خطبه 207 شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام خطبها بصفين
أَمَّا بَعْدُ- فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِي عَلَيْكُمْ حَقّاً بِوِلَايَةِ أَمْرِكُمْ- وَ لَكُمْ عَلَيَّ مِنَ الْحَقِّ مِثْلُ الَّذِي لِي عَلَيْكُمْ- فَالْحَقُّ أَوْسَعُ الْأَشْيَاءِ فِي التَّوَاصُفِ- وَ أَضْيَقُهَا فِي التَّنَاصُفِ- لَا يَجْرِي لِأَحَدٍ إِلَّا جَرَى عَلَيْهِ- وَ لَا يَجْرِي عَلَيْهِ إِلَّا جَرَى لَهُ- وَ لَوْ كَانَ لِأَحَدٍ أَنْ يَجْرِيَ لَهُ وَ لَا يَجْرِيَ عَلَيْهِ- لَكَانَ ذَلِكَ خَالِصاً لِلَّهِ سُبْحَانَهُ دُونَ خَلْقِهِ- لِقُدْرَتِهِ عَلَى عِبَادِهِ- وَ لِعَدْلِهِ فِي كُلِّ مَا جَرَتْ عَلَيْهِ صُرُوفُ قَضَائِهِ- وَ لَكِنَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ حَقَّهُ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يُطِيعُوهُ- وَ جَعَلَ جَزَاءَهُمْ عَلَيْهِ مُضَاعَفَةَ الثَّوَابِ- تَفَضُّلًا مِنْهُ وَ تَوَسُّعاً بِمَا هُوَ مِنَ الْمَزِيدِ أَهْلُهُ ثُمَّ جَعَلَ سُبْحَانَهُ مِنْ حُقُوقِهِ حُقُوقاً- افْتَرَضَهَا لِبَعْضِ النَّاسِ عَلَى بَعْضٍ- فَجَعَلَهَا تَتَكَافَأُ فِي وُجُوهِهَا- وَ يُوجِبُ بَعْضُهَا بَعْضاً- وَ لَا يُسْتَوْجَبُ بَعْضُهَا إِلَّا بِبَعْضٍ- . وَ أَعْظَمُ مَا افْتَرَضَ سُبْحَانَهُ مِنْ تِلْكَ الْحُقُوقِ- حَقُّ الْوَالِي عَلَى الرَّعِيَّةِ وَ حَقُّ الرَّعِيَّةِ عَلَى الْوَالِي- فَرِيضَةٌ فَرَضَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِكُلٍّ عَلَى كُلٍّ- فَجَعَلَهَا نِظَاماً لِأُلْفَتِهِمْ وَ عِزّاً لِدِينِهِمْ- فَلَيْسَتْ تَصْلُحُ الرَّعِيَّةُ إِلَّا بِصَلَاحِ الْوُلَاةِ- وَ لَا تَصْلُحُ الْوُلَاةُ إِلَّا بِاسْتِقَامَةِ الرَّعِيَّةِ- فَإِذَا أَدَّتْ الرَّعِيَّةُ إِلَى الْوَالِي‏ حَقَّهُ- وَ أَدَّى الْوَالِي إِلَيْهَا حَقَّهَا- عَزَّ الْحَقُّ بَيْنَهُمْ وَ قَامَتْ مَنَاهِجُ الدِّينِ- وَ اعْتَدَلَتْ مَعَالِمُ الْعَدْلِ وَ جَرَتْ عَلَى أَذْلَالِهَا السُّنَنُ- فَصَلَحَ بِذَلِكَ الزَّمَانُ- وَ طُمِعَ فِي بَقَاءِ الدَّوْلَةِ وَ يَئِسَتْ مَطَامِعُ الْأَعْدَاءِ- . وَ إِذَا غَلَبَتِ الرَّعِيَّةُ وَالِيَهَا- أَوْ أَجْحَفَ الْوَالِي بِرَعِيَّتِهِ- اخْتَلَفَتْ هُنَالِكَ الْكَلِمَةُ- وَ ظَهَرَتْ مَعَالِمُ الْجَوْرِ وَ كَثُرَ الْإِدْغَالُ فِي الدِّينِ- وَ تُرِكَتْ مَحَاجُّ السُّنَنِ فَعُمِلَ بِالْهَوَى- وَ عُطِّلَتِ الْأَحْكَامُ وَ كَثُرَتْ عِلَلُ النُّفُوسِ- فَلَا يُسْتَوْحَشُ لِعَظِيمِ حَقٍّ عُطِّلَ- وَ لَا لِعَظِيمِ بَاطِلٍ فُعِلَ- فَهُنَالِكَ تَذِلُّ الْأَبْرَارُ وَ تَعِزُّ الْأَشْرَارُ- وَ تَعْظُمُ تَبِعَاتُ اللَّهِ عِنْدَ الْعِبَادِ- . فَعَلَيْكُمْ بِالتَّنَاصُحِ فِي ذَلِكَ وَ حُسْنِ التَّعَاوُنِ عَلَيْهِ- فَلَيْسَ أَحَدٌ وَ إِنِ اشْتَدَّ عَلَى رِضَا اللَّهِ حِرْصُهُ- وَ طَالَ فِي الْعَمَلِ اجْتِهَادُهُ- بِبَالِغٍ حَقِيقَةَ مَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَهْلُهُ مِنَ الطَّاعَةِ لَهُ- وَ لَكِنْ مِنْ وَاجِبِ حُقُوقِ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ- النَّصِيحَةُ بِمَبْلَغِ جُهْدِهِمْ- وَ التَّعَاوُنُ عَلَى إِقَامَةِ الْحَقِّ بَيْنَهُمْ- وَ لَيْسَ امْرُؤٌ وَ إِنْ عَظُمَتْ فِي الْحَقِّ مَنْزِلَتُهُ- وَ تَقَدَّمَتْ فِي الدِّينِ فَضِيلَتُهُ- بِفَوْقِ أَنْ يُعَانَ عَلَى مَا حَمَّلَهُ اللَّهُ مِنْ حَقِّهِ- وَ لَا امْرُؤٌ وَ إِنْ صَغَّرَتْهُ النُّفُوسُ- وَ اقْتَحَمَتْهُ الْعُيُونُ- بِدُونِ أَنْ يُعِينَ عَلَى ذَلِكَ أَوْ يُعَانَ عَلَيْهِ فَأَجَابَهُ ع رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ- بِكَلَامٍ طَوِيلٍ يُكْثِرُ فِيهِ الثَّنَاءَ عَلَيْهِ-

وَ يَذْكُرُ سَمْعَهُ وَ طَاعَتَهُ لَهُ فَقَالَ ع إِنَّ مِنْ حَقِّ مَنْ عَظُمَ جَلَالُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فِي نَفْسِهِ- وَ جَلَّ مَوْضِعُهُ مِنْ قَلْبِهِ- أَنْ يَصْغُرَ عِنْدَهُ لِعِظَمِ ذَلِكَ كُلُّ مَا سِوَاهُ- وَ إِنَّ أَحَقَّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَنْ عَظُمَتْ نِعْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ- وَ لَطُفَ إِحْسَانُهُ إِلَيْهِ فَإِنَّهُ لَمْ تَعْظُمْ نِعْمَةُ اللَّهِ عَلَى أَحَدٍ- إِلَّا ازْدَادَ حَقُّ اللَّهِ عَلَيْهِ عِظَماً- وَ إِنَّ مِنْ أَسْخَفِ حَالَاتِ الْوُلَاةِ عِنْدَ صَالِحِ النَّاسِ- أَنْ يُظَنَّ بِهِمْ حُبُّ الْفَخْرِ- وَ يُوضَعَ أَمْرُهُمْ عَلَى الْكِبْرِ- وَ قَدْ كَرِهْتُ أَنْ يَكُونَ جَالَ فِي ظَنِّكُمْ أَنِّي أُحِبُّ الْإِطْرَاءَ- وَ اسْتِمَاعَ الثَّنَاءِ وَ لَسْتُ بِحَمْدِ اللَّهِ كَذَلِكَ- وَ لَوْ كُنْتُ أُحِبُّ أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ- لَتَرَكْتُهُ انْحِطَاطاً لِلَّهِ سُبْحَانَهُ- عَنْ تَنَاوُلِ مَا هُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنَ الْعَظَمَةِ وَ الْكِبْرِيَاءِ- وَ رُبَّمَا اسْتَحْلَى النَّاسُ الثَّنَاءَ بَعْدَ الْبَلَاءِ- فَلَا تُثْنُوا عَلَيَّ بِجَمِيلِ ثَنَاءٍ- لِإِخْرَاجِي نَفْسِي إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَ إِلَيْكُمْ مِنَ التَّقِيَّةِ- فِي حُقُوقٍ لَمْ أَفْرُغْ مِنْ أَدَائِهَا وَ فَرَائِضَ لَا بُدَّ مِنْ إِمْضَائِهَا- فَلَا تُكَلِّمُونِي بِمَا تُكَلَّمُ بِهِ الْجَبَابِرَةُ- وَ لَا تَتَحَفَّظُوا مِنِّي بِمَا يُتَحَفَّظُ بِهِ عِنْدَ أَهْلِ الْبَادِرَةِ- وَ لَا تُخَالِطُونِي بِالْمُصَانَعَةِ وَ لَا تَظُنُّوا بِي اسْتِثْقَالًا فِي حَقٍّ قِيلَ لِي- وَ لَا الْتِمَاسَ إِعْظَامٍ لِنَفْسِي- فَإِنَّهُ مَنِ اسْتَثْقَلَ الْحَقَّ أَنْ يُقَالَ لَهُ- أَوِ الْعَدْلَ أَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهِ كَانَ الْعَمَلُ بِهِمَا أَثْقَلَ عَلَيْهِ- فَلَا تَكُفُّوا عَنْ مَقَالَةٍ بِحَقٍّ أَوْ مَشُورَةٍ بِعَدْلٍ- فَإِنِّي لَسْتُ فِي نَفْسِي بِفَوْقِ أَنْ أُخْطِئَ- وَ لَا آمَنُ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِي- إِلَّا أَنْ يَكْفِيَ اللَّهُ مِنْ نَفْسِي مَا هُوَ أَمْلَكُ بِهِ مِنِّي- فَإِنَّمَا أَنَا وَ أَنْتُمْ عَبِيدٌ مَمْلُوكُونَ لِرَبٍّ لَا رَبَّ غَيْرُهُ- يَمْلِكُ مِنَّا مَا لَا نَمْلِكُ مِنْ أَنْفُسِنَا- وَ أَخْرَجَنَا مِمَّا كُنَّا فِيهِ إِلَى مَا صَلَحْنَا عَلَيْهِ- فَأَبْدَلَنَا بَعْدَ الضَّلَالَةِ بِالْهُدَى وَ أَعْطَانَا الْبَصِيرَةَ بَعْدَ الْعَمَى

اللغة
أقول: أذلالها: وجوهها و طرقها.

و أجحف بهم: ذهب بأصلهم.

و الإدغال: الإفساد.

و اقتحمته: دخلت فيه بالاحتقاد و الازدراد.

و أسخف: أضعف و أصغر.

و البادرة: الحدّة.

و غرض الفصل جمع كلمتهم و اتّفاقهم على أوامره
فأشار أوّلا إلى أنّ لكلّ منه و منهم على الآخر حقّ يجب أن يخرج إليه منه
فحقّه عليهم هو حقّ ولايته لأمرهم، و حقّهم عليه حقّ الرعيّة على الوالى، و هو مثله في وجوب مراعاته و في استلزامه اللوازم الّتي سيذكرها. و قوله: فالحقّ أوسع. إلى قوله: قضائه. تقرير لوجوب حقّه عليهم، و كالتوبيخ لهم على قلّة الإنصاف فيه. و معناه أنّه إذا أخذ الناس في وصف الحقّ و بيانه كان له في ذلك مجال واسع لسهولته على ألسنتهم، و إذا حضر الناصف بينهم و طلب منهم ضاق عليهم المجال لشدّة العمل بالحقّ و صعوبة الانصاف لاستلزامه ترك بعض المطالب المحبوبة لهم، و إطلاق السعة و الضيق على الحقّ استعارة ملاحظة لتشبيه ما يتوهّم فيه من اتّساعه للقول و ضيقه عن العمل بالمكان الّذي يتّسع لشي‏ء أو يضيق عمّا هو أعظم منه. و قوله: لا يجرى لأحد إلّا جرى عليه. تقرير للحقّ عليهم و توطين لنفوسهم عليه، و لا يجرى عليه إلّا جرى له تسكين لنفوسهم بذكر الحقّ لهم. ثمّ أعاد تقرير الحقّ عليهم بحجّة في صورة متّصلة، و هى لو كان لأحد أن يجرى له الحقّ و لا يجرى عليه لكان اللّه تعالى هو الأولى بخلوص ذلك له دون خلقه. ثمّ بيّن الملازمة بقوله: لقدرته. إلى قوله: صروف قضائه: أى لكونه قادرا على عباده و على الانتصاف منهم مع كونه لا يستحقّ عليه شي‏ء لهم لعدله فيهم في كلّ ما جرت به مقاديره الّتي هى صروف قضائه فكان أولى بخلوص ذلك دونهم، و بيّن استثناء نقيض التالى باستثناء ملزومه و هو قوله: و لكنّه تعالى جعل. إلى قوله: أهله، و معناه لكنّه تعالى جعل لنفسه على عباده حقّا هو طاعتهم له ليثبت لهم بذلك حقّا يكون جزاء طاعتهم له فقد ثبت أنّه لم يخلص ذلك للّه تعالى بل كما أوجب على عباده حقّا له أوجب لهم على نفسه بذلك حقّا. فإذن لا يجرى لأحد حقّ إلّا جرى عليه و هو نقيض المقدّم، و في قوله: مضاعفة الثواب. إلى قوله: أهله تنبيه لهم على أنّ الحقّ الّذي أوجبه على نفسه أعظم ممّا أوجب لها مع أنّه ليس بحقّ وجب عليه بل بفضل منه عليهم ممّا هو أهله من مزيد النعمة ليتخلّقوا بأخلاق اللّه في أداء ما وجب عليهم من الحقّ بأفضل وجوهه و يقابلوا ذلك التفضّل بمزيد الشكر، و تلك المضاعفة كما في قوله تعالى مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها«» و نحوه. و قوله: ثمّ جعل سبحانه. إلى قوله: ببعض. كالمقدّمة لما يريد أن ينبّه من كون حقّه عليهم واجبا من قبل اللّه تعالى و هو حقّ من حقوقه ليكون أدعى لهم إلى أدائه. و بيّن فيها أنّ حقوق الخلق بعضهم على بعض من حقّ اللّه تعالى من حيث إنّ حقّه على عباده هو الطاعة، و أداء تلك الحقوق طاعات للّه كحقّ الوالد على ولده و بالعكس، و حقّ الزوج على الزوجة، و حقّ الوالى على الرعيّة و بالعكس. و قوله: فجعلها تتكافأ في وجوهها. أى جعل كلّ وجه من تلك الحقوق مقابلا لمثله فحقّ الوالى و هو الطاعة من الرعيّة مقابل لمثله منه و هو العدل فيهم و حسن السيرة، و لا يستوجب كلّ من‏ الحقّين إلّا بالآخر. ثمّ قال: و أعظم ما افترض اللّه من تلك الحقوق حقّ الوالى على الرعيّة و حقّ الرعيّة على الوالى لأنّ هذين الحقّين أمرين كلّيّين تدور عليها أكثر المصالح في المعاش و المعاد، و أكّد ذلك بقوله: فريضة فرضها اللّه سبحانه لكلّ على كلّ: أى ذلك فريضة.

و قوله: فجعلها نظاما. إلى قوله: عند العباد.
إشارة إلى لوازم حقّ الوالى على الرعيّة و حقّ الرعيّة على الوالى:
(ا) إنّ اللّه تعالى جعل تلك الحقوق سببا لالفتهم إن أدّى كلّ إلى كلّ حقّه، و قد بيّنا فيما سلف غير مرّة أنّ الفتهم من أعزّ مطالب الشارع، و أنّها مطلوبة من اجتماع الخلق على الصلاة في المساجد: في كلّ يوم خمس مرّات، و في كلّ اسبوع مرّة في الجمعة، و في كلّ سنة مرّتين في الأعياد. و التناصف و الاجتماع في طاعة الإمام العادل من موجبات الانس و الالفة و المحبّة في اللّه حتّى يكون الناس كلّهم كرجل واحد عالم بما يصلحه و متّبع له و بما يفسده و مجتنب عنه. (ب) أنّه جعل تلك الحقوق عزّا لدينهم، و ظاهر أنّ الاجتماع إذا كان سببا للالفة و المحبّة كان سببا عظيما للقوّة و لقهر الأعداء و إعزاز الدين. ثمّ أكّد القول في أنّ صلاح الرعيّة منوط بصلاح الولاة، و هو أمر قد شهدت به العقول و توافقت عليه الآراء الحقّة، و إليه أشار القائل: تهدى الرعيّة ما استقام الرئيس.

و قول الآخر:
تهدى الامور بأهل الرأي ما صلحت فإن تولّت فبا لأشرار تنقاد

و كذلك صلاح حال الولاة منوط بصلاح الرعيّة و استقامتهم في طاعتهم، و فساد أحوالهم بعصيانهم و مخالفتهم. فإذا أدّى كلّ من الوالى و الرعيّة الحقّ إلى صاحبه عزّ الحقّ بينهم و لم يكن له مخالف. (ج) من لوازم ذلك قيام مناهج الدين و طرقه بالاستقامة على قوانينه و العمل بها.

(د) و اعتدال معالم العدل و مظانّه بحيث لاجور فيها.

(ه) و جريان السنن على وجوهها و مسالكها بحيث لا تحريف فيها.

(و) صلاح الزمان بذلك. و نسبة الصلاح إليه مجاز. إذ الصلاح في الحقيقة يعود إلى حال أهل الزمان و انتظام امورهم في معاشهم و معادهم، و إنّما يوصف بالصلاح و الفساد باعتبار وقوعهما فيه و كونه من الأسباب المعدّة لهما.

(ز) من لوازم ذلك الطمع في بقاء الدولة و يأس مطامع الأعداء في فسادها و هدمها. و قوله: فإذا غلبت. إلى قوله: عند العباد. إشارة إلى ما يلزم عصيان الرعيّة للإمام أو حيفه هو عليهم و إجحافه بهم في الفساد: (ا) اختلاف الكلمة، و كنّى به عن اختلاف الآراء و التفرّق بسببه. (ب) ظهور معالم الجور و علاماته، و هو ظاهر لعدم العدل بعدم أسبابه. (ج) كثرة الفساد في الدين، و ذلك لتبدّد الأهواء و تفّرقها عن رأى الإمام العادل الجامع لها، و أخذ كلّ فيما يشتهيه ممّا هو مفسد للدين و مخالف له. (د) ترك محاجّ السنن و طرقها. فمن الإمام لجوره، و من الرعيّة لتبدّد نظام آرائها. (ه) العمل بالهوى. و علّته ما مرّ. (و) تعطيل الأحكام الشرعيّة، و هو لازم للعمل بالهوى. (ز) و كثرة علل النفوس، و عللها أمراضها بملكات السوء كالغلّ و الحسد و العداوات و العجب و الكبر و نحوها، و قيل: عللها وجوه ارتكابها للمنكرات فيأتى في كلّ منكر بوجه و علّة و رأى فاسد. (ح) فلا يستوحش بعظيم حقّ عطّل، و ذلك للانس بتعطيله، و لا بعظيم باطل فعل، و ذلك لاعتياده و الاتّفاق عليه و كونه مقتضى الأهويه. (ط) فهنالك تذلّ الأبرار لذلّة الحقّ المعطّل الّذي هم أهله و كان غيرهم بغيره.(ى) و تعزّ الأشرار لعزّة الباطل الّذي هم عليه بعد ذلّهم بعزّة الحقّ. (يا) و تعظم تبعات اللّه على العباد: أى عقوباته بسبب خروجهم عن طاعته. و لمّا بيّن لوازم طاعته و عصيانه قال: فعليكم بالتناصح في ذلك: أى في ذلك الحقّ، و حسن التعاون عليه.

و قوله: فليس أحد. إلى قوله: من الطاعة له. تأكيد لأمره بالمبالغة في طاعة اللّه: أى قليل من الناس يبلغ بطاعته للّه تعالى ما هو أهله منها و إن اشتدّ حرصه على إرضائها بالعمل و طال فيه اجتهاده، و لكن على العباد من ذلك مبلغ جهدهم في النصيحة و التعاون على إقامة حقّ اللّه بينهم بقدر الإمكان لا بقدر ما يستحقّه هو تعالى فإنّ ذلك غير ممكن. و قوله: و ليس امرؤ و إن عظمت. إلى قوله: حمّله اللّه تعالى من حقّه. أى أنّه و إن بلغ المرء أىّ درجة كانت من طاعة اللّه فهو محتاج إلى أن يعان عليها، و ليس هو بأرفع من أن يعان على ما حمّله اللّه منها، و ذلك أنّ تكليف اللّه تعالى بطاعته بحسب وسع المكلّف، و الوسع في بعض العبادات قد يكون مشروطا بمعونة الغير فيها فلا يستغنى أحد منها. و قوله: و لا امرء و إن صغّرته النفوس. إلى قوله: أو يعان عليه.
إشارة إلى أنّه لا ينبغي أن يزدرى أحد عن الاستعانة في طاعة اللّه أو أن يعان عليها
فإنّه و إن احتقرته النفوس فليس بدون أن يعين على طاعة اللّه و أداء حقّه و لو بقبول الصدقات و نحوها أو تعاونوا عليها بإعطاء ما يسدّ خلّتهم أو يدفع عنهم ضررا كالجاه، و لفظ الاقتحام استعارة، و وجهها أنّ الّذي تحتقره النفوس تجبّرا عليه و تعبره العيون عبور الاحتقار فكأنّها قد اقتحمته. و غرض هذا الكلام الحثّ على استعانة بعض ببعض و على الالفة و الاتّحاد في‏ الدين، و أن لا يزدرى فقير لفقره و لا ضعيف لضعفه، و أن لا يستغنى غنىّ عن فقير فلا يلتفت إليه و لا قوىّ عن ضعيف فيحتقره بل أن يكون الكلّ كنفس واحدة. و أمّا قوله لمن أكثر عليه الثناء فحاصله التأديب على الإطراء أو النهى عن الغلوّ في الثناء على الإنسان في وجهه‏ بالفضائل و إن كانت حقّه، و سرّه أنّ ذلك يستلزم في كثير من الناس الكبر و العجب بالنفس و العمل.

فقوله: إنّ من حقّ من عظم. إلى قوله: إحسانه إليه. مقدّمة في الجواب بيّن فيها أنّ من عظمت نعمة اللّه عليه و لطف إحسانه إليه فحقّه أن يصغر عنده كلّ ما سواه بقياس من الشكل الأوّل، و تقدير صغراه أنّ من عظمت نعم اللّه عليه و لطف إحسانه إليه فهو أحقّ الناس بتعظيم جلال اللّه في نفسه و إجلال موضعه من قلبه، و تقدير كبراه و كلّ من كان أحقّ بذلك فمن حقّه أن يصغر كلّ ما سواه عنده، و دلّ على الكبرى بقوله: لعظم ذلك: أى لعظم جلال اللّه في قلبه يجب أن يصغر عنده كلّ شي‏ء سواه، و هذه المقدّمة و إن كانت عامّة إلّا أنّ الإشارة الحاضرة بها إلى نفسه، و ذلك أنّ أعظم نعمة اللّه في الدنيا خلافة المسلمين، و في الآخرة ما هو عليه من الكمالات النفسانيّة فكان أحقّ الناس بتعظيم جلال اللّه في نفسه، و كان بذلك من حقّه أن يصغر كلّ ما سوى اللّه في قلبه. ثمّ قال: و من أسخف حالات الولات. إلى قوله: و الكبرياء. فكأنّه قال: و من كان من حقّه أن يصغر كلّ ما سوى اللّه في قلبه فكيف يليق به أن يحبّ الفخر أو يصنع أمره على الكبر الذين لا يليقان إلّا بعظمة اللّه، أو يظنّ به ذلك و يعامل بما يعامل به الجبابرة من الخطاب به، و صرّح بأنّ المراد نفسه في قوله: و قد كرهت، إلى آخره. و قوله: و لو كنت احبّ أن يقال فيّ ذلك. يجرى مجرى تسليم الجدل: أى وهب إنّى احبّ أن يقال ذلك فيّ باعتبار ما فيه اللذّة لكنّى لو كنت كذلك لتركته باعتبار آخر، و هو الانحطاط و التصاغر عن تناول ما هو اللّه أحقّ به من العظمة و الكبرياء، و نبّه في ذلك على أنّ الإطراء يستلزم التكبّر و التعظيم فكان تركه له و كراهته لكونه مستلزما لهما. و قوله: و ربّما استحلى الناس الثناء بعد البلاء. يجرى مجرى تمهيد العذر لمن أثنى عليه فكأنّه يقول: و أنت معذور في‏ ذلك حيث رأيتنى اجاهد في اللّه و أحثّ الناس على ذلك، و من عادة الناس أن يستحلوا الثناء عند أن يبلوا بلاء حسنا في جهاد أو غيره من ساير الطاعات. ثمّ أجاب عن هذا العذر في نفسه بقوله: فلا تثنوا علىّ بجميل ثناء، إلى قوله: من إمضائها، و أراد فلا تثنوا علىّ لأجل ما ترونه منّى من طاعة اللّه فإنّ ذلك إنّما هو إخراج لنفسى إلى اللّه من الحقوق الباقية علىّ لم أفرغ بعد من أدائها و هى حقوق نعمه، و من فرائضه الّتي لا بدّ من المضى فيها، و كذلك إليكم من الحقوق الّتي أوجبها اللّه علىّ لكم من النصيحة في الدين و الارشاد إلى الطريق الأقصد و التعليم لكيفيّة سلوكه، و في خطّ الرضى- رحمه اللّه- من التقيّة بالتاء، و المعنى فإنّ الّذي أفعله من طاعة اللّه إنّما هو إخراج لنفسى إلى اللّه و إليكم من تقيّة الحقّ فيما يجب علىّ من الحقوق إذ كان عليه السّلام إنّما يعبد اللّه للّه غير ملتفت في شي‏ء من عبادته و أداء واجب حقّه إلى أحد سواء خوفا منه أو رغبة إليه، و كأنّه قال: لم أفعل شيئا إلّا و هو ذا حقّ وجب علىّ و إذا كان كذلك فكيف أستحقّ أن يثنى علىّ لأجله بثناء جميل و اقابل بهذا التعظيم، و هو من باب التواضع للّه و تعليم كيفيّته و كسر النفس عن محبّة الباطل و الميل إليه.

و قوله: فلا تكلّمونى. إلى قوله: بعدل.
إرشاد لهم إلى ما ينبغي أن يكونوا عليه من السيرة عنده و نهاهم من امور:
(ا) أن لا يكلّموه بكلام الجبابرة لما فيه من إغراء النفس، و لأنّه عليه السّلام ليس بجبّار فيكون ذلك منهم وصفا للشي‏ء في غير موضعه. (ب) أن لا يتحفّظوا منه بما يتحفّظ به عند أهل البادرة و سرعة الغضب من الملوك و غيرهم، و ذلك التحفّظ كتكلّف ترك المساورة و الحديث إجلالا و خوفا منه أو كترك مشاورته أو إعلامه ببعض الامور أو كالقيام بين يديه فإنّ ذلك التحفّظ قد يفوت به مصالح كثيرة، و لأنّه ممّا يغرى النفس بحبّ الفخر و العجب، و لأنّه وضع للشي‏ء في غير موضعه. (ج) أن لا تخالطوه بالمصانعة و النفاق لما فيه من فساد الدين و الدنيا.(د) أن لا يظنّوا به استثقالا لحقّ يقال له و إن كان فيه مرارة، و استعار لفظ المرار لشدّة الحقّ و صعوبته فإنّ عدله عليه السّلام و ما يستلزمه من قبول الحقّ كيف كان يرشد إلى أن لا يظنّوا به أنّه يلتمس الإعظام لنفسه، و ذلك لمعرفته بمن هو أهله دونه و هو اللّه تعالى. و قوله: فإنّه من استثقل. إلى قوله: أثقل. قياس ضمير من الشكل الثاني بيّن فيه أنّه لا يستثقل قول الحقّ له و عرض العدل عليه ليزول ظنّ من ظنّ ذلك به، و المذكور هو صغرى القياس و تلخيصها أنّ من استثقل قول الحقّ له و عرض العدل عليه كان العمل الحقّ و العدل عليه ثقيلا بطريق أولى، و تقدير الكبرى و لا شي‏ء من العمل بهما بثقيل علىّ أمّا الصغرى فظاهرة لأنّ تكلّف فعل الحقّ أصعب على النفس من سماع وصفه، و أمّا الكبرى فلأنّه عليه السّلام يعمل بهما من غير تكلّف و استثقال كما هو المعلوم من حاله فينتج أنّه لا شي‏ء من قول الحقّ له و عرض العدل عليه بثقيل. (ه) أن لا يكفّوا عن قول حقّ و مشورة بعدل لما في الكفّ عن ذلك من المفسدة.
و قوله: فإنّى لست. إلى قوله: منّى. من قبيل التواضع الباعث لهم على الانبساط معه بقول الحقّ، و في قوله: إلّا أن يكفى اللّه من نفسى: أى من نفسى الأمّارة بالسوء ما هو أقوى منّى على دفعه و كفايته من شرورها، و هو إسناد العصمة إلى اللّه تعالى. و قوله: فإنّما أنا و أنتم. إلى آخر. تأديب في الانقياد للّه و تذليل لعظمته، و ظاهر كونه تعالى يملك من أنفسنا و ميولها و خواطرها. إذ الكلّ منه و هو مبدء فيضه و الاستعداد له. و قوله: و أخرجنا ممّا كنّا فيه.
أى من الضلالة في الجاهليّة و عمى الجهل فيها عن إدراك الحقّ و سلوك‏ سبيل اللّه إلى ما صلحنا عليه: أى من الهدى بسبيل اللّه و البصيرة لما ينبغي من مصالح الدارين، و ذلك ببعثة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و ظهور نور النبوّة عنه.

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 4 ، صفحه‏ى 38

دیدگاه‌ها

دیدگاهتان را بنویسید

نشانی ایمیل شما منتشر نخواهد شد. بخش‌های موردنیاز علامت‌گذاری شده‌اند *

این سایت از اکیسمت برای کاهش هرزنامه استفاده می کند. بیاموزید که چگونه اطلاعات دیدگاه های شما پردازش می‌شوند.