53 و من كتاب له ع كتبه للأشتر النخعي رحمه الله- لما ولاه على مصر و أعمالها
حين اضطرب أمر أميرها محمد بن أبي بكر- و هو أطول عهد كتبه و أجمعه للمحاسن- : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ- هَذَا مَا أَمَرَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ عَلِيٌّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ- مَالِكَ بْنَ الْحَارِثِ الْأَشْتَرَ فِي عَهْدِهِ إِلَيْهِ- حِينَ وَلَّاهُ مِصْرَ جِبَايَةَ خَرَاجِهَا وَ جِهَادَ عَدُوِّهَا- وَ اسْتِصْلَاحَ أَهْلِهَا وَ عِمَارَةَ بِلَادِهَا- أَمَرَهُ بِتَقْوَى اللَّهِ وَ إِيْثَارِ طَاعَتِهِ- وَ اتِّبَاعِ مَا أَمَرَ بِهِ فِي كِتَابِهِ مِنْ فَرَائِضِهِ وَ سُنَنِهِ- الَّتِي لَا يَسْعَدُ أَحَدٌ إِلَّا بِاتِّبَاعِهَا- وَ لَا يَشْقَى إِلَّا مَعَ جُحُودِهَا وَ إِضَاعَتِهَا- وَ أَنْ يَنْصُرَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بِيَدِهِ وَ قَلْبِهِ وَ لِسَانِهِ- فَإِنَّهُ جَلَّ اسْمُهُ قَدْ تَكَفَّلَ بِنَصْرِ مَنْ نَصَرَهُ وَ إِعْزَازِ مَنْ أَعَزَّهُ- وَ أَمَرَهُ أَنْ يَكْسِرَ مِنْ نَفْسِهِ عِنْدَ الشَّهَوَاتِ- وَ يَنْزَعَهَا عِنْدَ الْجَمَحَاتِ- فَإِنَّ النَّفْسَ أَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ اللَّهُ- ثُمَّ اعْلَمْ يَا مَالِكُ- أَنِّي قَدْ وَجَّهْتُكَ إِلَى بِلَادٍ قَدْ جَرَتْ عَلَيْهَا دُوَلٌ قَبْلَكَ- مِنْ عَدْلٍ وَ جَوْرٍ- وَ أَنَّ النَّاسَ يَنْظُرُونَ مِنْ أُمُورِكَ- فِي مِثْلِ مَا كُنْتَ تَنْظُرُ فِيهِ مِنْ أُمُورِالْوُلَاةِ قَبْلَكَ- وَ يَقُولُونَ فِيكَ مَا كُنْتَ تَقُولُهُ فِيهِمْ- وَ إِنَّمَا يُسْتَدَلُّ عَلَى الصَّالِحِينَ- بِمَا يُجْرِي اللَّهُ لَهُمْ عَلَى أَلْسُنِ عِبَادِهِ- فَلْيَكُنْ أَحَبَّ الذَّخَائِرِ إِلَيْكَ ذَخِيرَةُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ- فَامْلِكْ هَوَاكَ وَ شُحَّ بِنَفْسِكَ عَمَّا لَا يَحِلُّ لَكَ- فَإِنَّ الشُّحَّ بِالنَّفْسِ الْإِنْصَافُ مِنْهَا فِيمَا أَحَبَّتْ أَوْ كَرِهَتْ نصرة الله باليد الجهاد بالسيف و بالقلب الاعتقاد للحق- و باللسان قول الحق و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر- و قد تكفل الله بنصرة من نصره لأنه تعالى قال- وَ لَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ- . و الجمحات منازعة النفس إلى شهواتها و مآربها- و نزعها بكفها- .
ثم قال له قد كنت تسمع أخبار الولاة- و تعيب قوما و تمدح قوما- و سيقول الناس في إمارتك الآن- نحو ما كنت تقول في الأمراء- فاحذر أن تعاب و تذم كما كنت تعيب و تذم من يستحق الذم- . ثم قال إنما يستدل على الصالحين- بما يكثر سماعه من ألسنة الناس بمدحهم و الثناء عليهم- و كذلك يستدل على الفاسقين بمثل ذلك- . و كان يقال ألسنة الرعية أقلام الحق سبحانه إلى الملوك- . ثم أمره أن يشح بنفسه و فسر له الشح ما هو- فقال إن تنتصف منها فيما أحبتو كرهت- أي لا تمكنها من الاسترسال في الشهوات- و كن أميرا عليها- و مسيطرا و قامعا لها من التهور- و الانهماك- . فإن قلت هذا معنى قوله فيما أحبت- فما معنى قوله و كرهت- قلت لأنها تكره الصلاة و الصوم و غيرهما- من العبادات الشرعية و من الواجبات العقلية- و كما يجب أن يكون الإنسان مهيمنا عليها في طرف الفعل- يجب أن يكون مهيمنا عليها في طرف الترك:
وَ أَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ- وَ الْمَحَبَّةَ لَهُمْ وَ اللُّطْفَ بِهِمْ- وَ لَا تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ- فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ- وَ إِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ- يَفْرُطُ مِنْهُمُ الزَّلَلُ وَ تَعْرِضُ لَهُمُ الْعِلَلُ- وَ يُؤْتَى عَلَى أَيْدِيهِمْ فِي الْعَمْدِ وَ الْخَطَإِ- فَأَعْطِهِمْ مِنْ عَفْوِكَ وَ صَفْحِكَ- مِثْلِ الَّذِي تُحِبُّ وَ تَرْضَى أَنْ يُعْطِيَكَ اللَّهُ مِنْ عَفْوِهِ وَ صَفْحِهِ- فَإِنَّكَ فَوْقَهُمْ وَ وَالِي الْأَمْرِ عَلَيْكَ فَوْقَكَ- وَ اللَّهُ فَوْقَ مَنْ وَلَّاكَ- وَ قَدِ اسْتَكْفَاكَ أَمْرَهُمْ وَ ابْتَلَاكَ بِهِمْ- وَ لَا تَنْصِبَنَّ نَفْسَكَ لِحَرْبِ اللَّهِ- فَإِنَّهُ لَا يَدَيْ لَكَ بِنِقْمَتِهِ- وَ لَا غِنَى بِكَ عَنْ عَفْوِهِ وَ رَحْمَتِهِ- وَ لَا تَنْدَمَنَّ عَلَى عَفْوٍ وَ لَا تَبْجَحَنَّ بِعُقُوبَةٍ- وَ لَا تُسْرِعَنَّ إِلَى بَادِرَةٍ وَجَدْتَ عَنْهَا مَنْدُوحَةً- وَ لَا تَقُولَنَّ إِنِّي مُؤَمَّرٌ آمُرُ فَأُطَاعُ- فَإِنَّ ذَلِكَ إِدْغَالٌ فِي الْقَلْبِ- وَ مَنْهَكَةٌ لِلدِّينِ وَ تَقَرُّبٌ مِنَ الْغِيَرِ-وَ إِذَا أَحْدَثَ لَكَ مَا أَنْتَ فِيهِ مِنْ سُلْطَانِكَ أُبَّهَةً أَوْ مَخِيلَةً- فَانْظُرْ إِلَى عِظَمِ مُلْكِ اللَّهِ فَوْقَكَ- وَ قُدْرَتِهِ مِنْكَ عَلَى مَا لَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ نَفْسِكَ- فَإِنَّ ذَلِكَ يُطَامِنُ إِلَيْكَ مِنْ طِمَاحِكَ- وَ يَكُفُّ عَنْكَ مِنْ غَرْبِكَ- وَ يَفِيءُ إِلَيْكَ بِمَا عَزَبَ عَنْكَ مِنْ عَقْلِكَ- إِيَّاكَ وَ مُسَامَاةَ اللَّهِ فِي عَظَمَتِهِ وَ التَّشَبُّهَ بِهِ فِي جَبَرُوتِهِ- فَإِنَّ اللَّهَ يُذِلُّ كُلَّ جَبَّارٍ وَ يُهِينُ كُلَّ مُخْتَالٍ أشعر قلبك الرحمة أي اجعلها كالشعار له- و هو الثوب الملاصق للجسد- قال لأن الرعية إما أخوك في الدين- أو إنسان مثلك تقتضي رقة الجنسية- و طبع البشرية الرحمة له- .
قوله و يؤتى على أيديهم- مثل قولك و يؤخذ على أيديهم- أي يهذبون و يثقفون يقال خذ على يد هذا السفيه- و قد حجر الحاكم على فلان و أخذ على يده- . ثم قال فنسبتهم إليك كنسبتك إلى الله تعالى- و كما تحب أن يصفح الله عنك ينبغي أن تصفح أنت عنهم- . قوله لا تنصبن نفسك لحرب الله- أي لا تبارزه بالمعاصي- فإنه لا يدي لك بنقمته- اللام مقحمة و المراد الإضافة- و نحوه قولهم لا أبا لك- . قوله و لا تقولن إني مؤمر- أي لا تقل إني أمير و وال آمر بالشيء فأطاع- .
و الإدغال الإفساد و منهكة للدين ضعف و سقم- . ثم أمره عند حدوث الأبهة و العظمة عنده- لأجل الرئاسة و الإمرة أن يذكر عظمة الله تعالى- و قدرته على إعدامه و إيجاده و إماتته و إحيائه- فإن تذكر ذلك يطامن من غلوائه- أي يغض من تعظمه و تكبره و يطأطئ منه- . و الغرب حد السيف و يستعار للسطوة- و السرعة في البطش و الفتك- . قوله و يفيء- أي يرجع إليك بما بعد عنك من عقلك- و حرف المضارعة مضموم لأنه من أفاء- . و مساماة الله تعالى مباراته في السمو و هو العلو: أَنْصِفِ اللَّهَ وَ أَنْصِفِ النَّاسَ مِنْ نَفْسِكَ- وَ مِنْ خَاصَّةً أَهْلِكَ- وَ مَنْ لَكَ هَوًى فِيهِ مِنْ رَعِيَّتِكَ- فَإِنَّكَ إِلَّا تَفْعَلْ تَظْلِمْ- وَ مَنْ ظَلَمَ عِبَادَ اللَّهِ كَانَ اللَّهُ خَصْمَهُ دُونَ عِبَادِهِ- وَ مَنْ خَاصَمَهُ اللَّهُ أَدْحَضَ حُجَّتَهُ- وَ كَانَ لِلَّهِ حَرْباً حَتَّى يَنْزِعَ أَوْ يَتُوبَ- وَ لَيْسَ شَيْءٌ أَدْعَى إِلَى تَغْيِيرِ نِعْمَةِ اللَّهِ وَ تَعْجِيلِ نِقْمَتِهِ- مِنْ إِقَامَةٍ عَلَى ظُلْمٍ- فَإِنَّ اللَّهَ يَسْمَعُ دَعْوَةَ الْمُضْطَهَدِينَ- وَ هُوَ لِلظَّالِمِينَ بِالْمِرْصَادِ- وَ لْيَكُنْ أَحَبَّ الْأُمُورِ إِلَيْكَ أَوْسَطُهَا فِي الْحَقِّ- وَ أَعَمُّهَا فِي الْعَدْلِ وَ أَجْمَعُهَا لِرِضَا الرَّعِيَّةِ- فَإِنَّ سُخْطَ الْعَامَّةِ يُجْحِفُ بِرِضَا الْخَاصَّةِ- وَ إِنَّ سُخْطَ الْخَاصَّةِ يُغْتَفَرُ مَعَ رِضَا الْعَامَّةِ-وَ لَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الرَّعِيَّةِ أَثْقَلَ عَلَى الْوَالِي مَئُونَةً فِي الرَّخَاءِ- وَ أَقَلَّ مَعُونَةً لَهُ فِي الْبَلَاءِ- وَ أَكْرَهَ لِلْإِنْصَافِ وَ أَسْأَلَ بِالْإِلْحَافِ- وَ أَقَلَّ شُكْراً عِنْدَ الْإِعْطَاءِ وَ أَبْطَأَ عُذْراً عِنْدَ الْمَنْعِ- وَ أَضْعَفَ صَبْراً عِنْدَ مُلِمَّاتِ الدَّهْرِ- مِنْ أَهْلِ الْخَاصَّةِ- وَ إِنَّمَا عَمُودُ الدِّينِ وَ جِمَاعُ الْمُسْلِمِينَ- وَ الْعُدَّةُ لِلْأَعْدَاءِ الْعَامَّةُ مِنَ الْأُمَّةِ- فَلْيَكُنْ صِغْوُكَ لَهُمْ وَ مَيْلُكَ مَعَهُمْ قال له أنصف الله أي قم له بما فرض عليك- من العبادة و الواجبات العقلية و السمعية- .
ثم قال و أنصف الناس من نفسك و من ولدك و خاصة أهلك- و من تحبه و تميل إليه من رعيتك- فمتى لم تفعل ذلك كنت ظالما- . ثم نهاه عن الظلم و أكد الوصاية عليه في ذلك- . ثم عرفه أن قانون الإمارة الاجتهاد في رضا العامة- فإنه لا مبالاة بسخط خاصة الأمير مع رضا العامة- فأما إذا سخطت العامة لم ينفعه رضا الخاصة- و ذلك مثل أن يكون في البلد عشرة أو عشرون من أغنيائه- و ذوي الثروة من أهله- يلازمون الوالي و يخدمونه و يسامرونه- و قد صار كالصديق لهم- فإن هؤلاء و من ضارعهم من حواشي الوالي- و أرباب الشفاعات و القربات عنده لا يغنون عنه شيئا- عند تنكر العامة له- و كذاك لا يضر سخط هؤلاء إذا رضيت العامة- و ذلك لأن هؤلاء عنهم غنى و لهم بدل- و العامة لا غنى عنهم و لا بدل منهم- و لأنهم إذا شغبوا عليه كانوا كالبحر إذا هاج و اضطرب- فلا يقاومه أحد و ليس الخاصة كذلك- .
ثم قال ع و نعم ما قال- ليس شيء أقل نفعا- و لا أكثر ضررا على الوالي من خواصه أيام الولاية- لأنهم يثقلون عليه بالحاجات و المسائل و الشفاعات- فإذا عزل هجروه و رفضوه- حتى لو لقوه في الطريق لم يسلموا عليه- . و الصغو بالكسر و الفتح و الصغا مقصور الميل: وَ لْيَكُنْ أَبْعَدَ رَعِيَّتِكَ مِنْكَ وَ أَشْنَأَهُمْ عِنْدَكَ- أَطْلَبُهُمْ لِمَعَايِبِ النَّاسِ- فَإِنَّ فِي النَّاسِ عُيُوباً الْوَالِي أَحَقُّ مَنْ سَتَرَهَا- فَلَا تَكْشِفَنَّ عَمَّا غَابَ عَنْكَ مِنْهَا- فَإِنَّمَا عَلَيْكَ تَطْهِيرُ مَا ظَهَرَ لَكَ- وَ اللَّهُ يَحْكُمُ عَلَى مَا غَابَ عَنْكَ- فَاسْتُرِ الْعَوْرَةَ مَا اسْتَطَعْتَ- يَسْتُرِ اللَّهُ مِنْكَ مَا تُحِبُّ سَتْرَهُ مِنْ رَعِيَّتِكَ- أَطْلِقْ عَنِ النَّاسِ عُقْدَةَ كُلِّ حِقْدٍ- وَ اقْطَعْ عَنْكَ سَبَبَ كُلِّ وِتْرٍ- وَ تَغَابَ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَضِحُ لَكَ- وَ لَا تَعْجَلَنَّ إِلَى تَصْدِيقِ سَاعٍ- فَإِنَّ السَّاعِيَ غَاشٌّ وَ إِنْ تَشَبَّهَ بِالنَّاصِحِينَ- وَ لَا تُدْخِلَنَّ فِي مَشُورَتِكَ بَخِيلًا يَعْدِلُ بِكَ عَنِ الْفَضْلِ- وَ يَعِدُكَ الْفَقْرَ- وَ لَا جَبَاناً يُضْعِفُكَ عَنِ الْأُمُورِ- وَ لَا حَرِيصاً يُزَيِّنُ لَكَ الشَّرَهَ بِالْجَوْرِ- فَإِنَّ الْبُخْلَ وَ الْجُبْنَ وَ الْحِرْصَ غَرَائِزُ شَتَّى- يَجْمَعُهَا سُوءُ الظَّنِّ بِاللَّهِ أشناهم عندك أبغضهم إليك- . و تغاب تغافل يقال تغابى فلان عن كذا- . و يضح يظهر و الماضي وضح
فصل في النهي عن ذكر عيوب الناس و ما ورد في ذلك من الآثار
عاب رجل رجلا عند بعض الأشراف فقال له- لقد استدللت على كثرة عيوبك- بما تكثر فيه من عيوب الناس- لأن طالب العيوب إنما يطلبها بقدر ما فيه منها- . و قال الشاعر-
و أجرأ من رأيت بظهر غيب
على عيب الرجال أولو العيوب
و قال آخر-
يا من يعيب و عيبه متشعب
كم فيك من عيب و أنت تعيب
و في الخبر المرفوع دعوا الناس بغفلاتهم يعيش بعضهم مع بعض – . و قال الوليد بن عتبة بن أبي سفيان- كنت أساير أبي و رجل معنا يقع في رجل- فالتفت أبي إلي فقال يا بني- نزه سمعك عن استماع الخنى- كما تنزه لسانك عن الكلام به- فإن المستمع شريك القائل- إنما نظر إلى أخبث ما في وعائه فأفرغه في وعائك- و لو ردت كلمة جاهل في فيه لسعد رادها كما شقي قائلها- . و قال ابن عباس الحدث حدثان- حدث من فيك و حدث من فرجك- .
و عاب رجل رجلا عند قتيبة بن مسلم- فقال له قتيبة أمسك ويحك- فقد تلمظت بمضغه طالما لفظها الكرام- . و مر رجل بجارين له و معه ريبة- فقال أحدهما لصاحبه أ فهمت ما معه من الريبة- قال و ما معه قال كذا قال- عبدي حر لوجه الله شكرا له تعالى- إذ لم يعرفني من الشر ما عرفك- . و قال الفضيل بن عياض- إن الفاحشة لتشيع في كثير من المسلمين- حتى إذا صارت إلى الصالحين كانوا لها خزانا- . و قيل لبزرجمهر هل من أحد لا عيب فيه- فقال الذي لا عيب فيه لا يموت- . و قال الشاعر-
و لست بذي نيرب في الرجا
ل مناع خير و سبابها
و لا من إذا كان في جانب
أضاع العشيرة و اغتابها
و لكن أطاوع ساداتها
و لا أتعلم ألقابها
و قال آخر-
لا تلتمس من مساوي الناس ما ستروا
فيكشف الله سترا من مساويكا
و اذكر محاسن ما فيهم إذا ذكروا
و لا تعب أحدا منهم بما فيكا
و قال آخر-
ابدأ بنفسك فإنهما عن عيبها
فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
فهناك تعذر إن وعظت و يقتدى
بالقول منك و يقبل التعليم
فأما قوله ع أطلق عن الناس عقدة كل حقد- فقد استوفى هذا المعنى زياد في خطبته البتراء- فقال و قد كانت بيني و بين أقوام إحن- و قد جعلت ذلك دبر أذني و تحت قدمي- فمن كان منكم محسنا فليزدد إحسانا- و من كان منكم مسيئا فلينزع عن إساءته- إني لو علمت أن أحدكم قد قتله السلال- من بغضي لم أكشف عنه قناعا- و لم أهتك له سترا حتى يبدي لي صفحته- فإذا فعل لم أناظره- ألا فليشمل كل امرئ منكم على ما في صدره- و لا يكونن لسانه شفرة تجري على ودجه
فصل في النهي عن سماع السعاية و ما ورد ذلك من الآثار
فأما قوله ع و لا تعجلن إلى تصديق ساع- فقد ورد في هذا المعنى كلام حسن- قال ذو الرئاستين قبول السعاية شر من السعاية- لأن السعاية دلالة و القبول إجازة- و ليس من دل على شيء كمن قبله و أجازه- فامقت الساعي على سعايته- فإنه لو كان صادقا كان لئيما- إذ هتك العورة و أضاع الحرمة- . و عاتب مصعب بن الزبير الأحنف على أمر بلغه عنه فأنكره- فقال مصعب أخبرني به الثقة- قال كلا أيها الأمير إن الثقة لا يبلغ- . و كان يقال لو لم يكن من عيب الساعي- إلا أنه أصدق ما يكون أضر ما يكون على الناس لكان كافيا- . كانت الأكاسرة لا تأذن لأحد أن يطبخ السكباج- و كان ذلك مما يختص به الملك- فرفع ساع إلى أنوشروان- إن فلانا دعانا و نحن جماعة- إلى طعام له و فيه سكباج- فوقع أنوشروان على رقعته قد حمدنا نصيحتك- و ذممنا صديقك على سوء اختياره للإخوان- . جاء رجل إلى الوليد بن عبد الملك- و هو خليفة عبد الملك على دمشق- فقال أيها الأمير إن عندي نصيحة قال اذكرها- قال جار لي رجع من بعثه سرا- فقال أما أنت فقد أخبرتنا أنك جار سوء- فإن شئت أرسلنا معك فإن كنت كاذبا عاقبناك- و إن كنت صادقا مقتناك و إن تركتنا تركناك- قال بل أتركك أيها الأمير قال فانصرف- . و مثل هذا يحكى عن عبد الملك أن إنسانا سأله الخلوة- فقال لجلسائه إذا شئتم فانصرفوا- فلما تهيأ الرجل للكلام قال له اسمع ما أقول- إياك أن تمدحني فأنا أعرف بنفسي منك- أو تكذبني فإنه لا رأي لمكذوب- أو تسعى بأحد إلي فإني لا أحب السعاية- قال أ فيأذن أمير المؤمنين بالانصراف قال إذا شئت- . و قال بعض الشعراء-
لعمرك ما سب الأمير عدوه
و لكنما سب الأمير المبلغ
و قال آخر-
حرمت منائي منك إن كان ذا الذي
أتاك به الواشون عني كما قالوا
و لكنهم لما رأوك شريعة
إلي تواصوا بالنميمة و احتالوا
فقد صرت أذنا للوشاة سميعة
ينالون من عرضي و لو شئت ما نالوا
و قال عبد الملك بن صالح لجعفر بن يحيى- و قد خرج يودعه لما شخص إلى خراسان- أيها الأمير أحب أن تكون لي كما قال الشاعر-
فكوني على الواشين لداء شغبة
كما أنا للواشي ألد شغوب
قال بل أكون كما قال القائل-
و إذا الواشي وشى يوما بها
نفع الواشي بما جاء يضر
و قال العباس بن الأحنف-
ما حطك الواشون من رتبة
عندي و لا ضرك مغتاب
كأنهم أثنوا و لم يعلموا
عليك عندي بالذي عابوا
قوله ع- و لا تدخلن في مشورتك بخيلا يعدل بك عن الفضل- و يعدك الفقر- مأخوذ من قول الله تعالى- الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَ يَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ- وَ اللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَ فَضْلًا- قال المفسرون الفحشاء هاهنا البخل- و معنى يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ- يخيل إليكم أنكم إن سمحتم بأموالكم افتقرتم- فيخوفكم فتخافون فتبخلون- . قوله ع- فإن البخل و الجبن و الحرص غرائز شتى- يجمعها سوء الظن بالله- كلام شريف عال على كلام الحكماء- يقول إن بينها قدرا مشتركا- و إن كانت غرائز و طبائع مختلفة- و ذلك القدر المشترك هو سوء الظن بالله- لأن الجبان يقول في نفسه إن أقدمت قتلت- و البخيل يقول إن سمحت و أنفقت افتقرت- و الحريص يقول إن لم أجد و أجتهد و أدأب فاتني ما أروم- و كل هذه الأمور ترجع إلى سوء الظن بالله- و لو أحسن الظن الإنسان بالله و كان يقينه صادقا- لعلم أن الأجل مقدر و أن الرزق مقدر- و أن الغنى و الفقر مقدران- و أنه لا يكون من ذلك إلا ما قضى الله تعالى كونه
شَرُّ وُزَرَائِكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ لِلْأَشْرَارِ وَزِيراً- وَ مَنْ شَرِكَهُمْ فِي الآْثَامِ فَلَا يَكُونَنَّ لَكَ بِطَانَةً- فَإِنَّهُمْ أَعْوَانُ الْأَثَمَةِ وَ إِخْوَانُ الظَّلَمَةِ- وَ أَنْتَ وَاجِدٌ مِنْهُمْ خَيْرَ الْخَلَفِ- مِمَّنْ لَهُ مِثْلُ آرَائِهِمْ وَ نَفَاذِهِمْ- وَ لَيْسَ عَلَيْهِ مِثْلُ آصَارِهِمْ وَ أَوْزَارِهِمْ وَ آثَامِهِمْ- مِمَّنْ لَمْ يُعَاوِنْ ظَالِماً عَلَى ظُلْمِهِ وَ لَا آثِماً عَلَى إِثْمِهِ- أُولَئِكَ أَخَفُّ عَلَيْكَ مَئُونَةً وَ أَحْسَنُ لَكَ مَعُونَةً- وَ أَحْنَى عَلَيْكَ عَطْفاً وَ أَقَلُّ لِغَيْرِكَ إِلْفاً- فَاتَّخِذْ أُولَئِكَ خَاصَّةً لِخَلَوَاتِكَ وَ حَفَلَاتِكَ- ثُمَّ لْيَكُنْ آثَرُهُمْ عِنْدَكَ أَقْوَلَهُمْ بِمُرِّ الْحَقِّ لَكَ- وَ أَقَلَّهُمْ مُسَاعَدَةً فِيمَا يَكُونُ مِنْكَ مِمَّا كَرِهَ اللَّهُ لِأَوْلِيَائِهِ- وَاقِعاً ذَلِكَ مِنْ هَوَاكَ حَيْثُ وَقَعَ نهاه ع ألا يتخذ بطانة- قد كانوا من قبل بطانة للظلمة- و ذلك لأن الظلم و تحسينه قد صار ملكة ثابتة في أنفسهم- فبعيد أن يمكنهم الخلو منها- إذ قد صارت كالخلق الغريزي اللازم- لتكرارها و صيرورتها عادة- فقد جاءت النصوص في الكتاب و السنة- بتحريم معاونة الظلمة و مساعدتهم- و تحريم الاستعانة بهم- فإن من استعان بهم كان معينا لهم- قال تعالى وَ ما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً- و قال لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ- يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ و جاء في الخبر المرفوع ينادى يوم القيامة- أين من بري لهم أي الظالمين قلما- .
أتي الوليد بن عبد الملك برجل من الخوارج- فقال له ما تقول في الحجاج- قال و ما عسيت أن أقول فيه- هل هو إلا خطيئة من خطاياك و شرر من نارك- فلعنك الله و لعن الحجاج معك و أقبل يشتمهما- فالتفت الوليد إلى عمر بن عبد العزيز فقال- ما تقول في هذا قال ما أقول فيه- هذا رجل يشتمكم- فإما أن تشتموه كما شتمكم و إما أن تعفوا عنه- فغضب الوليد و قال لعمر- ما أظنك إلا خارجيا- فقال عمر و ما أظنك إلا مجنونا و قام فخرج مغضبا- و لحقه خالد بن الريان صاحب شرطة الوليد- فقال له ما دعاك إلى ما كلمت به أمير المؤمنين- لقد ضربت بيدي إلى قائم سيفي- أنتظر متى يأمرني بضرب عنقك- قال أ و كنت فاعلا لو أمرك قال نعم- فلما استخلف عمر جاء خالد بن الريان- فوقف على رأسه متقلدا سيفه فنظر إليه و قال يا خالد- ضع سيفك فإنك مطيعنا في كل أمر نأمرك به- و كان بين يديه كاتب للوليد- فقال له ضع أنت قلمك فإنك كنت تضر به و تنفع- اللهم إني قد وضعتهما فلا ترفعهما- قال فو الله ما زالا وضيعين مهينين حتى ماتا- .
و روى الغزالي في كتاب إحياء علوم الدين- قال لما خالط الزهري السلطان كتب أخ له في الدين إليه- عافانا الله و إياك أبا بكر من الفتن- فقد أصبحت بحال ينبغي لمن عرفك أن يدعو الله لك و يرحمك- فقد أصبحت شيخا كبيرا- و قد أثقلتك نعم الله عليك بما فهمك من كتابه- و علمك من سنة نبيه- و ليس كذلك أخذ الله الميثاق على العلماء- فإنه تعالى قال- لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَ لا تَكْتُمُونَهُ- و اعلم أن أيسر ما ارتكبت و أخف ما احتملت- أنك آنست وحشة الظالم- و سهلت سبيل الغي بدنوك إلى من لم يؤد حقا- و لم يترك باطلا حين أدناك- اتخذوك أبا بكر قطبا تدورعليه رحى ظلمهم- و جسرا يعبرون عليه إلى بلائهم و معاصيهم- و سلما يصعدون فيه إلى ضلالتهم- يدخلون بك الشك على العلماء- و يقتادون بك قلوب الجهلاء- فما أيسر ما عمروا لك في جنب ما خربوا عليك- و ما أكثر ما أخذوا منك- في جنب ما أفسدوا من حالك و دينك- و ما يؤمنك أن تكون ممن قال الله تعالى فيهم- فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ- وَ اتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا- يا أبا بكر إنك تعامل من لا يجهل- و يحفظ عليك من لا يغفل- فداو دينك فقد دخله سقم- و هيئ زادك فقد حضر سفر بعيد- و ما يخفى على الله من شيء في الأرض و لا في السماء- و السلام: وَ الْصَقْ بِأَهْلِ الْوَرَعِ وَ الصِّدْقِ- ثُمَّ رُضْهُمْ عَلَى أَلَّا يُطْرُوكَ- وَ لَا يَبْجَحُوكَ بِبَاطِلٍ لَمْ تَفْعَلْهُ- فَإِنَّ كَثْرَةَ الْإِطْرَاءِ تُحْدِثُ الزَّهْوَ وَ تُدْنِي مِنَ الْعِزَّةِ- وَ لَا يَكُونَنَّ الْمُحْسِنُ وَ الْمُسِيءُ عِنْدَكَ بِمَنْزِلَةٍ سَوَاءٍ- فَإِنَّ فِي ذَلِكَ تَزْهِيداً لِأَهْلِ الْإِحْسَانِ فِي الْإِحْسَانِ- وَ تَدْرِيباً لِأَهْلِ الْإِسَاءَةِ- وَ أَلْزِمْ كُلًّا مِنْهُمْ مَا أَلْزَمَ نَفْسَهُ
قوله و الصق بأهل الورع كلمة فصيحة- يقول اجعلهم خاصتك و خلصاءك- . قال ثم رضهم على ألا يطروك- أي عودهم ألا يمدحوك في وجهك- و لا يبجحوك بباطل- لا يجعلوك ممن يبجح أي يفخر بباطل لم يفعله- كما يبجح أصحاب الأمراء الأمراء بأن يقولوا لهم- ما رأينا أعدل منكم و لا أسمح- و لا حمى هذا الثغر أمير أشد بأسا منكم- و نحو ذلك و قد جاء في الخبر احثوا في وجوه المداحين التراب- . و قال عبد الملك لمن قام يساره ما تريد- أ تريد أن تمدحني و تصفني أنا أعلم بنفسي منك- . و قام خالد بن عبد الله القسري- إلى عمر بن عبد العزيز يوم بيعته- فقال يا أمير المؤمنين- من كانت الخلافة زائنته فقد زينتها- و من كانت شرفته فقد شرفتها- فإنك لكما قال القائل-
و إذا الدر زان حسن وجوه
كان للدر حسن وجهك زينا
فقال عمر بن عبد العزيز- لقد أعطي صاحبكم هذا مقولا و حرم معقولا- و أمره أن يجلس- . و لما عقد معاوية البيعة لابنه يزيد قام الناس يخطبون- فقال معاوية لعمرو بن سعيد الأشدق- قم فاخطب يا أبا أمية فقام فقال- أما بعد فإن يزيد ابن أمير المؤمنين- أمل تأملونه- و أجل تأمنونه- إن افتقرتم إلى حلمه وسعكم- و إن احتجتم إلى رأيه أرشدكم- و إن اجتديتم ذات يده أغناكم و شملكم- جذع قارح سوبق فسبق و موجد فمجد-و قورع فقرع- و هو خلف أمير المؤمنين و لا خلف منه- فقال معاوية أوسعت يا أبا أمية فاجلس- فإنما أردنا بعض هذا- .
و أثنى رجل على علي ع في وجهه ثناء أوسع فيه- و كان عنده متهما- فقال له أنا دون ما تقول و فوق ما في نفسك و قال ابن عباس لعتبة بن أبي سفيان- و قد أثنى عليه فأكثر- رويدا فقد أمهيت يا أبا الوليد- يعني بالغت يقال أمهى حافر البئر إذا استقصى حفرها- . فأما قوله ع- و لا يكونن المحسن و المسيء عندك بمنزلة سواء- فقد أخذه الصابي فقال- و إذا لم يكن للمحسن ما يرفعه و للمسيء ما يضعه- زهد المحسن في الإحسان و استمر المسيء على الطغيان- و قال أبو الطيب-
شر البلاد بلاد لا صديق بها
و شر ما يكسب الإنسان ما يصم
و شر ما قبضته راحتي قنص
شهب البزاة سواء فيه و الرخم
و كان يقال قضاء حق المحسن أدب للمسيء- و عقوبة المسيء جزاء للمحسن: وَ اعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ بِأَدْعَى- إِلَى حُسْنِ ظَنِّ وَالٍ بِرَعِيَّتِهِ- مِنْ إِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ وَ تَخْفِيفِهِ الْمَئُونَاتِ عَلَيْهِمْ- وَ تَرْكِ اسْتِكْرَاهِهِ إِيَّاهُمْ عَلَى مَا لَيْسَ لَهُ قِبَلَهُمْ- فَلْيَكُنْ مِنْكَ فِي ذَلِكَ أَمْرٌ- يَجْتَمِعُ لَكَ بِهِ حُسْنُ الظَّنِّ بِرَعِيَّتِكَ- فَإِنَّ حُسْنَ الظَّنِّ يَقْطَعُ عَنْكَ نَصَباً طَوِيلًا- وَ إِنَّ أَحَقَّ مَنْ حَسُنَ ظَنُّكَ بِهِ لَمَنْ حَسُنَ بَلَاؤُكَ عِنْدَهُ- وَ إِنَّ أَحَقَّ مَنْ سَاءَ ظَنُّكَ بِهِ لَمَنْ سَاءَ بَلَاؤُكَ عِنْدَهُ-وَ لَا تَنْقُضْ سُنَّةً صَالِحَةً عَمِلَ بِهَا صُدُورُ هَذِهِ الْأُمَّةِ- وَ اجْتَمَعَتْ بِهَا الْأُلْفَةُ وَ صَلَحَتْ عَلَيْهَا الرَّعِيَّةُ- وَ لَا تُحْدِثَنَّ سُنَّةً تَضُرُّ بِشَيْءٍ مِنْ مَاضِي تِلْكَ السُّنَنِ- فَيَكُونَ الْأَجْرُ لِمَنْ سَنَّهَا- وَ الْوِزْرُ عَلَيْكَ بِمَا نَقَضْتَ مِنْهَا- وَ أَكْثِرْ مُدَارَسَةَ الْعُلَمَاءِ وَ مُنَاقَشَةَ الْحُكَمَاءِ- فِي تَثْبِيتِ مَا صَلَحَ عَلَيْهِ أَمْرُ بِلَادِكَ- وَ إِقَامَةِ مَا اسْتَقَامَ بِهِ النَّاسُ قَبْلَكَ خلاصة صدر هذا الفصل- أن من أحسن إليك حسن ظنه فيك- و من أساء إليك استوحش منك- و ذلك لأنك إذا أحسنت إلى إنسان- و تكرر منك ذلك الإحسان- تبع ذلك اعتقادك أنه قد أحبك- ثم يتبع ذلك الاعتقاد أمر آخر و هو أنك تحبه- لأن الإنسان مجبول على أن يحب من يحبه- و إذا أحببته سكنت إليه و حسن ظنك فيه- و بالعكس من ذلك إذا أسأت إلى زيد- لأنك إذا أسأت إليه و تكررت الإساءة- تبع ذلك اعتقادك أنه قد أبغضك- ثم يتبع ذلك الاعتقاد أمر آخر و هو أن تبغضه أنت- و إذا أبغضته انقبضت منه و استوحشت و ساء ظنك به- .
قال المنصور للربيع- سلني لنفسك قال يا أمير المؤمنين- ملأت يدي فلم يبق عندي موضع للمسألة- قال فسلني لولدك قال أسألك أن تحبه- فقال المنصور يا ربيع إن الحب لا يسأل- و إنما هو أمر تقتضيه الأسباب- قال يا أمير المؤمنين و إنما أسألك أن تزيد من إحسانك- فإذا تكرر أحبك و إذا أحبك أحببته- فاستحسنالمنصور ذلك- ثم نهاه عن نقض السنن الصالحة- التي قد عمل بها من قبله من صالحي الأمة- فيكون الوزر عليه بما نقض و الأجر لأولئك بما أسسوا- ثم أمره بمطارحة العلماء و الحكماء في مصالح عمله- فإن المشورة بركة و من استشار فقد أضاف عقلا إلى عقله- . و مما جاء في معنى الأول- قال رجل لإياس بن معاوية من أحب الناس إليك- قال الذين يعطوني قال ثم من قال الذين أعطيهم- .
و قال رجل لهشام بن عبد الملك- إن الله جعل العطاء محبة و المنع مبغضة- فأعني على حبك و لا تعني في بغضك: وَ اعْلَمْ أَنَّ الرَّعِيَّةَ طَبَقَاتٌ- لَا يَصْلُحُ بَعْضُهَا إِلَّا بِبَعْضٍ- وَ لَا غِنَى بِبَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ- فَمِنْهَا جُنُودُ اللَّهِ وَ مِنْهَا كُتَّابُ الْعَامَّةِ وَ الْخَاصَّةِ- وَ مِنْهَا قُضَاةُ الْعَدْلِ وَ مِنْهَا عُمَّالُ الْإِنْصَافِ وَ الرِّفْقِ- وَ مِنْهَا أَهْلُ الْجِزْيَةِ وَ الْخَرَاجِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَ مُسْلِمَةِ النَّاسِ- وَ مِنْهَا التُّجَّارُ وَ أَهْلُ الصِّنَاعَاتِ- وَ مِنْهَا الطَّبَقَةُ السُّفْلَى مِنْ ذَوِي الْحَاجَاتِ وَ الْمَسْكَنَةِ- وَ كُلٌّ قَدْ سَمَّى اللَّهُ لَهُ سَهْمَهُ- وَ وَضَعَ عَلَى حَدِّهِ وَ فَرِيضَتِهِ فِي كِتَابِهِ أَوْ سُنَّةِ نَبِيِّهِ ص عَهْداً- مِنْهُ عِنْدَنَا مَحْفُوظاً- فَالْجُنُودُ بِإِذْنِ اللَّهِ حُصُونُ الرَّعِيَّةِ وَ زَيْنُ الْوُلَاةِ- وَ عِزُّ الدِّينِ وَ سُبُلُ الْأَمْنِ- وَ لَيْسَ تَقُومُ الرَّعِيَّةُ إِلَّا بِهِمْ- ثُمَّ لَا قِوَامَ لِلْجُنُودِ- إِلَّا بِمَا يُخْرِجُ اللَّهُ لَهُمْ مِنَ الْخَرَاجِ- الَّذِي يَقْوَوْنَ بِهِ عَلَى جِهَادِ عَدُوِّهِمْ- وَ يَعْتَمِدُونَ عَلَيْهِ فِيمَا يُصْلِحُهُمْ- وَ يَكُونُ مِنْ وَرَاءِ حَاجَتِهِمْ- ثُمَّ لَا قِوَامَ لِهَذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ إِلَّا بِالصِّنْفِ الثَّالِثِ- مِنَ الْقُضَاةِ وَ الْعُمَّالِ وَ الْكُتَّابِ- لِمَا يُحْكِمُونَ مِنَ الْمَعَاقِدِ وَ يَجْمَعُونَ مِنَ الْمَنَافِعِ- وَ يُؤْتَمَنُونَ عَلَيْهِ مِنْ خَوَاصِّ الْأُمُورِ وَ عَوَامِّهَا- وَ لَا قِوَامَ لَهُمْ جَمِيعاً إِلَّا بِالتُّجَّارِ وَ ذَوِي الصِّنَاعَاتِ- فِيمَا يَجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ مِنْ مَرَافِقِهِمْ- وَ يُقِيمُونَهُ مِنْ أَسْوَاقِهِمْ- وَ يَكْفُونَهُمْ مِنَ التَّرَفُّقِ بِأَيْدِيهِمْ- مِمَّا لَا يَبْلُغُهُ رِفْقُ غَيْرِهِمْ- ثُمَّ الطَّبَقَةُ السُّفْلَى مِنْ أَهْلِ الْحَاجَةِ وَ الْمَسْكَنَةِ- الَّذِينَ يَحِقُّ رِفْدُهُمْ وَ مَعُونَتُهُمْ- وَ فِي اللَّهِ لِكُلٍّ سَعَةٌ- وَ لِكُلٍّ عَلَى الْوَالِي حَقٌّ بِقَدْرِ مَا يُصْلِحُهُ- وَ لَيْسَ يَخْرُجُ الْوَالِي- مِنْ حَقِيقَةِ مَا أَلْزَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ- إِلَّا بِالِاهْتِمَامِ وَ الِاسْتِعَانَةِ بِاللَّهِ- وَ تَوْطِينِ نَفْسِهِ عَلَى لُزُومِ الْحَقِّ- وَ الصَّبْرِ عَلَيْهِ فِيمَا خَفَّ عَلَيْهِ أَوْ ثَقُلَ قالت الحكماء الإنسان مدني بالطبع- و معناه أنه خلق خلقة- لا بد معها من أن يكون منضما إلى أشخاص من بني جنسه- و متمدنا في مكان بعينه- و ليس المراد بالمتمدن ساكن المدينة ذات السور و السوق- بل لا بد أن يقيم في موضع ما مع قوم من البشر- و ذلك لأن الإنسان مضطر- إلى ما يأكله و يشربه ليقيم صورته- و مضطر إلى ما يلبسه ليدفع عنه أذى الحر و البرد- و إلى مسكن يسكنه ليرد عنه عادية غيره من الحيوانات- و ليكون منزلا له ليتمكن من التصرف و الحركة عليه- و معلوم أن الإنسان وحده- لا يستقل بالأمور التي عددناها- بل لا بد من جماعة يحرث بعضهم لغيره الحرث- و ذلك الغير يحوك للحراث الثوب- و ذلك الحائك يبني له غيره المسكن- و ذلك البناء يحمل له غيره الماء- و ذلك السقاء يكفيه غيره أمر تحصيل الآلة- التي يطحن بها الحب و يعجن بها الدقيق- و يخبز بها العجين- و ذلك المحصل لهذه الأشياء يكفيه غيره- الاهتمام بتحصيل الزوجة- التي تدعو إليها داعية الشبق- فيحصل مساعدة بعض الناس لبعض- لو لا ذلك لما قامت الدنيا- فلهذا معنى قوله ع- إنهم طبقات لا يصلح بعضها إلا ببعض- و لا غناء ببعضها عن بعض- .
ثم فصلهم و قسمهم فقال- منهم الجند و منهم الكتاب- و منهم القضاة و منهم العمال- و منهم أرباب الجزية من أهل الذمة- و منهم أرباب الخراج من المسلمين- و منهم التجار و منهم أرباب الصناعات- و منهم ذوو الحاجات و المسكنة و هم أدون الطبقات- . ثم ذكر أعمال هذه الطبقات فقال الجند للحماية- و الخراج يصرف إلى الجند و القضاة و العمال و الكتاب- لما يحكمونه من المعاقد و يجمعونه من المنافع- و لا بد لهؤلاء جميعا من التجار- لأجل البيع و الشراء الذي لا غناء عنه- و لا بد لكل من أرباب الصناعات- كالحداد و النجار و البناء و أمثالهم- ثم تلي هؤلاء الطبقة السفلى و هم أهل الفقر و الحاجة- الذين تجب معونتهم و الإحسان إليهم- . و إنما قسمهم في هذا الفصل هذا التقسيم- تمهيدا لما يذكره فيما بعد فإنه قد شرع بعد هذا الفصل- فذكر طبقة طبقة و صنفا صنفا- و أوصاه في كل طبقة و في كل صنف منهم بما يليق بحاله- و كأنه مهد هذا التمهيد- كالفهرست لما يأتي بعده من التفصيل
فَوَلِّ مِنْ جُنُودِكَ- أَنْصَحَهُمْ فِي نَفْسِكَ لِلَّهِ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِإِمَامِكَ- وَ أَطْهَرَهُمْ جَيْباً وَ أَفْضَلَهُمْ حِلْماً- مِمَّنْ يُبْطِئُ عَنِ الْغَضَبِ وَ يَسْتَرِيحُ إِلَى الْعُذْرِ- وَ يَرْأَفُ بِالضُّعَفَاءِ وَ يَنْبُو عَلَى الْأَقْوِيَاءِ- وَ مِمَّنْ لَا يُثِيرُهُ الْعُنْفُ وَ لَا يَقْعُدُ بِهِ الضَّعْفُ- ثُمَّ الْصَقْ بِذَوِي الْمُرُوءَاتِ وَ الْأَحْسَابِ- وَ أَهْلِ الْبُيُوتَاتِ الصَّالِحَةِ وَ السَّوَابِقِ الْحَسَنَةِ- ثُمَّ أَهْلِ النَّجْدَةِ وَ الشَّجَاعَةِ وَ السَّخَاءِ وَ السَّمَاحَةِ- فَإِنَّهُمْ جِمَاعٌ مِنَ الْكَرَمِ وَ شُعَبٌ مِنَ الْعُرْفِ- ثُمَّ تَفَقَّدْ مِنْ أُمُورِهِمْ مَا يَتَفَقَّدُ الْوَالِدَانِ مِنْ وَلَدِهِمَا- وَ لَا يَتَفَاقَمَنَّ فِي نَفْسِكَ شَيْءٌ قَوَّيْتَهُمْ بِهِ- وَ لَا تَحْقِرَنَّ لُطْفاً تَعَاهَدْتَهُمْ بِهِ وَ إِنْ قَلَّ- فَإِنَّهُ دَاعِيَةٌ لَهُمْ إِلَى بَذْلِ النَّصِيحَةِ لَكَ وَ حُسْنِ الظَّنِّ بِكَ- وَ لَا تَدَعْ تَفَقُّدَ لَطِيفِ أُمُورِهِمُ اتِّكَالًا عَلَى جَسِيمِهَا- فَإِنَّ لِلْيَسِيرِ مِنْ لُطْفِكَ مَوْضِعاً يَنْتَفِعُونَ بِهِ- وَ لِلْجَسِيمِ مَوْقِعاً لَا يَسْتَغْنُونَ عَنْهُ- وَ لْيَكُنْ آثَرُ رُءُوسِ جُنْدِكَ عِنْدَكَ مَنْ وَاسَاهُمْ فِي مَعُونَتِهِ- وَ أَفْضَلَ عَلَيْهِمْ مِنْ جِدَتِهِ- بِمَا يَسَعُهُمْ وَ يَسَعُ مَنْ وَرَاءَهُمْ مِنْ خُلُوفِ أَهْلِيهِمْ- حَتَّى يَكُونَ هَمُّهُمْ هَمّاً وَاحِداً فِي جِهَادِ الْعَدُوِّ- فَإِنَّ عَطْفَكَ عَلَيْهِمْ يَعْطِفُ قُلُوبَهُمْ عَلَيْكَ- وَ لَا تَصِحُّ نَصِيحَتُهُمْ إِلَّا بِحِيطَتِهِمْ عَلَى وُلَاةِ أُمُورِهِمْ- وَ قِلَّةِ اسْتَثْقَالِ دُوَلِهِمْ- وَ تَرْكِ اسْتِبْطَاءِ انْقِطَاعِ مُدَّتِهِمْ- فَافْسَحْ فِي آمَالِهِمْ وَ وَاصِلْ مِنْ حُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ- وَ تَعْدِيدِ مَا أَبْلَى ذَوُو الْبَلَاءِ مِنْهُمْ- فَإِنَّ كَثْرَةَ الذِّكْرِ لِحُسْنِ فِعَالِهِمْ تَهُزُّ الشُّجَاعَ- وَ تُحَرِّضُ النَّاكِلَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ- ثُمَّ اعْرِفْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا أَبْلَى- وَ لَا تَضُمَّنَّ بَلَاءَ امْرِئٍ إِلَى غَيْرِهِ- وَ لَا تُقَصِّرَنَّ بِهِ دُونَ غَايَةِ بَلَائِهِ- وَ لَا يَدْعُوَنَّكَ شَرَفُ امْرِئٍ- إِلَى أَنْ تُعْظِمَ مِنْ بَلَائِهِ مَا كَانَ صَغِيراً- وَ لَا ضَعَةُ امْرِئٍ إِلَى أَنْ تَسْتَصْغِرَ مِنْ بَلَائِهِ مَا كَانَ عَظِيماً- وَ ارْدُدْ إِلَى اللَّهِ وَ رَسُولِهِ مَا يُضْلِعُكَ مِنَ الْخُطُوبِ- وَ يَشْتَبِهُ عَلَيْكَ مِنَ الْأُمُورِ- فَقَدْ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِقَوْمٍ أَحَبَّ إِرْشَادَهُمْ- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ- وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ- فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَ الرَّسُولِ- فَالرَّدُّ إِلَى اللَّهِ الْأَخْذُ بِمُحْكَمِ كِتَابِهِ- وَ الرَّدُّ إِلَى الرَّسُولِ الْأَخْذُ بِسُنَّتِهِ الْجَامِعَةِ غَيْرِ الْمُفَرِّقَةِ هذا الفصل مختص بالوصاة فيما يتعلق بأمراء الجيش- أمره أن يولى أمر الجيش من جنوده- من كان أنصحهم لله في ظنه- و أطهرهم جيبا أي عفيفا أمينا- و يكنى عن العفة و الأمانة بطهارة الجيب- لأن الذي يسرق يجعل المسروق في جيبه- .
فإن قلت و أي تعلق لهذا بولاة الجيش- إنما ينبغي أن تكون هذه الوصية في ولاة الخراج- قلت لا بد منها في أمراء الجيش لأجل الغنائم- . ثم وصف ذلك الأمير فقال- ممن يبطئ عن الغضب و يستريح إلى العذر- أي يقبل أدنى عذر و يستريح إليه و يسكن عنده- و يرؤف على الضعفاء يرفق بهم و يرحمهم- و الرأفة الرحمة- و ينبو عن الأقوياء يتجافى عنهم و يبعد- أي لا يمكنهم من الظلم و التعدي على الضعفاء- و لا يثيره العنف لا يهيج غضبه عنف و قسوة- و لا يقعد به الضعف أي ليس عاجزا- . ثم أمره أن يلصق بذوي الأحساب و أهل البيوتات- أي يكرمهم و يجعل معوله في ذلك عليهم- و لا يتعداهم إلى غيرهم- و كان يقال عليكم بذوي الأحساب- فإن هم لم يتكرموا استحيوا- . ثم ذكر بعدهم أهل الشجاعة و السخاء- ثم قال إنها جماع من الكرم و شعب من العرف- من هاهنا زائدة- و إن كانت في الإيجاب على مذهب أبي الحسن الأخفش- أي جماع الكرم أي يجمعه- كقول النبي ص الخمر جماع الإثم- و العرف المعروف- . و كذلك من في قوله و شعب من العرف- أي شعب العرف أي هي أقسامه و أجزاؤه- و يجوز أن تكون من على حقيقتها للتبعيض- أي هذه الخلال جملة من الكرم و أقسام المعروف- و ذلك لأن غيرها أيضا من الكرم و المعروف- و نحو العدل و العفة- . قوله ثم تفقد من أمورهم- الضمير هاهنا يرجع إلى الأجناد لا إلى الأمراء- لما سنذكره مما يدل الكلام عليه- . فإن قلت إنه لم يجر للأجناد ذكر فيما سبق- و إنما المذكور الأمراء- قلت كلا بل سبق ذكر الأجناد- و هو قوله الضعفاء و الأقوياء- .
و أمره ع أن يتفقد من أمور الجيش- ما يتفقد الوالدان من حال الولد- و أمره ألا يعظم عنده ما يقويهم به و إن عظم- و ألا يستحقر شيئا تعهدهم به و إن قل- و ألا يمنعه تفقد جسيم أمورهم عن تفقد صغيرها- و أمره أن يكون آثر رءوس جنوده عنده و أحظاهم عنده- و أقربهم إليه من واساهم في معونته- هذا هو الضمير الدال على أن الضمير المذكور أولا للجند- لا لأمراء الجند- لو لا ذلك لما انتظم الكلام- . قوله من خلوف أهليهم- أي ممن يخلفونه من أولادهم و أهليهم- . ثم قال لا يصح نصيحة الجند لك- إلا بحيطتهم على ولاتهم أي بتعطفهم عليهم و تحننهم- و هي الحيطة على وزن الشيمة- مصدر حاطه يحوطه حوطا و حياطا و حيطة أي كلأه و رعاه- و أكثر الناس يروونها إلا بحيطتهم- بتشديد الياء و كسرها- و الصحيح ما ذكرناه- . قوله و قلة استثقال دولهم- أي لا تصح نصيحة الجند لك إلا إذا أحبوا أمراءهم- ثم لم يستثقلوا دولهم و لم يتمنوا زوالها- .
ثم أمره أن يذكر في المجالس و المحافل- بلاء ذوي البلاء منهم- فإن ذلك مما يرهف عزم الشجاع و يحرك الجبان- . قوله و لا تضمن بلاء امرئ إلى غيره- أي اذكر كل من أبلى منهم مفردا- غير مضموم ذكر بلائه إلى غيره- كي لا يكون مغمورا في جنب ذكر غيره- . ثم قال له لا تعظم بلاء ذوي الشرف لأجل شرفهم- و لا تحقر بلاء ذوي الضعة لضعة أنسابهم- بل اذكر الأمور على حقائقها- . ثم أمره أن يرد إلى الله و رسوله ما يضلعه من الخطوب- أي ما يئوده و يميلهلثقله- و هذه الرواية أصح من رواية من رواها بالظاء- و إن كان لتلك وجه
رسالة الإسكندر إلى أرسطو و رد أرسطو عليه
و ينبغي أن نذكر في هذا الموضع- رسالة أرسطو إلى الإسكندر- في معنى المحافظة على أهل البيوتات و ذوي الأحساب- و أن يخصهم بالرئاسة و الإمرة- و لا يعدل عنهم إلى العامة و السفلة- فإن في ذلك تشييدا لكلام أمير المؤمنين ع و وصيته- . لما ملك الإسكندر ايرانشهر- و هو العراق مملكة الأكاسرة- و قتل دارا بن دارا كتب إلى أرسطو و هو ببلاد اليونان- عليك أيها الحكيم منا السلام- أما بعد فإن الأفلاك الدائرة و العلل السمائية- و إن كانت أسعدتنا بالأمور- التي أصبح الناس لنا بها دائبين- فإنا جد واجدين لمس الاضطرار إلى حكمتك- غير جاحدين لفضلك و الإقرار بمنزلتك- و الاستنامة إلى مشورتك و الاقتداء برأيك- و الاعتماد لأمرك و نهيك- لما بلونا من جدا ذلك علينا و ذقنا من جنا منفعته- حتى صار ذلك بنجوعه فينا- و ترسخه في أذهاننا و عقولنا كالغذاء لنا- فما ننفك نعول عليه- و نستمد منه استمداد الجداول من البحور- و تعويل الفروع على الأصول- و قوة الأشكال بالأشكال- و قد كان مما سيق إلينا من النصر و الفلج- و أتيح لنا من الظفر- و بلغنا في العدو من النكاية و البطش- ما يعجز القول عن وصفه- و يقصر شكر المنعم عن موقع الإنعام به- و كان من ذلك أنا جاوزنا أرض سورية و الجزيرة- إلى بابل و أرض فارس- فلما حللنا بعقوة أهلها و ساحة بلادهم- لم يكن إلا ريثما تلقانا نفر منهم- برأس ملكهم هدية إلينا و طلبا للحظوة عندنا- فأمرنا بصلب من جاء به و شهرته لسوء بلائه- و قلة ارعوائه و وفائه- ثم أمرنا بجمع من كان هناك من أولاد ملوكهم- و أحرارهم و ذي الشرف منهم- فرأينا رجالا عظيمة أجسامهم و أحلامهم- حاضرة ألبابهم و أذهانهم رائعة مناظرهم و مناطقهم- دليلا على أن ما يظهر من روائهم و منطقهم- أن وراءه من قوة أيديهم- و شدة نجدتهم و بأسهم ما لم يكن- ليكون لنا سبيل إلى غلبتهم و إعطائهم بأيديهم- لو لا أن القضاء أدالنا منهم- و أظفرنا بهم و أظهرنا عليهم- و لم نر بعيدا من الرأي في أمرهم أن نستأصل شأفتهم- و نجتث أصلهم و نلحقهم بمن مضى من أسلافهم- لتسكن القلوب بذلك الأمن إلى جرائرهم و بوائقهم- فرأينا ألا نجعل بإسعاف بادئ الرأي في قتلهم- دون الاستظهار عليهم بمشورتك فيهم- فارفع إلينا رأيك فيما استشرناك فيه بعد صحته عندك- و تقليبك إياه بجلي نظرك- و سلام أهل السلام فليكن علينا و عليك- .
فكتب إليه أرسطو- لملك الملوك و عظيم العظماء- الإسكندر المؤيد بالنصر على الأعداء- المهدي له الظفر بالملوك- من أصغر عبيده و أقل خوله- أرسطوطاليس البخوع بالسجود و التذلل في السلام- و الإذعان في الطاعة- أما بعد فإنه لا قوة بالمنطق و إن احتشد الناطق فيه- و اجتهد في تثقيف معانيه و تأليف حروفه و مبانيه- على الإحاطة بأقل ما تناله القدرة- من بسطة علو الملك و سمو ارتفاعه عن كل قول- و إبرازه على كل وصف و اغترافه بكل إطناب- و قد كان تقرر عندي- من مقدمات إعلام فضل الملك في صهلة سبقه- و بروز شأوه و يمن نقيبته- مذ أدت إلي حاسة بصري صورة شخصه- و اضطرب في حس سمعي صوت لفظه- و وقع وهمي على تعقيب نجاح رأيه- أيام كنت أؤدي إليه من تكلف تعليمي إياه- ما أصبحت قاضيا على نفسي بالحاجة إلى تعلمه منه- و مهما يكن مني إليه في ذلك-
فإنما هو عقل مردود إلى عقله- مستنبطة أواليه و تواليه من علمه و حكمته- و قد جلا إلى كتاب الملك و مخاطبته إياي و مسألته لي- عما لا يتخالجني الشك في لقاح ذلك و إنتاجه من عنده- فعنه صدر و عليه ورد- و أنا فيما أشير به على الملك- و إن اجتهدت فيه و احتشدت له- و تجاوزت حد الوسع و الطاقة مني في استنظافه و استقصائه- كالعدم مع الوجود بل كما لا يتجزأ في جنب معظم الأشياء- و لكني غير ممتنع من إجابة الملك إلى ما سأل- مع علمي و يقيني بعظيم غناه عني و شدة فاقتي إليه- و أنا راد إلى الملك ما اكتسبته منه- و مشير عليه بما أخذته منه فقائل له- إن لكل تربة لا محالة قسما من الفضائل- و إن لفارس قسمها من النجدة و القوة- و إنك إن تقتل أشرافهم تخلف الوضعاء علي أعقابهم- و تورث سفلتهم على منازل عليتهم- و تغلب أدنياءهم على مراتب ذوي أخطارهم- و لم يبتل الملوك قط ببلاء هو أعظم عليهم- و أشد توهينا لسلطانهم من غلبة السفلة و ذل الوجوه- فاحذر الحذر كله أن تمكن تلك الطبقة من الغلبة و الحركة- فإنه إن نجم منهم بعد اليوم على جندك و أهل بلادك ناجم- دهمهم منه ما لا روية فيه و لا بقية معه- فانصرف عن هذا الرأي إلى غيره- و اعمد إلى من قبلك من أولئك العظماء و الأحرار- فوزع بينهم مملكتهم- و ألزم اسم الملك كل من وليته منهم ناحيته- و اعقد التاج على رأسه و إن صغر ملكه- فإن المتسمي بالملك لازم لاسمه- و المعقود التاج على رأسه لا يخضع لغيره- فليس ينشب ذلك أن يوقع كل ملك منهم- بينه و بين صاحبه تدابرا و تقاطعا و تغالبا على الملك- و تفاخرا بالمال و الجند- حتى ينسوا بذلك أضغانهم عليك و أوتارهم فيك- و يعود حربهم لك حربا بينهم- و حنقهم عليك حنقا منهم على أنفسهم- ثم لا يزدادون في ذلك بصيرة- إلا أحدثوا لك بها استقامة- إن دنوت منهم دانوا لك و إن نأيت عنهم تعززوا بك- حتى يثب من ملك منهم على جاره باسمك و يسترهبه بجندك- و في ذلك شاغل لهم عنك و أمان لأحداثهم بعدك- و إن كان لا أمان للدهر و لا ثقة بالأيام- . قد أديت إلى الملك ما رأيته لي حظا و علي حقا- من إجابتي إياه إلى ما سألني عنه- و محضته النصيحة فيه- و الملك أعلى عينا و أنفذ روية و أفضل رأيا- و أبعد همة فيما استعان بي عليه- و كلفني بتبيينه و المشورة عليه فيه- لا زال الملك متعرفا من عوائد النعم و عواقب الصنع- و توطيد الملك و تنفيس الأجل و درك الأمل- ما تأتي فيه قدرته على غاية قصوى ما تناله قدرة البشر- . و السلام الذي لا انقضاء له- و لا انتهاء و لا غاية و لا فناء- فليكن على الملك- .
قالوا فعمل الملك برأيه- و استخلف على ايرانشهر- أبناء الملوك و العظماء من أهل فارس- فهم ملوك الطوائف الذين بقوا بعده- و المملكة موزعة بينهم- إلى أن جاء أردشير بن بابك فانتزع الملك منهمثُمَّ اخْتَرْ لِلْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ أَفْضَلَ رَعِيَّتِكَ فِي نَفْسِكَ- مِمَّنْ لَا تَضِيقُ بِهِ الْأُمُورُ وَ لَا تُمَحِّكُهُ الْخُصُومُ- وَ لَا يَتَمَادَى فِي الزَّلَّةِ- وَ لَا يَحْصَرُ مِنَ الْفَيْءِ إِلَى الْحَقِّ إِذَا عَرَفَهُ- وَ لَا تُشْرِفُ نَفْسُهُ عَلَى طَمَعٍ- وَ لَا يَكْتَفِي بِأَدْنَى فَهْمٍ دُونَ أَقْصَاهُ- وَ أَوْقَفَهُمْ فِي الشُّبُهَاتِ وَ آخَذَهُمْ بِالْحُجَجِ- وَ أَقَلَّهُمْ تَبَرُّماً بِمُرَاجَعَةِ الْخَصْمِ- وَ أَصْبَرَهُمْ عَلَى تَكَشُّفِ الْأُمُورِ- وَ أَصْرَمَهُمْ عِنْدَ اتِّضَاحِ الْحُكْمِ- مِمَّنْ لَا يَزْدَهِيهِ إِطْرَاءٌ وَ لَا يَسْتَمِيلُهُ إِغْرَاءٌ- وَ أُولَئِكَ قَلِيلٌ- ثُمَّ أَكْثِرْ تَعَاهُدَ قَضَائِهِ- وَ أَفْسِحْ لَهُ فِي الْبَذْلِ مَا يُزِيحُ عِلَّتَهُ- وَ تَقِلُّ مَعَهُ حَاجَتُهُ إِلَى النَّاسِ- وَ أَعْطِهِ مِنَ الْمَنْزِلَةِ لَدَيْكَ مَا لَا يَطْمَعُ فِيهِ غَيْرُهُ مِنْ خَاصَّتِكَ- لِيَأْمَنَ بِذَلِكَ اغْتِيَالَ الرِّجَالِ لَهُ عِنْدَكَ- فَانْظُرْ فِي ذَلِكَ نَظَراً بَلِيغاً- فَإِنَّ هَذَا الدِّينَ قَدْ كَانَ أَسِيراً فِي أَيْدِي الْأَشْرَارِ- يُعْمَلُ فِيهِ بِالْهَوَى وَ تُطْلَبُ بِهِ الدُّنْيَا تمحكه الخصوم تجعله ما حكا أي لجوجا- محك الرجل أي لج و ماحك زيد عمرا أي لاجه- . قوله و لا يتمادى في الزلة أي إن زل رجع و أناب- و الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل- . قوله و لا يحصر من الفيء هو المعنى الأول بعينه- و الفيء الرجوع إلا أن هاهنا زيادة- و هو أنه لا يحصر أي لا يعيا في المنطق- لأن من الناس من إذا زل حصر عن أن يرجع- و أصابه كالفهاهة و العي خجلا- . قوله و لا تشرف نفسه أي لا تشفق- و الإشراف الإشفاق و الخوف- و أنشد الليث
و من مضر الحمراء إسراف أنفس
علينا و حياها علينا تمضرا
و قال عروة بن أذينة-
لقد علمت و ما الإشراف من خلقي
أن الذي هو رزقي سوف يأتيني
و المعنى و لا تشفق نفسه- و تخاف من فوت المنافع و المرافق- . ثم قال و لا يكتفى بأدنى فهم- أي لا يكون قانعا بما يخطر له بادئ الرأي من أمر الخصوم- بل يستقصي و يبحث أشد البحث- . قوله و أقلهم تبرما بمراجعة الخصم أي تضجرا- و هذه الخصلة من محاسن ما شرطه ع- فإن القلق و الضجر و التبرم قبيح- و أقبح ما يكون من القاضي- . قوله و أصرمهم أي أقطعهم و أمضاهم- و ازدهاه كذا أي استخفه- و الإطراء المدح و الإغراء التحريض- . ثم أمره أن يتطلع على أحكامه و أقضيته- و أن يفرض له عطاء واسعا يملأ عينه- و يتعفف به عن المرافق و الرشوات- و أن يكون قريب المكان منه كثير الاختصاص به- ليمنع قربه من سعاية الرجال به و تقبيحهم ذكره عنده- . ثم قال إن هذا الدين قد كان أسيرا- هذه إشارة إلى قضاة عثمان و حكامه- و أنهم لم يكونوا يقضون بالحق عنده- بل بالهوى لطلب الدنيا- . و أما أصحابنا فيقولون- رحم الله عثمان فإنه كان ضعيفا و استولى عليه أهله- قطعوا الأمور دونه فإثمهم عليهم و عثمان بريء منهم
فصل في القضاة و ما يلزمهم و ذكر بعض نوادرهم
قد جاء في الحديث المرفوع لا يقضي القاضي و هو غضبانو جاء في الحديث المرفوع أيضا من ابتلي بالقضاء بين المسلمين- فليعدل بينهم في لحظه و إشارته و مجلسه و مقعده- . دخل ابن شهاب على الوليد أو سليمان فقال له- يا ابن شهاب ما حديث يرويه أهل الشام- قال ما هو يا أمير المؤمنين- قال إنهم يروون أن الله تعالى إذا استرعى عبدا رعية- كتب له الحسنات و لم يكتب عليه السيئات- فقال كذبوا يا أمير المؤمنين- أيما أقرب إلى الله نبي أم خليفة قال بل نبي- قال فإنه تعالى يقول لنبيه داود- يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ- فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ- وَ لا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ- إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ- فقال سليمان إن الناس ليغروننا عن ديننا- .
و قال بكر بن عبد الله العدوي لابن أرطاة- و أراد أن يستقضيه و الله ما أحسن القضاء- فإن كنت صادقا لم يحل لك أن تستقضي من لا يحسن- و إن كنت كاذبا فقد فسقت- و الله لا يحل أن تستقضي الفاسق- . و قال الزهري ثلاث إذا كن في القاضي فليس بقاض- أن يكره اللائمة و يحب المحمدة و يخاف العزل- . و قال محارب بن زياد للأعمش وليت القضاء فبكى أهلي- فلما عزلت بكى أهلي فما أدري مم ذلك- قال لأنك وليت القضاء و أنت تكرهه و تجزع منه-فبكى أهلك لجزعك- و عزلت عنه فكرهت العزل و جزعت فبكى أهلك لجزعك- قال صدقت- . أتي ابن شبرمة بقوم يشهدون على قراح نخل- فشهدوا و كانوا عدولا فامتحنهم فقال- كم في القراح من نخلة قالوا لا نعلم فرد شهادتهم- فقال له أحدهم- أنت أيها القاضي تقضي في هذا المسجد منذ ثلاثين سنة- فأعلمنا كم فيه من أسطوانة- فسكت و أجازهم- . خرج شريك و هو على قضاء الكوفة يتلقى الخيزران- و قد أقبلت تريد الحج- و قد كان استقضي و هو كاره- فأتي شاهي فأقام بها ثلاثا فلم تواف- فخف زاده و ما كان معه- فجعل يبله بالماء و يأكله بالملح- فقال العلاء بن المنهال الغنوي-
فإن كان الذي قد قلت حقا
بأن قد أكرهوك على القضاء
فما لك موضعا في كل يوم
تلقى من يحج من النساء
مقيما في قرى شاهي ثلاثا
بلا زاد سوى كسر و ماء
و تقدمت كلثم بنت سريع مولى عمرو بن حريث- و كانت جميلة- و أخوها الوليد بن سريع إلى عبد الملك بن عمير- و هو قاض بالكوفة فقضى لها على أخيها- فقال هذيل الأشجعي-
أتاه وليد بالشهود يسوقهم
على ما ادعى من صامت المال و الخول
و جاءت إليه كلثم و كلامها
شفاء من الداء المخامر و الخبل
فأدلى وليد عند ذاك بحقه
و كان وليد ذا مراء و ذا جدل
فدلهت القبطي حتى قضى لها
بغير قضاء الله في محكم الطول
فلو كان من في القصر يعلم علمه
لما استعمل القبطي فينا على عمل
له حين يقضي للنساء تخاوص
و كان و ما فيه التخاوص و الحول
إذا ذات دل كلمته لحاجة
فهم بأن يقضي تنحنح أو سعل
و برق عينيه و لاك لسانه
يرى كل شيء ما خلا وصلها جلل
و كان عبد الملك بن عمير يقول لعن الله الأشجعي- و الله لربما جاءتني السعلة و النحنحة و أنا في المتوضإ- فأردهما لما شاع من شعره- . كتب عمر بن الخطاب إلى معاوية- أما بعد فقد كتبت إليك في القضاء بكتاب- لم آلك و نفسي فيه خيرا- الزم خمس خصال يسلم لك دينك و تأخذ بأفضل حظك- إذا تقدم إليك الخصمان- فعليك بالبينة العادلة أو اليمين القاطعة- و ادن الضعيف حتى يشتد قلبه و ينبسط لسانه- و تعهد الغريب- فإنك إن لم تتعهده ترك حقه و رجع إلى أهله- و إنما ضيع حقه من لم يرفق به- و آس بين الخصوم في لحظك و لفظك- و عليك بالصلح بين الناس- ما لم يستبن لك فصل القضاء- . و كتب عمر إلى شريح لا تسارر و لا تضارر- و لا تبع و لا تبتع في مجلس القضاء- و لا تقض و أنت غضبان و لا شديد الجوع- و لا مشغول القلب- . شهد رجل عند سوار القاضي- فقال ما صناعتك فقال مؤدب- قال أنا لا أجيز شهادتك قال و لم- قال لأنك تأخذ على تعليم القرآن أجرا- قال و أنت أيضا تأخذ على القضاء بين المسلمين أجرا- قال إنهم أكرهوني قال نعم أكرهوك على القضاء- فهل أكرهوك على أخذ الأجر- قال هلم شهادتك- . و دخل أبو دلامة ليشهد عند أبي ليلى- فقال حين جلس بين يديه-
إذا الناس غطوني تغطيت عنهم
و إن بحثوا عني ففيهم مباحث
و إن حفروا بئري حفرت بئارهم
ليعلم ما تخفيه تلك النبائث
– . فقال بل نغطيك يا أبا دلامة و لا نبحثك- و صرفه راضيا- و أعطى المشهود عليه من عنده قيمة ذلك الشيء- . كان عامر بن الظرب العدواني حاكم العرب و قاضيها- فنزل به قوم يستفتونه في الخنثى و ميراثه- فلم يدر ما يقضي فيه- و كان له جارية اسمها خصيلة- ربما لامها في الإبطاء عن الرعي و في الشيء يجده عليها- فقال لها يا خصيلة لقد أسرع هؤلاء القوم في غنمي- و أطالوا المكث- قالت و ما يكبر عليك من ذلك اتبعه مباله و خلاك ذم- فقال لها مسي خصيل بعدها أو روحي- . و قال أعرابي لقوم يتنازعون- هل لكم في الحق أو ما هو خير من الحق- قيل و ما الذي هو خير من الحق- قال التحاط و الهضم فإن أخذ الحق كله مر- . و عزل عمر بن عبد العزيز بعض قضاته- فقال لم عزلتني- فقال بلغني أن كلامك أكثر من كلام الخصمين- إذا تحاكما إليك- . و دخل إياس بن معاوية الشام و هو غلام- فقدم خصما إلى باب القاضي في أيام عبد الملك- فقال القاضي أ ما تستحيي تخاصم و أنت غلام شيخا كبيرا- فقال الحق أكبر منه فقال اسكت ويحك- قال فمن ينطق بحجتي إذا- قال ما أظنك تقول اليوم حقا حتى تقوم- فقال لا إله إلا الله- فقام القاضي و دخل على عبد الملك و أخبره- فقال اقض حاجته- و أخرجه من الشام كي لا يفسد علينا الناس- . و اختصم أعرابي و حضري إلى قاض- فقال الأعرابي أيها القاضي إنه و إن هملج إلى الباطل- فإنه عن الحق لعطوف- . و رد رجل جارية على رجل اشتراها منه بالحمق- فترافعا إلى إياس بن معاوية-فقال لها إياس أي رجليك أطول فقالت هذه- فقال أ تذكرين ليلة ولدتك أمك قالت نعم- فقال إياس رد رد- .
و جاء في الخبر المرفوع من رواية عبد الله بن عمر لا قدست أمة لا يقضى فيها بالحقو من الحديث المرفوع من رواية أبي هريرة ليس أحد يحكم بين الناس- إلا جيء به يوم القيامة مغلولة يداه إلى عنقه- فكه العدل و أسلمه الجور واستعدى رجل على علي بن أبي طالب ع- عمر بن الخطاب رضي الله عنه و علي جالس- فالتفت عمر إليه فقال- قم يا أبا الحسن فاجلس مع خصمك- فقام فجلس معه و تناظرا- ثم انصرف الرجل و رجع علي ع إلى محله- فتبين عمر التغير في وجهه- فقال يا أبا الحسن ما لي أراك متغيرا أ كرهت ما كان- قال نعم قال و ما ذاك- قال كنيتني بحضرة خصمي- هلا قلت قم يا علي فاجلس مع خصمك- فاعتنق عمر عليا و جعل يقبل وجهه- و قال بأبي أنتم بكم هدانا الله- و بكم أخرجنا من الظلمة إلى النور- . أبان بن عبد الحميد اللاحقي في سوار بن عبد الله القاضي-
لا تقدح الظنة في حكمه
شيمته عدل و إنصاف
يمضي إذا لم تلقه شبهة
و في اعتراض الشك وقاف
كان ببغداد رجل يذكر بالصلاح و الزهد يقال له رويم- فولي القضاء فقال الجنيد- من أراد أن يستودع سره من لا يفشيه فعليه برويم- فإنه كتم حب الدنيا أربعين سنة إلى أن قدر عليها- . الأشهب الكوفي
يا أهل بغداد قد قامت قيامتكم
مذ صار قاضيكم نوح بن دراج
لو كان حيا له الحجاج ما سلمت
صحيحة يده من وسم حجاج
و كان الحجاج يسم أيدي النبط بالمشراط و النيل- . لما وقعت فتنة ابن الزبير اعتزل شريح القضاء- و قال لا أقضي في الفتنة- فبقي لا يقضي تسع سنين- ثم عاد إلى القضاء و قد كبرت سنه- فاعترضه رجل و قد انصرف من مجلس القضاء- فقال له أ ما حان لك أن تخاف الله- كبرت سنك و فسد ذهنك و صارت الأمور تجوز عليك- فقال و الله لا يقولها بعدك لي أحد- فلزم بيته حتى مات- . قيل لأبي قلابة و قد هرب من القضاء لو أجبت- قال أخاف الهلاك- قيل لو اجتهدت لم يكن عليك بأس- قال ويحكم إذا وقع السابح في البحر كم عسى أن يسبح- . دعا رجل لسليمان الشاذكوني- فقال أرانيك الله يا أبا أيوب على قضاء أصبهان- قال ويحك إن كان و لا بد فعلى خراجها- فإن أخذ أموال الأغنياء أسهل من أخذ أموال الأيتام- . ارتفعت جميلة بنت عيسى بن جراد و كانت جميلة كاسمها- مع خصم لها إلى الشعبي و هو قاضي عبد الملك فقضى لها- فقال هذيل الأشجعي
فتن الشعبي لما
رفع الطرف إليها
فتنته بثنايا
ها و قوسي حاجبيها
و مشت مشيا رويدا
ثم هزت منكبيها
فقضى جورا على الخصم
و لم يقض عليها
– فقبض الشعبي عليه و ضربه ثلاثين سوطا- . قال ابن أبي ليلى- ثم انصرف الشعبي يوما من مجلس القضاء- و قد شاعت الأبياتو تناشدها الناس- و نحن معه فمررنا بخادم تغسل الثياب- و تقولفتن الشعبي لما- و لا تحفظ تتمة البيت فوقف عليها و لقنها- و قال رفع الطرف إليها- ثم ضحك و قال- أبعده الله و الله ما قضينا لها إلا بالحق- . جاءت امرأة إلى قاض فقالت- مات بعلي و ترك أبوين و ابنا و بني عم- فقال القاضي لأبويه الثكل و لابنه اليتم- و لك اللائمة و لبني عمه الذلة- و احملي المال إلينا إلى أن ترتفع الخصوم- . لقي سفيان الثوري شريكا بعد ما استقضي- فقال له يا أبا عبد الله- بعد الإسلام و الفقه و الصلاح تلي القضاء- قال يا أبا عبد الله فهل للناس بد من قاض- قال و لا بد يا أبا عبد الله للناس من شرطي- . و كان الحسن بن صالح بن حي يقول- لما ولي شريك القضاء أي شيخ أفسدوا- .
قال أبو ذر رضي الله عنه قال لي رسول الله ص- يا أبا ذر اعقل ما أقول لك- جعل يرددها على ستة أيام ثم قال لي في اليوم السابع- أوصيك بتقوى الله في سريرتك و علانيتك- و إذا أسأت فأحسن- و لا تسألن أحدا شيئا و لو سقط سوطك- و لا تتقلدن أمانة و لا تلين ولاية- و لا تكفلن يتيما و لا تقضين بين اثنين- . أراد عثمان بن عفان أن يستقضي عبد الله بن عمر- فقال له أ لست قد سمعت النبي ص يقول من استعاذ بالله فقد عاذ بمعاذ- قال بلى قال فإني أعوذ بالله منك أن تستقضيني- .
و قد ذكر الفقهاء في آداب القاضي أمورا- قالوا لا يجوز أن يقبل هدية في أيام القضاء- إلا ممن كانت له عادة يهدي إليه قبل أيام القضاء- و لا يجوز قبولها في أيام القضاء ممن له حكومة و خصومة- و إن كان ممن له عادة قديمة- و كذلك إن كانت الهدية أنفس و أرفع- مما كانت قبل أيام القضاء لا يجوز قبولها- و يجوز أن يحضر القاضي الولائم- و لا يحضر عند قوم دون قوم لأن التخصيص يشعر بالميل- و يجوز أن يعود المرضى و يشهد الجنائز- و يأتي مقدم الغائب و يكره له مباشرة البيع و الشراء- و لا يجوز أن يقضي و هو غضبان و لا جائع و لا عطشان- و لا في حال الحزن الشديد و لا الفرح الشديد- و لا يقضي و النعاس يغلبه و المرض يقلقه- و لا و هو يدافع الأخبثين- و لا في حر مزعج و لا في برد مزعج- و ينبغي أن يجلس للحكم في موضع بارز يصل إليه كل أحد- و لا يحتجب إلا لعذر- و يستحب أن يكون مجلسه فسيحا لا يتأذى بذلك هو أيضا- و يكره الجلوس في المساجد للقضاء- فإن احتاج إلى وكلاء جاز أن يتخذهم- و يوصيهم بالرفق بالخصوم- و يستحب أن يكون له حبس- و أن يتخذ كاتبا إن احتاج إليه- و من شرط كاتبه أن يكون عارفا بما يكتب به عن القضاء- . و اختلف في جواز كونه ذميا و الأظهر أنه لا يجوز- و لا يجوز أن يكون كاتبه فاسقا- و لا يجوز أن يكون الشهود عنده قوما معينين- بل الشهادة عامة فيمن استكمل شروطها
ثُمَّ انْظُرْ فِي أُمُورِ عُمَّالِكَ فَاسْتَعْمِلْهُمُ اخْتِيَاراً- وَ لَا تُوَلِّهِمْ مُحَابَاةً وَ أَثَرَةً- فَإِنَّهُمَا جِمَاعٌ مِنْ شُعَبِ الْجَوْرِ وَ الْخِيَانَةِ- وَ تَوَخَّ مِنْهُمْ أَهْلَ التَّجْرِبَةِ وَ الْحَيَاءِ- مِنْ أَهْلِ الْبُيُوتَاتِ الصَّالِحَةِ وَ الْقَدَمِ فِي الْإِسْلَامِ الْمُتَقَدِّمَةِ- فَإِنَّهُمْ أَكْرَمُ أَخْلَاقاً وَ أَصَحُّ أَعْرَاضاً- وَ أَقَلُّ فِي الْمَطَامِعِ إِشْرَافاً- وَ أَبْلَغُ فِي عَوَاقِبِ الْأُمُورِ نَظَراً-ثُمَّ أَسْبِغْ عَلَيْهِمُ الْأَرْزَاقَ- فَإِنَّ ذَلِكَ قُوَّةٌ لَهُمْ عَلَى اسْتِصْلَاحِ أَنْفُسِهِمْ- وَ غِنًى لَهُمْ عَنْ تَنَاوُلِ مَا تَحْتَ أَيْدِيهِمْ- وَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ إِنْ خَالَفُوا أَمْرَكَ أَوْ ثَلَمُوا أَمَانَتَكَ- ثُمَّ تَفَقَّدْ أَعْمَالَهُمْ- وَ ابْعَثِ الْعُيُونَ مِنْ أَهْلِ الصِّدْقِ وَ الْوَفَاءِ عَلَيْهِمْ- فَإِنَّ تَعَاهُدَكَ فِي السِّرِّ لِأُمُورِهِمْ- حَدْوَةٌ لَهُمْ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْأَمَانَةِ وَ الرِّفْقِ بِالرَّعِيَّةِ- وَ تَحَفَّظْ مِنَ الْأَعْوَانِ- فَإِنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بَسَطَ يَدَهُ إِلَى خِيَانَةٍ- اجْتَمَعَتْ بِهَا عَلَيْهِ عِنْدَكَ أَخْبَارُ عُيُونِكَ- اكْتَفَيْتَ بِذَلِكَ شَاهِداً- فَبَسَطْتَ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةَ فِي بَدَنِهِ- وَ أَخَذْتَهُ بِمَا أَصَابَ مِنْ عَمَلِهِ- ثُمَّ نَصَبْتَهُ بِمَقَامِ الْمَذَلَّةِ وَ وَسَمْتَهُ بِالْخِيَانَةِ- وَ قَلَّدْتَهُ عَارَ التُّهَمَةِ لما فرغ ع من أمر القضاء شرع في أمر العمال- و هم عمال السواد و الصدقات و الوقوف و المصالح و غيرها- فأمره أن يستعملهم بعد اختبارهم و تجربتهم- و ألا يوليهم محاباة لهم و لمن يشفع فيهم- و لا أثرة و لا إنعاما عليهم- .
كان أبو الحسن بن الفرات يقول- الأعمال للكفاة من أصحابنا- و قضاء الحقوق على خواص أموالنا- . و كان يحيى بن خالد يقول من تسبب إلينا بشفاعة في عمل- فقد حل عندنا محل من ينهض بغيره- و من لم ينهض بنفسه لم يكن للعمل أهلا- . و وقع جعفر بن يحيى في رقعة متحرم به- هذا فتى له حرمة الأمل فامتحنه بالعمل- فإن كان كافيا فالسلطان له دوننا- و إن لم يكن كافيا فنحن له دون السلطان- . ثم قال ع فإنهما يعني استعمالهم للمحاباة و الأثرة- جماع من شعب الجور و الخيانة- و قد تقدم شرح مثل هذه اللفظة- و المعنى أن ذلك يجمع ضروبا من الجور و الخيانة- أما الجور- فإنه يكون قد عدل عن المستحق إلى غير المستحق- ففي ذلك جور على المستحق- .
و أما الخيانة- فلأن الأمانة تقتضي تقليد الأعمال الأكفاء- فمن لم يعتمد ذلك فقد خان من ولاه- . ثم أمره بتخير من قد جرب- و من هو من أهل البيوتات و الأشراف- لشدة الحرص على الشيء و الخوف من فواته- . ثم أمره بإسباغ الأرزاق عليهم فإن الجائع لا أمانة له- و لأن الحجة تكون لازمة لهم إن خانوا- لأنهم قد كفوا مئونة أنفسهم و أهليهم- بما فرض لهم من الأرزاق- . ثم أمره بالتطلع عليهم- و إذكاء العيون و الأرصاد على حركاتهم- . و حدوة باعث يقال حداني هذا الأمر حدوة على كذا- و أصله سوق الإبل- و يقال للشمال حدواء لأنها تسوق السحاب- . ثم أمره بمؤاخذة من ثبتت خيانته و استعادة المال منه- و قد صنع عمر كثيرا من ذلك و ذكرناه فيما تقدم- . قال بعض الأكاسرة لعامل من عماله- كيف نومك بالليل قال أنامه كله- قال أحسنت لو سرقت ما نمت هذا النوم: وَ تَفَقَّدْ أَمْرَ الْخَرَاجِ بِمَا يُصْلِحُ أَهْلَهُ- فَإِنَّ فِي صَلَاحِهِ وَ صَلَاحِهِمْ صَلَاحاً لِمَنْ سِوَاهُمْ- وَ لَا صَلَاحَ لِمَنْ سِوَاهُمْ إِلَّا بِهِمْ- لِأَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ عِيَالٌ عَلَى الْخَرَاجِ وَ أَهْلِهِ- وَ لْيَكُنْ نَظَرُكَ فِي عِمَارَةِ الْأَرْضِ- أَبْلَغَ مِنْ نَظَرِكَ فِي اسْتِجْلَابِ الْخَرَاجِ- لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُدْرَكُ إِلَّا بِالْعِمَارَةِ- وَ مَنْ طَلَبَ الْخَرَاجَ بِغَيْرِ عِمَارَةٍ أَخْرَبَ الْبِلَادَ- وَ أَهْلَكَ الْعِبَادَ وَ لَمْ يَسْتَقِمْ أَمْرُهُ إِلَّا قَلِيلًا- فَإِنْ شَكَوْا ثِقَلًا أَوْ عِلَّةً أَوِ انْقِطَاعَ شِرْبٍ أَوْ بَالَّةٍ- أَوْ إِحَالَةَ أَرْضٍ اغْتَمَرَهَا غَرَقٌ- أَوْ أَجْحَفَ بِهَا عَطَشٌ- خَفَّفْتَ عَنْهُمْ بِمَا تَرْجُو أَنْ يَصْلُحَ بِهِ أَمْرُهُمْ- وَ لَا يَثْقُلَنَّ عَلَيْكَ شَيْءٌ خَفَّفْتَ بِهِ الْمَئُونَةَ عَنْهُمْ- فَإِنَّهُ ذُخْرٌ يَعُودُونَ بِهِ عَلَيْكَ فِي عِمَارَةِ بِلَادِكَ- وَ تَزْيِينِ وِلَايَتِكَ مَعَ اسْتِجْلَابِكَ حُسْنَ ثَنَائِهِمْ- وَ تَبَجُّحِكَ بِاسْتِفَاضَةِ الْعَدْلِ فِيهِمْ- مُعْتَمِداً فَضْلَ قُوَّتِهِمْ- بِمَا ذَخَرْتَ عِنْدَهُمْ مِنْ إِجْمَامِكَ لَهُمْ- وَ الثِّقَةَ مِنْهُمْ بِمَا عَوَّدْتَهُمْ مِنْ عَدْلِكَ عَلَيْهِمْ وَ رِفْقِكَ بِهِمْ- فَرُبَّمَا حَدَثَ مِنَ الْأُمُورِ- مَا إِذَا عَوَّلْتَ فِيهِ عَلَيْهِمْ مِنْ بَعْدُ احْتَمَلُوهُ- طَيِّبَةً أَنْفُسُهُمْ بِهِ- فَإِنَّ الْعُمْرَانَ مُحْتَمِلٌ مَا حَمَّلْتَهُ- وَ إِنَّمَا يُؤْتَى خَرَابُ الْأَرْضِ مِنْ إِعْوَازِ أَهْلِهَا- وَ إِنَّمَا يُعْوِزُ أَهْلُهَا لِإِشْرَافِ أَنْفُسِ الْوُلَاةِ عَلَى الْجَمْعِ- وَ سُوءِ ظَنِّهِمْ بِالْبَقَاءِ وَ قِلَّةِ انْتِفَاعِهِمْ بِالْعِبَرِ انتقل ع من ذكر العمال- إلى ذكر أرباب الخراج و دهاقين السواد- فقال تفقد أمرهم فإن الناس عيال عليهم- و كان يقال استوصوا بأهل الخراج- فإنكم لا تزالون سمانا ما سمنوا- .
و رفع إلى أنوشروان أن عامل الأهواز- قد حمل من مال الخراج ما يزيد على العادة- و ربما يكون ذلك قد أجحف بالرعية- فوقع يرد هذا المال على من قد استوفى منه- فإن تكثير الملك ماله بأموال رعيته- بمنزلة من يحصن سطوحه بما يقتلعه من قواعد بنيانه- .
و كان على خاتم أنوشروان- لا يكون عمران حيث يجور السلطان- . و روي استحلاب الخراج بالحاء- . ثم قال فإن شكوا ثقلا- أي ثقل طسق الخراج المضروب عليهم- أو ثقل وطأة العامل- . قال أو علة نحو أن يصيب الغلة آفة- كالجراد و البرق أو البرد- . قال أو انقطاع شرب بأن ينقص الماء في النهر- أو تتعلق أرض الشرب عنه لفقد الحفر- . قال أو بالة يعني المطر- . قال أو إحالة أرض اغتمرها غرق- يعني أو كون الأرض قد حالت و لم يحصل منها ارتفاع- لأن الغرق غمرها و أفسد زرعها- .
قال أو أجحف بها عطش أي أتلفها- . فإن قلت فهذا هو انقطاع الشرب- قلت لا قد يكون الشرب غير منقطع- و مع ذلك يجحف بها العطش- بأن لا يكفيها الماء الموجود في الشرب- . ثم أمره أن يخفف عنهم متى لحقهم شيء من ذلك- فإن التخفيف يصلح أمورهم- و هو و إن كان يدخل على المال نقصا في العاجل- إلا أنه يقتضي توفير زيادة في الآجل- فهو بمنزلة التجارة- التي لا بد فيها من إخراج رأس المال- و انتظار عوده و عود ربحه- .
قال و مع ذلك فإنه يفضي إلى تزين بلادك بعمارتها- و إلى أنك تبجح بين الولاة بإفاضة العدل في رعيتك- معتمدا فضل قوتهم- و معتمدا منصوب على الحال من الضمير في خففت الأولى- أي خففت عنهم معتمدا بالتخفيف فضل قوتهم- . و الإجمام الترفيه- . ثم قال له و ربما احتجت فيما بعد- إلى تكلفهم بحادث يحدث عندك- المساعدة بمال يقسطونه عليهم قرضا أو معونة محضة- فإذا كانت لهم ثروة نهضوا بمثل ذلك طيبة قلوبهم به- . ثم قال ع فإن العمران محتمل ما حملته- . سمعت أبا محمد بن خليد- و كان صاحب ديوان الخراج في أيام الناصر لدين الله- يقول لمن قال له قد قيل عنك إن واسط و البصرة- قد خربت لشدة العنف بأهلها في تحصيل الأموال- فقال أبو محمد ما دام هذا الشط بحاله- و النخل نابتا في منابته بحاله- ما تخرب واسط و البصرة أبدا- . ثم قال ع إنما تؤتى الأرض- أي إنما تدهى من إعواز أهلها أي من فقرهم- .
قال و الموجب لإعوازهم طمع ولاتهم في الجباية- و جمع الأموال لأنفسهم و لسلطانهم و سوء ظنهم بالبقاء- يحتمل أن يريد به أنهم يظنون طول البقاء- و ينسون الموت و الزوال- . و يحتمل أن يريد به أنهم يتخيلون العزل و الصرف- فينتهزون الفرص و يقتطعون الأموال- و لا ينظرون في عمارة البلاد
عهد سابور بن أردشير لابنه
و قد وجدت في عهد سابور بن أردشير إلى ابنه كلاما- يشابه كلام أمير المؤمنين ع في هذا العهد- و هو قوله و اعلم أن قوام أمرك بدرور الخراج- و درور الخراج بعمارة البلاد- و بلوغ الغاية في ذلك استصلاح أهله- بالعدل عليهم و المعونة لهم- فإن بعض الأمور لبعض سبب و عوام الناس لخواصهم عدة- و بكل صنف منهم إلى الآخر حاجة- فاختر لذلك أفضل من تقدر عليه من كتابك- و ليكونوا من أهل البصر و العفاف و الكفاية- و استرسل إلى كل امرئ منهم شخصا يضطلع به- و يمكنه تعجيل الفراغ منه- فإن اطلعت على أن أحدا منهم خان أو تعدى- فنكل به و بالغ في عقوبته- و احذر أن تستعمل على الأرض الكثير خراجها- إلا البعيد الصوت العظيم شرف المنزلة- . و لا تولين أحدا من قواد جندك الذين هم عدة للحرب- و جنة من الأعداء شيئا من أمر الخراج- فلعلك تهجم من بعضهم- على خيانة في المال أو تضييع للعمل- فإن سوغته المال و أغضيت له على التضييع- كان ذلك هلاكا و إضرارا بك و برعيتك- و داعية إلى فساد غيره- و إن أنت كافأته فقد استفسدته و أضقت صدره- و هذا أمر توقيه حزم و الإقدام عليه خرق- و التقصير فيه عجز- .
و اعلم أن من أهل الخراج من يلجئ بعض أرضه و ضياعه- إلى خاصة الملك و بطانته لأحد أمرين- أنت حري بكراهتهما- إما لامتناع من جور العمال و ظلم الولاة- و تلك منزلة يظهر بها سوء أثر العمال- و ضعف الملك و إخلاله بما تحت يده- و إما للدفع عما يلزمهم من الحق و التيسر له- و هذه خلة تفسد بها آداب الرعية- و تنتقص بها أموال الملك- فاحذر ذلك و عاقب الملتجئين و الملجأ إليهمركب زياد يوما بالسوس يطوف بالضياع و الزروع- فرأى عمارة حسنة فتعجب منها- فخاف أهلها أن يزيد في خراجهم- فلما نزل دعا وجوه البلد و قال بارك الله عليكم- فقد أحسنتم العمارة و قد وضعت عنكم مائة ألف درهم- ثم قال ما توفر علي من تهالك غيرهم على العمارة- و أمنهم جوري أضعاف ما وضعت عن هؤلاء الآن- و الذي وضعته بقدر ما يحصل من ذاك- و ثواب عموم العمارة و أمن الرعية أفضل ربح: ثُمَّ انْظُرْ فِي حَالِ كُتَّابِكَ- فَوَلِّ عَلَى أُمُورِكَ خَيْرَهُمْ- وَ اخْصُصْ رَسَائِلَكَ الَّتِي تُدْخِلُ فِيهَا مَكَايِدَكَ وَ أَسْرَارَكَ- بِأَجْمَعِهِمْ لِوُجُودِ صَالِحِ الْأَخْلَاقِ مِمَّنْ لَا تُبْطِرُهُ الْكَرَامَةُ- فَيَجْتَرِئَ بِهَا عَلَيْكَ فِي خِلَافٍ لَكَ بِحَضْرَةِ مَلٍا- وَ لَا تُقَصِّرُ بِهِ الْغَفْلَةُ عَنْ إِيرَادِ مُكَاتَبَاتِ عُمِّالِكَ عَلَيْكَ- وَ إِصْدَارِ جَوَابَاتِهَا عَلَى الصَّوَابِ عَنْكَ- وَ فِيمَا يَأْخُذُ لَكَ وَ يُعْطِي مِنْكَ- وَ لَا يُضْعِفُ عَقْداً اعْتَقَدَهُ لَكَ- وَ لَا يَعْجِزُ عَنْ إِطْلَاقِ مَا عُقِدَ عَلَيْكَ- وَ لَا يَجْهَلُ مَبْلَغَ قَدْرِ نَفْسِهِ فِي الْأُمُورِ- فَإِنَّ الْجَاهِلَ بِقَدْرِ نَفْسِهِ يَكُونُ بِقَدْرِ غَيْرِهِ أَجْهَلَ- ثُمَّ لَا يَكُنِ اخْتِيَارُكَ إِيَّاهُمْ عَلَى فِرَاسَتِكَ- وَ اسْتِنَامَتِكَ وَ حُسْنِ الظَّنِّ مِنْكَ-فَإِنَّ الرِّجَالَ يَتَعَرَّضُونَ لِفِرَاسَاتِ الْوُلَاةِ- بِتَصَنُّعِهِمْ وَ حُسْنِ حَدِيثِهِمْ- وَ لَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ النَّصِيحَةِ وَ الْأَمَانَةِ شَيْءٌ- وَ لَكِنِ اخْتَبِرْهُمْ بِمَا وُلُّوا لِلصَّالِحِينَ قَبْلَكَ- فَاعْمِدْ لِأَحْسَنِهِمْ كَانَ فِي الْعَامَّةِ أَثَراً- وَ أَعْرَفِهِمْ بِالْأَمَانَةِ وَجْهاً- فَإِنَّ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى نَصِيحَتِكَ لِلَّهِ وَ لِمَنْ وُلِّيتَ أَمْرَهُ- وَ اجْعَلْ لِرَأْسِ كُلِّ أَمْرٍ مِنْ أُمُورِكَ رَأْساً مِنْهُمْ- لَا يَقْهَرُهُ كَبِيرُهَا وَ لَا يَتَشَتَّتُ عَلَيْهِ كَثِيرُهَا- وَ مَهْمَا كَانَ فِي كُتَّابِكَ مِنْ عَيْبٍ فَتَغَابَيْتَ عَنْهُ أُلْزِمْتَهُ
فصل فيما يجب على مصاحب الملك
لما فرغ من أمر الخراج شرع في أمر الكتاب- الذين يلون أمر الحضرة- و يترسلون عنه إلى عماله و أمرائه- و إليهم معاقد التدبير و أمر الديوان- فأمره أن يتخير الصالح منهم- و من يوثق على الاطلاع على الأسرار و المكايد- و الحيل و التدبيرات- و من لا يبطره الإكرام و التقريب- فيطمع فيجترئ على مخالفته في ملإ من الناس و الرد عليه- ففي ذلك من الوهن للأمير و سوء الأدب- الذي انكشف الكاتب عنه ما لا خفاء به- . قال الرشيد للكسائي يا علي بن حمزة- قد أحللناك المحل الذي لم تكن تبلغه همتك- فرونا من الأشعار أعفها- و من الأحاديث أجمعها لمحاسن الأخلاق- و ذاكرنا بآداب الفرس و الهند- و لا تسرع علينا الرد في ملإ و لا تترك تثقيفنا في خلإ- . و في آداب ابن المقفع- لا تكونن صحبتك للسلطان إلا بعد رياضة منك لنفسك- علىطاعتهم في المكروه عندك و موافقتهم فيما خالفك- و تقدير الأمور على أهوائهم دون هواك- فإن كنت حافظا إذا ولوك حذرا إذا قربوك- أمينا إذا ائتمنوك- تعلمهم و كأنك تتعلم منهم- و تأدبهم و كأنك تتأدب بهم- و تشكر لهم و لا تكلفهم الشكر- ذليلا إن صرموك راضيا إن أسخطوك- و إلا فالبعد منهم كل البعد و الحذر منهم كل الحذر- و إن وجدت عن السلطان و صحبته غنى فاستغن عنه- فإنه من يخدم السلطان حق خدمته- يخلى بينه و بين لذة الدنيا و عمل الأخرى- و من يخدمه غير حق الخدمة فقد احتمل وزر الآخرة- و عرض نفسه للهلكة و الفضيحة في الدنيا- فإذا صحبت السلطان- فعليك بطول الملازمة من غير إملال- و إذا نزلت منه بمنزلة الثقة فاعزل عنه كلام الملق- و لا تكثر له من الدعاء- و لا تردن عليه كلاما في حفل و إن أخطأ- فإذا خلوت به فبصره في رفق- و لا يكونن طلبك ما عنده بالمسألة- و لا تستبطئه و إن أبطأ- و لا تخبرنه أن لك عليه حقا- و أنك تعتمد عليه ببلاء- و إن استطعت ألا تنسى حقك و بلاءك- بتجديد النصح و الاجتهاد فافعل- و لا تعطينه المجهود كله من نفسك في أول صحبتك له- و أعد موضعا للمزيد- و إذا سأل غيرك عن شيء فلا تكن المجيب- .
و اعلم أن استلابك الكلام خفة فيك- و استخفاف منك بالسائل و المسئول- فما أنت قائل إن قال لك السائل ما إياك سألت- أو قال المسئول أجب بمجالسته و محادثته- أيها المعجب بنفسه و المستخف بسلطانه- . و قال عبد الملك بن صالح لمؤدب ولده- بعد أن اختصه بمجالسته و محادثته- يا عبد الله كن على التماس الحظ فيك بالسكوت- أحرص منك على التماسه بالكلام- فإنهم قالوا إذا أعجبك الكلام فاصمت- و إذا أعجبك الصمت فتكلم- و اعلم أن أصعب الملوك معاملة الجبار الفطن المتفقد- فإن ابتليت بصحبته فاحترس- و إن عوفيت فاشكر الله على السلامة- فإن السلامة أصل كل نعمة- لا تساعدني على ما يقبح بي- و لا تردن عليخطأ في مجلس- و لا تكلفني جواب التشميت و التهنئة- و دع عنك كيف أصبح الأمير و كيف أمسى- و كلمني بقدر ما أستنطقك- و اجعل بدل التقريظ لي صواب الاستماع مني- و اعلم أن صواب الاستماع أحسن من صواب القول- فإذا سمعتني أتحدث فلا يفوتنك منه شيء- و أرني فهمك إياه في طرفك و وجهك- فما ظنك بالملك- و قد أحلك محل المعجب بما يسمعك إياه- و أحللته محل من لا يسمع منه- و كل من هذا يحبط إحسانك و يسقط حق حرمتك- و لا تستدع الزيادة من كلامي- بما تظهر من استحسان ما يكون مني- فمن أسوأ حالا ممن يستكد الملوك بالباطل- و ذلك يدل على تهاونه بقدر ما أوجب الله تعالى من حقهم-
و اعلم أني جعلتك مؤدبا بعد أن كنت معلما- و جعلتك جليسا مقربا بعد أن كنت مع الصبيان مباعدا- فمتى لم تعرف نقصان ما خرجت منه- لم تعرف رجحان ما دخلت فيه- و قد قالوا من لم يعرف سوء ما أولى- لم يعرف حسن ما أبلىثم قال ع و ليكن كاتبك غير مقصر- عن عرض مكتوبات عمالك عليك- و الإجابة عنها حسن الوكالة و النيابة عنك- فيما يحتج به لك عليهم من مكتوباتهم- و ما يصدره عنك إليهم من الأجوبة- فإن عقد لك عقدا قواه و أحكمه- و إن عقد عليك عقدا اجتهد في نقضه و حله- قال و أن يكون عارفا بنفسه- فمن لم يعرف قدر نفسه لم يعرف قدر غيره- . ثم نهاه أن يكون مستند اختياره لهؤلاء فراسته فيهم- و غلبة ظنه بأحوالهم- فإن التدليس ينم في ذلك كثيرا- و ما زال الكتاب يتصنعون للأمراء بحسن الظاهر- و ليس وراء ذلك كثير طائل في النصيحة و المعرفة- و لكن ينبغي أن يرجع في ذلك- إلى ما حكمتبه التجربة لهم و ما ولوه من قبل- فإن كانت ولايتهم و كتابتهم حسنة مشكورة فهم هم- و إلا فلا- و يتعرفون لفراسات الولاة- يجعلون أنفسهم بحيث يعرف بضروب من التصنع- و روي يتعرضون- . ثم أمره أن يقسم فنون الكتابة و ضروبها بينهم- نحو أن يكون أحدهم للرسائل إلى الأطراف و الأعداء- و الآخر لأجوبة عمال السواد- و الآخرة بحضرة الأمير في خاصته و داره و حاشيته و ثقاته- . ثم ذكر له أنه مأخوذ مع الله تعالى بما يتغابى عنه- و يتغافل من عيوب كتابه- فإن الدين لا يبيح الإغضاء و الغفلة عن الأعوان و الخول- و يوجب التطلع عليهم
فصل في الكتاب و ما يلزمهم من الآداب
و اعلم أن الكاتب الذي يشير أمير المؤمنين ع إليه- هو الذي يسمى الآن في الاصطلاح العرفي وزيرا- لأنه صاحب تدبير حضرة الأمير و النائب عنه في أموره- و إليه تصل مكتوبات العمال و عنه تصدر الأجوبة- و إليه العرض على الأمير- و هو المستدرك على العمال و المهيمن عليهم- و هو على الحقيقة كاتب الكتاب- و لهذا يسمونه الكاتب المطلق- . و كان يقال للكاتب على الملك ثلاث- رفع الحجاب عنه و اتهام الوشاة عليه- و إفشاء السر إليه- . و كان يقال صاحب السلطان نصفه و كاتبه كله- و ينبغي لصاحب الشرطة أن يطيل الجلوس و يديم العبوس- و يستخف بالشفاعات- .
و كان يقال إذا كان الملك ضعيفا و الوزير شرها- و القاضي جائرا فرقوا الملك شعاعا- . و كان يقال لا تخف صولة الأمير مع رضا الكاتب- و لا تثقن برضا الأمير مع سخط الكاتب- و أخذ هذا المعنى أبو الفضل بن العميد فقال-
و زعمت أنك لست تفكر بعد ما
علقت يداك بذمة الأمراء
هيهات قد كذبتك فكرتك التي
قد أوهمتك غنى عن الوزراء
لم تغن عن أحد سماء لم تجد
أرضا و لا أرض بغير سماء
و كان يقال إذا لم يشرف الملك على أموره- صار أغش الناس إليه وزيره- . و كان يقال ليس الحرب الغشوم بأسرع في اجتياح الملك- من تضييع مراتب الكتاب حتى يصيبها أهل النذالة- و يزهد فيها أولو الفضل
فصل في ذكر ما نصحت به الأوائل الوزراء
و كان يقال لا شيء أذهب بالدول- من استكفاء الملك الأسرار- . و كان يقال من سعادة جد المرء- ألا يكون في الزمان المختلط وزيرا للسلطان- . و كان يقال كما أن أشجع الرجال يحتاج إلى السلاح- و أسبق الخيل يحتاج إلى السوط- و أحد الشفار يحتاج إلى المسن- كذلك أحزم الملوك و أعقلهم- يحتاج إلى الوزير الصالح- . و كان يقال صلاح الدنيا بصلاح الملوك- و صلاح الملوك بصلاح الوزراء-و كما لا يصلح الملك إلا بمن يستحق الملك- كذلك لا تصلح الوزارة إلا بمن يستحق الوزارة- . و كان يقال- الوزير الصالح لا يرى أن صلاحه في نفسه كائن صلاحا- حتى يتصل بصلاح الملك و صلاح رعيته- و أن تكون عنايته فيما عطف الملك على رعيته- و فيما استعطف قلوب الرعية و العامة- على الطاعة للملك- و فيما فيه قوام أمر الملك من التدبير الحسن- حتى يجمع إلى أخذ الحق تقديم عموم الأمن- و إذا طرقت الحوادث كان للملك عدة و عتادا- و للرعية كافيا محتاطا و من ورائها محاميا ذابا- يعنيه من صلاحها ما لا يعنيه من صلاح نفسه دونها- . و كان يقال مثل الملك الصالح إذا كان وزيره فاسدا- مثل الماء العذب الصافي و فيه التمساح- لا يستطيع الإنسان و إن كان سابحا- و إلى الماء ظامئا دخوله- حذرا على نفسه- .
قال عمر بن عبد العزيز لمحمد بن كعب القرظي- حين استخلف- لو كنت كاتبي و ردءا لي على ما دفعت إليه- قال لا أفعل و لكني سأرشدك- أسرع الاستماع و أبطئ في التصديق- حتى يأتيك واضح البرهان- و لا تعملن ثبجتك فيما تكتفي فيه بلسانك- و لا سوطك فيما تكتفي فيه بثبجتك- و لا سيفك فيما تكتفي فيه بسوطك- . و كان يقال- التقاط الكاتب للرشا و ضبط الملك لا يجتمعان- . و قال أبرويز لكاتبه اكتم السر و اصدق الحديث- و اجتهد في النصيحة و عليك بالحذر- فإن لك علي ألا أعجل عليك حتى أستأني لك- و لا أقبل فيك قولا حتى أستيقن- و لا أطمع فيك أحدا فتغتال-
و اعلم أنك بمنجاة رفعة فلا تحطنها- و فيظل مملكة فلا تستزيلنه- قارب الناس مجاملة من نفسك- و باعدهم مسامحة عن عدوك- و اقصد إلى الجميل ازدراعا لغدك- و تنزه بالعفاف صونا لمروءتك- و تحسن عندي بما قدرت عليه- احذر لا تسرعن الألسنة عليك- و لا تقبحن الأحدوثة عنك- و صن نفسك صون الدرة الصافية- و أخلصها إخلاص الفضة البيضاء- و عاتبها معاتبة الحذر المشفق- و حصنها تحصين المدينة المنيعة- لا تدعن أن ترفع إلى الصغير فإنه يدل على الكبير- و لا تكتمن عني الكبير فإنه ليس بشاغل عن الصغير- هذب أمورك ثم القني بها- و احكم أمرك ثم راجعني فيه- و لا تجترئن علي فأمتعض- و لا تنقبضن مني فأتهم- و لا تمرضن ما تلقاني به و لا تخدجنه- و إذا أفكرت فلا تجعل و إذا كتبت فلا تعذر- و لا تستعن بالفضول فإنها علاوة على الكفاية- و لا تقصرن عن التحقيق فإنها هجنة بالمقالة- و لا تلبس كلاما بكلام و لا تبعدن معنى عن معنى- و أكرم لي كتابك عن ثلاث- خضوع يستخفه و انتشار يهجنه و معان تعقد به- و اجمع الكثير مما تريد في القليل مما تقول- و ليكن بسطة كلامك على كلام السوقة كبسطة الملك- الذي تحدثه على الملوك- لا يكن ما نلته عظيما و ما تتكلم به صغيرا-
فإنما كلام الكاتب على مقدار الملك- فاجعله عاليا كعلوه و فائقا كتفوقه- فإنما جماع الكلام كله خصال أربع- سؤالك الشيء و سؤالك عن الشيء- و أمرك بالشيء و خبرك عن الشيء- فهذه الخصال دعائم المقالات- إن التمس إليها خامس لم يوجد- و إن نقص منها واحد لم يتم- فإذا أمرت فاحكم و إذا سألت فأوضح- و إذا طلبت فأسمح و إذا أخبرت فحقق- فإنك إذا فعلت ذلك أخذت بجراثيم القول كله- فلم يشتبه عليك واردة و لم تعجزك صادرة- أثبت في دواوينك ما أخذت و أحص فيها ما أخرجت- و تيقظ لما تعطي و تجرد لما تأخذ- و لا يغلبنك النسيان عن الإحصاء- و لا الأناة عن التقدم- و لا تخرجن وزن قيراط في غير حق- و لا تعظمن إخراج الألوف الكثيرة في الحق- و ليكن ذلك كله عن مؤامرتي
ثُمَّ اسْتَوْصِ بِالتُّجَّارِ وَ ذَوِي الصِّنَاعَاتِ وَ أَوْصِ بِهِمْ خَيْراً- الْمُقِيمِ مِنْهُمْ وَ الْمُضْطَرِبِ بِمَالِهِ وَ الْمُتَرَفِّقِ بِبَدَنِهِ- فَإِنَّهُمْ مَوَادُّ الْمَنَافِعِ وَ أَسْبَابُ الْمَرَافِقِ- وَ جُلَّابُهَا مِنَ الْمَبَاعِدِ وَ الْمَطَارِحِ- فِي بَرِّكَ وَ بَحْرِكَ وَ سَهْلِكَ وَ جَبَلِكَ- وَ حَيْثُ لَا يَلْتَئِمُ النَّاسُ لِمَوَاضِعِهَا- وَ لَا يَجْتَرِءُونَ عَلَيْهَا- فَإِنَّهُمْ سِلْمٌ لَا تُخَافُ بَائِقَتُهُ- وَ صُلْحٌ لَا تُخْشَى غَائِلَتُهُ- وَ تَفَقَّدْ أُمُورَهُمْ بِحَضْرَتِكَ وَ فِي حَوَاشِي بِلَادِكَ- وَ اعْلَمْ مَعَ ذَلِكَ أَنَّ فِي كَثِيرٍ مِنْهُمْ ضِيقاً فَاحِشاً- وَ شُحّاً قَبِيحاً- وَ احْتِكَاراً لِلْمَنَافِعِ وَ تَحَكُّماً فِي الْبِيَاعَاتِ- وَ ذَلِكَ بَابُ مَضَرَّةٍ لِلْعَامَّةِ- وَ عَيْبٌ عَلَى الْوُلَاةِ فَامْنَعْ مِنَ الِاحْتِكَارِ- فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ص مَنَعَ مِنْهُ- وَ لْيَكُنِ الْبَيْعُ بَيْعاً سَمْحاً بِمَوَازِينِ عَدْلٍ- وَ أَسْعَارٍ لَا تُجْحِفُ بِالْفَرِيقَيْنِ مِنَ الْبَائِعِ وَ الْمُبْتَاعِ- فَمَنْ قَارَفَ حُكْرَةً بَعْدَ نَهْيِكَ إِيَّاهُ فَنَكِّلْ بِهِ- وَ عَاقِبْهُ مِنْ غَيْرِ إِسْرَافٍ خرج ع الآن إلى ذكر التجار و ذوي الصناعات- و أمره بأن يعمل معهم الخير- و أن يوصى غيره من أمرائه و عماله أن يعملوا معهم الخير- و استوص بمعنى أوصنحو قر في المكان و استقر- و علا قرنه و استعلاه- .
و قوله استوص بالتجار خيرا أي أوص نفسك بذلك- و منه قول النبي ص استوصوا بالنساء خيرا- و مفعولا استوص و أوص هاهنا محذوفان للعلم بهما- و يجوز أن يكون استوص أي اقبل الوصية مني بهم- و أوص بهم أنت غيرك- . ثم قسم ع الموصى بهم ثلاثة أقسام- اثنان منها للتجار و هما المقيم- و المضطرب يعني المسافر و الضرب السير في الأرض- قال تعالى إِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ- و واحد لأرباب الصناعات- و هو قوله و المترفق ببدنه- و روي بيديه تثنية يد- . و المطارح الأماكن البعيدة- . و حيث لا يلتئم الناس لا يجتمعون- و روي حيث لا يلتئم بحذف الواو- ثم قال فإنهم أولو سلم يعني التجار و الصناع- استعطفه عليهم و استماله إليهم- .
و قال ليسوا كعمال الخراج و أمراء الأجناد- فجانبهم ينبغي أن يراعى و حالهم يجب أن يحاط و يحمى- إذ لا يتخوف منهم بائقة لا في مال يخونون فيه- و لا في دولة يفسدونها- و حواشي البلاد أطرافها- . ثم قال له قد يكون في كثير منهم نوع من الشح و البخل- فيدعوهم ذلك إلى الاحتكار في الأقوات- و الحيف في البياعات- و الاحتكار ابتياع الغلات في أيامرخصها- و ادخارها في المخازن إلى أيام الغلاء و القحط- و الحيف تطفيف في الوزن و الكيل و زيادة في السعر- و هو الذي عبر عنه بالتحكم- و قد نهى رسول الله ص عن الاحتكار- و أما التطفيف و زياد التسعير فمنهي عنهما في نص الكتاب- . و قارف حكرة واقعها و الحاء مضمومة- و أمره أن يؤدب فاعل ذلك من غير إسراف- و ذلك أنه دون المعاصي التي توجب الحدود- فغاية أمره من التعزير الإهانة و المنع: ثُمَّ اللَّهَ اللَّهَ فِي الطَّبَقَةِ السُّفْلَى مِنَ الَّذِينَ لَا حِيلَةَ لَهُمْ- مِنَ الْمَسَاكِينِ وَ الْمُحْتَاجِينَ وَ أَهْلِ الْبُؤْسَى وَ الزَّمْنَى- فَإِنَّ فِي هَذِهِ الطَّبَقَةِ قَانِعاً وَ مُعْتَرّاً- وَ احْفَظِ اللَّهَ مَا اسْتَحْفَظَكَ مِنْ حَقِّهِ فِيهِمْ- وَ اجْعَلْ لَهُمْ قِسْماً مِنْ بَيْتِ مَالِكِ- وَ قِسْماً مِنْ غَلَّاتِ صَوَافِي الْإِسْلَامِ فِي كُلِّ بَلَدٍ- فَإِنَّ لِلْأَقْصَى مِنْهُمْ مِثْلَ الَّذِي لِلْأَدْنَى- وَ كُلٌّ قَدِ اسْتُرْعِيتَ حَقَّهُ- وَ لَا يَشْغَلَنَّكَ عَنْهُمْ بَطَرٌ- فَإِنَّكَ لَا تُعْذَرُ بِتَضْيِيعِ التَّافِهِ لِإِحْكَامِكَ الْكَثِيرَ الْمُهِمَّ- فَلَا تُشْخِصْ هَمَّكَ عَنْهُمْ وَ لَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لَهُمْ- وَ تَفَقَّدْ أُمُورَ مَنْ لَا يَصِلُ إِلَيْكَ مِنْهُمْ- مِمَّنْ تَقْتَحِمُهُ الْعُيُونُ وَ تَحْقِرُهُ الرِّجَالُ- فَفَرِّغْ لِأُولَئِكَ ثِقَتَكَ مِنْ أَهْلِ الْخَشْيَةِ وَ التَّوَاضُعِ- فَلْيَرْفَعْ إِلَيْكَ أُمُورَهُمْ- ثُمَّ اعْمَلْ فِيهِمْ بِالْإِعْذَارِ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ يَوْمَ تَلْقَاهُ- فَإِنَّ هَؤُلَاءِ مِنْ بَيْنِ الرَّعِيَّةِ أَحْوَجُ إِلَى الْإِنْصَافِ مِنْ غَيْرِهِمْ- وَ كُلٌّ فَأَعْذِرْ إِلَى اللَّهِ فِي تَأْدِيَةِ حَقِّهِ إِلَيْهِ-وَ تَعَهَّدْ أَهْلَ الْيُتْمِ وَ ذَوِي الرِّقَّةِ فِي السِّنِّ- مِمَّنْ لَا حِيلَةَ لَهُ وَ لَا يَنْصِبُ لِلْمَسْأَلَةِ نَفْسَهُ- وَ ذَلِكَ عَلَى الْوُلَاةِ ثَقِيلٌ- وَ الْحَقُّ كُلُّهُ ثَقِيلٌ وَ قَدْ يُخَفِّفُهُ اللَّهُ عَلَى أَقْوَامٍ- طَلَبُوا الْعَاقِبَةَ فَصَبَّرُوا أَنْفُسَهُمْ- وَ وَثِقُوا بِصِدْقِ مَوْعُودِ اللَّهِ لَهُمْ انتقل من التجار و أرباب الصناعات- إلى ذكر فقراء الرعية و مغموريها فقال- و أهل البؤسى و هي البؤس كالنعمى للنعيم- و الزمنى أولو الزمانة- .
و القانع السائل و المعتر الذي يعرض لك و لا يسألك- و هما من ألفاظ الكتاب العزيز- . و أمره أن يعطيهم من بيت مال المسلمين- لأنهم من الأصناف المذكورين في قوله تعالى- وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ- وَ لِذِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ- و أن يعطيهم من غلات صوافي الإسلام- و هي الأرضون التي لم يوجف عليها بخيل و لا ركاب- و كانت صافية لرسول الله ص- فلما قبض صارت لفقراء المسلمين- و لما يراه الإمام من مصالح الإسلام- .
ثم قال له فإن للأقصى منهم مثل الذي للأدنى- أي كل فقراء المسلمين سواء في سهامهم- ليس فيها أقصى و أدنى- أي لا تؤثر من هو قريب إليك أو إلى أحد من خاصتك- على من هو بعيد ليس له سبب إليك- و لا علقة بينه و بينك- و يمكن أن يريد به- لا تصرف غلات ما كان من الصوافي في بعض البلاد- إلى مساكين ذلك البلد خاصة- فإن حق البعيد عن ذلك البلد فيها- كمثل حق المقيم في ذلك البلد- . و التافه الحقير- و أشخصت زيدا من موضع كذا أخرجته عنه- و فلان يصعر خده للناس أي يتكبر عليهم- . و تقتحمه العيون تزدريه و تحتقره- و الإعذار إلى الله- الاجتهاد و المبالغة في تأدية حقه و القيام بفرائضه- . كان بعض الأكاسرة يجلس للمظالم بنفسه- و لا يثق إلى غيره- و يقعد بحيث يسمع الصوت- فإذا سمعه أدخل المتظلم فأصيب بصمم في سمعه- فنادى مناديه أن الملك يقول أيها الرعية- إني إن أصبت بصمم في سمعي فلم أصب في بصري- كل ذي ظلامة فليلبس ثوبا أحمر- ثم جلس لهم في مستشرف له- . و كان لأمير المؤمنين ع بيت سماه بيت القصص- يلقي الناس فيه رقاعهم- و كذلك كان فعل المهدي محمد بن هارون الواثق- من خلفاء بني العباس: وَ اجْعَلْ لِذَوِي الْحَاجَاتِ مِنْكَ قِسْماً تُفَرِّغُ لَهُمْ فِيهِ شَخْصَكَ- وَ تَجْلِسُ لَهُمْ مَجْلِساً عَامّاً- فَتَتَوَاضَعُ فِيهِ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَكَ- وَ تُقْعِدُ عَنْهُمْ جُنْدَكَ وَ أَعْوَانَكَ مِنْ أَحْرَاسِكَ وَ شُرَطِكَ- حَتَّى يُكَلِّمَكَ مُتَكَلِّمُهُمْ غَيْرَ مُتَتَعْتِعٍ- فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ص يَقُولُ فِي غَيْرِ مَوْطِنٍ- لَنْ تُقَدَّسَ أُمَّةٌ لَا يُؤْخَذُ لِلضَّعِيفِ فِيهَا حَقُّهُ مِنَ الْقَوِيِّ- غَيْرَ مُتَتَعْتِعٍ-ثُمَّ احْتَمِلِ الْخُرْقَ مِنْهُمْ وَ الْعِيَّ- وَ نَحِّ عَنْهُمُ الضِّيقَ وَ الْأَنَفَ- يَبْسُطِ اللَّهُ عَلَيْكَ بِذَلِكَ أَكْنَافَ رَحْمَتِهِ- وَ يُوجِبُ لَكَ ثَوَابَ طَاعَتِهِ- وَ أَعْطِ مَا أَعْطَيْتَ هَنِيئاً وَ امْنَعْ فِي إِجْمَالٍ وَ إِعْذَارٍ- ثُمَّ أُمُورٌ مِنْ أُمُورِكَ لَا بُدَّ لَكَ مِنْ مُبَاشَرَتِهَا- مِنْهَا إِجَابَةُ عُمَّالِكَ بِمَا يَعْيَا عَنْهُ كُتَّابُكَ- وَ مِنْهَا إِصْدَارُ حَاجَاتِ النَّاسِ عِنْدَ وُرُودِهَا عَلَيْكَ- بِمَا تَحْرَجُ بِهِ صُدُورُ أَعْوَانِكَ- وَ أَمْضِ لِكُلِّ يَوْمٍ عَمَلَهُ فَإِنَّ لِكُلِّ يَوْمٍ مَا فِيهِ هذا الفصل من تتمة ما قبله- و قد روي حتى يكلمك مكلمهم فاعل من كلم- و الرواية الأولى الأحسن- . و غير متتعتع غير مزعج و لا مقلق- و المتتعتع في الخبر النبوي- المتردد المضطرب في كلامه عيا من خوف لحقه- و هو راجع إلى المعنى الأول- . و الخرق الجهل-
و روي ثم احتمل الخرق منهم و الغي- و الغي و هو الجهل أيضا- و الرواية الأولى أحسن- . ثم بين له ع أنه لا بد له من هذا المجلس- لأمر آخر- غير ما قدمه ع- و ذلك لأنه لا بد من أن يكون في حاجات الناس- ما يضيق به صدور أعوانه و النواب عنه- فيتعين عليه أن يباشرها بنفسه- و لا بد من أن يكون في كتب عماله الواردة عليه-ما يعيا كتابه عن جوابه- فيجيب عنه بعلمه- و يدخل في ذلك- أن يكون فيها ما لا يجوز في حكم السياسة و مصلحة الولاية- أن يطلع الكتاب عليه- فيجيب أيضا عن ذلك بعلمه- .
ثم قال له لا تدخل عمل يوم في عمل يوم آخر- فيتعبك و يكدرك- فإن لكل يوم ما فيه من العمل: وَ اجْعَلْ لِنَفْسِكَ فِيمَا بَيْنَكَ وَ بَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى- أَفْضَلَ تِلْكَ الْمَوَاقِيتِ وَ أَجْزَلَ تِلْكَ الْأَقْسَامِ- وَ إِنْ كَانَتْ كُلُّهَا لِلَّهِ إِذَا صَلَحَتْ فِيهَا النِّيَّةُ- وَ سَلِمَتْ مِنْهَا الرَّعِيَّةُ- وَ لْيَكُنْ فِي خَاصَّةِ مَا تُخْلِصُ بِهِ لِلَّهِ دِينَكَ إِقَامَةُ فَرَائِضِهِ- الَّتِي هِيَ لَهُ خَاصَّةً- فَأَعْطِ اللَّهَ مِنْ بَدَنِكَ فِي لَيْلِكَ وَ نَهَارِكَ- وَ وَفِّ مَا تَقَرَّبْتَ بِهِ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ- مِنْ ذَلِكَ كَامِلًا غَيْرَ مَثْلُومٍ وَ لَا مَنْقُوصٍ- بَالِغاً مِنْ بَدَنِكَ مَا بَلَغَ- وَ إِذَا قُمْتَ فِي صَلَاتِكَ لِلنَّاسِ- فَلَا تَكُونَنَّ مُنَفِّراً وَ لَا مُضَيِّعاً- فَإِنَّ فِي النَّاسِ مَنْ بِهِ الْعِلَّةُ وَ لَهُ الْحَاجَةُ- وَ قَدْ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ ص حِينَ وَجَّهَنِي إِلَى الْيَمَنِ- كَيْفَ أُصَلِّي بِهِمْ- فَقَالَ صَلِّ بِهِمْ كَصَلَاةِ أَضْعَفِهِمْ- وَ كُنْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً لمافرغ ع من وصيته بأمور رعيته- شرع في وصيته بأداء الفرائض- التيافترضها الله عليه من عبادته- و لقد أحسن ع في قوله و إن كانت كلها لله- أي أن النظر في أمور الرعية- مع صحة النية و سلامة الناس من الظلم- من جملة العبادات و الفرائض أيضا- .
ثم قال له كاملا غير مثلوم- أي لا يحملنك شغل السلطان على أن تختصر الصلاة اختصارا- بل صلها بفرائضها و سننها و شعائرها في نهارك و ليلك- و إن أتعبك ذلك و نال من بدنك و قوتك- . ثم أمره إذا صلى بالناس جماعة ألا يطيل فينفرهم عنها- و ألا يخدج الصلاة و ينقصها فيضيعها- . ثم روى خبرا عن النبي ص- و هو قوله ع له صل بهم كصلاة أضعفهم- و قوله و كن بالمؤمنين رحيما- يحتمل أن يكون من تتمة الخبر النبوي- و يحتمل أن يكون من كلام أمير المؤمنين ع- و الظاهر أنه من كلام أمير المؤمنين من الوصية للأشتر- لأن اللفظة الأولى عند أرباب الحديث- هي المشهور في الخبر: وَ أَمَّا بَعْدَ هَذَا فَلَا تُطَوِّلَنَّ احْتِجَابَكَ عَنْ رَعِيَّتِكَ- فَإِنَّ احْتِجَابَ الْوُلَاةِ عَنِ الرَّعِيَّةِ شُعْبَةٌ مِنَ الضِّيقِ- وَ قِلَّةُ عِلْمٍ بِالْأُمُورِ- وَ الِاحْتِجَابُ مِنْهُمْ يَقْطَعُ عَنْهُمْ عِلْمَ مَا احْتَجَبُوا دُونَهُ- فَيَصْغُرُ عِنْدَهُمُ الْكَبِيرُ وَ يَعْظُمُ الصَّغِيرُ- وَ يَقْبُحُ الْحَسَنُ وَ يَحْسُنُ الْقَبِيحُ- وَ يُشَابُ الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ- وَ إِنَّمَا الْوَالِي بَشَرٌ- لَا يَعْرِفُ مَا تَوَارَى عَنْهُ النَّاسُ بِهِ مِنَ الْأُمُورِ- وَ لَيْسَتْ عَلَى الْحَقِّ سِمَاتٌ- تُعْرَفُ بِهَا ضُرُوبُ الصِّدْقِ مِنَ الْكَذِبِ- وَ إِنَّمَا أَنْتَ أَحَدُ رَجُلَيْنِ- إِمَّا امْرُؤٌ سَخَتْ نَفْسُكَ بِالْبَذْلِ فِي الْحَقِّ- فَفِيمَ احْتِجَابُكَ مِنْ وَاجِبِ حَقٍّ تُعْطِيهِ- أَوْ فِعْلٍ كَرِيمٍ تُسْدِيهِ أَوْ مُبْتَلًى بِالْمَنْعِ- فَمَا أَسْرَعَ كَفَّ النَّاسِ عَنْ مَسْأَلَتِكَ- إِذَا أَيِسُوا مِنْ بَذْلِكَ- مَعَ أَنَّ أَكْثَرَ حَاجَاتِ النَّاسِ إِلَيْكَ- مَا لَا مَئُونَةَ فِيهِ عَلَيْكَ- مِنْ شَكَاةِ مَظْلِمَةٍ أَوْ طَلَبِ إِنْصَافٍ فِي مُعَامَلَةٍ نهاه عن الاحتجاب فإنه مظنة انطواء الأمور عنه- و إذا رفع الحجاب دخل عليه كل أحد فعرف الأخبار- و لم يخف عليه شيء من أحوال عمله- .
ثم قال لم تحتجب- فإن أكثر الناس يحتجبون كيلا يطلب منهم الرفد- . و أنت فإن كنت جوادا سمحا لم يكن لك إلى الحجاب داع- و إن كنت ممسكا فسيعلم الناس ذلك منك- فلا يسألك أحد شيئا- . ثم قال- على أن أكثر ما يسأل منك ما لا مئونة عليه في ماله- كرد ظلامة أو إنصاف من خصم
ذكر الحجاب و ما ورد فيه من الخبر و الشعر
و القول في الحجاب كثير- حضر باب عمر جماعة من الأشراف- منهم سهيل بن عمرو و عيينة بن حصن- و الأقرع بن حابس- فحجبوا ثم خرج الآذن فنادى- أين عمار أين سلمان أين صهيب-فأدخلهم فتمعرت وجوه القوم- فقال سهيل بن عمرو لم تتمعر وجوهكم- دعوا و دعينا فأسرعوا و أبطأنا- و لئن حسدتموهم على باب عمر اليوم لأنتم غدا لهم أحسد- . و استأذن أبو سفيان على عثمان فحجبه- فقيل له حجبك- فقال لا عدمت من أهلي من إذا شاء حجبني- . و حجب معاوية أبا الدرداء- فقيل لأبي الدرداء حجبك معاوية- فقال من يغش أبواب الملوك يهن و يكرم- و من صادف بابا مغلقا عليه وجد إلى جانبه بابا مفتوحا- إن سأل أعطي و إن دعا أجيب- و إن يكن معاوية قد احتجب فرب معاوية لم يحتجب- .
و قال أبرويز لحاجبه لا تضعن شريفا بصعوبة حجاب- و لا ترفعن وضيعا بسهولته- ضع الرجال مواضع أخطارهم- فمن كان قديما شرفه ثم ازدرعه و لم يهدمه بعد آبائه- فقدمه على شرفه الأول و حسن رأيه الآخر- و من كان له شرف متقدم و لم يصن ذلك حياطة له- و لم يزدرعه تثمير المغارسة- فألحق بآبائه من رفعة حاله ما يقتضيه سابق شرفهم- و ألحق به في خاصته ما ألحق بنفسه- و لا تأذن له إلا دبريا و إلا سرارا- و لا تلحقه بطبقة الأولين- و إذا ورد كتاب عامل من عمالي فلا تحبسه عني طرفة عين- إلا أن أكون على حال لا تستطيع الوصول إلي فيها- و إذا أتاك من يدعي النصيحة لنا فلتكتبها سرا- ثم أدخله بعد أن تستأذن له- حتى إذا كان مني بحيث أراه فادفع إلي كتابه- فإن أحمدت قبلت و إن كرهت رفضت- و إن أتاك عالم مشتهر بالعلم و الفضل يستأذن فأذن له- فإن العلم شريف و شريف صاحبه- و لا تحجبن عني أحدا من أفناء الناس- إذا أخذت مجلسي مجلس العامة- فإن الملك لا يحجب إلا عن ثلاث- عي يكره أن يطلع عليه منه- أو بخل يكره أن يدخل عليه من يسأله- أو ريبة هو مصر عليها فيشفق من إبدائها-و وقوف الناس عليها- و لا بد أن يحيطوا بها علما و إن اجتهد في سترها- و قد أخذ هذا المعنى الأخير محمود الوراق فقال-
إذا اعتصم الوالي بإغلاق بابه
و رد ذوي الحاجات دون حجابه
ظننت به إحدى ثلاث و ربما
رجمت بظن واقع بصوابه
أقول به مس من العي ظاهر
ففي إذنه للناس إظهار ما به
فإن لم يكن عي اللسان فغالب
من البخل يحمى ماله عن طلابه
و إن لم يكن لا ذا و لا ذا فريبة
يكتمها مستورة بثيابه
أقام عبد العزيز بن زرارة الكلابي- على باب معاوية سنة في شملة من صوف لا يأذن له- ثم أذن له و قربه و أدناه- و لطف محله عنده حتى ولاه مصر- فكان يقال استأذن أقوام لعبد العزيز بن زرارة- ثم صار يستأذن لهم- و قال في ذلك
دخلت على معاوية بن حرب
و لكن بعد يأس من دخول
و ما نلت الدخول عليه حتى
حللت محلة الرجل الذليل
و أغضيت الجفون على قذاها
و لم أنظر إلى قال و قيل
و أدركت الذي أملت منه
و حرمان المنى زاد العجول
و يقال إنه قال له لما دخل عليه- أمير المؤمنين دخلت إليك بالأمل- و احتملت جفوتك بالصبر- و رأيت ببابك أقواما قدمهم الحظ- و آخرين أخرهم الحرمان- فليس ينبغي للمقدم أن يأمن عواقب الأيام- و لا للمؤخر أن ييأس من عطف الزمان- . و أول المعرفة الاختبار فابل و اختبر إن رأيت- و كان يقال لم يلزم باب السلطان أحد- فصبر على ذل الحجاب و كلام البواب- و ألقى الأنف و حمل الضيم و أدام الملازمة- إلا وصل إلى حاجته أو إلى معظمها- .
قال عبد الملك لحاجبه إنك عين أنظر بها- و جنة أستلئم بها- و قد وليتك ما وراء بابي فما ذا تراك صانعا برعيتي- قال أنظر إليهم بعينك و أحملهم على قدر منازلهم عندك- و أضعهم في إبطائهم عن بابك- و لزوم خدمتك مواضع استحقاقهم- و أرتبهم حيث وضعهم ترتيبك- و أحسن إبلاغهم عنك و إبلاغك عنهم- قال لقد وفيت بما عليك و لكن إن صدقت ذلك بفعلك- و قال دعبل و قد حجب عن باب مالك بن طوق-
لعمري لئن حجبتني العبيد
لما حجبت دونك القافيه
سأرمي بها من وراء الحجاب
شنعاء تأتيك بالداهيه
تصم السميع و تعمي البصير
و يسأل من مثلها العافيه
و قال آخر
سأترك هذا الباب ما دام إذنه
على ما أرى حتى يلين قليلا
فما خاب من لم يأته مترفعا
و لا فاز من قد رام فيه دخولا
إذا لم نجد للإذن عندك موضعا
وجدنا إلى ترك المجيء سبيلا
و كتب أبو العتاهية إلى أحمد بن يوسف الكاتب و قد حجبه-
و إن عدت بعد اليوم إني لظالم
سأصرف وجهي حيث تبغي المكارم
متى يفلح الغادي إليك لحاجة
و نصفك محجوب و نصفك نائم
– يعني ليله و نهاره- . استأذن رجلان على معاوية فأذن لأحدهما- و كان أشرف منزلة من الآخر- ثم أذن للآخر فدخل فجلس فوق الأول- فقال معاوية إن الله قد ألزمنا تأديبكم-كما ألزمنا رعايتكم- و أنا لم نأذن له قبلك- و نحن نريد أن يكون مجلسه دونك- فقم لا أقام الله لك وزنا- و قال بشار
تأبى خلائق خالد و فعاله
إلا تجنب كل أمر عائب
و إذا أتينا الباب وقت غدائه
أدنى الغداء لنا برغم الحاجب
و قال آخر يهجو-
يا أميرا على جريب من الأر
ض له تسعة من الحجاب
قاعد في الخراب يحجب عنا
ما سمعنا بحاجب في خراب
و كتب بعضهم إلى جعفر بن محمد- بن القاسم بن عبيد الله بن سليمان بن وهب-
أبا جعفر إن الولاية إن تكن
منبلة قوسا فأنت لها نبل
فلا ترتفع عنا لأمر وليته
كما لم يصغر عندنا شأنك العزل
و من جيد ما مدح به بشر بن مروان قول القائل-
بعيد مراد الطرف ما رد طرفه
حذار الغواشي باب دار و لا ستر
و لو شاء بشر كان من دون بابه
طماطم سود أو صقالبة حمر
و لكن بشرا يستر الباب للتي
يكون لها في غبها الحمد و الأجر
و قال بشار
خليلي من كعب أعينا أخاكما
على دهره إن الكريم يعين
و لا تبخلا بخل ابن قرعة إنه
مخافة أن يرجى نداه حزين
إذا جئته للعرف أغلق بابه
فلم تلقه إلا و أنت كمين
فقل لأبي يحيى متى تدرك العلا
و في كل معروف عليك يمين
و قال إبراهيم بن هرمة
هش إذا نزل الوفود ببابه
سهل الحجاب مؤدب الخدام
و إذا رأيت صديقه و شقيقه
لم تدر أيهما ذوي الأرحام
و قال آخر
و إني لأستحيي الكريم إذا أتى
على طمع عند اللئيم يطالبه
و أرثي له من مجلس عند بابه
كمرثيتي للطرف و العلج راكبه
و قال عبد الله بن محمد بن عيينة-
أتيتك زائرا لقضاء حق
فحال الستر دونك و الحجاب
و رأيي مذهب عن كل ناء
يجانبه إذا عز الذهاب
و لست بساقط في قدر قوم
و إن كرهوا كما يقع الذباب
و قال آخر
ما ضاقت الأرض على راغب
تطلب الرزق و لا راهب
بل ضاقت الأرض على شاعر
أصبح يشكو جفوة الحاجب
قد شتم الحاجب في شعره
و إنما يقصد للصاحب
ثُمَّ إِنَّ لِلْوَالِي خَاصَّةً وَ بِطَانَةً- فِيهِمُ اسْتِئْثَارٌ وَ تَطَاوُلٌ وَ قِلَّةُ إِنْصَافٍ فِي مُعَامَلَةٍ- فَاحْسِمْ مَئُونَةَ أُولَئِكَ بِقَطْعِ أَسْبَابِ تِلْكَ الْأَحْوَالِ- وَ لَا تُقْطِعَنَّ لِأَحَدٍ مِنْ حَاشِيَتِكَ وَ حَامَّتِكَ قَطِيعَةً- وَ لَا يَطْمَعَنَّ مِنْكَ فِي اعْتِقَادِ عُقْدَةٍ- تَضُرُّ بِمَنْ يَلِيهَا مِنَ النَّاسِ- فِي شِرْبٍ أَوْ عَمَلٍ مُشْتَرَكٍ- يَحْمِلُونَ مَئُونَتَهُ عَلَى غَيْرِهِمْ- فَيَكُونَ مَهْنَأُ ذَلِكَ لَهُمْ دُونَكَ- وَ عَيْبُهُ عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا وَ الآْخِرَةِ- وَ أَلْزِمِ الْحَقَّ مَنْ لَزِمَهُ مِنَ الْقَرِيبِ وَ الْبَعِيدِ- وَ كُنْ فِي ذَلِكَ صَابِراً مُحْتَسِباً- وَاقِعاً ذَلِكَ مِنْ قَرَابَتِكَ وَ خَوَاصِّكَ حَيْثُ وَقَعَ- وَ ابْتَغِ عَاقِبَتَهُ بِمَا يَثْقُلُ عَلَيْكَ مِنْهُ- فَإِنَّ مَغَبَّةَ ذَلِكَ مَحْمُودَةٌ- وَ إِنْ ظَنَّتِ الرَّعِيَّةُ بِكَ حَيْفاً فَأَصْحِرْ لَهُمْ بِعُذْرِكَ- وَ اعْدِلْ عَنْكَ ظُنُونَهُمْ بِإِصْحَارِكَ- فَإِنَّ فِي ذَلِكَ إِعْذَاراً- تَبْلُغُ بِهِ حَاجَتَكَ مِنْ تَقْوِيمِهِمْ عَلَى الْحَقِّ نهاه ع عن أن يحمل أقاربه و حاشيته و خواصه- على رقاب الناس- و أن يمكنهم من الاستئثار عليهم و التطاول و الإذلال- و نهاه من أن يقطع أحدا منهم قطيعة- أو يملكه ضيعة تضر بمن يجاورها من السادة و الدهاقين- في شرب يتغلبون على الماء منه- أو ضياع يضيفونها إلى ما ملكهم إياه- و إعفاء لهم من مئونة أو حفر و غيره- فيعفيهم الولاة منه مراقبة لهم- فيكون مئونة ذلك الواجب عليهم قد أسقطت عنهم- و حمل ثقلها على غيرهم- . ثم قال ع لأن منفعة ذلك في الدنيا تكون لهم دونك- و الوزر في الآخرة عليك- و العيب و الذم في الدنيا أيضا لاحقان بك- . ثم قال له إن اتهمتك الرعية بحيف عليهم- أو ظنت بك جورا فاذكر لهم عذرك في ذلك- و ما عندك ظاهرا غير مستور- فإنه الأولى و الأقرب إلى استقامتهم لك على الحق- .
و أصحرت بكذا أي كشفته- مأخوذ من الإصحار و هو الخروج إلى الصحراء- . و حامة الرجل أقاربه و بطانته- و اعتقدت عقدة أي ادخرت ذخيرة- و المهنأ مصدر هنأه كذا و مغبة الشيء عاقبته- . و اعدل عنك ظنونهم نحها و الإعذار إقامة العذر
طرف من أخبار عمر بن عبد العزيز و نزاهته في خلافته
رد عمر بن عبد العزيز المظالم- التي احتقبها بنو مروان فأبغضوه و ذموه- و قيل إنهم سموه فمات- . و روى الزبير بن بكار في الموفقيات- أن عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز- دخل على أبيه يوما و هو في قائلته فأيقظه- و قال له ما يؤمنك أن تؤتى في منامك- و قد رفعت إليك مظالم لم تقض حق الله فيها- فقال يا بني إن نفسي مطيتي إن لم أرفق بها لم تبلغني- إني لو أتعبت نفسي و أعواني لم يكن ذلك- إلا قليلا حتى أسقط و يسقطوا- و إني لأحتسب في نومتي من الأجر- مثل الذي أحتسب في يقظتي- إن الله جل ثناؤه لو أراد أن ينزل القرآن جملة لأنزله- و لكنه أنزل الآية و الآيتين- حتى استكثر الإيمان في قلوبهم- .
ثم قال يا بني مما أنا فيه آمر هو أهم إلى أهل بيتك- هم أهل العدة و العدد و قبلهم ما قبلهم- فلو جمعت ذلك في يوم واحد خشيت انتشارهم علي- و لكني أنصف من الرجلو الاثنين- فيبلغ ذلك من وراءهما فيكون أنجع له- فإن يرد الله إتمام هذا الأمر أتمه- و إن تكن الأخرى فحسب عبد- أن يعلم الله منه أنه يحب أن ينصف جميع رعيته- . و روى جويرية بن أسماء عن إسماعيل بن أبي حكيم قال- كنا عند عمر بن عبد العزيز فلما تفرقنا نادى مناديه- الصلاة جامعة فجئت المسجد- فإذا عمر على المنبر فحمد الله و أثنى عليه- ثم قال أما بعد فإن هؤلاء يعني خلفاء بني أمية قبله- قد كانوا أعطونا عطايا ما كان ينبغي لنا أن نأخذها منهم- و ما كان ينبغي لهم أن يعطوناها- و إني قد رأيت الآن أنه ليس علي في ذلك دون الله حسيب- و قد بدأت بنفسي و الأقربين من أهل بيتي- اقرأ يا مزاحم فجعل مزاحم يقرأ كتابا- فيه الإقطاعات بالضياع و النواحي- ثم يأخذه عمر بيده فيقصه بالجلم- لم يزل كذلك حتى نودي بالظهر- .
و روى الفرات بن السائب قال- كان عند فاطمة بنت عبد الملك بن مروان جوهر جليل- وهبها أبوها و لم يكن لأحد مثله- و كانت تحت عمر بن عبد العزيز- فلما ولي الخلافة قال لها اختاري- إما أن تردي جوهرك و حليك إلى بيت مال المسلمين- و إما أن تأذني لي في فراقك- فإني أكره أن اجتمع أنا و أنت و هو في بيت واحد- فقالت بل أختارك عليه و على أضعافه لو كان لي- و أمرت به فحمل إلى بيت المال- فلما هلك عمر و استخلف يزيد بن عبد الملك- قال لفاطمة أخته إن شئت رددته عليك- قالت فإني لا أشاء ذلك- طبت عنه نفسا في حياة عمر- و أرجع فيه بعد موته لا و الله أبدا- فلما رأى يزيد ذلك قسمه بين ولده و أهله- .
و روى سهيل بن يحيى المروزي عن أبيه- عن عبد العزيز عن عمر بن عبد العزيز قال- لما دفن سليمان صعد عمر على المنبر فقال- إني قد خلعت ما في رقبتي من بيعتكم- فصاح الناس صيحة واحدة قد اخترناك- فنزل و دخل و أمر بالستور فهتكت-و الثياب التي كانت تبسط للخلفاء- فحملت إلى بيت المال- ثم خرج و نادى مناديه من كانت له مظلمة- من بعيد أو قريب من أمير المؤمنين فليحضر- فقام رجل ذمي من أهل حمص أبيض الرأس و اللحية- فقال أسألك كتاب الله قال ما شأنك- قال العباس بن الوليد بن عبد الملك اغتصبني ضيعتي- و العباس جالس- فقال عمر ما تقول يا عباس- قال أقطعنيها أمير المؤمنين الوليد و كتب لي بها سجلا- فقال عمر ما تقول أنت أيها الذمي- قال يا أمير المؤمنين أسألك كتاب الله- فقال عمر إيها لعمري إن كتاب الله لأحق أن يتبع- من كتاب الوليد- اردد عليه يا عباس ضيعته- فجعل لا يدع شيئا مما كان في أيدي أهل بيته من المظالم- إلا ردها مظلمة مظلمة- .
و روى ميمون بن مهران قال- بعث إلي عمر بن عبد العزيز و إلى مكحول و أبي قلابة- فقال ما ترون في هذه الأموال- التي أخذها أهلي من الناس ظلما- فقال مكحول قولا ضعيفا كرهه عمر- فقال أرى أن تستأنف و تدع ما مضى- فنظر إلي عمر كالمستغيث بي- فقلت يا أمير المؤمنين- أحضر ولدك عبد الملك لننظر ما يقول فحضر- فقال ما تقول يا عبد الملك فقال ما ذا أقول أ لست تعرف مواضعها- قال بلى و الله قال فارددها- فإن لم تفعل كنت شريكا لمن أخذها- . و روى ابن درستويه عن يعقوب بن سفيان- عن جويرية بن أسماء قال- كان بيد عمر بن عبد العزيز قبل الخلافة- ضيعته المعروفة بالسهلة و كانت باليمامة- و كانت أمرا عظيما لها غلة عظيمة كثيرة- إنما عيشه و عيش أهله منها- فلما ولي الخلافة قال لمزاحم مولاه و كان فاضلا- إني قد عزمت أن أرد السهلة إلى بيت مال المسلمين- فقال مزاحم أ تدري كم ولدك إنهم كذا و كذا- قال فذرفت عيناه فجعل يستدمع- و يمسح الدمعة بإصبعه الوسطى و يقول- أكلهم إلى الله أكلهم إلى الله- فمضى مزاحم فدخل على عبد الملك بن عمر فقال له- أ لا تعلم ما قد عزم عليه أبوك إنه يريد أن يرد السهلة- قال فما قلت له قال ذكرت له ولده- فجعل يستدمع و يقول أكلهم إلى الله- فقال عبد الملك بئس وزير الدين أنت- ثم وثب و انطلق إلى أبيه فقال للآذن استأذن لي عليه- فقال إنه قد وضع رأسه الساعة للقائلة- فقال استأذن لي عليه فقال أ ما ترحمونه- ليس له من الليل و النهار إلا هذه الساعة- قال استأذن لي عليه لا أم لك- فسمع عمر كلامهما فقال ائذن لعبد الملك- فدخل فقال على ما ذا عزمت قال أرد السهلة- قال فلا تؤخر ذلك قم الآن- قال فجعل عمر يرفع يديه و يقول- الحمد لله الذي جعل لي من ذريتي من يعينني على أمر ديني- قال نعم يا بني أصلي الظهر ثم أصعد المنبر- فأردها علانية على رءوس الناس- قال و من لك أن تعيش إلى الظهر- ثم من لك أن تسلم نيتك إلى الظهر إن عشت إليها- فقام عمر فصعد المنبر فخطب الناس و رد السهلة- .
قال و كتب عمر بن الوليد بن عبد الملك- إلى عمر بن عبد العزيز لما أخذ بني مروان- برد المظالم كتابا أغلظ له فيه- من جملته أنك أزريت على كل من كان قبلك- من الخلفاء و عبتهم و سرت بغير سيرتهم- بغضا لهم و شنآنا لمن بعدهم من أولادهم- و قطعت ما أمر الله به أن يوصل- و عمدت إلى أموال قريش و مواريثهم- فأدخلتها بيت المال جورا و عدوانا- فاتق الله يا ابن عبد العزيز و راقبه- فإنك خصصت أهل بيتك بالظلم و الجور- و و الذي خص محمد ص بما خصه به- لقد ازددت من الله بعدا بولايتك هذه- التي زعمت أنها عليك بلاء- فأقصر عن بعض ما صنعت- و اعلم أنك بعين جبار عزيز و في قبضته- و لن يتركك على ما أنت عليه- .
قالوا فكتب عمر جوابه أما بعد فقد قرأت كتابك- و سوف أجيبك بنحو منه- أما أول أمرك يا ابن الوليد فإن أمك نباتة أمة السكون- كانت تطوف في أسواق حمص- و تدخل حوانيتها ثم الله أعلم بها- اشتراها ذبيان بن ذبيان من فيء المسلمين- فأهداهالأبيك فحملت بك- فبئس الحامل و بئس المحمول- ثم نشأت فكنت جبارا عنيدا- و تزعم أني من الظالمين لأني حرمتك و أهل بيتك فيء الله- الذي هو حق القرابة و المساكين و الأرامل- و إن أظلم مني و أترك لعهد الله- من استعملك صبيا سفيها على جند المسلمين- تحكم فيهم برأيك- و لم يكن له في ذاك نية إلا حب الوالد ولده- فويل لك و ويل لأبيك- ما أكثر خصماءكما يوم القيامة- و إن أظلم مني و أترك لعهد الله- من استعمل الحجاج بن يوسف على خمسي العرب- يسفك الدم الحرام و يأخذ المال الحرام- و إن أظلم مني و أترك لعهد الله- من استعمل قرة بن شريك أعرابيا جافيا على مصر- و أذن له في المعازف و الخمر و الشرب و اللهو- و إن أظلم مني و أترك لعهد الله- من استعمل عثمان بن حيان على الحجاز- فينشد الأشعار على منبر رسول الله ص- و من جعل للعالية البربرية سهما في الخمس- فرويدا يا ابن نباتة- و لو التقت حلقتا البطان و رد الفيء إلى أهله- لتفرغت لك و لأهل بيتك فوضعتكم على المحجة البيضاء- فطالما تركتم الحق و أخذتم في بنيات الطريق- و من وراء هذا من الفضل ما أرجو أن أعمله- بيع رقبتك- و قسم ثمنك بين الأرامل و اليتامى و المساكين- فإن لكل فيك حقا- و السلام علينا و لا ينال سلام الله الظالمين- .
و روى الأوزاعي قال- لما قطع عمر بن عبد العزيز عن أهل بيته ما كان من قبله- يجرونه عليهم من أرزاق الخاصة- فتكلم في ذلك عنبسة بن سعيد فقال- يا أمير المؤمنين إن لنا قرابة- فقال مالي إن يتسع لكم و أما هذا المال فحقكم فيه- كحق رجل بأقصى برك الغماد- و لا يمنعه من أخذه إلا بعد مكانه- و الله إني لأرى أن الأمورلو استحالت حتى يصبح أهل الأرض- يرون مثل رأيكم لنزلت بهم بائقة من عذاب الله- . و روى الأوزاعي أيضا قال قال عمر بن عبد العزيز يوما- و قد بلغه عن بني أمية كلام أغضبه- إن لله في بني أمية يوما أو قال ذبحا- و ايم الله لئن كان ذلك الذبح أو قال ذلك اليوم- على يدي لأعذرن الله فيهم- قال فلما بلغهم ذلك كفوا- و كانوا يعلمون صرامته- و إنه إذا وقع في أمر مضى فيه- .
و روى إسماعيل بن أبي حكيم قال- قال عمر بن عبد العزيز يوما لحاجبه- لا تدخلن علي اليوم إلا مروانيا- فلما اجتمعوا قال يا بني مروان- إنكم قد أعطيتم حظا و شرفا و أموالا- إني لأحسب شطر أموال هذه الأمة أو ثلثيها في أيديكم- فسكتوا فقال أ لا تجيبوني- فقال رجل منهم فما بالك- قال إني أريد أن أنتزعها منكم- فأردها إلى بيت مال المسلمين- فقال رجل منهم و الله لا يكون ذلك- حتى يحال بين رءوسنا و أجسادنا- و الله لا نكفر أسلافنا و لا نفقر أولادنا- فقال عمر و الله لو لا أن تستعينوا علي بمن أطلب هذا الحق له- لأضرعت خدودكم قوموا عني- . و روى مالك بن أنس قال ذكر عمر بن عبد العزيز- من كان قبله من المروانية فعابهم- و عنده هشام بن عبد الملك فقال يا أمير المؤمنين- إنا و الله نكره أن تعيب آباءنا و تضع شرفنا- فقال عمر و أي عيب أعيب مما عابه القرآن- .
و روى نوفل بن الفرات قال- شكا بنو مروان إلى عاتكة بنت مروان بن الحكم عمر- فقالوا إنه يعيب أسلافنا و يأخذ أموالنا- فذكرت ذلك له و كانت عظيمة عند بني مروان- فقال لها يا عمة إن رسول الله ص قبض- و تركالناس على نهر مورود- فولي ذلك النهر بعده رجلان- لم يستخصا أنفسهما و أهلهما منه بشيء- ثم وليه ثالث فكرى منه ساقية- ثم لم تزل الناس يكرون منه السواقي- حتى تركوه يابسا لا قطرة فيه- و ايم الله لئن أبقاني الله لأسكرن تلك السواقي- حتى أعيد النهر إلى مجراه الأول- قالت فلا يسبون إذا عندك- قال و من يسبهم إنما يرفع الرجل مظلمته فأردها عليه- .
و روى عبد الله بن محمد التيمي قال- كان بنو أمية ينزلون عاتكة بنت مروان بن الحكم- على أبواب قصورهم- و كانت جليلة الموضع عندهم- فلما ولي عمر قال لا يلي إنزالها أحد غيري- فأدخلوها على دابتها إلى باب قبته فأنزلها- ثم طبق لها وسادتين إحداهما على الأخرى- ثم أنشأ يمازحها و لم يكن من شأنه و لا من شأنها المزاح- فقال أ ما رأيت الحرس الذين على الباب- فقالت بلى و ربما رأيتهم عند من هو خير منك- فلما رأى الغضب لا يتحلل عنها ترك المزاح- و سألها أن تذكر حاجتها- فقالت إن قرابتك يشكونك- و يزعمون أنك أخذت منهم خير غيرك- قال ما منعتهم شيئا هو لهم- و لا أخذت منهم حقا يستحقونه- قالت إني أخاف أن يهيجوا عليك يوما عصيبا- و قال كل يوم أخافه دون يوم القيامة فلا وقاني الله شره- ثم دعا بدينار و مجمرة و جلد فألقى الدينار في النار- و جعل ينفخ حتى احمر- ثم تناوله بشيء فأخرجه فوضعه على الجلد فنش و فتر- فقال يا عمة أ ما تأوين لابن أخيك من مثل هذا- فقامت فخرجت إلى بني مروان فقالت- تزوجون في آل عمر بن الخطاب- فإذا نزعوا إلى الشبه جزعتم اصبروا له- .
و روى وهيب بن الورد قال- اجتمع بنو مروان على باب عمر بن عبد العزيز- فقالوا لولد له قل لأبيك يأذن لنا- فإن لم يأذن فأبلغ إليه عنا و سأله- فلم يأذن لهم و قال فليقولوا- فقالوا قل له إن من كان قبلك من الخلفاء كان يعطينا- و يعرف لنا مواضعنا- و إن أباك قد حرمنا ما في يديه- فدخل إلى أبيه فأبلغه عنهم- فقال اخرج فقل لهم- إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم و روى سعيد بن عمار عن أسماء بنت عبيد قال- دخل عنبسة بن سعيد بن العاص على عمر بن عبد العزيز فقال- يا أمير المؤمنين إن من كان قبلك من الخلفاء- كانوا يعطوننا عطايا منعتناها و لي عيال و ضيعة- فأذن لي أخرج إلى ضيعتي و ما يصلح عيالي- فقال عمر إن أحبكم إلينا من كفانا مئونته- فخرج عنبسة فلما صار إلى الباب ناداه أبا خالد أبا خالد- فرجع فقال أكثر ذكر الموت- فإن كنت في ضيق من العيش وسعه عليك- و إن كنت في سعة من العيش ضيقه عليك- .
و روى عمر بن علي بن مقدم قال- قال ابن صغير لسليمان بن عبد الملك لمزاحم- إن لي حاجة إلى أمير المؤمنين عمر- قال فاستأذنت له فأدخله- فقال يا أمير المؤمنين لم أخذت قطيعتي- قال معاذ الله إن آخذ قطيعة ثبتت في الإسلام- قال فهذا كتابي بها و أخرج كتابا من كمه- فقرأه عمر و قال لمن كانت هذه الأرض- قال كانت للمسلمين قال فالمسلمون أولى بها- قال فاردد علي كتابي- قال إنك لو لم تأتني به لم أسألكه- فأما إذ جئتني به فلست أدعك تطلب به ما ليس لك بحق- فبكى ابن سليمان فقال مزاحم- يا أمير المؤمنين ابن سليمان تصنع به هذا- قال و ذلك لأن سليمان عهد إلى عمر و قدمه على إخوته- فقال عمر ويحك يا مزاحم- إني لأجد له من اللوط ما أجد لولدي- و لكنها نفسي أجادل عنها- .
و روى الأوزاعي قال قال هشام بن عبد الملك- و سعيد بن خالد بن عمر بن عثمان بن عفان- لعمر بن عبد العزيز يا أمير المؤمنين- استأنف العمل برأيك فيما تحت يدك- و خل بين من سبقك و بين ما ولوه عليهم كان أو لهم- فإنك مستكف أن تدخل في خير ذلك و شره- قال أنشدكما الله الذي إليه تعودان- لو أن رجلا هلك و ترك بنين أصاغر و أكابر- فغر الأكابر الأصاغر بقوتهم فأكلوا أموالهم- ثم بلغ الأصاغر الحلم فجاءوكما بهم- و بما صنعوا في أموالهم ما كنتما صانعين- قالا كنا نرد عليهم حقوقهم حتى يستوفوها- قال فإني وجدت كثيرا ممن كان قبلي من الولاة- غر الناس بسلطانه و قوته- و آثر بأموالهم أتباعه و أهله و رهطه و خاصته- فلما وليت أتوني بذلك- فلم يسعني إلا الرد على الضعيف من القوي- و على الدنيء من الشريف- فقالا يوفق الله أمير المؤمنين
وَ لَا تَدْفَعَنَّ صُلْحاً دَعَاكَ إِلَيْهِ عَدُوُّكَ لِلَّهِ فِيهِ رِضًا- فَإِنَّ فِي الصُّلْحِ دَعَةً لِجُنُودِكَ- وَ رَاحَةً مِنْ هُمُومِكَ وَ أَمْناً لِبِلَادِكَ- وَ لَكِنِ الْحَذَرَ كُلَّ الْحَذَرِ مِنْ عَدُوِّكَ بَعْدَ صُلْحِهِ- فَإِنَّ الْعَدُوَّ رُبَّمَا قَارَبَ لِيَتَغَفَّلَ- فَخُذْ بِالْحَزْمِ وَ اتَّهِمْ فِي ذَلِكَ حُسْنَ الظَّنِّ- وَ إِنْ عَقَدْتَ بَيْنَكَ وَ بَيْنَ عَدُوٍّ لَكَ عُقْدَةً- أَوْ أَلْبَسْتَهُ مِنْكَ ذِمَّةً- فَحُطْ عَهْدَكَ بِالْوَفَاءِ وَ ارْعَ ذِمَّتَكَ بِالْأَمَانَةِ- وَ اجْعَلْ نَفْسَكَ جُنَّةً دُونَ مَا أَعْطَيْتَ- فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ شَيْءٌ- النَّاسُ أَشَدُّ عَلَيْهِ اجْتِمَاعاً مَعَ تَفَرُّقِ أَهْوَائِهِمْ- وَ تَشَتُّتِ آرَائِهِمْ- مِنْ تَعْظِيمِ الْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ- وَ قَدْ لَزِمَ ذَلِكَ الْمُشْرِكُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ دُونَ الْمُسْلِمِينَ- لِمَا اسْتَوْبَلُوا مِنْ عَوَاقِبِ الْغَدْرِ- فَلَا تَغْدِرَنَّ بِذِمَّتِكَ وَ لَا تَخِيسَنَّ بِعَهْدِكَ- وَ لَا تَخْتِلَنَّ عَدُوَّكَ- فَإِنَّهُ لَا يَجْتَرِئُ عَلَى اللَّهِ إِلَّا جَاهِلٌ شَقِيٌّ- وَ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ عَهْدَهُ وَ ذِمَّتَهُ أَمْناً أَفْضَاهُ بَيْنَ الْعِبَادِ بِرَحْمَتِهِ-وَ حَرِيماً يَسْكُنُونَ إِلَى مَنَعَتِهِ وَ يَسْتَفِيضُونَ إِلَى جِوَارِهِ- فَلَا إِدْغَالَ وَ لَا مُدَالَسَةَ وَ لَا خِدَاعَ فِيهِ- وَ لَا تَعْقِدْهُ عَقْداً تُجَوِّزُ فِيهِ الْعِلَلَ- وَ لَا تُعَوِّلَنَّ عَلَى لَحْنِ الْقَوْلِ بَعْدَ التَّأْكِيدِ وَ التَّوْثِقَةِ- وَ لَا يَدْعُوَنَّكَ ضِيقُ أَمْرٍ- لَزِمَكَ فِيهِ عَهْدُ اللَّهِ إِلَى طَلَبِ انْفِسَاخِهِ بِغَيْرِ الْحَقِّ- فَإِنَّ صَبْرَكَ عَلَى ضِيقِ أَمْرٍ تَرْجُو انْفِرَاجَهُ وَ فَضْلَ عَاقِبَتِهِ- خَيْرٌ مِنْ غَدْرٍ تَخَافُ تَبِعَتَهُ- وَ أَنْ تُحِيطَ بِكَ مِنَ اللَّهِ طِلْبَةٌ- لَا تَسْتَقِيلُ فِيهَا دُنْيَاكَ وَ لَا آخِرَتَكَ أمره أن يقبل السلم و الصلح إذا دعي إليه- لما فيه من دعة الجنود- و الراحة من الهم و الأمن للبلاد- و لكن ينبغي أن يحذر بعد الصلح من غائلة العدو و كيده- فإنه ربما قارب بالصلح ليتغفل أي يطلب غفلتك- فخذ بالحزم و اتهم حسن ظنك- لا تثق و لا تسكن إلى حسن ظنك بالعدو- و كن كالطائر الحذر- .
ثم أمره بالوفاء بالعهود- قال و اجعل نفسك جنة دون ما أعطيت- أي و لو ذهبت نفسك فلا تغدر- . و قال الراوندي الناس مبتدأ و أشد مبتدأ ثان- و من تعظيم الوفاء خبره- و هذا المبتدأ الثاني مع خبره خبر المبتدإ الأول- و محل الجملة نصب لأنها خبر ليس- و محل ليس مع اسمه و خبره رفع لأنه خبر- فإنه و شيء اسم ليس و من فرائض الله حال- و لو تأخر لكان صفة لشيء- و الصواب أن شيء اسم ليس- و جاز ذلك و إن كان نكرة لاعتماده على النفي- و لأن الجار و المجرور قبله في موضع الحال كالصفة- فتخصص بذلك و قرب من المعرفة- و الناس مبتدأ و أشد خبره- و هذه الجملة المركبة من مبتدإ
و خبر في موضع رفع- لأنها صفة شيء- و أما خبر المبتدإ الذي هو شيء فمحذوف- و تقديره في الوجود كما حذف الخبر في قولنا- لا إله إلا الله أي في الوجود- و ليس يصح ما قال الراوندي من أن أشد مبتدأ ثان- و من تعظيم الوفاء خبره- لأن حرف الجر إذا كان خبرا لمبتدإ تعلق بمحذوف- و هاهنا هو متعلق بأشد نفسه فكيف يكون خبرا عنه- و أيضا فإنه لا يجوز أن يكون أشد من تعظيم الوفاء- خبرا عن الناس- كما زعم الراوندي لأن ذلك كلام غير مفيد- أ لا ترى أنك إذا أردت أن تخبر بهذا الكلام عن المبتدإ- الذي هو الناس لم يقم من ذلك صورة محصلة تفيدك شيئا- بل يكون كلاما مضطربا- . و يمكن أيضا أن يكون من فرائض الله في موضع رفع- لأنه خبر المبتدإ و قد قدم عليه- و يكون موضع الناس و ما بعده رفع- لأنه خبر المبتدإ الذي هو شيء كما قلناه أولا- و ليس يمتنع أيضا أن يكون من فرائض الله- منصوب الموضع لأنه حال- و يكون موضع الناس أشد رفعا- لأنه خبر المبتدإ الذي هو شيء- .
ثم قال له ع- و قد لزم المشركون مع شركهم الوفاء بالعهود- و صار ذلك لهم شريعة و بينهم سنة- فالإسلام أولى باللزوم و الوفاء- . و استوبلوا وجدوه وبيلا أي ثقيلا- استوبلت البلد أي استوخمته و استثقلته- و لم يوافق مزاجك- . و لا تخيسن بعهدك أي لا تغدرن- خاس فلان بذمته أي غدر و نكث- . قوله و لا تختلن عدوك أي لا تمكرن به- ختلته أي خدعته- . و قوله أفضاه بين عباده جعله مشتركا بينهم- لا يختص به فريق دون فريق- .
قال و يستفيضون إلى جواره- أي ينتشرون في طلب حاجاتهم و مآربهم- ساكنين إلى جواره- فإلى هاهنا متعلقة بمحذوف مقدر- كقوله تعالى فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ أي مرسلا- قال فلا إدغال أي لا إفساد- و الدغل الفساد- و لا مدالسة أي لا خديعة- يقال فلان لا يوالس و لا يدالس أي لا يخادع و لا يخون- و أصل الدلس الظلمة- و التدليس في البيع كتمان عيب السلعة عن المشتري- . ثم نهاه عن أن يعقد عقدا يمكن فيه التأويلات- و العلل و طلب المخارج- و نهاه إذا عقد العقد بينه و بين العدو أن ينقضه- معولا على تأويل خفي أو فحوى قول- أو يقول إنما عنيت كذا- و لم أعن ظاهر اللفظة- فإن العقود إنما تعقد على ما هو ظاهر في الاستعمال- متداول في الاصطلاح و العرف لا على ما في الباطن- . و روي انفساحه بالحاء المهملة أي سعته
فصل فيما جاء في الحذر من كيد العدو
قد جاء في الحذر من كيد العدو- و النهي عن التفريط في الرأي السكون- إلى ظاهر السلم أشياء كثيرة- و كذا في النهي عن الغدر و النهي عن طلب تأويلات العهود- و فسخها بغير الحق- . فرط عبد الله بن طاهر في أيام أبيه في أمر- أشرف فيه على العطب و نجا بعد لأي- فكتب إليه أبوه أتاني يا بني من خبر تفريطك- ما كان أكبر عندي من نعيك لو ورد- لأني لم أرج قط ألا تموت- و قد كنت أرجو ألا تفتضح بترك الحزم و التيقظ- .
و روى ابن الكلبي أن قيس بن زهير- لما قتل حذيفة بن بدر و من معه بجفر الهباءة-خرج حتى لحق بالنمر بن قاسط و قال- لا تنظر في وجهي غطفانية بعد اليوم- فقال يا معاخرج حتى لحق بالنمر بن قاسط و قال- لا تنظر في وجهي غطفانية بعد اليوم- فقال يا معاشر النمر أنا قيس بن زهير- غريب حريب طريد شريد موتور- فانظروا لي امرأة قد أدبها الغني و أذلها الفقر- فزوجوه بامرأة منهم- فقال لهم إني لا أقيم فيكم حتى أخبركم بأخلاقي- أنا فخور غيور أنف و لست أفخر حتى أبتلى- و لا أغار حتى أرى و لا آنف حتى أظلم- فرضوا أخلاقه فأقام فيهم حتى ولد له- ثم أراد أن يتحول عنهم- فقال يا معشر النمر إن لكم حقا علي في مصاهرتي فيكم- و مقامي بين أظهركم- و إني موصيكم بخصال آمركم بها و أنهاكم عن خصال- عليكم بالأناة فإن بها تدرك الحاجة و تنال الفرصة- و تسويد من لا تعابون بتسويده- و الوفاء بالعهود فإن به يعيش الناس- و إعطاء ما تريدون إعطاءه قبل المسألة- و منع ما تريدون منعه قبل الإنعام- و إجارة الجار على الدهر- و تنفيس البيوت عن منازل الأيامى- و خلط الضيف بالعيال- و أنهاكم عن الغدر فإنه عار الدهر- و عن الرهان فإن به ثكلت مالكا أخي- و عن البغي فإن به صرع زهير أبي- و عن السرف في الدماء- فإن قتلي أهل الهباءة أورثني العار- و لا تعطوا في الفضول فتعجزوا عن الحقوق- و أنكحوا الأيامى الأكفاء- فإن لم تصيبوا بهن الأكفاء فخير بيوتهن القبور-
و اعلموا أني أصبحت ظالما و مظلوما- ظلمني بنو بدر بقتلهم مالكا- و ظلمتهم بقتلي من لا ذنب له- ثم رحل عنهم إلى غمار فتنصر بها- و عف عن المآكل حتى أكل الحنظل إلى أن ماتإِيَّاكَ وَ الدِّمَاءَ وَ سَفْكَهَا بِغَيْرِ حِلِّهَا- فَإِنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ أَدْعَى لِنِقْمَةٍ وَ لَا أَعْظَمَلِتَبِعَةٍ- وَ لَا أَحْرَى بِزَوَالِ نِعْمَةٍ وَ انْقِطَاعِ مُدَّةٍ- مِنْ سَفْكِ الدِّمَاءِ بِغَيْرِ حَقِّهَا- وَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مُبْتَدِئٌ بِالْحُكْمِ بَيْنَ الْعِبَادِ- فِيمَا تَسَافَكُوا مِنَ الدِّمَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ- فَلَا تُقَوِّيَنَّ سُلْطَانَكَ بِسَفْكِ دَمٍ حَرَامٍ- فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُضْعِفُهُ وَ يُوهِنُهُ بَلْ يُزِيلُهُ وَ يَنْقُلُهُ- وَ لَا عُذْرَ لَكَ عِنْدَ اللَّهِ وَ لَا عِنْدِي فِي قَتْلِ الْعَمْدِ- لِأَنَّ فِيهِ قَوَدَ الْبَدَنِ- وَ إِنِ ابْتُلِيتَ بِخَطَإٍ- وَ أَفْرَطَ عَلَيْكَ سَوْطُكَ أَوْ يَدُكَ بِالْعُقُوبَةِ- فَإِنَّ فِي الْوَكْزَةِ فَمَا فَوْقَهَا مَقْتَلَةً- فَلَا تَطْمَحَنَّ بِكَ نَخْوَةُ سُلْطَانِكَ- عَنْ أَنْ تُؤَدِّيَ إِلَى أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ حَقَّهُمْ قد ذكرنا في وصية قيس بن زهير آنفا- النهي عن الإسراف في الدماء- و تلك وصية مبنية على شريعة الجاهلية- مع حميتها و تهالكها على القتل و القتال- و وصية أمير المؤمنين ع مبنية على الشريعة الإسلامية- و النهي عن القتل و العدوان الذي لا يسيغه الدين- و قد ورد في الخبر المرفوع أن أول ما يقضي الله به يوم القيامة بين العباد- أمر الدماء- قال إنه ليس شيء أدعى إلى حلول النقم- و زوال النعم و انتقال الدول- من سفك الدم الحرام- و إنك إن ظننت أنك تقوي سلطانك بذلك- فليس الأمر كما ظننت- بل تضعفه بل تعدمه بالكلية- . ثم عرفه أن قتل العمد يوجب القود- و قال له قود البدن أي يجب عليك هدم صورتك- كما هدمت صورة المقتول- و المراد إرهابه بهذه اللفظة- أنها أبلغ من أن يقول له فإن فيه القود- .
ثم قال إن قتلت خطأ أو شبه عمد- كالضرب بالسوط فعليك الدية- و قد اختلفالفقهاء في هذه المسألة- فقال أبو حنيفة و أصحابه القتل على خمسة أوجه- عمد و شبه عمد و خطأ- و ما أجري مجرى الخطإ و قتل بسبب- . فالعمد ما تعمد به ضرب الإنسان بسلاح- أو ما يجري مجرى السلاح كالمحدد من الخشب و ليطة القصب- و المروءة المحددة و النار و موجب ذلك المأثم و القود- إلا أن يعفو الأولياء و لا كفارة فيه- . و شبه العمد أن يتعمد الضرب بما ليس بسلاح- و لا أجري مجرى السلاح كالحجر العظيم- و الخشبة العظيمة- و موجب ذلك المأثم و الكفارة و لا قود فيه- و فيه الدية مغلظة على العاقلة- . و الخطأ على وجهين خطأ في القصد- و هو أن يرمي شخصا يظنه صيدا فإذا هو آدمي- و خطأ في الفعل و هو أن يرمي غرضا فيصيب آدميا- و موجب النوعين جميعا الكفارة و الدية على العاقلة- و لا مأثم فيه- . و ما أجري مجرى الخطإ- مثل النائم يتقلب على رجل فيقتله- فحكمه حكم الخطإ- و أما القتل بسبب- فحافر البئر و واضع الحجر في غير ملكه- و موجبه إذا تلف فيه إنسان الدية على العاقلة- و لا كفارة فيه- . فهذا قول أبي حنيفة و من تابعه- و قد خالفه صاحباه أبو يوسف و محمد في شبه العمد- و قالا إذا ضربه بحجر عظيم أو خشبة غليظة فهو عمد- قال و شبه العمد أن يتعمد ضربه بما لا يقتل به غالبا- كالعصا الصغيرة و السوط- و بهذا القول قال الشافعي- . و كلام أمير المؤمنين ع يدل- على أن المؤدب من الولاة- إذا تلف تحت يده إنسان في التأديب فعليه الدية- و قال لي قوم من فقهاء الإمامية أن مذهبنا أن لا دية عليه- و هو خلاف ما يقتضيه كلام أمير المؤمنين ع: وَ إِيَّاكَ وَ الْإِعْجَابَ بِنَفْسِكَ- وَ الثِّقَةَ بِمَا يُعْجِبُكَ مِنْهَا وَ حُبَّ الْإِطْرَاءِ- فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ أَوْثَقِ فُرَصِ الشَّيْطَانِ فِي نَفْسِهِ- لِيَمْحَقَ مَا يَكُونُ مِنْ إِحْسَانِ الْمُحْسِنِينَ- وَ إِيَّاكَ وَ الْمَنَّ عَلَى رَعِيَّتِكَ بِإِحْسَانِكَ- أَوِ التَّزَيُّدَ فِيمَا كَانَ مِنْ فِعْلِكَ- أَوْ أَنْ تَعِدَهُمْ فَتُتْبِعَ مَوْعِدَكَ بِخُلْفِكَ- فَإِنَّ الْمَنَّ يُبْطِلُ الْإِحْسَانَ وَ التَّزَيُّدَ يَذْهَبُ بِنُورِ الْحَقِّ- وَ الْخُلْفَ يُوجِبُ الْمَقْتَ عِنْدَ اللَّهِ وَ النَّاسِ- قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى- كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ- وَ إِيَّاكَ وَ الْعَجَلَةَ بِالْأُمُورِ قَبْلَ أَوَانِهَا- أَوِ التَّسَاقُطَ فِيهَا عِنْدَ إِمْكَانِهَا- أَوِ اللَّجَاجَةَ فِيهَا إِذَا تَنَكَّرَتْ- أَوِ الْوَهْنَ عَنْهَا إِذَا اسْتَوْضَحَتْ- فَضَعْ كُلَّ أَمْرٍ مَوْضِعَهُ وَ أَوْقِعْ كُلَّ عَمَلٍ مَوْقِعَهُ- وَ إِيَّاكَ وَ الِاسْتِئْثَارَ بِمَا النَّاسُ فِيهِ أُسْوَةٌ- وَ التَّغَابِيَ عَمَّا تُعْنَى بِهِ مِمَّا قَدْ وَضَحَ لِلْعُيُونِ- فَإِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْكَ لِغَيْرِكَ- وَ عَمَّا قَلِيلٍ تَنْكَشِفُ عَنْكَ أَغْطِيَةُ الْأُمُورِ- وَ يُنْتَصَفُ مِنْكَ لِلْمَظْلُومِ- امْلِكْ حَمِيَّةَ أَنْفِكَ وَ سَوْرَةَ حَدِّكَ- وَ سَطْوَةَ يَدِكَ وَ غَرْبَ لِسَانِكَ- وَ احْتَرِسْ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ بِكَفِّ الْبَادِرَةِ وَ تَأْخِيرِ السَّطْوَةِ- حَتَّى يَسْكُنَ غَضَبُكَ فَتَمْلِكَ الِاخْتِيَارَ- وَ لَنْ تَحْكُمَ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِكَ- حَتَّى تُكْثِرَ هُمُومَكَ بِذِكْرِ الْمَعَادِ إِلَى رَبِّكَ-وَ الْوَاجِبُ عَلَيْكَ أَنْ تَتَذَكَّرَ مَا مَضَى لِمَنْ تَقَدَّمَكَ- مِنْ حُكُومَةٍ عَادِلَةٍ أَوْ سُنَّةٍ فَاضِلَةٍ- أَوْ أَثَرٍ عَنْ نَبِيِّنَا ص أَوْ فَرِيضَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ- فَتَقْتَدِيَ بِمَا شَاهَدْتَ مِمَّا عَمِلْنَا بِهِ فِيهَا- وَ تَجْتَهِدَ لِنَفْسِكَ فِي اتِّبَاعِ مَا عَهِدْتُ إِلَيْكَ فِي عَهْدِي هَذَا- وَ اسْتَوْثَقْتُ بِهِ مِنَ الْحُجَّةِ لِنَفْسِي عَلَيْكَ- لِكَيْلَا تَكُونَ لَكَ عِلَّةٌ عِنْدَ تَسَرُّعِ نَفْسِكَ إِلَى هَوَاهَا قد اشتمل هذا الفصل على وصايا نحن شارحوها- منها قوله ع إياك و ما يعجبك من نفسك- و الثقة بما يعجبك منها-
قد ورد في الخبر ثلاث مهلكات شح مطاع و هوى متبع و إعجاب المرء بنفسهو في الخبر أيضا لا وحشة أشد من العجبو في الخبر الناس لآدم و آدم من تراب- فما لابن آدم و الفخر و العجبو في الخبر الجار ثوبه خيلاء لا ينظر الله إليه يوم القيامةو في الخبر و قد رأى أبا دجانة- يتبختر- إنها لمشية يبغضها الله إلا بين الصفين- .
و منها قوله و حب الإطراء- ناظر المأمون محمد بن القاسم النوشجاني المتكلم- فجعل يصدقه و يطريه و يستحسن قوله- فقال المأمون يا محمد- أراك تنقاد إلى ما تظن أنه يسرني- قبل وجوب الحجة لي عليك- و تطريني بما لست أحب أن أطري به- و تستخذي لي في المقام- الذي ينبغي أن تكون فيه مقاوما لي و محتجا علي- و لو شئت أن أقسر الأمور بفضل بيان و طول لسان- و أغتصب الحجة بقوة الخلافة- و أبهة الرئاسة لصدقت و إن كنت كاذبا- و عدلت و إن كنت جائرا و صوبت و إن كنت مخطئا-لكني لا أرضى إلا بغلبة الحجة و دفع الشبهة- و إن أنقص الملوك عقلا و أسخفهم رأيا- من رضي بقولهم صدق الأمير- . و أثنى رجل على رجل فقال الحمد لله الذي سترني عنك- و كان بعض الصالحين يقول إذا أطراه إنسان- ليسألك الله عن حسن ظنك- . و منها قوله و إياك و المن- قال الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا- لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَ الْأَذى- و كان يقال المن محبة للنفس مفسدة للصنع- .
و منها نهيه إياه عن التزيد في فعله- قال ع إنه يذهب بنور الحق- و ذلك لأنه محض الكذب- مثل أن يسدي ثلاثة أجزاء من الجميل- فيدعي في المجالس و المحافل أنه أسدى عشرة- و إذا خالط الحق الكذب أذهب نوره- . و منها نهيه إياه عن خلف الوعد- قد مدح الله نبيا من الأنبياء- و هو إسماعيل بن إبراهيم ع بصدق الوعد- و كان يقال وعد الكريم نقد و تعجيل- و وعد اللئيم مطل و تعطيل- و كتب بعض الكتاب و حق لمن أزهر بقول أن يثمر بفعل- و قال أبو مقاتل الضرير قلت لأعرابي- قد أكثر الناس في المواعيد فما قولك فيها- فقال بئس الشيء الوعد مشغلة للقلب الفارغ- متعبة للبدن الخافض خيره غائب و شره حاضر- و في الحديث المرفوع عدة المؤمن كأخذ باليد- فأما أمير المؤمنين ع فقال إنه يوجب المقت- و استشهد عليه بالآية- و المقت البغض- . و منها نهيه عن العجلة و كان يقال- أصاب متثبت أو كاد و أخطأ عجل أو كاد- و في المثل رب عجلة تهب ريثا- و ذمها الله تعالى فقال خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ- .
و منها نهيه عن التساقط في الشيء الممكن عند حضوره- و هذا عبارة عن النهي عن الحرص و الجشع- قال الشنفري
و إن مدت الأيدي إلى الزاد لم أكن
بأعجلهم إذ أجشع القوم أعجل
و منها نهيه عن اللجاجة في الحاجة إذا تعذرت- كان يقال من لاج الله فقد جعله خصما- و من كان الله خصمه فهو مخصوم- قال الغزي
دعها سماوية تجري على قدر
لا تفسدنها برأي منك معكوس
و منها نهيه له عن الوهن فيها إذا استوضحت- أي وضحت و انكشفت- و يروى و استوضحت فعل ما لم يسم فاعله- و الوهن فيها إهمالها و ترك انتهاز الفرصة فيها- قال الشاعر
فإذا أمكنت فبادر إليها
حذرا من تعذر الإمكان
و منها نهيه عن الاستئثار و هذا هو الخلق النبوي- غنم رسول الله ص غنائم خيبر و كانت ملء الأرض نعما- فلما ركب راحلته و سار تبعه الناس- يطلبون الغنائم و قسمها و هو ساكت لا يكلمهم- و قد أكثروا عليه إلحاحا و سؤالا- فمر بشجرة فخطفت رداءه فالتفت فقال- ردوا علي ردائي- فلو ملكت بعدد رمل تهامة مغنما- لقسمته بينكم عن آخره- ثم لا تجدونني بخيلا و لا جبانا- و نزل و قسم ذلك المال عن آخره عليهم كله- لم يأخذ لنفسه منه وبرة- . و منها نهيه له عن التغابي- و صورة ذلك أن الأمير يومئ إليه- أن فلانا من خاصته يفعل كذا- و يفعل كذا من الأمور المنكرة و يرتكبها سرا- فيتغابى عنه و يتغافل- نهاه ع عن ذلك و قال- إنك مأخوذ منك لغيرك أي معاقب- تقول اللهم خذ لي من فلان بحقي- أي اللهم انتقم لي منه- .
و منها نهيه إياه عن الغضب- و عن الحكم بما تقتضيه قوته الغضبية حتى يسكن غضبه- قد جاء في الخبر المرفوع لا يقضي القاضي و هو غضبان- فإذا كان قد نهي أن يقضي القاضي- و هو غضبان على غير صاحب الخصومة- فبالأولى أن ينهى الأمير عن أن يسطو على إنسان- و هو غضبان عليه- . و كان لكسرى أنوشروان صاحب قد رتبه و نصبه لهذا المعنى- يقف على رأس الملك يوم جلوسه- فإذا غضب على إنسان و أمر به- قرع سلسلة تاجه بقضيب في يده و قال له- إنما أنت بشر- فارحم من في الأرض يرحمك من في السماء: وَ مِنْ هَذَا الْعَهْدِ وَ هُوَ آخِرُهُ- وَ أَنَا أَسْأَلُ اللَّهَ بِسَعَةِ رَحْمَتِهِ- وَ عَظِيمِ قُدْرَتِهِ عَلَى إِعْطَاءِ كُلِّ رَغْبَةٍ- أَنْ يُوَفِّقَنِي وَ إِيَّاكَ لِمَا فِيهِ رِضَاهُ- مِنَ الْإِقَامَةِ عَلَى الْعُذْرِ الْوَاضِحِ إِلَيْهِ وَ إِلَى خَلْقِهِ- مِنْ حُسْنِ الثَّنَاءِ فِي الْعِبَادِ وَ جَمِيلِ الْأَثَرِ فِي الْبِلَادِ- وَ تَمَامِ النِّعْمَةِ وَ تَضْعِيفِ الْكَرَامَةِ- وَ أَنْ يَخْتِمَ لِي وَ لَكَ بِالسَّعَادَةِ وَ الشَّهَادَةِ- إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ- وَ السَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهِ عَلَيْهِ وَ عَلَى آلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ روي كل رغيبة و الرغيبة ما يرغب فيه- فأما الرغبة فمصدر رغب في كذا- كأنه قال القادر على إعطاء كل سؤال- أي إعطاء كل سائل ما سأله- .
و معنى قوله من الإقامة على العذر- أي أسأل الله أن يوفقني للإقامة على الاجتهاد- و بذل الوسع في الطاعة- و ذلك لأنه إذا بذل جهده فقد أعذر- ثم فسر اجتهاده في ذلك في رضا الخلق- و لم يفسر اجتهاده في رضا الخالق لأنه معلوم- فقال هو حسن الثناء في العباد و جميل الأثر في البلاد- . فإن قلت فقوله و تمام النعمة على ما ذا تعطفه- قلت هو معطوف على ما من قوله لما فيه- كأنه قال أسأل الله توفيقي لذا و لتمام النعمة- أي و لتمام نعمته علي و تضاعف كرامته لدي- و توفيقه لهما هو توفيقه للأعمال الصالحة- التي يستوجبهما بها
فصل في ذكر بعض وصايا العرب
و ينبغي أن يذكر في هذا الموضع وصايا- من كلام قوم من رؤساء العرب- أوصوا بها أولادهم و رهطهم- فيها آداب حسان و كلام فصيح- و هي مناسبة لعهد أمير المؤمنين ع هذا- و وصاياه المودعة فيه- و إن كان كلام أمير المؤمنين ع أجل و أعلى- من أن يناسبه كلام- لأنه قبس من نور الكلام الإلهي- و فرع من دوحة المنطق النبوي- .
روى ابن الكلبي قال- لما حضرت الوفاة أوس بن حارثة أخا الخزرج- لم يكن له ولد غير مالك بن الأوس- و كان لأخيه الخزرج خمسة- قيل له كنا نأمرك بأن تتزوج في شبابك- فلم تفعل حتى حضرك الموت- و لا ولد لك إلا مالك- فقال لم يهلك هالك ترك مثل مالك- و إن كان الخزرج ذا عدد و ليس لمالك ولد- فلعل الذي استخرج العذق من الجريمة و النار من الوثيمة- أن يجعل لمالك نسلا و رجالا بسلا- و كلنا إلى الموت- يا مالك المنية و لا الدنية- و العتاب قبل العقاب و التجلد لا التبلد- و اعلم أن القبر خير من الفقر- و من لم يعط قاعدا حرم قائما- و شر الشرب الاشتفاف و شر الطعم الاقتفاف- و ذهاب البصر خير من كثير من النظر- و من كرم الكريم الدفع عن الحريم- و من قل ذل- و خير الغنى القناعة و شر الفقر الخضوع- الدهر صرفان صرف رخاء و صرف بلاء- و اليوم يومان يوم لك و يوم عليك- فإذا كان لك فلا تبطر و إذا كان عليك فاصطبر- و كلاهما سينحسر و كيف بالسلامة لمن ليست له إقامة- و حياك ربك- .
و أوصى الحارث بن كعب بنيه فقال- يا بني قد أتت علي مائة و ستون سنة- ما صافحت يميني يمين غادر- و لا قنعت لنفسي بخلة فاجر- و لا صبوت بابنة عم و لا كنة و لا بحت لصديق بسر- و لا طرحت عن مومسة قناعا- و لا بقي على دين عيسى ابن مريم- و قد روي على دين شعيب- من العرب غيري و غير تميم بن مر بن أسد بن خزيمة- فموتوا على شريعتي و احفظوا علي وصيتي- و إلهكم فاتقوا يكفكم ما أهمكم و يصلح لكم حالكم- و إياكم و معصيته فيحل بكم الدمار- و يوحش منكم الديار- كونوا جميعا و لا تفرقوا فتكنوا شيعا- و بزوا قبل أن تبزوا- فموت في عز خير من حياة في ذل و عجز- و كل ما هو كائن كائن و كل جمع إلى تباين- و الدهر صرفان صرف بلاء و صرف رخاء- و اليوم يومان يوم حبرة و يوم عبرة- و الناس رجلان رجل لك و رجل عليك- زوجوا النساء الأكفاء و إلا فانتظروا بهن القضاء- و ليكن أطيب طيبهم الماء- و إياكم و الورهاء فإنها أدوأ الداء- و إن ولدها إلى أفن يكون- لا راحة لقاطع القرابة- و إذا اختلف القوم أمكنوا عدوهم- و آفة العدد اختلاف الكلمة- و التفضل بالحسنة يقي السيئة- و المكافأة بالسيئة دخول فيها- و عمل السوء يزيل النعماء- و قطيعة الرحم تورث الهم- و انتهاك الحرمة يزيل النعمة- و عقوق الوالدين يعقب النكد و يخرب البلد- و يمحق العدد- و الإسراف في النصيحة هو الفضيحة- و الحقد منع الرفد- و لزوم الخطيئة يعقب البلية- و سوء الدعة يقطع أسباب المنفعة- و الضغائن تدعو إلى التباين- يا بني إني قد أكلت مع أقوام و شربت- فذهبوا و غبرت و كأني بهم قد لحقت- ثم قال
أكلت شبابي فأفنيته
و أبليت بعد دهور دهورا
ثلاثة أهلين صاحبتهم
فبادروا و أصبحت شيخا كبيرا
قليل الطعام عسير القيام
قد ترك الدهر خطوي قصيرا
أبيت أراعي نجوم السماء
أقلب أمري بطونا ظهورا
وصى أكثم بن صيفي بنيه و رهطه فقال- يا بني تميم لا يفوتنكم وعظي إن فاتكم الدهر بنفسي- إن بين حيزومي و صدري لكلاما لا أجد له مواقع- إلا أسماعكم و لا مقار إلا قلوبكم- فتلقوه بأسماع مصغية و قلوب دواعية- تحمدوا مغبته الهوى يقظان و العقل راقد- و الشهوات مطلقة و الحزم معقول- و النفس مهملة و الروية مقيدة- و من جهة التواني و ترك الروية يتلف الحزم- و لن يعدم المشاور مرشدا- و المستبد برأيه موقوف على مداحض الزلل- و من سمع سمع به- و مصارع الرجال تحت بروق الطمع- و لو اعتبرت مواقع المحن ما وجدت- إلا في مقاتل الكرام- و على الاعتبار طريق الرشاد- و من سلك الجدد أمن العثار- و لن يعدم الحسود أن يتعب قلبه و يشغل فكره- و يورث غيظه و لا تجاوز مضرته نفسه- يا بني تميم- الصبر على جرع الحلم أعذب من جنا ثمر الندامة- و من جعل عرضه دون ماله استهدف للذم- و كلم اللسان أنكى من كلم السنان- و الكلمة مرهونة ما لم تنجم من الفم- فإذا نجمت مزجت- فهي أسد محرب أو نار تلهب- و رأي الناصح اللبيب دليل لا يجوز- و نفاذ الرأي في الحرب أجدى من الطعن و الضرب- . و أوصى يزيد بن المهلب ابنه مخلدا- حين استخلفه على جرجان- فقال له يا بني قد استخلفتك على هذه البلاد- فانظر هذا الحي من اليمن فكن لهم كما قال الشاعر-
إذا كنت مرتاد الرجال لنفعهم
فرش و اصطنع عند الذين بهم ترمي
و انظر هذا الحي من ربيعة- فإنهم شيعتك و أنصارك فاقض حقوقهم- و انظر هذا الحي من تميم فأمطرهم و لا تزه لهم- و لا تدنهم فيطمعوا و لا تقصهم فيقطعوا- و انظر هذا الحي من قيس- فإنهم أكفاء قومك في الجاهلية- و مناصفوهم المآثر في الإسلام و رضاهم منك البشر- يا بني إن لأبيك صنائع فلا تفسدها- فإنه كفى بالمرء نقصا أن يهدم ما بنى أبوه- و إياك و الدماء فإنه لا تقية معها- و إياك و شتم الأعراض- فإن الحر لا يرضيه عن عرضه عوض- و إياك و ضرب الأبشار فإنه عار باق و وتر مطلوب- و استعمل على النجدة و الفضل دون الهوى- و لا تعزل إلا عن عجز أو خيانة- و لا يمنعك من اصطناع الرجل- أن يكون غيرك قد سبقك إليه- فإنك إنما تصطنع الرجال لفضلها- و ليكن صنيعك عند من يكافئك عنه العشائر- احمل الناس على أحسن أدبك يكفوك أنفسهم- و إذا كتبت كتابا فأكثر النظر فيه- و ليكن رسولك فيما بيني و بينك من يفقه عني و عنك- فإن كتاب الرجل موضع عقله و رسوله موضع سره- و أستودعك الله فلا بد للمودع أن يسكت- و للمشيع أن يرجع- و ما عف من المنطق و قل من الخطيئة أحب إلى أبيك- . و أوصى قيس بن عاصم المنقري بنيه فقال- يا بني خذوا عني فلا أحد أنصح لكم مني- إذا دفنتموني فانصرفوا إلى رحالكم- فسودوا أكبركم- فإن القوم إذا سودوا أكبرهم خلفوا أباهم- و إذا سودوا أصغرهم أزرى ذلك بهم في أكفائهم- و إياكم و معصية الله و قطيعة الرحم- و تمسكوا بطاعة أمرائكم فإنهم من رفعوا ارتفع- و من وضعوا اتضع- و عليكم بهذا المال فأصلحوه- فإنه منبهة للكريم و جنة لعرض اللئيم- و إياكم و المسألة فإنها آخر كسب الرجل- و إن أحدا لم يسأل إلا ترك الكسب- و إياكم و النياحة فإني سمعت رسول الله ص ينهى عنها- و ادفنوني في ثيابي التي كنت أصلي فيها و أصوم- و لا يعلم بكر بن وائل بمدفني- فقد كانت بيني و بينهم- مشاحنات في الجاهلية و الإسلام- و أخاف أن يدخلوا عليكم بي عارا- و خذوا عني ثلاث خصال- إياكم و كل عرق لئيم أن تلابسوه- فإنه إن يسرركم اليوم يسؤكم غدا- و اكظموا الغيظ- و احذروا بني أعداء آبائكم فإنهم على منهاج آبائهم- ثم قال
أحيا الضغائن آباء لنا سلفوا
فلن تبيد و للآباء أبناء
قال ابن الكلبي فيحكي الناس هذا البيت سابقا للزبير- و ما هو إلا لقيس بن عاصم- . و أوصى عمرو بن كلثوم التغلبي بنيه فقال- يا بني إني قد بلغت من العمر- ما لم يبلغ أحد من آبائي و أجدادي- و لا بد من أمر مقتبل- و أن ينزل بي ما نزل بالآباء- و الأجداد و الأمهات و الأولاد- فاحفظوا عني ما أوصيكم به- إني و الله ما عيرت رجلا قط أمرا إلا عيرني مثله- إن حقا فحق و إن باطلا فباطل- و من سب سب- فكفوا عن الشتم فإنه أسلم لأعراضكم- و صلوا أرحامكم تعمر داركم- و أكرموا جاركم بحسن ثنائكم- و زوجوا بنات العم بني العم- فإن تعديتم بهن إلى الغرباء فلا تألوا بهن عن الأكفاء- و أبعدوا بيوت النساء من بيوت الرجال- فإنه أغض للبصر و أعف للذكر- و متى كانت المعاينة و اللقاء- ففي ذلك داء من الأدواء- و لا خير فيمن لا يغار لغيره كما يغار لنفسه- و قل من انتهك حرمة لغيره إلا انتهكت حرمته- و امنعوا القريب من ظلم الغريب- فإنك تدل على قريبك و لا يجمل بك ذل غريبك- و إذا تنازعتم في الدماء فلا يكن حقكم الكفاء- فرب رجل خير من ألف و ود خير من خلف- و إذا حدثتم فعوا و إذا حدثتم فأوجزوا- فإن مع الإكثار يكون الإهذار- و موت عاجل خير من ضنى آجل- و ما بكيت من زمان إلا دهاني بعده زمان- و ربما شجاني من لم يكن أمره عناني- و ما عجبت من أحدوثة إلا رأيت بعدها أعجوبة- و اعلموا أن أشجع القوم العطوف- و خير الموت تحت ظلال السيوف- و لا خير فيمن لا روية له عند الغضب- و لا فيمن إذا عوتب لم يعتب- و من الناس من لا يرجى خيره و لا يخاف شره- فبكوؤه خير من دره و عقوقه خير من بره- و لا تبرحوا في حبكم- فإن من أبرح في حب آل ذلك إلى قبيح بغض- و كم قد زارني إنسان و زرته فانقلب الدهر بنا فقبرته- و اعلموا أن الحليم سليم و أن السفيه كليم- أني لم أمت و لكن هرمت و دخلتني ذلة فسكت- و ضعف قلبي فأهترت- سلمكم ربكم و حياكم- .
و من كتاب أردشير بن بابك إلى بنيه- و الملوك من بعده- رشاد الوالي خير للرعية من خصب الزمان- الملك و الدين توأمان لا قوام لأحدهما إلا بصاحبه- فالدين أس الملك و عماده- ثم صار الملك حارس الدين- فلا بد للملك من أسه و لا بد للدين من حارسه- فأما ما لا حارس له فضائع و ما لا أس له فمهدوم- إن رأس ما أخاف عليكم مبادرة السفلة- إياكم إلى دراسة الدين و تأويله و التفقه فيه- فتحملكم الثقة بقوة الملك على التهاون بهم- فتحدث في الدين رئاسات منتشرات سرا- فيمن قد وترتم و جفوتم و حرمتم و أخفتم- و صغرتم من سفلة الناس و الرعية و حشو العامة- ثم لا تنشب تلك الرئاسات- أن تحدث خرقا في الملك و وهنا في الدولة- و اعلموا أن سلطانكم إنما هو على أجسادكم الرعية- لا على قلوبها- و إن غلبتم الناس على ما في أيديهم- فلن تغلبوهم على ما في عقولهم و آرائهم و مكايدهم- و اعلموا أن العاقل المحروم سال عليكم لسانه- و هو أقطع سيفيه- و إن أشد ما يضر بكم من لسانه- ما صرف الحيلة فيه إلى الدين- فكان للدنيا يحتج و للدين فيما يظهر يتعصب- فيكون للدين بكاؤه و إليه دعاؤه- ثم هو أوحد للتابعين و المصدقين- و المناصحين و المؤازرين- لأن تعصب الناس موكل بالملوك- و رحمتهم و محبتهم موكلة بالضعفاء المغلوبين- فاحذروا هذا المعنى كل الحذر و اعلموا أنه ليس ينبغي للملك أن يعرف للعباد و النساك- بأن يكونوا أولى بالدين منه- و لا أحدب عليه و لا أغضب له- و لا ينبغي له أن يخلي النساك و العباد- من الأمر و النهي في نسكهم و دينهم- فإن خروج النساك و غيرهم من الأمر و النهي- عيب على الملوك و على المملكة- و ثلمة بينة الضرر على الملك و على من بعده- .
و اعلموا أنه قد مضى قبلنا من أسلافنا ملوك- كان الملك منهم يتعهد الحماية بالتفتيش- و الجماعة بالتفضيل و الفراغ بالاشتغال- كتعهده جسده بقص فضول الشعر و الظفر- و غسل الدرن و الغمر- و مداواة ما ظهر من الأدواء و ما بطن- و قد كان من أولئك الملوك- من صحة ملكه أحب إليه من صحة جسده- فتتابعت تلك الأملاك بذلك كأنهم ملك واحد- و كان أرواحهم روح واحدة- يمكن أولهم لآخرهم و يصدق آخرهم أولهم- يجتمع أبناء أسلافهم و مواريث آرائهم- و ثمرات عقولهم عند الباقي منهم بعدهم- و كأنهم جلوس معه يحدثونه و يشاورونه- حتى كأن على رأس دارا بن دارا- ما كان من غلبة الإسكندر الرومي- على ما غلب عليه من ملكه- و كان إفساده أمرنا و تفرقته جماعتنا- و تخريبه عمران مملكتنا- أبلغ له فيما أراد من سفك دمائنا- فلما أذن الله عز و جل في جمع مملكتنا و إعادة أمرنا- كان من بعثه إيانا ما كان- و بالاعتبار يتقى العثار- و التجارب الماضية دستور- يرجع إليه من الحوادث الآتية- .
و اعلموا أن طباع الملوك- على غير طباع الرعية و السوقة- فإن الملك يطيف به العز- و الأمن و السرور و القدرة على ما يريد- و الأنفة و الجرأة و العبث و البطر- و كلما ازدادفي العمر تنفسا- و في الملك سلامة ازداد من هذه الطبائع و الأخلاق- حتى يسلمه ذلك إلى سكر السلطان- الذي هو أشد من سكر الشراب- فينسى النكبات و العثرات و الغير و الدوائر- و فحش تسلط الأيام و لؤم غلبة الدهر- فيرسل يده بالفعل و لسانه بالقول- و عند حسن الظن بالأيام تحدث الغير و تزول النعم- و قد كان من أسلافنا و قدماء ملوكنا- من يذكره عزه الذل و أمنه الخوف- و سروره الكآبة و قدرته المعجزة- و ذلك هو الرجل الكامل قد جمع بهجة الملوك- و فكرة السوقة- و لا كمال إلا في جمعها- .
و اعلموا أنكم ستبلون على الملك- بالأزواج و الأولاد و القرباء و الوزراء و الأخدان- و الأنصار و الأعوان و المتقربين و الندماء و المضحكين- و كل هؤلاء إلا قليلا- أن يأخذ لنفسه أحب إليه من أن يعطي منها عمله- و إنما عمله سوق ليومه و ذخيرة لغده- فنصيحته للملوك فضل نصيحته لنفسه- و غاية الصلاح عنده صلاح نفسه- و غاية الفساد عنده فسادها- يقيم للسلطان سوق المودة- ما أقام له سوق الأرباح و المنافع- إذا استوحش الملك من ثقاته أطبقت عليه ظلم الجهالة- أخوف ما يكون العامة آمن ما يكون الوزراء- و آمن ما يكون العامة أخوف ما يكون الوزراء- . و اعلموا أن كثيرا من وزراء الملوك- من يحاول استبقاء دولته و أيامه بإيقاع الاضطراب- و الخبط في أطراف مملكة الملك- ليحتاج الملك إلى رأيه و تدبيره- فإذا عرفتم هذا من وزير من وزرائكم فاعزلوه- فإنه يدخل الوهن و النقص على الملك و الرعية- لصلاح حال نفسه- و لا تقوم نفسه بهذه النفوس كلها- .
و اعلموا أن بدء ذهاب الدولة- ينشأ من قبل إهمال الرعية بغير أشغال معروفة- و لا أعمال معلومة- فإذا نشأ الفراغ تولد منه النظر في الأمور- و الفكر في الفروع و الأصول- . فإذا نظروا في ذلك نظروا فيه بطبائع مختلفة- فتختلف بهم المذاهب- و يتولد من اختلاف مذاهبهم تعاديهم و تضاغنهم- و هم مع اختلافهم هذا متفقون و مجتمعون على بغض الملوك- فكل صنف منهم إنما يجري إلى فجيعة الملك بملكه- و لكنهم لا يجدون سلما إلى ذلك- أوثق من الدين و الناموس- ثم يتولد من تعاديهم- أن الملك لا يستطيع جمعهم على هوى واحد- فإن انفرد باختصاص بعضهم صار عدو بقيتهم- ولى طباع العامة استثقال الولاة و ملالهم- و النفاسة عليهم و الحسد لهم- و في الرعية المحروم و المضروب- و المقام عليه الحدود- و يتولد من كثرتهم مع عداوتهم- أن يجبن الملك عن الإقدام عليهم- فإن في إقدام الملك على الرعية- كلها كافة تغريرا بملكه- و يتولد من جبن الملك عن الرعية استعجالهم عليه- و هم أقوى عدو له و أخلقه بالظفر- لأنه حاضر مع الملك في دار ملكه- فمن أفضى إليه الملك بعدي- فلا يكونن بإصلاح جسده أشد اهتماما منه بهذه الحال- و لا تكونن لشيء من الأشياء- أكره و أنكر لرأس صار ذنبا- و ذنب صار رأسا و يد مشغولة صارت فارغة- أو غني صار فقيرا أو عامل مصروف أو أمير معزول- .
و اعلموا أن سياسة الملك و حراسته- ألا يكون ابن الكاتب إلا كاتبا- و ابن الجندي إلا جنديا و ابن التاجر إلا تاجرا- و هكذا في جميع الطبقات- فإنه يتولد من تنقل الناس عن حالاتهم- أن يلتمس كل امرئ منهم فوق مرتبته- فإذا انتقل أوشك أن يرى شيئا أرفع مما انتقل إليه- فيحسد أو ينافس- و في ذلك من الضرر المتولد ما لا خفاء به- فإن عجز ملك منكم عن إصلاح رعيته كما أوصيناه- فلا يكون للقميص القمل أصرع خلعا منه- لما لبس من قميص ذلك الملك- .
و اعلموا أنه ليس ملك إلا و هو كثير الذكر- لمن يلي الأمر بعده- و من فساد أمر الملك نشر ذكره ولاة العهود- فإن في ذلك ضروبا من الضرر- و أن ذلك دخول عداوة بين الملك و ولي عهده- لأنه تطمح عينه إلى الملك- و يصير له أحباب و أخدان يمنونه ذلك- و يستبطئون موت الملك- ثم إن الملك يستوحش منه- و تنساق الأمور إلى هلاك أحدهما- و لكن لينظر الوالي منكم لله تعالى- ثم لنفسه ثم للرعية- و لينتخب وليا للعهد من بعده و لا يعلمه ذلك- و لا أحد من الخلق قريبا كان منه أو بعيدا- ثم يكتب اسمه في أربع صحائف و يختمها بخاتمه- و يضعها عند أربعة نفر من أعيان أهل المملكة- ثم لا يكون منه في سره و علانيته أمر- يستدل به على ولي عهده من هؤلاء- في إدناء و تقريب يعرف به- و لا في إقصاء و أعراض يستراب له- و ليتق ذلك في اللحظة و الكلمة- فإذا هلك الملك جمعت تلك الصحائف إلى النسخة- التي تكون في خزانة الملك- فتفض جميعا ثم ينوه حينئذ باسم ذلك الرجل- فيلقي الملك إذا لنية بحداثة عهده بحال السوقة- و يلبسه إذا لبسه ببصر السوقة و سمعها- فإن في معرفته بحاله قبل إفضاء الملك إليه سكرا- تحدثه عنده ولاية العهد- ثم يلقاه الملك فيزيده سكرا إلى سكره- فيعمي و يصم- هذا مع ما لا بد أن يلقاه أيام ولاية العهد من حيل العتاة- و بغي الكذابين و ترقية النمامين- و إيغار صدره و إفساد قلبه على كثير من رعيته- و خواص دولته- و ليس ذلك بمحمود و لا صالح- .
و اعلموا أنه ليس للملك أن يحلف- لأنه لا يقدر أحد استكراهه- و ليس له أن يغضب لأنه قادر- و الغضب لقاح الشر و الندامة- و ليس له أن يعبث و يلعب- لأن اللعب و العبث من عمل الفراغ- و ليس له أن يفرغ لأن الفراغ من أمر السوقة- و ليس للملك أن يحسد أحدا إلا على حسن التدبير- و ليس له أن يخاف لأنه لا يد فوق يده- .
و اعلموا أنكم لن تقدروا على أن تختموا أفواه الناس- من الطعن و الإزراء عليكم- و لا قدرة لكم على أن تجعلوا القبيح من أفعالكم حسنا- فاجتهدوا في أن تحسن أفعالكم كلها- و إلا تجعلوا للعامة إلى الطعن عليكم سبيلا- . و اعلموا أن لباس الملك و مطعمه و مشربه- مقارب للباس السوقة و مطعمهم- و ليس فضل الملك على السوقة- إلا بقدرته على اقتناء المحامد و استفادة المكارم- فإن الملك إذا شاء أحسن و ليس كذلك السوقة- . و اعلموا أن لكل ملك بطانة- و لكل رجل من بطانته بطانة- ثم إن لكل امرئ من بطانة البطانة بطانة- حتى يجتمع من ذلك أهل المملكة- فإذا أقام الملك بطانته على حال الصواب فيهم- أقام كل امرئ منهم بطانته على مثل ذلك- حتى يجتمع على الصلاح عامة الرعية- . احذروا بابا واحدا طالما أمنته فضرني- و حذرته فنفعني- احذروا إفشاء السر بحضرة الصغار من أهليكم و خدمكم- فإنه ليس يصغر واحد منهم عن حمل ذلك السر كاملا- لا يترك منه شيئا حتى يضعه حيث تكرهون- إما سقطا أو غشا- .
و اعلموا أن في الرعية صنفا- أتوا الملك من قبل النصائح له- و التمسوا إصلاح منازلهم بإفساد منازل الناس- فأولئك أعداء الناس و أعداء الملوك- و من عادى الملوك و الناس كلهم فقد عادى نفسه- .
و اعلموا أن الدهر حاملكم على طبقات- فمنها حال السخاء حتى يدنو أحدكم من السرف- و منها حال التبذير حتى يدنو من البخل- و منها حال الأناة حتى يدنو من البلادة- و منها حال انتهاز الفرصة حتى يدنو من الخفة- و منها حال الطلاقة في اللسان حتى يدنو من الهذر- و منها حال الأخذ بحكمة الصمت حتى يدنو من العي- فالملك منكم جدير- أن يبلغ من كل طبقة في محاسنها حدها- فإذا وقف عليه ألجم نفسه عما وراءها- . و اعلموا أن ابن الملك و أخاه و ابن عمه يقول- كدت أن أكون ملكا و بالحري ألا أموت حتى أكون ملكا- فإذا قال ذلك قال ما لا يسر الملك- و إن كتمه فالداء في كل مكتوم- و إذا تمنى ذلك جعل الفساد سلما إلى الصلاح- و لم يكن الفساد سلما إلى صلاح قط- و قد رسمت لكم في ذلك مثالا- اجعلوا الملك لا ينبغي إلا لأبناء الملوك- من بنات عمومتهم- و لا يصلح من أولاد بنات العم إلا كامل غير سخيف العقل- و لا عازب الرأي و لا ناقص الجوارح- و لا مطعون عليه في الدين- فإنكم إذا فعلتم ذلك قل طلاب الملك- و إذا قل طلابه استراح كل امرئ إلى ما يليه- و نزع إلى حد يليه و عرف حاله- و رضي معيشته و استطاب زمانه- . فقد ذكرنا وصايا قوم من العرب- و وصايا أكثر ملوك الفرس و أعظمهم- حكمة لتضم إلى وصايا أمير المؤمنين- فيحصل منها وصايا الدين و الدنيا- فإن وصايا أمير المؤمنين ع الدين عليها أغلب- و وصايا هؤلاء الدنيا عليها أغلب- فإذا أخذ من أخذ التوفيق بيده بمجموع ذلك فقد سعد- و لا سعيد إلا من أسعده الله
شرح نهج البلاغة(ابن أبي الحديد) ج 17