173 و من خطبة له ع
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَا تُوَارِي عَنْهُ سَمَاءٌ سَمَاءً- وَ لَا أَرْضٌ أَرْضاً هذا الكلام يدل على إثبات أرضين بعضها فوق بعض- كما أن السماوات كذلك- و لم يأت في الكتاب العزيز ما يدل على هذا إلا قوله تعالى- اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَ مِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ- و هو قول كثير من المسلمين- . و قد تأول ذلك أرباب المذهب الآخر- القائلون بأنها أرض واحدة- فقالوا إنها سبعة أقاليم- فالمثلية هي من هذا الوجه- لا من تعدد الأرضين في ذاتها- . و يمكن أن يتأول مثل ذلك كلام أمير المؤمنين ع- فيقال إنها و إن كانت أرضا واحدة- لكنها أقاليم و أقطار مختلفة و هي كرية الشكل- فمن على حدبة الكرة لا يرى من تحته و من تحته لا يراه- و من على أحد جانبيها لا يرى من على الجانب الآخر- و الله تعالى يدرك ذلك كله أجمع- و لا يحجب عنه شيء منها بشيء منها- .
فأما قوله ع لا تواري عنه سماء سماء- فلقائل أن يقول- و لا يتوارى شيء من السماوات عن المدركين منا- لأنها شفافة فأي خصيصة للباري تعالى في ذلك- فينبغي أن يقال هذا الكلام على قاعدة غير القاعدة الفلسفية- بل هو على قاعدة الشريعة الإسلامية- التي تقتضي أن السماوات تحجب ما وراءها- عن المدركين بالحاسة- و أنها ليست طباقا متراصة- بل بينها خلق من خلق الله تعالى لا يعلمهم غيره- و اتباع هذا القول و اعتقاده أولى منها- :
وَ قَدْ قَالَ قَائِلٌ إِنَّكَ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ يَا ابْنَ أَبِي طَالِبٍ لَحَرِيصٌ- فَقُلْتُ بَلْ أَنْتُمْ وَ اللَّهِ لَأَحْرَصُ وَ أَبْعَدُ وَ أَنَا أَخَصُّ وَ أَقْرَبُ- وَ إِنَّمَا طَلَبْتُ حَقّاً لِي وَ أَنْتُمْ تَحُولُونَ بَيْنِي وَ بَيْنَهُ- وَ تَضْرِبُونَ وَجْهِي دُونَهُ- فَلَمَّا قَرَّعْتُهُ بِالْحُجَّةِ فِي الْمَلَإِ الْحَاضِرِينَ- هَبَّ كَأَنَّهُ بُهِتَ لَا يَدْرِي مَا يُجِيبُنِي بِهِ- اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَعْدِيكَ عَلَى قُرَيْشٍ وَ مَنْ أَعَانَهُمْ- فَإِنَّهُمْ قَطَعُوا رَحِمِي وَ صَغَّرُوا عَظِيمَ مَنْزِلَتِيَ- وَ أَجْمَعُوا عَلَى مُنَازَعَتِي أَمْراً هُوَ لِي- ثُمَّ قَالُوا أَلَا إِنَّ فِي الْحَقِّ أَنْ تَأْخُذَهُ وَ فِي الْحَقِّ أَنْ تَتْرُكَهُ هذا من خطبة يذكر فيها ع ما جرى يوم الشورى- بعد مقتل عمر- و الذي قال له إنك على هذا الأمر لحريص- سعد بن أبي وقاص مع روايته فيه- أنت مني بمنزلة هارون من موسى و هذا عجب فقال لهم- بل أنتم و الله أحرص و أبعد… الكلام المذكور- و قد رواه الناس كافة- . و قالت الإمامية هذا الكلام يوم السقيفة- و الذي قال له إنك على هذا الأمر لحريص أبو عبيدة بن الجراح- و الرواية الأولى أظهر و أشهر- .
و روي فلما قرعته بالتخفيف أي صدمته بها- . و روي هب لا يدري ما يجيبني- كما تقول استيقظ و انتبه- كأنه كان غافلا ذاهلا عن الحجة فهب لما ذكرتها- . أستعديك- أطلب أن تعديني عليهم و أن تنتصف لي منهم- . قطعوا رحمي لم يرعوا قربه من رسول الله ص- . و صغروا عظيم منزلتي- لم يقفوا مع النصوص الواردة فيه- . و أجمعوا على منازعتي أمرا هو لي- أي بالأفضلية أنا أحق به منهم- هكذا ينبغي أن يتأول كلامه- . و كذلك قوله إنما أطلب حقا لي و أنتم تحولون بيني و بينه- و تضربون وجهي دونه- . قال ثم قالوا ألا إن في الحق أن تأخذه- و في الحق أن تتركه- قال لم يقتصروا على أخذ حقي ساكتين عن الدعوى- و لكنهم أخذوه و ادعوا أن الحق لهم- و أنه يجب علي أن أترك المنازعة فيه- فليتهم أخذوه معترفين بأنه حقي- فكانت المصيبة به أخف و أهون- . و اعلم أنه قد تواترت الأخبار عنه ع بنحو من هذا القول- نحو
قوله ما زلت مظلوما منذ قبض الله رسوله- حتى يوم الناس هذا
وقوله اللهم أخز قريشا- فإنها منعتني حقي و غصبتني أمري
وقوله فجزى قريشا عني الجوازي- فإنهم ظلموني حقي و اغتصبوني سلطان ابن أمي
وقوله و قد سمع صارخا ينادي أنا مظلوم- فقال هلم فلنصرخ معا فإني ما زلت مظلوما
وقوله و إنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى
وقوله أرى تراثي نهبا
وقوله أصغيا بإنائنا و حملا الناس على رقابنا
وقوله إن لنا حقا إن نعطه نأخذه- و إن نمنعه نركب أعجاز الإبل و إن طال السرى
وقوله ما زلت مستأثرا علي- مدفوعا عما أستحقه و أستوجبه
و أصحابنا يحملون ذلك كله على ادعائه الأمر- بالأفضلية و الأحقية و هو الحق و الصواب- فإن حمله على الاستحقاق بالنص تكفير أو تفسيق- لوجوه المهاجرين و الأنصار- و لكن الإمامية و الزيدية حملوا هذه الأقوال على ظواهرها- و ارتكبوا بها مركبا صعبا- و لعمري إن هذه الألفاظ- موهمة مغلبة على الظن ما يقوله القوم- و لكن تصفح الأحوال يبطل ذلك الظن- و يدرأ ذلك الوهم- فوجب أن يجري مجرى الآيات المتشابهات الموهمة- ما لا يجوز على البارئ فإنه لا نعمل بها- و لا نعول على ظواهرها- لأنا لما تصفحنا أدلة العقول- اقتضت العدول عن ظاهر اللفظ- و أن تحمل على التأويلات المذكورة في الكتب- .
و حدثني يحيى بن سعيد بن علي الحنبلي المعروف بابن عالية- من ساكني قطفتا بالجانب الغربي من بغداد- و أجد الشهود المعدلين بها- قال كنت حاضرا مجلس الفخر إسماعيل بن علي الحنبلي- الفقيه المعروف بغلام بن المنى- و كان الفخر إسماعيل بن علي هذا- مقدم الحنابلة ببغداد في الفقه و الخلاف- و يشتغل بشيء في علم المنطق و كان حلو العبارة- و قد رأيته أنا و حضرت عنده و سمعت كلامه- و توفي سنة عشر و ستمائة- . قال ابن عالية و نحن عنده نتحدث- إذ دخل شخص من الحنابلة- قد كان له دين على بعض أهل الكوفة- فانحدر إليه يطالبه به- و اتفق أن حضرت زيارة يوم الغدير- و الحنبلي المذكور بالكوفة- و هذه الزيارة هي اليوم الثامن عشر من ذي الحجة- و يجتمع بمشهد أمير المؤمنين ع- من الخلائق جموع عظيمة- تتجاوز حد الإحصاء- .
قال ابن عالية فجعل الشيخ الفخر يسأل ذلك الشخص- ما فعلت ما رأيت هل وصل مالك إليك- هل بقي لك منه بقية عند غريمك و ذلك يجاوبه- حتى قال له يا سيدي لو شاهدت يوم الزيارة يوم الغدير- و ما يجري عند قبر علي بن أبي طالب- من الفضائح و الأقوال الشنيعة- و سب الصحابة جهارا بأصوات مرتفعة- من غير مراقبة و لا خيفة- فقال إسماعيل أي ذنب لهم و الله ما جراهم على ذلك- و لا فتح لهم هذا الباب إلا صاحب ذلك القبر- فقال ذلك الشخص و من صاحب القبر- قال علي بن أبي طالب- قال يا سيدي هو الذي سن لهم ذلك- و علمهم إياه و طرقهم إليه قال نعم و الله- قال يا سيدي فإن كان محقا فما لنا أن نتولى فلانا و فلانا- و إن كان مبطلا فما لنا نتولاه- ينبغي أن نبرأ إما منه أو منهما- .
قال ابن عالية فقام إسماعيل مسرعا فلبس نعليه- و قال لعن الله إسماعيل الفاعل- إن كان يعرف جواب هذه المسألة- و دخل دار حرمه و قمنا نحن و انصرفنا: مِنْهَا فِي ذِكْرِ أَصْحَابِ الْجَمَلِ- فَخَرَجُوا يَجُرُّونَ حُرْمَةَ رَسُولِ اللَّهِ ص- كَمَا تُجَرُّ الْأَمَةُ عِنْدَ شِرَائِهَا-مُتَوَجِّهِينَ بِهَا إِلَى الْبَصْرَةِ- فَحَبَسَا نِسَاءَهُمَا فِي بُيُوتِهِمَا- وَ أَبْرَزَا حَبِيسَ رَسُولِ اللَّهِ ص لَهُمَا وَ لِغَيْرِهِمَا- فِي جَيْشٍ مَا مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلَّا وَ قَدْ أَعْطَانِيَ الطَّاعَةَ- وَ سَمَحَ لِي بِالْبَيْعَةِ طَائِعاً غَيْرَ مُكْرَهٍ- فَقَدِمُوا عَلَى عَامِلِي بِهَا- وَ خُزَّانِ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ وَ غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِهَا- فَقَتَلُوا طَائِفَةً صَبْراً وَ طَائِفَةً غَدْراً- فَوَاللَّهِ إِنْ لَوْ لَمْ يُصِيبُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ- إِلَّا رَجُلًا وَاحِداً مُعْتَمِدِينَ لِقَتْلِهِ- بِلَا جُرْمٍ جَرَّهُ لَحَلَّ لِي قَتْلُ ذَلِكَ الْجَيْشِ كُلِّهِ- إِذْ حَضَرُوهُ فَلَمْ يُنْكِرُوا- وَ لَمْ يَدْفَعُوا عَنْهُ بِلِسَانٍ وَ لَا بِيَدٍ- دَعْ مَا إِنَّهُمْ قَدْ قَتَلُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ- مِثْلَ الْعِدَّةِ الَّتِي دَخَلُوا بِهَا عَلَيْهِمْ حرمة رسول الله ص كناية عن الزوجة- و أصله الأهل و الحرم- و كذلك حبيس رسول الله ص كناية عنها- . و قتلوهم صبرا أي بعد الأسر- و قوله فو الله إن لو لم يصيبوا إن هاهنا زائدة- و يجوز أن تكون مخففة من الثقيلة- .
و يسأل عن قوله ع- لو لم يصيبوا إلا رجلا واحدا- لحل لي قتل ذلك الجيش بأسره- لأنهم حضروه فلم ينكروا- فيقال أ يجوز قتل من لم ينكر المنكر مع تمكنه من إنكاره- . و الجواب أنه يجوز قتلهم- لأنهم اعتقدوا ذلك القتل مباحا- فإنهم إذا اعتقدوا إباحته- فقد اعتقدوا إباحة ما حرم الله- فيكون حالهم حال من اعتقد أن الزنا مباح- أو أن شرب الخمر مباح- .
و قال القطب الراوندي- يريد أنهم داخلون في عموم قوله تعالى- إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ- وَ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا- . و لقائل أن يقول الإشكال إنما وقع في قوله- لو لم يصيبوا من المسلمين إلا رجلا واحدا- لحل لي قتل ذلك الجيش بأسره- لأنهم حضروا المنكر و لم يدفعوه بلسان و لا يد- فهو علل استحلاله قتلهم بأنهم لم ينكروا المنكر- و لم يعلل ذلك بعموم الآية- . و أما معنى قوله دع ما إنهم قد قتلوا من المسلمين- مثل العدة التي دخلوا بها عليهم- فهو أنه لو كان المقتول واحدا لحل لي قتلهم كلهم- فكيف و قد قتلوا من المسلمين عدة مثل عدتهم- التي دخلوا بها البصرة و ما هاهنا زائدة- . و صدق ع فإنهم قتلوا من أوليائه- و خزان بيت المال بالبصرة خلقا كثيرا- بعضهم غدرا و بعضهم صبرا كما خطب به ع
ذكر يوم الجمل و مسير عائشة إلى القتال
و روى أبو مخنف قال حدثنا إسماعيل بن خالد- عن قيس بن أبي حازم و روى الكلبي- عن أبي صالح عن ابن عباس- و روى جرين بن يزيد عن عامر الشعبي- و روى محمد بن إسحاق عن حبيب بن عمير قالوا جميعا- لما خرجت عائشة و طلحة و الزبير من مكة إلى البصرة- طرقت ماء الحوأب و هو ماء لبني عامر بن صعصعة- فنبحتهم الكلاب فنفرت صعاب إبلهم- فقال قائل منهم- لعن الله الحوأب فما أكثر كلابها- فلما سمعت عائشة ذكر الحوأب- قالت أ هذا ماء الحوأب قالوا نعم- فقالت ردوني ردوني- فسألوها ما شأنها ما بدا لها-فقالت إني سمعت رسول الله ص يقول كأني بكلابماء يدعى الحوأب قد نبحت بعض نسائي- ثم قال لي إياك يا حميراء أن تكونيها- فقال لها الزبير مهلا يرحمك الله- فإنا قد جزنا ماء الحوأب بفراسخ كثيرة- فقالت أ عندك من يشهد بأن هذه الكلاب النابحة- ليست على ماء الحوأب- فلفق لها الزبير و طلحة خمسين أعرابيا جعلا لهم جعلا- فحلفوا لها و شهدوا أن هذا الماء ليس بماء الحوأب- فكانت هذه أول شهادة زور في الإسلام- فسارت عائشة لوجهها- .
قال أبو مخنف و حدثنا عصام بن قدامة عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله ص قال يوما لنسائه و هن عنده جميعا- ليت شعري أيتكن صاحبة الجمل الأدبب- تنبحها كلاب الحوأب- يقتل عن يمينها و شمالها قتلى كثيرة- كلهم في النار و تنجو بعد ما كادت- . قلت و أصحابنا المعتزلة رحمهم الله- يحملون قوله ع و تنجو على نجاتها من النار- و الإمامية يحملون ذلك على نجاتها من القتل- و محملنا أرجح- لأن لفظة في النار أقرب إليه من لفظة القتلى- و القرب معتبر في هذا الباب- أ لا ترى أن نحاة البصريين أعملوا أقرب العاملين- نظرا إلى القرب- .
قال أبو مخنف و حدثني الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس- أن الزبير و طلحة أغذا السير بعائشة- حتى انتهوا إلى حفر أبي موسى الأشعري- و هو قريب من البصرة- و كتبا إلى عثمان بن حنيف الأنصاري- و هو عامل علي ع على البصرة- أن أخل لنا دار الإمارة- فلما وصل كتابهما إليه بعث الأحنف بن قيس- فقال له إن هؤلاء القوم قدموا علينا و معهم زوجة رسول الله- و الناس إليها سراع كما ترى- فقال الأحنفإنهم جاءوك بها للطلب بدم عثمان- و هم الذين ألبوا على عثمان الناس و سفكوا دمه- و أراهم و الله لا يزايلون حتى يلقوا العداوة بيننا- و يسفكوا دماءنا- و أظنهم و الله سيركبون منك خاصة ما لا قبل لك به- إن لم تتأهب لهم بالنهوض إليهم- فيمن معك من أهل البصرة- فإنك اليوم الوالي عليهم- و أنت فيهم مطاع فسر إليهم بالناس- و بادرهم قبل أن يكونوا معك في دار واحدة- فيكون الناس لهم أطوع منهم لك- .
فقال عثمان بن حنيف الرأي ما رأيت- لكنني أكره الشر و أن أبدأهم به- و أرجو العافية و السلامة إلى أن يأتيني- كتاب أمير المؤمنين- و رأيه فأعمل به- ثم أتاه بعد الأحنف حكيم بن جبلة العبدي- من بني عمرو بن وديعة- فأقرأه كتاب طلحة و الزبير فقال له مثل قول الأحنف- و أجابه عثمان بمثل جوابه للأحنف- فقال له حكيم فأذن لي حتى أسير إليهم بالناس- فإن دخلوا في طاعة أمير المؤمنين- و إلا نابذتهم على سواء- . فقال عثمان لو كان ذلك رأيي لسرت إليهم نفسي- قال حكيم أما و الله إن دخلوا عليك هذا المصر- لينتقلن قلوب كثير من الناس إليهم- و ليزيلنك عن مجلسك هذا- و أنت أعلم فأبى عليه عثمان- .
قال و كتب علي إلى عثمان لما بلغه مشارفة القوم البصرة من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى عثمان بن حنيف أما بعد- فإن البغاة عاهدوا الله ثم نكثوا- و توجهوا إلى مصرك- و ساقهم الشيطان لطلب ما لا يرضى الله به- و الله أشد بأسا و أشد تنكيلا- فإذا قدموا عليك فادعهم إلى الطاعة- و الرجوع إلى الوفاء بالعهد- و الميثاق الذي فارقونا عليه- فإن أجابوا فأحسن جوارهم ما دامواعندك- و إن أبو إلا التمسك بحبل النكث و الخلاف- فناجزهم القتال حتى يحكم الله بينك و بينهم- و هو خير الحاكمين- و كتبت كتابي هذا إليك من الربذة- و أنا معجل المسير إليك إن شاء الله- .
و كتبه عبيد الله بن أبي رافع في سنة ست و ثلاثين قال فلما وصل كتاب علي ع إلى عثمان- أرسل إلى أبي الأسود الدؤلي- و عمران بن الحصين الخزاعي- فأمرهما أن يسيرا حتى يأتياه بعلم القوم- و ما الذي أقدمهم- فانطلقا حتى إذا أتيا حفر أبي موسى و به معسكر القوم- فدخلا على عائشة فنالاها و وعظاها- و أذكراها و ناشداها الله- فقالت لهما القيا طلحة و الزبير- فقاما من عندها و لقيا الزبير فكلماه- فقال لهما إنا جئنا للطلب بدم عثمان- و ندعو الناس إلى أن يردوا أمر الخلافة شورى- ليختار الناس لأنفسهم- فقالا له إن عثمان لم يقتل بالبصرة ليطلب دمه فيها- و أنت تعلم قتلة عثمان من هم و أين هم- و إنك و صاحبك و عائشة كنتم أشد الناس عليه- و أعظمهم إغراء بدمه فأقيدوا من أنفسكم- و أما إعادة أمر الخلافة شورى- فكيف و قد بايعتم عليا طائعين غير مكرهين- و أنت يا أبا عبد الله لم يبعد العهد بقيامك دون هذا الرجل- يوم مات رسول الله ص- و أنت آخذ قائم سيفك تقول- ما أحد أحق بالخلافة منه و لا أولى بها منه- و امتنعت من بيعة أبي بكر- فأين ذلك الفعل من هذا القول- .
فقال لهما اذهبا فالقيا طلحة- فقاما إلى طلحة فوجداه أخشن الملمس- شديد العريكة- قوي العزم في إثارة الفتنة و إضرام نار الحرب- فانصرفا إلى عثمان بن حنيف- فأخبراه و قال له أبو الأسود-
يا ابن حنيف قد أتيت فانفر
و طاعن القوم و جالد و اصبر
و ابرز لها مستلئما و شمر
فقال ابن حنيف إي و الحرمين لأفعلن- و أمر مناديه فنادى في الناس السلاح السلاح- فاجتمعوا إليه و قال أبو الأسود-
أتينا الزبير فدانى الكلام
و طلحة كالنجم أو أبعد
و أحسن قوليهما فادح
يضيق به الخطب مستنكد
و قد أوعدونا بجهد الوعيد
فأهون علينا بما أوعدوا
فقلنا ركضتم و لم ترملوا
و أصدرتم قبل أن توردوا
فإن تلقحوا الحرب بين الرجال
فملقحها حده الأنكد
و إن عليا لكم مصحر
ألا إنه الأسد الأسود
أما إنه ثالث العابدين
بمكة و الله لا يعبد
فرخوا الخناق و لا تعجلوا
فإن غدا لكم موعد
قال و أقبل القوم فلما انتهوا إلى المربد- قام رجل من بني جشم فقال- أيها الناس أنا فلان الجشمي و قد أتاكم هؤلاء القوم- فإن كانوا أتوكم خائفين- لقد أتوكم من المكان الذي يأمن فيه الطير- و الوحش و السباع- و إن كانوا إنما أتوكم بطلب دم عثمان فغيرنا ولي قتله- فأطيعوني أيها الناس و ردوهم من حيث أقبلوا- فإنكم إن لم تفعلوا لم تسلموا من الحرب الضروس- و الفتنة الصماء التي لا تبقي و لا تذر- . قال فحصبه ناس من أهل البصرة فأمسك- .
قال و اجتمع أهل البصرة إلى المربد- حتى ملئوه مشاة و ركبانا- فقام طلحة فأشار إلى الناس بالسكون ليخطب- فسكتوا بعد جهد فقال أما بعد- فإن عثمان بن عفان كان من أهل السابقة و الفضيلة- و من المهاجرين الأولين الذي رضي الله عنهم و رضوا عنه-و نزل القرآن ناطقا بفضلهم- و أحد أئمة المسلمين الوالين عليكم- بعد أبي بكر و عمر صاحبي رسول الله ص- و قد كان أحدث أحداثا نقمنا عليه- فأتيناه فاستعتبناه فأعتبنا- فعدا عليه امرؤ ابتز هذه الأمة أمرها- غصبا بغير رضا منها و لا مشورة فقتله- و ساعده على ذلك قوم غير أتقياء و لا أبرار- فقتل محرما بريئا تائبا- و قد جئناكم أيها الناس نطلب بدم عثمان- و ندعوكم إلى الطلب بدمه- فإن نحن أمكننا الله من قتلته قتلناهم به- و جعلنا هذا الأمر شورى بين المسلمين- و كانت خلافة رحمة للأمة جميعا- فإن كل من أخذ الأمر من غير رضا من العامة- و لا مشورة منها ابتزازا- كان ملكه ملكا عضوضا و حدثا كثيرا- .
ثم قام الزبير فتكلم بمثل كلام طلحة- .فقام إليهما ناس من أهل البصرة- فقالوا لهما أ لم تبايعا عليا فيمن بايعه- ففيم بايعتما ثم نكثتما فقالا ما بايعنا- و ما لأحد في أعناقنا بيعة و إنما استكرهنا على بيعة- فقال ناس قد صدقا و أحسنا القول و قطعا بالثواب- و قال ناس ما صدقا و لا أصابا في القول- حتى ارتفعت الأصوات- . قال ثم أقبلت عائشة على جملها- فنادت بصوت مرتفع أيها الناس أقلوا الكلام و اسكتوا- فأسكت الناس لها فقالت- إن أمير المؤمنين عثمان قد كان غير و بدل- ثم لم يزل يغسل ذلك بالتوبة حتى قتل مظلوما تائبا- و إنما نقموا عليه ضربه بالسوط و تأميره الشبان- و حمايته موضع الغمامة- فقتلوه محرما في حرمة الشهر و حرمة البلد- ذبحا كما يذبح الجمل ألا و إن قريشا رمت غرضها بنبالها- و أدمت أفواهها بأيديها- و ما نالت بقتلها إياه شيئا- و لا سلكت به سبيلا قاصدا- أما و الله ليرونها بلايا عقيمة تنتبه النائم- و تقيم الجالس و ليسلطن عليهم قوم لا يرحمونهم- و يسومونهم سوء العذاب- .
أيها الناس- إنه ما بلغ من ذنب عثمان ما يستحل به دمه- مصتموه كما يماص الثوب الرحيض- ثم عدوتم عليه فقتلتموه بعد توبته و خروجه من ذنبه- و بايعتم ابن أبي طالب بغير مشورة من الجماعة- ابتزازا و غصبا- تراني أغضب لكم من سوط عثمان و لسانه- و لا أغضب لعثمان من سيوفكم- ألا إن عثمان قتل مظلوما فاطلبوا قتلته- فإذا ظفرتم بهم فاقتلوهم- ثم اجعلوا الأمر شورى بين الرهط- الذين اختارهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب- و لا يدخل فيهم من شرك في دم عثمان- . قال فماج الناس و اختلطوا- فمن قائل القول ما قالت و من قائل يقول- و ما هي و هذا الأمر إنما هي امرأة مأمورة بلزوم بيتها- و ارتفعت الأصوات- و كثر اللغط حتى تضاربوا بالنعال و تراموا بالحصى- .
ثم إن الناس تمايزوا فصاروا فريقين- فريق مع عثمان بن حنيف و فريق مع عائشة و أصحابها- . قال و حدثنا الأشعث بن سوار عن محمد بن سيرين عن أبي الخليل قال- لما نزل طلحة و الزبير المربد- أتيتهما فوجدتهما مجتمعين- فقلت لهما ناشدتكما الله و صحبة رسول الله ص- ما الذي أقدمكما أرضنا هذه- فلم يتكلما فأعدت عليهما- فقالا بلغنا أن بأرضكم هذه دنيا فجئنا نطلبها- .
قال و قد روى محمد بن سيرين- عن الأحنف بن قيس أنه لقيهما- فقالا له مثل مقالتهما الأولى- إنما جئنا لطلب الدنيا- . وقد روى المدائني أيضا نحوا مما روى أبو مخنف قال بعث علي ع ابن عباس يوم الجمل إلى الزبير قبل الحرب- فقال له إن أمير المؤمنين يقرأ عليك السلام- و يقول لكم أ لم تبايعني طائعا غير مكره- فما الذي رابك مني فاستحللت به قتالي- قال فلم يكن له جواب إلا أنه قال لي- إنا مع الخوف الشديد لنطمع لم يقل غير ذلكقال أبو إسحاق فسألت محمد بن علي بن الحسين ع- ما تراه يعني بقوله هذا فقال- أما و الله ما تركت ابن عباس حتى سألته عن هذا- فقال يقول إنا مع الخوف الشديد مما نحن عليه- نطمع أن نلي مثل الذي وليتموقال محمد بن إسحاق حدثني جعفر بن محمد ع عن أبيه عن ابن عباس قال بعثني علي ع يوم الجمل إلى طلحة و الزبير- و بعث معي بمصحف منشور و إن الريح لتصفق ورقه- فقال لي قل لهما هذا كتاب الله بيننا و بينكم- فما تريدان- فلم يكن لهما جواب إلا أن قالا نريد ما أراد- كأنهما يقولان الملك- فرجعت إلى علي فأخبرته- .
و قد روى قاضي القضاة رحمه الله في كتاب المغني- عن وهب بن جرير قال- قال رجل من أهل البصرة لطلحة و الزبير- إن لكما فضلا و صحبة- فأخبراني عن مسيركماهذا و قتالكما- أ شيء أمركما به رسول الله ص أم رأي رأيتماه- فأما طلحة فسكت و جعل ينكت في الأرض- و أما الزبير فقال ويحك- حدثنا أن هاهنا دراهم كثيرة فجئنا لنأخذ منها- .
و جعل قاضي القضاة هذا الخبر حجة في أن طلحة تاب- و أن الزبير لم يكن مصرا على الحرب- و الاحتجاج بهذا الخبر على هذا المعنى ضعيف- و إن صح هو و ما قبله إنه لدليل على حمق شديد- و ضعف عظيم و نقص ظاهر- و ليت شعري ما الذي أحوجهما إلى هذا القول- و إذا كان هذا في أنفسهما فهلا كتماه- . ثم نعود إلى خبرهما قال أبو مخنف- فلما أقبل طلحة و الزبير من المربد- يريدان عثمان بن حنيف- فوجداه و أصحابه قد أخذوا بأفواه السكك- فمضوا حتى انتهوا إلى موضع الدباغين- فاستقبلهم أصحاب ابن حنيف- فشجرهم طلحة و الزبير و أصحابهما بالرماح- فحمل عليهم حكيم بن جبلة- فلم يزل هو و أصحابه يقاتلونهم- حتى أخرجوهم من جميع السكك- و رماهم النساء من فوق البيوت بالحجارة- فأخذوا إلى مقبرة بني مازن- فوقفوا بها مليا حتى ثابت إليهم خيلهم- ثم أخذوا على مسناة البصرة- حتى انتهوا إلى الرابوقة- ثم أتوا سبخة دار الرزق فنزلوها- .
قال و أتاهما عبد الله بن حكيم التميمي- لما نزلا السبخة بكتب كانا كتباها إليه- فقال لطلحة يا أبا محمد- أ ما هذا كتبك إلينا قال بلى- قال فكتبت أمس تدعونا إلى خلع عثمان و قتله- حتى إذا قتلته أتيتنا ثائرا بدمه- فلعمري ما هذا رأيك لا تريد إلا هذه الدنيا- مهلا إذا كان هذا رأيك- فلم قبلت من علي ما عرض عليك من البيعة-فبايعته طائعا راضيا ثم نكثت بيعتك- ثم جئت لتدخلنا في فتنتك- فقال إن عليا دعاني إلى بيعته بعد ما بايع الناس- فعلمت لو لم أقبل ما عرضه علي لم يتم لي- ثم يغرى بي من معه- .
قال ثم أصبحنا من غد فصفا للحرب- و خرج عثمان بن حنيف إليهما في أصحابه- فناشدهما الله و الإسلام- و أذكرهما بيعتهما عليا ع- فقالا نطلب بدم عثمان- فقال لهما و ما أنتما و ذاك أين بنوه- أين بنو عمه الذين هم أحق به منكم كلا و الله- و لكنكما حسدتماه حيث اجتمع الناس عليه- و كنتما ترجوان هذا الأمر و تعملان له- و هل كان أحد أشد على عثمان قولا منكما- فشتماه شتما قبيحا و ذكرا أمه- فقال للزبير أما و الله لو لا صفية و مكانها من رسول الله- فإنها أدنتك إلى الظل- و أن الأمر بيني و بينك يا ابن الصعبة يعني طلحة أعظم من القول- لأعلمتكما من أمركما ما يسوءكما- اللهم إني قد أعذرت إلى هذين الرجلين- .
ثم حمل عليهم و اقتتل الناس قتالا شديدا- ثم تحاجزوا و اصطلحوا على أن يكتب بينهم كتاب صلح فكتب- . هذا ما اصطلح عليه عثمان بن حنيف الأنصاري- و من معه من المؤمنين من شيعة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب- و طلحة و الزبير- و من معهما من المؤمنين و المسلمين من شيعتهما- أن لعثمان بن حنيف دار الإمارة- و الرحبة و المسجد و بيت المال و المنبر- و أن لطلحة و الزبير و من معهما- أن ينزلوا حيث شاءوا من البصرة- و لا يضار بعضهم بعضا في طريق و لا فرضة- و لا سوق و لا شرعة و لا مرفق- حتى يقدم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب- فإن أحبوا دخلوا فيما دخلت فيه الأمة- و إن أحبوا لحق كل قوم بهواهم- و ما أحبوا من قتال أو سلم أو خروج أو إقامة- و على الفريقين بما كتبوا عهد الله و ميثاقه- و أشد ما أخذه على نبي من أنبيائه من عهد و ذمة- .
و ختم الكتاب- و رجع عثمان بن حنيف حتى دخل دار الإمارة- و قال لأصحابه ألحقوا رحمكم الله بأهلكم- و ضعوا سلاحكم و داووا جرحاكم- فمكثوا كذلك أياما- . ثم إن طلحة و الزبير قالا- إن قدم علي- و نحن على هذه الحال من القلة و الضعف- ليأخذن بأعناقنا- فأجمعا على مراسلة القبائل و استمالة العرب- فأرسلا إلى وجوه الناس و أهل الرئاسة و الشرف- يدعوانهم إلى الطلب بدم عثمان- و خلع علي و إخراج ابن حنيف من البصرة- فبايعهم على ذلك الأزد و ضبة و قيس بن عيلان كلها- إلا الرجل و الرجلين من القبيلة- كرهوا أمرهم فتواروا عنهم- و أرسلوا إلى هلال بن وكيع التميمي فلم يأتهم- فجاءه طلحة و الزبير إلى داره فتوارى عنهما- فقالت له أمه ما رأيت مثلك- أتاك شيخا قريش فتواريت عنهما- فلم تزل به حتى ظهر لهما- و بايعهما و معه بنو عمرو بن تميم كلهم- و بنو حنظلة إلا بني يربوع- فإن عامتهم كانوا شيعة علي ع و بايعهم بنو دارم كلهم- إلا نفرا من بني مجاشع ذوي دين و فضل- .
فلما استوسق لطلحة و الزبير أمرهما- خرجا في ليلة مظلمة ذات ريح و مطر- و معهما أصحابهما قد ألبسوهم الدروع- و ظاهروا فوقها بالثياب- فانتهوا إلى المسجد وقت الصلاة الفجر- و قد سبقهم عثمان بن حنيف إليه و أقيمت الصلاة- فتقدم عثمان ليصلي بهم- فأخره أصحاب طلحة و الزبير- و قدموا الزبير فجاءت السبابجة و هم الشرط حرس بيت المال- فأخرجوا الزبير و قدموا عثمان- فغلبهم أصحاب الزبير- فقدموا الزبير و أخروا عثمان- فلم يزالوا كذلك حتى كادت الشمس تطلع- و صاح بهم أهل المسجد- أ لا تتقون أصحاب محمد و قد طلعت الشمس- فغلب الزبير فصلى بالناس- فلما انصرف من صلاته صاح بأصحابه المستسلحين- أن خذوا عثمان بن حنيف- فأخذوه بعد أن تضارب هو- و مروان بن الحكم بسيفيهما- فلما أسر ضرب ضرب الموت- و نتف حاجباه و أشفار عينيه- و كل شعرة في رأسه و وجهه- و أخذوا السبابجة و هم سبعون رجلا- فانطلقوا بهم و بعثمان بن حنيف إلى عائشة- فقالت لأبان بن عثمان اخرج إليه فاضرب عنقه- فإن الأنصار قتلت أباك و أعانت على قتله- فنادى عثمان يا عائشة و يا طلحة و يا زبير- إن أخي سهل بن حنيف خليفة علي بن أبي طالب على المدينة- و أقسم بالله إن قتلتموني- ليضعن السيف في بني أبيكم و أهليكم و رهطكم- فلا يبقى أحد منكم فكفوا عنه- و خافوا أن يقع سهل بن حنيف بعيالاتهم و أهلهم بالمدينة فتركوه- .
و أرسلت عائشة إلى الزبير أن اقتل السبابجة- فإنه قد بلغني الذي صنعوا بك- قال فذبحهم و الله الزبير كما يذبح الغنم- ولي ذلك منهم عبد الله ابنه و هم سبعون رجلا- و بقيت منهم طائفة مستمسكين ببيت المال- قالوا لا ندفعه إليكم حتى يقدم أمير المؤمنين- فسار إليهم الزبير في جيش ليلا فأوقع بهم- و أخذ منهم خمسين أسيرا فقتلهم صبرا- . قال أبو مخنف فحدثنا الصقعب بن زهير قال- كانت السبابجة القتلى يومئذ أربعمائة رجل- قال فكان غدر طلحة و الزبير بعثمان بن حنيف- أول غدر كان في الإسلام- و كان السبابجة أول قوم ضربت أعناقهم من المسلمين صبرا- قال و خيروا عثمان بن حنيف بين أن يقيم أو يلحق بعلي- فاختار الرحيل فخلوا سبيله فلحق بعلي ع- فلما رآه بكى و قال له فارقتك شيخا- و جئتك أمرد فقال علي إنا لله و إنا إليه راجعون قالها ثلاثا- .
قلت السبابجة لفظة معربة- قد ذكرها الجوهري في كتاب الصحاح- قال هم قوم من السند- كانوا بالبصرة جلاوزة و حراس السجن- و الهاء للعجمة و النسب- قال يزيد بن مفرغ الحميري-
و طماطيم من سبابيج خزر
يلبسوني مع الصباح القيودا
قال فلما بلغ حكيم بن جبلة- ما صنع القوم بعثمان بن حنيف- خرج في ثلاثمائة من عبد القيس مخالفا لهم و منابذا- فخرجوا إليه و حملوا عائشة على جمل- فسمي ذلك اليوم يوم الجمل الأصغر- و يوم علي يوم الجمل الأكبر- . و تجالد الفريقان بالسيوف- فشد رجل من الأزد من عسكر عائشة على حكيم بن جبلة- فضرب رجله فقطعها و وقع الأزدي عن فرسه- فجثا حكيم فأخذ رجله فرمى بها الأزدي- فصرعه ثم دب إليه فقتله متكئا عليه- خانقا له حتى زهقت نفسه- فمر بحكيم إنسان و هو يجود بنفسه فقال من فعل بك- قال وسادي فنظر فإذا الأزدي تحته- و كان حكيم شجاعا مذكورا- .
قال و قتل مع حكيم إخوة له ثلاثة- و قتل أصحابه كلهم و هم ثلاثمائة من عبد القيس- و القليل منهم من بكر بن وائل- فلما صفت البصرة لطلحة و الزبير- بعد قتل حكيم و أصحابه- و طرد ابن حنيف عنهما اختلفا في الصلاة- و أراد كل منهما أن يؤم بالناس- و خاف أن تكون صلاته خلف صاحبه تسليما له و رضا بتقدمه- فأصلحت بينهما عائشة- بأن جعلت عبد الله بن الزبير و محمد بن طلحة يصليان بالناس- هذا يوما و هذا يوما- . قال أبو مخنف ثم دخلا بيت المال بالبصرة- فلما رأوا ما فيه من الأموال قال الزبير- وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ- فنحن أحقبها من أهل البصرة- فأخذا ذلك المال كله- فلما غلب علي ع رد تلك الأموال إلى بيت المال- و قسمها في المسلمين- . و قد ذكرنا فيما تقدم كيفية الوقعة- و مقتل الزبير فارا عن الحرب خوفا أو توبة- و نحن نقول إنها توبة- و ذكرنا مقتل طلحة و الاستيلاء على أم المؤمنين- و إحسان علي ع إليها و إلى من أسر في الحرب- أو ظفر به بعدها
منافرة بين ولدي علي و طلحة
كان القاسم بن محمد بن يحيى بن طلحة بن عبيد الله التيمي- يلقب أبا بعرة ولي شرطة الكوفة- لعيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس- كلم إسماعيل بن جعفر بن محمد الصادق ع بكلام- خرجا فيه إلى المنافرة- فقال القاسم بن محمد- لم يزل فضلنا و إحساننا سابغا عليكم يا بني هاشم- و على بني عبد مناف كافة- فقال إسماعيل- أي فضل و إحسان أسديتموه إلى بني عبد مناف- أغضب أبوك جدي بقوله ليموتن محمد- و لنجولن بين خلاخيل نسائه كما جال بين خلاخيل نسائنا- فأنزل الله تعالى مراغمة لأبيك- وَ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ- وَ لا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً- و منع ابن عمك أمي حقها من فدك و غيرها من ميراث أبيها- و أجلب أبوك على عثمان و حصره حتى قتل- و نكث بيعة علي و شام السيف في وجهه- و أفسد قلوب المسلمين عليه- فإن كان لبني عبد مناف قوم غير هؤلاء أسديتم إليهم إحسانا- فعرفني من هم جعلت فداك
منافرة عبد الله بن الزبير و عبد الله بن العباس
و تزوج عبد الله بن الزبير- أم عمرو ابنة منظور بن زبان الفزارية- فلما دخل بها قال لها تلك الليلة أ تدرين من معك في حجلتك قالت نعم- عبد الله بن الزبير بن العوام- بن خويلد بن أسد بن عبد العزى- . قال ليس غير هذا قالت فما الذي تريد- قال معك من أصبح في قريش بمنزلة الرأس من الجسد- لا بل بمنزلة العينين من الرأس- قالت أما و الله لو أن بعض بني عبد مناف حضرك لقال لك خلاف قولك- فغضب و قال الطعام و الشراب علي حرام- حتى أحضرك الهاشميين و غيرهم من بني عبد مناف- فلا يستطيعون لذلك إنكارا- قالت إن أطعتني لم تفعل و أنت أعلم و شأنك- .
فخرج إلى المسجد فرأى حلقة فيها قوم من قريش- منهم عبد الله بن العباس- و عبد الله بن الحصين بن الحارث بن عبد المطلب بن عبد مناف- فقال لهم ابن الزبير أحب أن تنطلقوا معي إلى منزلي- فقام القوم بأجمعهم حتى وقفوا على باب بيته- فقال ابن الزبير يا هذه اطرحي عليك سترك- فلما أخذوا مجالسهم دعا بالمائدة- فتغذى القوم فلما فرغوا قال لهم- إنما جمعتكم لحديث ردته علي صاحبة الستر- و زعمت أنه لو كان بعض بني عبد مناف حضرني- لما أقر لي بما قلت و قد حضرتم جميعا- و أنت يا ابن عباس ما تقول- إني أخبرتها أن معها في خدرها- من أصبح في قريش بمنزلةالرأس من الجسد- بل بمنزلة العينين من الرأس فردت علي مقالتي- فقال ابن عباس أراك قصدت قصدي- فإن شئت أن أقول قلت- و إن شئت أن أكف كففت- قال بل قل و ما عسى أن تقول- أ لست تعلم أني ابن الزبير حواري رسول الله ص- و أن أمي أسماء بنت أبي بكر الصديق ذات النطاقين- و أن عمتي خديجة سيدة نساء العالمين- و أن صفية عمة رسول الله ص جدتي- و أن عائشة أم المؤمنين خالتي- فهل تستطيع لهذا إنكارا- .
قال ابن عباس لقد ذكرت شرفا شريفا و فخرا فاخرا- غير أنك تفاخر من بفخره فخرت و بفضله سموت- قال و كيف ذلك قال لأنك لم تذكر فخرا إلا برسول الله ص- و أنا أولى بالفخر به منك- قال ابن الزبير- لو شئت لفخرت عليك بما كان قبل النبوة- قال ابن عباس
قد أنصف القارة من راماها
نشدتكم الله أيها الحاضرون- عبد المطلب أشرف أم خويلد في قريش- قالوا عبد المطلب- قال أ فهاشم كان أشرف فيها أم أسد قالوا بل هاشم- قال أ فعبد مناف أشرف أم عبد العزى قالوا عبد مناف فقال ابن عباس
تنافرني يا ابن الزبير و قد قضى
عليك رسول الله لا قول هازل
و لو غيرنا يا ابن الزبير فخرته
و لكنما ساميت شمس الأصائل
قضى لنا رسول الله ص بالفضل في قوله- ما افترقت فرقتان إلا كنت في خيرهما- فقد فارقناك من بعد قصي بن كلاب- أ فنحن في فرقة الخير أم لا- إن قلت نعم خصمت و إن قلت لا كفرت- . فضحك بعض القوم فقال ابن الزبير- أما و الله لو لا تحرمك بطعامنا يا ابن عباس- لأعرقت جبينك قبل أن تقوم من مجلسك- قال ابن عباس و لم- أ بباطل فالباطل لا يغلب الحق- أم بحق فالحق لا يخشى من الباطل- . فقالت المرأة من وراء الستر- إني و الله لقد نهيته عن هذا المجلس- فأبى إلا ما ترون- . فقال ابن عباس مه أيتها المرأة اقنعي ببعلك- فما أعظم الخطر و ما أكرم الخبر- فأخذ القوم بيد ابن عباس و كان قد عمي- فقالوا انهض أيها الرجل فقد أفحمته غير مرة- فنهض و قال-
ألا يا قومنا ارتحلوا و سيروا
فلو ترك القطا لغفا و ناما
فقال ابن الزبير يا صاحب القطاة أقبل علي- فما كنت لتدعني حتى أقول- و ايم الله لقد عرف الأقوام أني سابق غير مسبوق- و ابن حواري و صديق- متبجح في الشرف الأنيق خير من طليق- . فقال ابن عباس دسعت بجرتك فلم تبق شيئا- هذا الكلام مردود من امرئ حسود- فإن كنت سابقا فإلى من سبقت- و إن كنت فاخرا فبمن فخرت- فإن كنت أدركت هذا الفخر بأسرتك دون أسرتنا- فالفخر لك علينا- و إن كنت إنما أدركته بأسرتنا فالفخر لنا عليك- و الكثكث في فمك و يديك- و أما ما ذكرت من الطليق- فو الله لقد ابتلي فصبر و أنعم عليه فشكر- و إن كان و الله لوفيا كريما غير ناقض بيعة بعد توكيدها- و لا مسلم كتيبة بعد التأمر عليها- . فقال ابن الزبير أ تعير الزبير بالجبن- و الله إنك لتعلم منه خلاف ذلك- . قال ابن عباس و الله إني لا أعلم إلا أنه فر و ما كر- و حارب فما صبر و بايع فما تمم و قطع الرحم- و أنكر الفضل و رام ما ليس له بأهل- .
و أدرك منها بعض ما كان يرتجي
و قصر عن جري الكرام و بلدا
و ما كان إلا كالهجين أمامه
عناق فجاراه العناق فأجهدا
فقال ابن الزبير- لم يبق يا بني هاشم غير المشاتمة و المضاربة- . فقال عبد الله بن الحصين بن الحارث- أقمناه عنك يا ابن الزبير و تأبى إلا منازعته- و الله لو نازعته من ساعتك إلى انقضاء عمرك- ما كنت إلا كالسغب الظمآن- يفتح فاه يستزيد من الريح فلا يشبع من سغب- و لا يروى من عطش فقل إن شئت أو فدع و انصرف القوم
شرح نهج البلاغة(ابن أبي الحديد) ج 9