و من كتاب له عليه السّلام إلى معاوية
فَسُبْحَانَ اللَّهِ- مَا أَشَدَّ لُزُومَكَ لِلْأَهْوَاءَ الْمُبْتَدَعَةِ وَ الْحَيْرَةِ الْمُتَّبَعَةِ- مَعَ تَضْيِيعِ الْحَقَائِقِ وَ اطِّرَاحِ الْوَثَائِقِ- الَّتِي هِيَ لِلَّهِ طِلْبَةٌ وَ عَلَى عِبَادِهِ حُجَّةٌ- فَأَمَّا إِكْثَارُكَ الْحِجَاجَ عَلَى عُثْمَانَ وَ قَتَلَتِهِ- فَإِنَّكَ إِنَّمَا نَصَرْتَ عُثْمَانَ حَيْثُ كَانَ النَّصْرُ لَكَ- وَ خَذَلْتَهُ حَيْثُ كَانَ النَّصْرُ لَهُ
أقول: أوّل هذا الكتاب: أمّا بعد فإنّ الدنيا حلوة خضرة ذات زينة و بهجة لم يصيب إليها أحد إلّا شغلته بزينتها عمّا هو أنفع له منها، و بالآخرة أمرنا و عليها حثثنا.
فدع يا معاوية ما يفنى، و اعمل لما يبقى، و احذر الموت الّذي إليه مصيرك و الحساب الّذي إليه عاقبتك. و أعلم أنّ اللّه إذا أراد بعبد خيرا حال بينه و بين ما يكره و وفّقه لطاعته، و إذا أراد بعبد شرّا أغراه بالدنيا و أنساه الآخرة و بسط له أمله و عاقّه عمّا فيه صلاحه. و قد وصلني كتابك فوجدتك ترمي غير غرضك، و تنشد غير ضالّتك، و تخبط في عماية و تيه في ضلالة، و تعتصم بغير حجّة، و تلوذ بأضعف شبهة. فأمّا سؤالك إلىّ المشاركة و الإقرار لك على الشام، فلو كنت فاعلا لذلك اليوم لفعلته أمس. و أمّا قولك: إنّ عمر ولّاكها. فقد عزل عمر من كان ولّا صاحبه، و عزل عثمان من كان عمر ولّاه، و لم ينصب للناس إمام إلّا ليرى من صلاح الأمّة ما قد كان ظهر لمن كان قبله أو خفى عنهم غيبته، و الأمر يحدث بعده الأمر، و لكلّ وال رأى و اجتهاد. ثمّ يتّصل بقوله: سبحان اللّه. الفصل إلى آخره.
و الفصل مشتمل على أمرين:
أحدهما: التعجّب من شدّة لزومه للأهواء الّتي مبتدعها، و التحيّر فيها عن قصد الحقّ. و ذلك أنّه في كلّ وقت يوقع شبهة و يبتدع رأيا يغوى به أصحابه و يقرّر في أذهانهم بذلك أنّ عليّا عليه السّلام لا يصلح للإمامة، فتارة يقول: إنّه قتل عثمان، و تارة يزعم أنّه خذله، و تارة يزعم أنّه قتل الصحابة و فرّق كلمة الجماعة، و تارة تصرف عنه بالعطاء و تفريق مال المسلمين على غير الوجه الشرعيّ، و تارة يعترف بكونه صالحا للإمامة، و يطلب إليه الإقرار بالشام. إلى غير ذلك ممّا يبتدعه في الدين من الأباطيل، و يتّبع الحيرة فيها مع تضييعه لحقايق الامور الّتي ينبغي أن يعتقدها من كونه عليه السّلام الأحقّ بهذا الأمر، و إطراحه لوثايق اللّه و عهوده المطلوبة المرضيّة له و هي على عباده حجّة يوم القيامة كما قال تعالى وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ الآية.
الثاني: جوابه عن خطابه في أمر عثمان
و فخره بنصرته و تبكيته له عليه السّلام بخذلانه إيّاه. و قوله: فإنّك: إلى آخره. في قوّة صغرى ضمير بيانها أنّ معاوية لمّا استصرخه عثمان تثاقل عنه و هو في ذلك يعده حتّى إذا اشتدّ به الحصار بعث إليه يزيد بن أسد القسربى، و قال له: إذا أتيت ذي خشب فاقم بها و لا تقل: الشاهد يرى ما لا يرى الغائب. فإنّي أنا الشاهد و أنت الغائب. قال: فأقام بذي خشب حتّى قتل عثمان. فاستقدمه حينئذ معاوية فعاد إلى الشام بالجيش الّذي كان معه، فكان نصره له حيث بعث لنصرته إنّما كان على سبيل التعذير و التقاعد عنه ليقتل فيدعو إلى نفسه فكان ذلك النصر في الحقيقة لمعاوية. إذ كان فعله ذلك سببا لقتله، و انتصاره هو على مطلوبه من هذا الأمر، و كان خذلانه له حيث كان محتاجا إلى النصر، و تقدير الكبرى: و كلّ من كان كذلك فليس له أن يفخر بنصرته و ينسب غيره إلى خذلانه. و باللّه التوفيق.
شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 5 ، صفحهى 81