها يمينا و شمالا: أى سلك أحد طرفي الإفراط و التفريط ذمّوا إليه مسلكه و حذّروه من الهلاك الأبديّ. و قوله: و كانوا كذلك. أى كما و صفناهم، و استعار لفظ المصابيح باعتبار إضاءتهم بكمالاتهم بطريق اللّه، و لفظ الأدلّة باعتبار هداهم إلى الحقّ و تمييزه عن شبهاب الباطل. و قوله: و إن للذكر لأهلا. إلى قوله: أيّام الحياة. فأهله هو من ذكرنا أنّهم اشتغلوا به حتّى أحبّوا المذكور و نسوا ما عداه من المحبوبات الدنيويّة، و إنّ من حبّ محبّة المذكور محبّة ذكره و ملازمته حتّى اتّخذوه بدلا من متاع الدنيا و طيّباتها و لم يشغلهم عنه تجارة و لا بيع و قطعوا به أيّام حياتهم الدنيا.
و قوله: و يهتفون. إلى قوله: و يتناهون عنه. إشارة إلى وجوه طاعتهم للّه و عبادتهم له و هى من ثمرات الذكر و محبّة المذكور لأنّ من أحبّ محبوبا سلك مسلكه و لم يخالف رسمه و كان له في ذلك الابتهاج و اللذّة. و قوله: فكأنّما قطعوا. إلى قوله: عداتها. تشبيه لهم في ثقتهم باللّه و بما جاءت به كتبه و رسله، و تحقّقهم لأحوال القيامة و وعدها و وعيدها بعين اليقين عن قطع الدنيا من أحوال أهل البرزخ وطول إقامتهم فيه فكشفوا غطاء تلك الأحوال لأهل الدنيا بالعبادات الواضحة و البيانات اللايحة حتّى كأنّهم في وصفهم لها عن صفاء سرائرهم و صقال جواهر نفوسهم بالرياضة التامّة يرون بأبصارهم ما لا يرى الناس، و يسمعون بآذانهم ما لا يسمعون الناس. إذ يخبرون عن مشاهدات و مسموعات لا يدركها الناس، و لمّا كان السبب في قصور النفوس عن إدراك أحوال الآخرة هو تعلّقها بهذه الأبدان و اشتغالها بتدبيرها و الانغماس في الهيئات الدنيويّة المكتسبة عنها، و كان هؤلاء الموصوفون قد غسلوا درن تلك الهيئات عن ألواح نفوسهم بمداومة ذكر اللّه و ملازمة الرياضة التامّة حتّى صارت نفوسهم كمرأى مجلوّة حوذى بها شطر الحقائق الإلهيّة فتجلّت و انتقشت بها لا جرم شاهدوا بعين اليقين سبيل النجاة و سبيل الهلاك و ما بينهما فسلكوا على بصيرة و هدوا الناس على يقين و أخبروا عن امور شاهدوها بأعين بصائرهم و سمعوا بآذان عقولهم فكأنّهم في وضوح ذلك لهم و ظهوره و إخبارهم عنه قد شاهدوا ما شاهده الناس بحواسّهم فشاهدوا ما لم يشاهده الناس و سمعوا ما لم يسمعوه. و قوله: فلو مثّلتهم بعقلك.
أى استحضرت صورهم و أعمالهم في مقاومهم المحمودة و مجالسهم المشهودة و هى مقامات العبادة و مجالسها. و دواوين أعمالهم: أذهانهم و ما ثبت فيها من أفعالهم. و نشرها: تتّبع نفوسهم بأفكارها و تخيّلاتها لصور تلك الأعمال و تصفّحها لها المشبّهة لتصفّح الأوراق. و الواو في قوله: و فرغوا لمحاسبة أنفسهم على كلّ صغيرة و كبيرة للبيان. ليستدعى بيان معنى المحاسبة، و لمّا كان معناها ليستدعى محاسبا حتّى يكون النظر معه في رأس المال في الربح و الخسران ليبيّن له الزيادة و النقصان، و إن كان من فضل حاصل استوفاه و إن كان من خسران طالبه بضمانه و كلّفه تداركه في المستقبل فكذلك العبد معامله نفسه الأمّارة بالسوء، و رأس ماله الفرائض و ربحه النوافل و الفضائل، و الخسران المعاصى، و موسم هذه التجارة جملة النهار فينبغى أن يكون للعبد في آخره ساعة يطالب بها نفسه و يحاسبها على جميع حركاتها و سكاناتها فإن كان قد أدّى الفرائض على وجهها شكر اللّه تعالى عليه و رغبّها في مثلها، و إن فوّتها من أصلها كلّفها بالقضاء، و إن أدّتها ناقصة كلّفها بالجبران بالنوافل، و إن ارتكب معصية اشتغل بعقابها و تعذيبها و معاتبتها و استوفى منها ما يتدارك به تفريطها كما يصنع التاجر بشريكه. و كما أنّه ينقش في حساب الدنيا عن الحبّة و القيراط فيحفظ مداخل الزيادة و النقصان كذلك ينبغي أن تتّقى خدعة النفس و مكرها فإنّها مخادعة مكّارة فليطالبها أوّلا بتصحيح الجواب عمّا تكلّم به طول نهاره و ليتولّى من حسابها بنفسه ما سيتولّاه غيره في محفل القيامة، و كذلك عن نظره و خواطره و أفكاره و قيامه و قعوده و أكله و شربه، و حتّى عن سكونه و سكوته. فإذا عرف أنّها أدّت الحقّ في الجميع كان ذلك القدر محسوبا له فيظهر بها الباقى و يقرّره عليها و يكتبه على صحيفة قلبه. ثمّ إنّ النفس غريم يمكن أن يستوفى منه الديون أمّا بعضها فبالغرامة و الضمان و بعضها بردّ عينها بالعقوبة لها على ذلك و لا يمكن شي‏ء من ذلك إلّا بعد تحقّق الحساب و تميّز باقى الحقّ الواجب عليه.
ثمّ يشتغل بعده بالمطالبة. و ينبغي أن يحاسب الإنسان النفس على جميع العمر يوما يوما و ساعة في جميع الأعضاء الظاهرة و الباطنة كما نقل عن توبة بن الصمة و كان بالرقّة و كان محاسبا لنفسه فحسب يوما فإذا هو ستّين سنة فحسب أيّامها فإذا أحد و عشرون ألف يوم و خمس مائة يوم فصرخ فقال: يا ويلتى ألقى الملك بأحد و عشرين ألف ذنب. ثمّ خرّ مغشيّا عليه فإذا هو ميّت فسمعوا قائلا يقول: يا لك ركضة إلى الفردوس الأعلى. فهكذا ينبغي أن تكون المحاسبة، و لو رمى العبد بكلّ معصية حصاة في داره لامتلأت داره في مدة يسيرة من عمره و لكنّه يتساهل في حفظها و الملكان يحفظان عليه كما قال تعالى أَحْصاهُ اللَّهُ وَ نَسُوهُ«».
إذا عرفت ذلك فقوله: و فرغوا لمحاسبة أنفسهم. إلى قوله: ندم و اعتراف. إشارة إلى حال وجدانهم عند محاسبة أنفسهم لتقصيرها و الخسران في رءوس‏ أموالهم الّتي هى الطاعات و نشيجهم و نحيبهم و عجّهم في الندم و الاعتراف بالذنب إشارة إلى حالهم في تدارك ذلك الخسران بالشروع في الجبران. فأوّل مقاماته التوبة و لوازمها المذكورة، ثمّ العمل. و قوله: لرأيت. إلى قوله: الراغبون. صفات أحوالهم المحمودة، و اللام في قوله: لرأيت. جواب لو في قوله: فلو مثّلهم، و استعار لهم لفظة الأعلام و المصابيح‏ باعتبار كونهم أدلّة إلى طريق اللّه و ذوى أنوار يستضاء بها فيها، و حفوف الملائكة بهم كناية عن إحاطة عنايتهم به، و ذلك لكمال استعدادهم لقبول الأنوار عن اللّه بواسطة الملائكة الكروبيّة و وجوب فيضها عليهم عنهم، و في ذلك الإشارة إلى إكرامهم بذلك. و قوله: و تنزّلت عليهم السكينة. إشارة إلى بلوغ استعداد نفوسهم لإفاضة السكينة عليها و هى المرتبة الثالثة من أحوال السالك بعد الطمأنينة، و ذلك أن تكثّر تلك البروق و اللوامع الّتي كانت تغشيه حتّى يصير ما كان مخوفا منها مألوفا، و كانت تحصل لا لمشيئة السالك فيصير حصولها بمشيئته و إرادته. و فتح أبواب السماء لهم إشارة إلى فتح أبواب سماء الجود الإلهىّ بإفاضة الكمالات عليهم كما قال تعالى فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ«» و مقاعد الكرامات مراتب الوصول إليه. و تلك المقاعد الّتي اطّلع اللّه تعالى عليهم فيها فرضى سعيهم بالأعمال الصالحة المبلّغة إليها، و حمد مقامهم فيها.

و قوله: يتنسّمون بدعائه روح التجاوز. أى يدعونه و يتوقّعون بدعائه تجاوزه عن ذنوبهم، و أن لا يجعل تقصيرهم فيما عساهم قصّروا فيه سببا لانقطاع فيضه، و قد علمت أنّ سيّئات هؤلاء يعود إلى ترك الأولى بهم. ثمّ استعار لهم لفظ الرهائن لكونهم في محلّ الحاجة إلى فضله لا معدول و لا ملجأ لهم عنه كالرهائن في يد المسترهن، و كذلك لفظ الاسارى،و وجه المشابهة كونهم في مقام الذلّة بحسب عظمته كالأسير بالنظر إلى عظمة من أسرّه. و قوله: جرح. إلى قوله: عيونهم. فذلك الجرح من لوازم اطّلاعهم على خيانة أنفسهم و خسرانهم في معاملتهم لها بعد محاسبتها. و قوله: لكلّ باب. إلى قوله: يد قارعة. أشار بقرعهم لكلّ باب من أبواب الرغبة إلى اللّه إلى توجيه أسرارهم و عقولهم إلى القبلة الحقيقيّة استشراقا لأنوار اللّه و استسماحا لجوده. و قوله: يسألون. إلى قوله: المنادح. إشارة إلى سعة جوده و فضله و أنّه أكرم الأكرمين ليتبيّن أنّه أحقّ مسئول بإعطاء سؤل و أولى مرغوب إليه بإسداء مرغوب. و قوله: فحاسب نفسك. إلى آخره. أى فتولّ أنت حساب نفسك. فإنّ حساب غيرها من النفوس و هى الّتي لم يحاسبها صاحبها يتولّاه غيرك و هو أسرع الحاسبين، و ذلك في معنى تهديد الإنسان على ترك محاسبة نفسه. و باللّه التوفيق.

شرح نهج ‏البلاغة(ابن ميثم بحرانی)، ج 4 ، صفحه‏ى 66

 

دیدگاه‌ها

دیدگاهتان را بنویسید

نشانی ایمیل شما منتشر نخواهد شد. بخش‌های موردنیاز علامت‌گذاری شده‌اند *

این سایت از اکیسمت برای کاهش هرزنامه استفاده می کند. بیاموزید که چگونه اطلاعات دیدگاه های شما پردازش می‌شوند.