153 و من خطبة له ع
وَ هُوَ فِي مُهْلَةٍ مِنَ اللَّهِ يَهْوِي مَعَ الْغَافِلِينَ- وَ يَغْدُو مَعَ الْمُذْنِبِينَ بِلَا سَبِيلٍ قَاصِدٍ وَ لَا إِمَامٍ قَائِدٍ يصف إنسانا من أهل الضلال غير معين- بل كما تقول رحم الله امرأ اتقى ربه و خاف ذنبه- و بئس الرجل رجل قل حياؤه و عدم وفاؤه- و لست تعني رجلا بعينه- . و يهوي يسقط- و السبيل القاصد الطريق المؤدية إلى المطلوب- .
و الإمام إما الخليفة و إما الأستاذ أو الدين أو الكتاب- على كل من هؤلاء تطلق هذه اللفظة: مِنْهَا- حَتَّى إِذَا كَشَفَ لَهُمْ عَنْ جَزَاءِ مَعْصِيَتِهِمْ- وَ اسْتَخْرَجَهُمْ مِنْ جَلَابِيبِ غَفْلَتِهِمْ- اسْتَقْبَلُوا مُدْبِراً وَ اسْتَدْبَرُوا مُقْبِلًا- فَلَمْ يَنْتَفِعُوا بِمَا أَدْرَكُوا مِنْ طَلِبَتِهِمْ- وَ لَا بِمَا قَضَوْا مِنْ وَطَرِهِمْ-وَ إِنِّي أُحَذِّرُكُمْ وَ نَفْسِي هَذِهِ الْمَنْزِلَةَ- فَلْيَنْتَفِعِ امْرُؤٌ بِنَفْسِهِ- فَإِنَّمَا الْبَصِيرُ مَنْ سَمِعَ فَتَفَكَّرَ- وَ نَظَرَ فَأَبْصَرَ وَ انْتَفَعَ بِالْعِبَرِ- ثُمَّ سَلَكَ جَدَداً وَاضِحاً يَتَجَنَّبُ فِيهِ الصَّرْعَةَ فِي الْمَهَاوِي- وَ الضَّلَالَ فِي الْمَغَاوِي- وَ لَا يُعِينُ عَلَى نَفْسِهِ الْغُوَاةَ بِتَعَسُّفٍ فِي حَقٍّ- أَوْ تَحْرِيفٍ فِي نُطْقٍ أَوْ تَخَوُّفٍ مِنْ صِدْقٍ- فَأَفِقْ أَيُّهَا السَّامِعُ مِنْ سَكْرَتِكَ- وَ اسْتَيْقِظْ مِنْ غَفْلَتِكَ وَ اخْتَصِرْ مِنْ عَجَلَتِكَ- وَ أَنْعِمِ الْفِكْرَ فِيمَا جَاءَكَ- عَلَى لِسَانِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ ص مِمَّا لَا بُدَّ مِنْهُ- وَ لَا مَحِيصَ عَنْهُ- وَ خَالِفْ مَنْ خَالَفَ ذَلِكَ إِلَى غَيْرِهِ- وَ دَعْهُ وَ مَا رَضِيَ لِنَفْسِهِ وَ ضَعْ فَخْرَكَ- وَ احْطُطْ كِبْرَكَ وَ اذْكُرْ قَبْرَكَ فَإِنَّ عَلَيْهِ مَمَرَّكَ- وَ كَمَا تَدِينُ تُدَانُ وَ كَمَا تَزْرَعُ تَحْصُدُ- وَ مَا قَدَّمْتَ الْيَوْمَ تَقْدَمُ عَلَيْهِ غَداً- فَامْهَدْ لِقَدَمِكَ وَ قَدِّمْ لِيَوْمِكَ- فَالْحَذَرَ الْحَذَرَ أَيُّهَا الْمُسْتَمِعُ وَ الْجِدَّ الْجِدَّ أَيُّهَا الْغَافِلُ- وَ لا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ فاعل كشف هو الله تعالى و قد كان سبق ذكره في الكلام- و إنما كشف لهم عن جزاء معصيتهم بما أراهم حال الموت- من دلائل الشقوة و العذاب-فقد ورد في الخبر الصحيح أنه لا يموت ميت حتى يرى مقره من جنة أو نار
– .
و لما انفتحت أعين أبصارهم عند مفارقة الدنيا- سمى ذلك ع استخراجا لهم من جلابيب غفلتهم- كأنهم كانوا من الغفلة و الذهول في لباس نزع عنهم- . قال استقبلوا مدبرا أي استقبلوا أمرا- كان في ظنهم و اعتقادهم مدبرا عنهم- و هو الشقاء و العذاب- و استدبروا مقبلا تركوا وراء ظهورهم ما كانوا خولوه- من الأولاد و الأموال و النعم- و في قوة هذا الكلام أن يقول- عرفوا ما أنكروه و أنكروا ما عرفوه-.
و روي أحذركم و نفسي هذه المزلة مفعلة من الزلل- و في قوله و نفسي لطافة رشيقة- و ذلك لأنه طيب قلوبهم- بأن جعل نفسه شريكة لهم في هذا التحذير- ليكونوا إلى الانقياد أقرب- و عن الإباء و النفرة أبعد بطريق جدد لاحب- . و المهاوي جمع مهواة و هي الهوة يتردى فيها- . و المغاوي جمع مغواة- و هي الشبهة التي يغوى بها الناس أي يضلون- . يصف الأمور التي يعين بها الإنسان- أرباب الضلال على نفسه- و هي أن يتعسف في حق يقوله أو يأمر به فإن الرفق أنجح- و أن يحرف المنطق فإن الكذب لا يثمر خيرا- و أن يتخوف من الصدق في ذات الله قال سبحانه- إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ- فذم من لا يصدق و يجاهد في الحق- .
قوله و اختصر من عجلتك- أي لا تكن عجلتك كثيرة- بل إذا كانت لك عجلة فلتكن شيئا يسيرا- . و تقول أنعمت النظر في كذا أي دققته- من قولك أنعمت سحق الحجر و قيل إنه مقلوب أمعن- . و النبي الأمي- إما الذي لا يحسن الكتابة- أو المنسوب إلى أم القرى و هي مكة- . و لا محيص عنه لا مفر و لا مهرب- حاص أي تخلص من أمر كان شب فيه- . قوله فإن عليه ممرك أي ليس القبر بدار مقام- و إنما هو ممر و طريق إلى الآخرة- .
و كما تدين تدان- أي كما تجازي غيرك تجازى بفعلك و بحسب ما عملت- و منه قوله سبحانه- إِنَّا لَمَدِينُونَ أي مجزيون- و منه الديان في صفة الله تعالى- . قوله و كما تزرع تحصد- معنى قد قاله الناس بعده كثيرا قال الشاعر-
إذا أنت لم تزرع و أدركت حاصدا
ندمت على التقصير في زمن البذر
و من أمثالهم من زرع شرا حصد ندما- . فامهد لنفسك أي سو و وطئ- . وَ لا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ من القرآن العزيز- أي و لا يخبرك بالأمور أحد على حقائقها- كالعارف بها العالم بكنهها: إِنَّ مِنْ عَزَائِمِ اللَّهِ فِي الذِّكْرِ الْحَكِيمِ- الَّتِي عَلَيْهَا يُثِيبُ وَ يُعَاقِبُ وَ لَهَا يَرْضَى وَ يَسْخَطُ- أَنَّهُ لَا يَنْفَعُ عَبْداً- وَ إِنْ أَجْهَدَ نَفْسَهُ وَ أَخْلَصَ فِعْلَهُ- أَنْ يَخْرُجَ مِنَ الدُّنْيَا لَاقِياً رَبَّهُ- بِخَصْلَةٍ مِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ لَمْ يَتُبْ مِنْهَا- أَنْ يُشْرِكَ بِاللَّهِ فِيمَا افْتَرَضَ عَلَيْهِ مِنْ عِبَادَتِهِ- أَوْ يَشْفِيَ غَيْظَهُ بِهَلَاكِ نَفْسٍ- أَوْ يَعُرَّ بِأَمْرٍ فَعَلَهُ غَيْرُهُ- أَوْ يَسْتَنْجِحَ حَاجَةً إِلَى النَّاسِ بِإِظْهَارِ بِدْعَةٍ فِي دِينِهِ- أَوْ يَلْقَى النَّاسَ بِوَجْهَيْنِ أَوْ يَمْشِيَ فِيهِمْ بِلِسَانَيْنِ- اعْقِلْ ذَلِكَ فَإِنَّ الْمِثْلَ دَلِيلٌ عَلَى شِبْهِهِ- إِنَّ الْبَهَائِمَ هَمُّهَا بُطُونُهَا- وَ إِنَّ السِّبَاعَ هَمُّهَا الْعُدْوَانُ عَلَى غَيْرِهَا- وَ إِنَّ النِّسَاءَ هَمُّهُنَّ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَ الْفَسَادُ فِيهَا- إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ مُسْتَكِينُونَ- إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ مُشْفِقُونَ إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ خَائِفُونَ
عزائم الله هي موجباته و الأمر المقطوع عليه- الذي لا ريب فيه و لا شبهة- قال ع إن من الأمور التي نص الله تعالى عليها- نصا لا يحتمل التأويل و هي من العزائم التي يقطع بها- و لا رجوع فيها و لا نسخ لها- أن من مات و هو على ذنب من هذه الذنوب المذكورة- و لو اكتفى بذلك ع لأغناه عن قوله لم يتب- إلا أنه ذكر ذلك تأكيدا و زيادة في الإيضاح- فإنه لا ينفعه فعل شيء من الأفعال الحسنة و لا الواجبة- و لا تفيده العبادة- و لو أجهد نفسه فيها بل يكون من أهل النار- و الذنوب المذكورة- هي أن يتخذ مع الله إلها آخر فيشركه في العبادة- أو يقتل إنسانا بغير حق بل ليشفي غيظه- أو يقذف غيره بأمر قد فعله هو- .
عره بكذا يعره عرا أي عابه و لطخه- أو يروم بلوغ حاجة من أحد بإظهار بدعة في الدين- كما يفعل أكثر الناس في زماننا أو يكون ذا وجهين- و هو أيضا قوله أو يمشي فيهم بلسانين و إنما أعاده تأكيدا- . لما نصب معاوية ابنه يزيد لولاية العهد- أقعده في قبة حمراء و أدخل الناس يسلمون على معاوية- ثم يميلون إلى قبة يزيد فيسلمون عليه بولاية العهد- حتى جاء رجل ففعل ذلك ثم رجع إلى معاوية- فقال يا أمير المؤمنين أما إنك لو لم تول هذا أمور المسلمين لأضعتها- و كان الأحنف جالسا- فلما خف الناس قال معاوية- ما بالك لا تقول يا أبا بحر قال أخاف الله إن كذبتك- و أخافك إن صدقتك فما ذا أقول- فقال جزاك الله عن الطاعة خيرا و أمر له بصلة جزيلة- فلما خرج لقيه ذلك الرجل بالباب فقال- يا أبا بحر إني لأعلم أن شر من خلق الله هذا الرجل- و لكن هؤلاءقد استوثقوا من هذه الأموال- بالأبواب و الأقفال- فلسنا نطمع في استخراجها إلا بما سمعت- فقال يا هذا أمسك عليك- فإن ذا الوجهين خليق ألا يكون وجيها عند الله غدا- .
ثم أمر ع بأن يعقل ما قاله و يعلم باطن خطابه- و إنما رمز بباطن هذا الكلام إلى الرؤساء يوم الجمل- لأنهم حاولوا أن يشفوا غيظهم- بإهلاكه و إهلاك غيره من المسلمين- و عروه ع بأمر هم فعلوه و هو التأليب على عثمان و حصره- و استنجحوا حاجتهم إلى أهل البصرة- بإظهار البدعة و الفتنة- و لقوا الناس بوجهين و لسانين- لأنهم بايعوه و أظهروا الرضا به ثم دبوا له الخمر- فجعل ذنوبهم هذه مماثلة للشرك بالله سبحانه- في أنها لا تغفر إلا بالتوبة- و هذا هو معنى قوله اعقل ذلك- فإن المثل دليل على شبهه- و روي فإن المثل واحد الأمثال- أي هذا الحكم بعدم المغفرة لمن أتى شيئا من هذه الأشياء عام- و الواحد منها دليل على ما يماثله و يشابهه- .
فإن قلت- فهذا تصريح بمذهب الإمامية في طلحة و الزبير و عائشة- . قلت كلا فإن هذه الخطبة خطب بها و هو سائر إلى البصرة- و لم تقع الحرب إلا بعد تعدد الكبائر- و رمز فيها إلى المذكورين و قال إن لم يتوبوا- و قد ثبت أنهم تابوا- و الأخبار عنهم بالتوبة كثيرة مستفيضة- . ثم أراد ع أن يومئ إلى ذكر النساء- للحال التي كان وقع إليها من استنجاد أعدائه بامرأة- فذكر قبل ذكر النساء أنواعا من الحيوان- تمهيدا لقاعدة ذكر النساء فقال- إن البهائم همها بطونها كالحمر و البقر و الإبل و الغنم- و إن السباع همها العدوانعلى غيرها- كالأسود الضارية و النمور و الفهود و البزاة و الصقور- ثم قال و إن النساء همهن زينة الحياة الدنيا و الفساد فيها- . نظر حكيم إلى امرأة مصلوبة على شجرة- فقال ليت كل شجرة تحمل مثل هذه الثمرة- . و مرت امرأة بسقراط و هو يتشرق في الشمس فقالت- ما أقبحك أيها الشيخ- فقال لو أنكن من المرائي الصدئة- لغمني ما بان من قبح صورتي فيكن- . و رأى حكيم امرأة تعلم الكتابة- فقال سهم يسقى سما ليرمي به يوما ما- .
و رأى بعضهم جارية تحمل نارا- فقال نار على نار و الحامل شر من المحمول- . و قيل لسقراط أي السباع أحسن قال المرأة- . و تزوج بعضهم امرأة نحيفة فقيل له في ذلك- فقال اخترت من الشر أقله- . و رأى بعض الحكماء امرأة غريقة قد احتملها السيل- فقال زادت الكدر كدرا و الشر بالشر يهلك- . ثم ذكر ع خصائص المؤمن- فقال إن المؤمنين مستكينون- استكان الرجل أي خضع و ذل- . إن المؤمنين مشفقون- التقوى رأس الإيمان كما ورد في الخبر- .ثم قال إن المؤمنين خائفون- هو الأول و إنما أكده و التأكيد مطلوب في باب الخطابة
شرح نهج البلاغة(ابن أبي الحديد) ج 9