نامه 53 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)( كتبه للأشتر النخعي رحمه الله)

53 و من كتاب له ع كتبه للأشتر النخعي رحمه الله-  لما ولاه على مصر و أعمالها

حين اضطرب أمر أميرها محمد بن أبي بكر-  و هو أطول عهد كتبه و أجمعه للمحاسن- : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ-  هَذَا مَا أَمَرَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ عَلِيٌّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ-  مَالِكَ بْنَ الْحَارِثِ الْأَشْتَرَ فِي عَهْدِهِ إِلَيْهِ-  حِينَ وَلَّاهُ مِصْرَ جِبَايَةَ خَرَاجِهَا وَ جِهَادَ عَدُوِّهَا-  وَ اسْتِصْلَاحَ أَهْلِهَا وَ عِمَارَةَ بِلَادِهَا-  أَمَرَهُ بِتَقْوَى اللَّهِ وَ إِيْثَارِ طَاعَتِهِ-  وَ اتِّبَاعِ مَا أَمَرَ بِهِ فِي كِتَابِهِ مِنْ فَرَائِضِهِ وَ سُنَنِهِ-  الَّتِي لَا يَسْعَدُ أَحَدٌ إِلَّا بِاتِّبَاعِهَا-  وَ لَا يَشْقَى إِلَّا مَعَ جُحُودِهَا وَ إِضَاعَتِهَا-  وَ أَنْ يَنْصُرَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بِيَدِهِ وَ قَلْبِهِ وَ لِسَانِهِ-  فَإِنَّهُ جَلَّ اسْمُهُ قَدْ تَكَفَّلَ بِنَصْرِ مَنْ نَصَرَهُ وَ إِعْزَازِ مَنْ أَعَزَّهُ-  وَ أَمَرَهُ أَنْ يَكْسِرَ مِنْ نَفْسِهِ عِنْدَ الشَّهَوَاتِ-  وَ يَنْزَعَهَا عِنْدَ الْجَمَحَاتِ-  فَإِنَّ النَّفْسَ أَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ اللَّهُ-  ثُمَّ اعْلَمْ يَا مَالِكُ-  أَنِّي قَدْ وَجَّهْتُكَ إِلَى بِلَادٍ قَدْ جَرَتْ عَلَيْهَا دُوَلٌ قَبْلَكَ-  مِنْ عَدْلٍ وَ جَوْرٍ-  وَ أَنَّ النَّاسَ يَنْظُرُونَ مِنْ أُمُورِكَ-  فِي مِثْلِ مَا كُنْتَ تَنْظُرُ فِيهِ مِنْ أُمُورِالْوُلَاةِ قَبْلَكَ-  وَ يَقُولُونَ فِيكَ مَا كُنْتَ تَقُولُهُ فِيهِمْ-  وَ إِنَّمَا يُسْتَدَلُّ عَلَى الصَّالِحِينَ-  بِمَا يُجْرِي اللَّهُ لَهُمْ عَلَى أَلْسُنِ عِبَادِهِ-  فَلْيَكُنْ أَحَبَّ الذَّخَائِرِ إِلَيْكَ ذَخِيرَةُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ-  فَامْلِكْ هَوَاكَ وَ شُحَّ بِنَفْسِكَ عَمَّا لَا يَحِلُّ لَكَ-  فَإِنَّ الشُّحَّ بِالنَّفْسِ الْإِنْصَافُ مِنْهَا فِيمَا أَحَبَّتْ أَوْ كَرِهَتْ نصرة الله باليد الجهاد بالسيف و بالقلب الاعتقاد للحق-  و باللسان قول الحق و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر-  و قد تكفل الله بنصرة من نصره لأنه تعالى قال-  وَ لَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ- . و الجمحات منازعة النفس إلى شهواتها و مآربها-  و نزعها بكفها- .

ثم قال له قد كنت تسمع أخبار الولاة-  و تعيب قوما و تمدح قوما-  و سيقول الناس في إمارتك الآن-  نحو ما كنت تقول في الأمراء-  فاحذر أن تعاب و تذم كما كنت تعيب و تذم من يستحق الذم- . ثم قال إنما يستدل على الصالحين-  بما يكثر سماعه من ألسنة الناس بمدحهم و الثناء عليهم-  و كذلك يستدل على الفاسقين بمثل ذلك- . و كان يقال ألسنة الرعية أقلام الحق سبحانه إلى الملوك- . ثم أمره أن يشح بنفسه و فسر له الشح ما هو-  فقال إن تنتصف منها فيما أحبت‏و كرهت-  أي لا تمكنها من الاسترسال في الشهوات-  و كن أميرا عليها-  و مسيطرا و قامعا لها من التهور-  و الانهماك- . فإن قلت هذا معنى قوله فيما أحبت-  فما معنى قوله و كرهت-  قلت لأنها تكره الصلاة و الصوم و غيرهما-  من العبادات الشرعية و من الواجبات العقلية-  و كما يجب أن يكون الإنسان مهيمنا عليها في طرف الفعل-  يجب أن يكون مهيمنا عليها في طرف الترك:

وَ أَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ-  وَ الْمَحَبَّةَ لَهُمْ وَ اللُّطْفَ بِهِمْ-  وَ لَا تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ-  فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ-  وَ إِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ-  يَفْرُطُ مِنْهُمُ الزَّلَلُ وَ تَعْرِضُ لَهُمُ الْعِلَلُ-  وَ يُؤْتَى عَلَى أَيْدِيهِمْ فِي الْعَمْدِ وَ الْخَطَإِ-  فَأَعْطِهِمْ مِنْ عَفْوِكَ وَ صَفْحِكَ-  مِثْلِ الَّذِي تُحِبُّ وَ تَرْضَى أَنْ يُعْطِيَكَ اللَّهُ مِنْ عَفْوِهِ وَ صَفْحِهِ-  فَإِنَّكَ فَوْقَهُمْ وَ وَالِي الْأَمْرِ عَلَيْكَ فَوْقَكَ-  وَ اللَّهُ فَوْقَ مَنْ وَلَّاكَ-  وَ قَدِ اسْتَكْفَاكَ أَمْرَهُمْ وَ ابْتَلَاكَ بِهِمْ-  وَ لَا تَنْصِبَنَّ نَفْسَكَ لِحَرْبِ اللَّهِ-  فَإِنَّهُ لَا يَدَيْ لَكَ بِنِقْمَتِهِ-  وَ لَا غِنَى بِكَ عَنْ عَفْوِهِ وَ رَحْمَتِهِ-  وَ لَا تَنْدَمَنَّ عَلَى عَفْوٍ وَ لَا تَبْجَحَنَّ بِعُقُوبَةٍ-  وَ لَا تُسْرِعَنَّ إِلَى بَادِرَةٍ وَجَدْتَ عَنْهَا مَنْدُوحَةً-  وَ لَا تَقُولَنَّ إِنِّي مُؤَمَّرٌ آمُرُ فَأُطَاعُ-  فَإِنَّ ذَلِكَ إِدْغَالٌ فِي الْقَلْبِ-  وَ مَنْهَكَةٌ لِلدِّينِ وَ تَقَرُّبٌ مِنَ الْغِيَرِ-وَ إِذَا أَحْدَثَ لَكَ مَا أَنْتَ فِيهِ مِنْ سُلْطَانِكَ أُبَّهَةً أَوْ مَخِيلَةً-  فَانْظُرْ إِلَى عِظَمِ مُلْكِ اللَّهِ فَوْقَكَ-  وَ قُدْرَتِهِ مِنْكَ عَلَى مَا لَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ نَفْسِكَ-  فَإِنَّ ذَلِكَ يُطَامِنُ إِلَيْكَ مِنْ طِمَاحِكَ-  وَ يَكُفُّ عَنْكَ مِنْ غَرْبِكَ-  وَ يَفِي‏ءُ إِلَيْكَ بِمَا عَزَبَ عَنْكَ مِنْ عَقْلِكَ-  إِيَّاكَ وَ مُسَامَاةَ اللَّهِ فِي عَظَمَتِهِ وَ التَّشَبُّهَ بِهِ فِي جَبَرُوتِهِ-  فَإِنَّ اللَّهَ يُذِلُّ كُلَّ جَبَّارٍ وَ يُهِينُ كُلَّ مُخْتَالٍ أشعر قلبك الرحمة أي اجعلها كالشعار له-  و هو الثوب الملاصق للجسد-  قال لأن الرعية إما أخوك في الدين-  أو إنسان مثلك تقتضي رقة الجنسية-  و طبع البشرية الرحمة له- .

قوله و يؤتى على أيديهم-  مثل قولك و يؤخذ على أيديهم-  أي يهذبون و يثقفون يقال خذ على يد هذا السفيه-  و قد حجر الحاكم على فلان و أخذ على يده- . ثم قال فنسبتهم إليك كنسبتك إلى الله تعالى-  و كما تحب أن يصفح الله عنك ينبغي أن تصفح أنت عنهم- . قوله لا تنصبن نفسك لحرب الله-  أي لا تبارزه بالمعاصي-  فإنه لا يدي لك بنقمته-  اللام مقحمة و المراد الإضافة-  و نحوه قولهم لا أبا لك- . قوله و لا تقولن إني مؤمر-  أي لا تقل إني أمير و وال آمر بالشي‏ء فأطاع- .

 و الإدغال الإفساد و منهكة للدين ضعف و سقم- . ثم أمره عند حدوث الأبهة و العظمة عنده-  لأجل الرئاسة و الإمرة أن يذكر عظمة الله تعالى-  و قدرته على إعدامه و إيجاده و إماتته و إحيائه-  فإن تذكر ذلك يطامن من غلوائه-  أي يغض من تعظمه و تكبره و يطأطئ منه- . و الغرب حد السيف و يستعار للسطوة-  و السرعة في البطش و الفتك- . قوله و يفي‏ء-  أي يرجع إليك بما بعد عنك من عقلك-  و حرف المضارعة مضموم لأنه من أفاء- . و مساماة الله تعالى مباراته في السمو و هو العلو: أَنْصِفِ اللَّهَ وَ أَنْصِفِ النَّاسَ مِنْ نَفْسِكَ-  وَ مِنْ خَاصَّةً أَهْلِكَ-  وَ مَنْ لَكَ هَوًى فِيهِ مِنْ رَعِيَّتِكَ-  فَإِنَّكَ إِلَّا تَفْعَلْ تَظْلِمْ-  وَ مَنْ ظَلَمَ عِبَادَ اللَّهِ كَانَ اللَّهُ خَصْمَهُ دُونَ عِبَادِهِ-  وَ مَنْ خَاصَمَهُ اللَّهُ أَدْحَضَ حُجَّتَهُ-  وَ كَانَ لِلَّهِ حَرْباً حَتَّى يَنْزِعَ أَوْ يَتُوبَ-  وَ لَيْسَ شَيْ‏ءٌ أَدْعَى إِلَى تَغْيِيرِ نِعْمَةِ اللَّهِ وَ تَعْجِيلِ نِقْمَتِهِ-  مِنْ إِقَامَةٍ عَلَى ظُلْمٍ-  فَإِنَّ اللَّهَ يَسْمَعُ دَعْوَةَ الْمُضْطَهَدِينَ-  وَ هُوَ لِلظَّالِمِينَ بِالْمِرْصَادِ-  وَ لْيَكُنْ أَحَبَّ الْأُمُورِ إِلَيْكَ أَوْسَطُهَا فِي الْحَقِّ-  وَ أَعَمُّهَا فِي الْعَدْلِ وَ أَجْمَعُهَا لِرِضَا الرَّعِيَّةِ-  فَإِنَّ سُخْطَ الْعَامَّةِ يُجْحِفُ بِرِضَا الْخَاصَّةِ-  وَ إِنَّ سُخْطَ الْخَاصَّةِ يُغْتَفَرُ مَعَ رِضَا الْعَامَّةِ-وَ لَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الرَّعِيَّةِ أَثْقَلَ عَلَى الْوَالِي مَئُونَةً فِي الرَّخَاءِ-  وَ أَقَلَّ مَعُونَةً لَهُ فِي الْبَلَاءِ-  وَ أَكْرَهَ لِلْإِنْصَافِ وَ أَسْأَلَ بِالْإِلْحَافِ-  وَ أَقَلَّ شُكْراً عِنْدَ الْإِعْطَاءِ وَ أَبْطَأَ عُذْراً عِنْدَ الْمَنْعِ-  وَ أَضْعَفَ صَبْراً عِنْدَ مُلِمَّاتِ الدَّهْرِ-  مِنْ أَهْلِ الْخَاصَّةِ-  وَ إِنَّمَا عَمُودُ الدِّينِ وَ جِمَاعُ الْمُسْلِمِينَ-  وَ الْعُدَّةُ لِلْأَعْدَاءِ الْعَامَّةُ مِنَ الْأُمَّةِ-  فَلْيَكُنْ صِغْوُكَ لَهُمْ وَ مَيْلُكَ مَعَهُمْ قال له أنصف الله أي قم له بما فرض عليك-  من العبادة و الواجبات العقلية و السمعية- .

ثم قال و أنصف الناس من نفسك و من ولدك و خاصة أهلك-  و من تحبه و تميل إليه من رعيتك-  فمتى لم تفعل ذلك كنت ظالما- . ثم نهاه عن الظلم و أكد الوصاية عليه في ذلك- . ثم عرفه أن قانون الإمارة الاجتهاد في رضا العامة-  فإنه لا مبالاة بسخط خاصة الأمير مع رضا العامة-  فأما إذا سخطت العامة لم ينفعه رضا الخاصة-  و ذلك مثل أن يكون في البلد عشرة أو عشرون من أغنيائه-  و ذوي الثروة من أهله-  يلازمون الوالي و يخدمونه و يسامرونه-  و قد صار كالصديق لهم-  فإن هؤلاء و من ضارعهم من حواشي الوالي-  و أرباب الشفاعات و القربات عنده لا يغنون عنه شيئا-  عند تنكر العامة له-  و كذاك لا يضر سخط هؤلاء إذا رضيت العامة-  و ذلك لأن هؤلاء عنهم غنى و لهم بدل-  و العامة لا غنى عنهم و لا بدل منهم-  و لأنهم إذا شغبوا عليه كانوا كالبحر إذا هاج و اضطرب-  فلا يقاومه أحد و ليس الخاصة كذلك- .

ثم قال ع و نعم ما قال-  ليس شي‏ء أقل نفعا-  و لا أكثر ضررا على الوالي من خواصه أيام الولاية-  لأنهم يثقلون عليه بالحاجات و المسائل و الشفاعات-  فإذا عزل هجروه و رفضوه-  حتى لو لقوه في الطريق لم يسلموا عليه- . و الصغو بالكسر و الفتح و الصغا مقصور الميل: وَ لْيَكُنْ أَبْعَدَ رَعِيَّتِكَ مِنْكَ وَ أَشْنَأَهُمْ عِنْدَكَ-  أَطْلَبُهُمْ لِمَعَايِبِ النَّاسِ-  فَإِنَّ فِي النَّاسِ عُيُوباً الْوَالِي أَحَقُّ مَنْ سَتَرَهَا-  فَلَا تَكْشِفَنَّ عَمَّا غَابَ عَنْكَ مِنْهَا-  فَإِنَّمَا عَلَيْكَ تَطْهِيرُ مَا ظَهَرَ لَكَ-  وَ اللَّهُ يَحْكُمُ عَلَى مَا غَابَ عَنْكَ-  فَاسْتُرِ الْعَوْرَةَ مَا اسْتَطَعْتَ-  يَسْتُرِ اللَّهُ مِنْكَ مَا تُحِبُّ سَتْرَهُ مِنْ رَعِيَّتِكَ-  أَطْلِقْ عَنِ النَّاسِ عُقْدَةَ كُلِّ حِقْدٍ-  وَ اقْطَعْ عَنْكَ سَبَبَ كُلِّ وِتْرٍ-  وَ تَغَابَ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَضِحُ لَكَ-  وَ لَا تَعْجَلَنَّ إِلَى تَصْدِيقِ سَاعٍ-  فَإِنَّ السَّاعِيَ غَاشٌّ وَ إِنْ تَشَبَّهَ بِالنَّاصِحِينَ-  وَ لَا تُدْخِلَنَّ فِي مَشُورَتِكَ بَخِيلًا يَعْدِلُ بِكَ عَنِ الْفَضْلِ-  وَ يَعِدُكَ الْفَقْرَ-  وَ لَا جَبَاناً يُضْعِفُكَ عَنِ الْأُمُورِ-  وَ لَا حَرِيصاً يُزَيِّنُ لَكَ الشَّرَهَ بِالْجَوْرِ-  فَإِنَّ الْبُخْلَ وَ الْجُبْنَ وَ الْحِرْصَ غَرَائِزُ شَتَّى-  يَجْمَعُهَا سُوءُ الظَّنِّ بِاللَّهِ أشناهم عندك أبغضهم إليك- . و تغاب تغافل يقال تغابى فلان عن كذا- . و يضح يظهر و الماضي وضح

فصل في النهي عن ذكر عيوب الناس و ما ورد في ذلك من الآثار

عاب رجل رجلا عند بعض الأشراف فقال له-  لقد استدللت على كثرة عيوبك-  بما تكثر فيه من عيوب الناس-  لأن طالب العيوب إنما يطلبها بقدر ما فيه منها- . و قال الشاعر- 

   و أجرأ من رأيت بظهر غيب
على عيب الرجال أولو العيوب‏

 و قال آخر-

يا من يعيب و عيبه متشعب
كم فيك من عيب و أنت تعيب‏

 و في الخبر المرفوع دعوا الناس بغفلاتهم يعيش بعضهم مع بعض – . و قال الوليد بن عتبة بن أبي سفيان-  كنت أساير أبي و رجل معنا يقع في رجل-  فالتفت أبي إلي فقال يا بني-  نزه سمعك عن استماع الخنى-  كما تنزه لسانك عن الكلام به-  فإن المستمع شريك القائل-  إنما نظر إلى أخبث ما في وعائه فأفرغه في وعائك-  و لو ردت كلمة جاهل في فيه لسعد رادها كما شقي قائلها- . و قال ابن عباس الحدث حدثان-  حدث من فيك و حدث من فرجك- .

و عاب رجل رجلا عند قتيبة بن مسلم-  فقال له قتيبة أمسك ويحك-  فقد تلمظت بمضغه طالما لفظها الكرام- . و مر رجل بجارين له و معه ريبة-  فقال أحدهما لصاحبه أ فهمت ما معه من الريبة-  قال و ما معه قال كذا قال-  عبدي حر لوجه الله شكرا له تعالى-  إذ لم يعرفني من الشر ما عرفك- . و قال الفضيل بن عياض-  إن الفاحشة لتشيع في كثير من المسلمين-  حتى إذا صارت إلى الصالحين كانوا لها خزانا- . و قيل لبزرجمهر هل من أحد لا عيب فيه-  فقال الذي لا عيب فيه لا يموت- . و قال الشاعر- 

و لست بذي نيرب في الرجا
ل مناع خير و سبابها

و لا من إذا كان في جانب‏
أضاع العشيرة و اغتابها

و لكن أطاوع ساداتها
و لا أتعلم ألقابها

و قال آخر-

لا تلتمس من مساوي الناس ما ستروا
فيكشف الله سترا من مساويكا

و اذكر محاسن ما فيهم إذا ذكروا
و لا تعب أحدا منهم بما فيكا

و قال آخر-

ابدأ بنفسك فإنهما عن عيبها
فإذا انتهت عنه فأنت حكيم‏

فهناك تعذر إن وعظت و يقتدى‏
بالقول منك و يقبل التعليم‏

فأما قوله ع أطلق عن الناس عقدة كل حقد-  فقد استوفى هذا المعنى زياد في خطبته البتراء-  فقال و قد كانت بيني و بين أقوام إحن-  و قد جعلت ذلك دبر أذني و تحت قدمي-  فمن كان منكم محسنا فليزدد إحسانا-  و من كان منكم مسيئا فلينزع عن إساءته-  إني لو علمت أن أحدكم قد قتله السلال-  من بغضي لم أكشف عنه قناعا-  و لم أهتك له سترا حتى يبدي لي صفحته-  فإذا فعل لم أناظره-  ألا فليشمل كل امرئ منكم على ما في صدره-  و لا يكونن لسانه شفرة تجري على ودجه

فصل في النهي عن سماع السعاية و ما ورد ذلك من الآثار

فأما قوله ع و لا تعجلن إلى تصديق ساع-  فقد ورد في هذا المعنى كلام حسن-  قال ذو الرئاستين قبول السعاية شر من السعاية-  لأن السعاية دلالة و القبول إجازة-  و ليس من دل على شي‏ء كمن قبله و أجازه-  فامقت الساعي على سعايته-  فإنه لو كان صادقا كان لئيما-  إذ هتك العورة و أضاع الحرمة- . و عاتب مصعب بن الزبير الأحنف على أمر بلغه عنه فأنكره-  فقال مصعب أخبرني به الثقة-  قال كلا أيها الأمير إن الثقة لا يبلغ- . و كان يقال لو لم يكن من عيب الساعي-  إلا أنه أصدق ما يكون أضر ما يكون على الناس لكان كافيا- . كانت الأكاسرة لا تأذن لأحد أن يطبخ السكباج-  و كان ذلك مما يختص به الملك-  فرفع ساع إلى أنوشروان-  إن فلانا دعانا و نحن جماعة-  إلى طعام له و فيه‏ سكباج-  فوقع أنوشروان على رقعته قد حمدنا نصيحتك-  و ذممنا صديقك على سوء اختياره للإخوان- . جاء رجل إلى الوليد بن عبد الملك-  و هو خليفة عبد الملك على دمشق-  فقال أيها الأمير إن عندي نصيحة قال اذكرها-  قال جار لي رجع من بعثه سرا-  فقال أما أنت فقد أخبرتنا أنك جار سوء-  فإن شئت أرسلنا معك فإن كنت كاذبا عاقبناك-  و إن كنت صادقا مقتناك و إن تركتنا تركناك-  قال بل أتركك أيها الأمير قال فانصرف- . و مثل هذا يحكى عن عبد الملك أن إنسانا سأله الخلوة-  فقال لجلسائه إذا شئتم فانصرفوا-  فلما تهيأ الرجل للكلام قال له اسمع ما أقول-  إياك أن تمدحني فأنا أعرف بنفسي منك-  أو تكذبني فإنه لا رأي لمكذوب-  أو تسعى بأحد إلي فإني لا أحب السعاية-  قال أ فيأذن أمير المؤمنين بالانصراف قال إذا شئت- . و قال بعض الشعراء- 

لعمرك ما سب الأمير عدوه
و لكنما سب الأمير المبلغ‏

و قال آخر-

حرمت منائي منك إن كان ذا الذي
أتاك به الواشون عني كما قالوا

و لكنهم لما رأوك شريعة
إلي تواصوا بالنميمة و احتالوا

فقد صرت أذنا للوشاة سميعة
ينالون من عرضي و لو شئت ما نالوا

و قال عبد الملك بن صالح لجعفر بن يحيى-  و قد خرج يودعه لما شخص إلى خراسان-  أيها الأمير أحب أن تكون لي كما قال الشاعر-

 فكوني على الواشين لداء شغبة
كما أنا للواشي ألد شغوب‏

قال بل أكون كما قال القائل-

و إذا الواشي وشى يوما بها
نفع الواشي بما جاء يضر

 و قال العباس بن الأحنف-

ما حطك الواشون من رتبة
عندي و لا ضرك مغتاب‏

كأنهم أثنوا و لم يعلموا
عليك عندي بالذي عابوا

 قوله ع-  و لا تدخلن في مشورتك بخيلا يعدل بك عن الفضل-  و يعدك الفقر-  مأخوذ من قول الله تعالى-  الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَ يَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ-  وَ اللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَ فَضْلًا-  قال المفسرون الفحشاء هاهنا البخل-  و معنى يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ-  يخيل إليكم أنكم إن سمحتم بأموالكم افتقرتم-  فيخوفكم فتخافون فتبخلون- . قوله ع-  فإن البخل و الجبن و الحرص غرائز شتى-  يجمعها سوء الظن بالله-  كلام شريف عال على كلام الحكماء-  يقول إن بينها قدرا مشتركا-  و إن كانت غرائز و طبائع مختلفة-  و ذلك القدر المشترك هو سوء الظن بالله-  لأن الجبان يقول في نفسه إن أقدمت قتلت-  و البخيل يقول إن سمحت و أنفقت افتقرت-  و الحريص يقول إن لم أجد و أجتهد و أدأب فاتني ما أروم-  و كل هذه الأمور ترجع إلى سوء الظن بالله-  و لو أحسن الظن الإنسان بالله و كان يقينه صادقا-  لعلم أن الأجل مقدر و أن الرزق مقدر-  و أن الغنى و الفقر مقدران-  و أنه لا يكون من ذلك إلا ما قضى الله تعالى كونه‏

شَرُّ وُزَرَائِكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ لِلْأَشْرَارِ وَزِيراً-  وَ مَنْ شَرِكَهُمْ فِي الآْثَامِ فَلَا يَكُونَنَّ لَكَ بِطَانَةً-  فَإِنَّهُمْ أَعْوَانُ الْأَثَمَةِ وَ إِخْوَانُ الظَّلَمَةِ-  وَ أَنْتَ وَاجِدٌ مِنْهُمْ خَيْرَ الْخَلَفِ-  مِمَّنْ لَهُ مِثْلُ آرَائِهِمْ وَ نَفَاذِهِمْ-  وَ لَيْسَ عَلَيْهِ مِثْلُ آصَارِهِمْ وَ أَوْزَارِهِمْ وَ آثَامِهِمْ-  مِمَّنْ لَمْ يُعَاوِنْ ظَالِماً عَلَى ظُلْمِهِ وَ لَا آثِماً عَلَى إِثْمِهِ-  أُولَئِكَ أَخَفُّ عَلَيْكَ مَئُونَةً وَ أَحْسَنُ لَكَ مَعُونَةً-  وَ أَحْنَى عَلَيْكَ عَطْفاً وَ أَقَلُّ لِغَيْرِكَ إِلْفاً-  فَاتَّخِذْ أُولَئِكَ خَاصَّةً لِخَلَوَاتِكَ وَ حَفَلَاتِكَ-  ثُمَّ لْيَكُنْ آثَرُهُمْ عِنْدَكَ أَقْوَلَهُمْ بِمُرِّ الْحَقِّ لَكَ-  وَ أَقَلَّهُمْ مُسَاعَدَةً فِيمَا يَكُونُ مِنْكَ مِمَّا كَرِهَ اللَّهُ لِأَوْلِيَائِهِ-  وَاقِعاً ذَلِكَ مِنْ هَوَاكَ حَيْثُ وَقَعَ نهاه ع ألا يتخذ بطانة-  قد كانوا من قبل بطانة للظلمة-  و ذلك لأن الظلم و تحسينه قد صار ملكة ثابتة في أنفسهم-  فبعيد أن يمكنهم الخلو منها-  إذ قد صارت كالخلق الغريزي اللازم-  لتكرارها و صيرورتها عادة-  فقد جاءت النصوص في الكتاب و السنة-  بتحريم معاونة الظلمة و مساعدتهم-  و تحريم الاستعانة بهم-  فإن من استعان بهم كان معينا لهم-  قال تعالى وَ ما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً-  و قال لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ-  يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ و جاء في الخبر المرفوع ينادى يوم القيامة-  أين من بري لهم أي الظالمين قلما- .

أتي الوليد بن عبد الملك برجل من الخوارج-  فقال له ما تقول في الحجاج-  قال و ما عسيت أن أقول فيه-  هل هو إلا خطيئة من خطاياك و شرر من نارك-  فلعنك الله و لعن الحجاج معك و أقبل يشتمهما-  فالتفت الوليد إلى عمر بن عبد العزيز فقال-  ما تقول في هذا قال ما أقول فيه-  هذا رجل يشتمكم-  فإما أن تشتموه كما شتمكم و إما أن تعفوا عنه-  فغضب الوليد و قال لعمر-  ما أظنك إلا خارجيا-  فقال عمر و ما أظنك إلا مجنونا و قام فخرج مغضبا-  و لحقه خالد بن الريان صاحب شرطة الوليد-  فقال له ما دعاك إلى ما كلمت به أمير المؤمنين-  لقد ضربت بيدي إلى قائم سيفي-  أنتظر متى يأمرني بضرب عنقك-  قال أ و كنت فاعلا لو أمرك قال نعم-  فلما استخلف عمر جاء خالد بن الريان-  فوقف على رأسه متقلدا سيفه فنظر إليه و قال يا خالد-  ضع سيفك فإنك مطيعنا في كل أمر نأمرك به-  و كان بين يديه كاتب للوليد-  فقال له ضع أنت قلمك فإنك كنت تضر به و تنفع-  اللهم إني قد وضعتهما فلا ترفعهما-  قال فو الله ما زالا وضيعين مهينين حتى ماتا- .

و روى الغزالي في كتاب إحياء علوم الدين-  قال لما خالط الزهري السلطان كتب أخ له في الدين إليه-  عافانا الله و إياك أبا بكر من الفتن-  فقد أصبحت بحال ينبغي لمن عرفك أن يدعو الله لك و يرحمك-  فقد أصبحت شيخا كبيرا-  و قد أثقلتك نعم الله عليك بما فهمك من كتابه-  و علمك من سنة نبيه-  و ليس كذلك أخذ الله الميثاق على العلماء-  فإنه تعالى قال-  لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَ لا تَكْتُمُونَهُ-  و اعلم أن أيسر ما ارتكبت و أخف ما احتملت-  أنك آنست وحشة الظالم-  و سهلت سبيل الغي بدنوك إلى من لم يؤد حقا-  و لم يترك باطلا حين أدناك-  اتخذوك أبا بكر قطبا تدورعليه رحى ظلمهم-  و جسرا يعبرون عليه إلى بلائهم و معاصيهم-  و سلما يصعدون فيه إلى ضلالتهم-  يدخلون بك الشك على العلماء-  و يقتادون بك قلوب الجهلاء-  فما أيسر ما عمروا لك في جنب ما خربوا عليك-  و ما أكثر ما أخذوا منك-  في جنب ما أفسدوا من حالك و دينك-  و ما يؤمنك أن تكون ممن قال الله تعالى فيهم-  فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ-  وَ اتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا-  يا أبا بكر إنك تعامل من لا يجهل-  و يحفظ عليك من لا يغفل-  فداو دينك فقد دخله سقم-  و هيئ زادك فقد حضر سفر بعيد-  و ما يخفى على الله من شي‏ء في الأرض و لا في السماء-  و السلام: وَ الْصَقْ بِأَهْلِ الْوَرَعِ وَ الصِّدْقِ-  ثُمَّ رُضْهُمْ عَلَى أَلَّا يُطْرُوكَ-  وَ لَا يَبْجَحُوكَ بِبَاطِلٍ لَمْ تَفْعَلْهُ-  فَإِنَّ كَثْرَةَ الْإِطْرَاءِ تُحْدِثُ الزَّهْوَ وَ تُدْنِي مِنَ الْعِزَّةِ-  وَ لَا يَكُونَنَّ الْمُحْسِنُ وَ الْمُسِي‏ءُ عِنْدَكَ بِمَنْزِلَةٍ سَوَاءٍ-  فَإِنَّ فِي ذَلِكَ تَزْهِيداً لِأَهْلِ الْإِحْسَانِ فِي الْإِحْسَانِ-  وَ تَدْرِيباً لِأَهْلِ الْإِسَاءَةِ-  وَ أَلْزِمْ كُلًّا مِنْهُمْ مَا أَلْزَمَ نَفْسَهُ‏

قوله و الصق بأهل الورع كلمة فصيحة-  يقول اجعلهم خاصتك و خلصاءك- . قال ثم رضهم على ألا يطروك-  أي عودهم ألا يمدحوك في وجهك-  و لا يبجحوك بباطل-  لا يجعلوك ممن يبجح أي يفخر بباطل لم يفعله-  كما يبجح أصحاب الأمراء الأمراء بأن يقولوا لهم-  ما رأينا أعدل منكم و لا أسمح-  و لا حمى هذا الثغر أمير أشد بأسا منكم-  و نحو ذلك و قد جاء في الخبر احثوا في وجوه المداحين التراب- . و قال عبد الملك لمن قام يساره ما تريد-  أ تريد أن تمدحني و تصفني أنا أعلم بنفسي منك- . و قام خالد بن عبد الله القسري-  إلى عمر بن عبد العزيز يوم بيعته-  فقال يا أمير المؤمنين-  من كانت الخلافة زائنته فقد زينتها-  و من كانت شرفته فقد شرفتها-  فإنك لكما قال القائل- 

و إذا الدر زان حسن وجوه
كان للدر حسن وجهك زينا

 فقال عمر بن عبد العزيز-  لقد أعطي صاحبكم هذا مقولا و حرم معقولا-  و أمره أن يجلس- . و لما عقد معاوية البيعة لابنه يزيد قام الناس يخطبون-  فقال معاوية لعمرو بن سعيد الأشدق-  قم فاخطب يا أبا أمية فقام فقال-  أما بعد فإن يزيد ابن أمير المؤمنين-  أمل تأملونه-  و أجل تأمنونه-  إن افتقرتم إلى حلمه وسعكم-  و إن احتجتم إلى رأيه أرشدكم-  و إن اجتديتم ذات يده أغناكم و شملكم-  جذع قارح سوبق فسبق و موجد فمجد-و قورع فقرع-  و هو خلف أمير المؤمنين و لا خلف منه-  فقال معاوية أوسعت يا أبا أمية فاجلس-  فإنما أردنا بعض هذا- .

و أثنى رجل على علي ع في وجهه ثناء أوسع فيه-  و كان عنده متهما-  فقال له أنا دون ما تقول و فوق ما في نفسك و قال ابن عباس لعتبة بن أبي سفيان-  و قد أثنى عليه فأكثر-  رويدا فقد أمهيت يا أبا الوليد-  يعني بالغت يقال أمهى حافر البئر إذا استقصى حفرها- . فأما قوله ع-  و لا يكونن المحسن و المسي‏ء عندك بمنزلة سواء-  فقد أخذه الصابي فقال-  و إذا لم يكن للمحسن ما يرفعه و للمسي‏ء ما يضعه-  زهد المحسن في الإحسان و استمر المسي‏ء على الطغيان-  و قال أبو الطيب- 

 شر البلاد بلاد لا صديق بها
و شر ما يكسب الإنسان ما يصم‏

و شر ما قبضته راحتي قنص‏
شهب البزاة سواء فيه و الرخم‏

و كان يقال قضاء حق المحسن أدب للمسي‏ء-  و عقوبة المسي‏ء جزاء للمحسن: وَ اعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ شَيْ‏ءٌ بِأَدْعَى-  إِلَى حُسْنِ ظَنِّ وَالٍ بِرَعِيَّتِهِ-  مِنْ إِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ وَ تَخْفِيفِهِ الْمَئُونَاتِ عَلَيْهِمْ-  وَ تَرْكِ اسْتِكْرَاهِهِ إِيَّاهُمْ عَلَى مَا لَيْسَ لَهُ قِبَلَهُمْ-  فَلْيَكُنْ مِنْكَ فِي ذَلِكَ أَمْرٌ-  يَجْتَمِعُ لَكَ بِهِ حُسْنُ الظَّنِّ بِرَعِيَّتِكَ-  فَإِنَّ حُسْنَ الظَّنِّ يَقْطَعُ عَنْكَ نَصَباً طَوِيلًا-  وَ إِنَّ أَحَقَّ مَنْ حَسُنَ ظَنُّكَ بِهِ لَمَنْ حَسُنَ بَلَاؤُكَ عِنْدَهُ-  وَ إِنَّ أَحَقَّ مَنْ سَاءَ ظَنُّكَ بِهِ لَمَنْ سَاءَ بَلَاؤُكَ عِنْدَهُ-وَ لَا تَنْقُضْ سُنَّةً صَالِحَةً عَمِلَ بِهَا صُدُورُ هَذِهِ الْأُمَّةِ-  وَ اجْتَمَعَتْ بِهَا الْأُلْفَةُ وَ صَلَحَتْ عَلَيْهَا الرَّعِيَّةُ-  وَ لَا تُحْدِثَنَّ سُنَّةً تَضُرُّ بِشَيْ‏ءٍ مِنْ مَاضِي تِلْكَ السُّنَنِ-  فَيَكُونَ الْأَجْرُ لِمَنْ سَنَّهَا-  وَ الْوِزْرُ عَلَيْكَ بِمَا نَقَضْتَ مِنْهَا-  وَ أَكْثِرْ مُدَارَسَةَ الْعُلَمَاءِ وَ مُنَاقَشَةَ الْحُكَمَاءِ-  فِي تَثْبِيتِ مَا صَلَحَ عَلَيْهِ أَمْرُ بِلَادِكَ-  وَ إِقَامَةِ مَا اسْتَقَامَ بِهِ النَّاسُ قَبْلَكَ خلاصة صدر هذا الفصل-  أن من أحسن إليك حسن ظنه فيك-  و من أساء إليك استوحش منك-  و ذلك لأنك إذا أحسنت إلى إنسان-  و تكرر منك ذلك الإحسان-  تبع ذلك اعتقادك أنه قد أحبك-  ثم يتبع ذلك الاعتقاد أمر آخر و هو أنك تحبه-  لأن الإنسان مجبول على أن يحب من يحبه-  و إذا أحببته سكنت إليه و حسن ظنك فيه-  و بالعكس من ذلك إذا أسأت إلى زيد-  لأنك إذا أسأت إليه و تكررت الإساءة-  تبع ذلك اعتقادك أنه قد أبغضك-  ثم يتبع ذلك الاعتقاد أمر آخر و هو أن تبغضه أنت-  و إذا أبغضته انقبضت منه و استوحشت و ساء ظنك به- .

قال المنصور للربيع-  سلني لنفسك قال يا أمير المؤمنين-  ملأت يدي فلم يبق عندي موضع للمسألة-  قال فسلني لولدك قال أسألك أن تحبه-  فقال المنصور يا ربيع إن الحب لا يسأل-  و إنما هو أمر تقتضيه الأسباب-  قال يا أمير المؤمنين و إنما أسألك أن تزيد من إحسانك-  فإذا تكرر أحبك و إذا أحبك أحببته-  فاستحسن‏المنصور ذلك-  ثم نهاه عن نقض السنن الصالحة-  التي قد عمل بها من قبله من صالحي الأمة-  فيكون الوزر عليه بما نقض و الأجر لأولئك بما أسسوا-  ثم أمره بمطارحة العلماء و الحكماء في مصالح عمله-  فإن المشورة بركة و من استشار فقد أضاف عقلا إلى عقله- . و مما جاء في معنى الأول-  قال رجل لإياس بن معاوية من أحب الناس إليك-  قال الذين يعطوني قال ثم من قال الذين أعطيهم- .

و قال رجل لهشام بن عبد الملك-  إن الله جعل العطاء محبة و المنع مبغضة-  فأعني على حبك و لا تعني في بغضك: وَ اعْلَمْ أَنَّ الرَّعِيَّةَ طَبَقَاتٌ-  لَا يَصْلُحُ بَعْضُهَا إِلَّا بِبَعْضٍ-  وَ لَا غِنَى بِبَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ-  فَمِنْهَا جُنُودُ اللَّهِ وَ مِنْهَا كُتَّابُ الْعَامَّةِ وَ الْخَاصَّةِ-  وَ مِنْهَا قُضَاةُ الْعَدْلِ وَ مِنْهَا عُمَّالُ الْإِنْصَافِ وَ الرِّفْقِ-  وَ مِنْهَا أَهْلُ الْجِزْيَةِ وَ الْخَرَاجِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَ مُسْلِمَةِ النَّاسِ-  وَ مِنْهَا التُّجَّارُ وَ أَهْلُ الصِّنَاعَاتِ-  وَ مِنْهَا الطَّبَقَةُ السُّفْلَى مِنْ ذَوِي الْحَاجَاتِ وَ الْمَسْكَنَةِ-  وَ كُلٌّ قَدْ سَمَّى اللَّهُ لَهُ سَهْمَهُ-  وَ وَضَعَ عَلَى حَدِّهِ وَ فَرِيضَتِهِ فِي كِتَابِهِ أَوْ سُنَّةِ نَبِيِّهِ ص عَهْداً-  مِنْهُ عِنْدَنَا مَحْفُوظاً-  فَالْجُنُودُ بِإِذْنِ اللَّهِ حُصُونُ الرَّعِيَّةِ وَ زَيْنُ الْوُلَاةِ-  وَ عِزُّ الدِّينِ وَ سُبُلُ الْأَمْنِ-  وَ لَيْسَ تَقُومُ الرَّعِيَّةُ إِلَّا بِهِمْ-  ثُمَّ لَا قِوَامَ لِلْجُنُودِ-  إِلَّا بِمَا يُخْرِجُ اللَّهُ لَهُمْ مِنَ الْخَرَاجِ-  الَّذِي يَقْوَوْنَ بِهِ عَلَى جِهَادِ عَدُوِّهِمْ-  وَ يَعْتَمِدُونَ عَلَيْهِ فِيمَا يُصْلِحُهُمْ-  وَ يَكُونُ مِنْ وَرَاءِ حَاجَتِهِمْ-  ثُمَّ لَا قِوَامَ لِهَذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ إِلَّا بِالصِّنْفِ الثَّالِثِ-  مِنَ الْقُضَاةِ وَ الْعُمَّالِ‏ وَ الْكُتَّابِ-  لِمَا يُحْكِمُونَ مِنَ الْمَعَاقِدِ وَ يَجْمَعُونَ مِنَ الْمَنَافِعِ-  وَ يُؤْتَمَنُونَ عَلَيْهِ مِنْ خَوَاصِّ الْأُمُورِ وَ عَوَامِّهَا-  وَ لَا قِوَامَ لَهُمْ جَمِيعاً إِلَّا بِالتُّجَّارِ وَ ذَوِي الصِّنَاعَاتِ-  فِيمَا يَجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ مِنْ مَرَافِقِهِمْ-  وَ يُقِيمُونَهُ مِنْ أَسْوَاقِهِمْ-  وَ يَكْفُونَهُمْ مِنَ التَّرَفُّقِ بِأَيْدِيهِمْ-  مِمَّا لَا يَبْلُغُهُ رِفْقُ غَيْرِهِمْ-  ثُمَّ الطَّبَقَةُ السُّفْلَى مِنْ أَهْلِ الْحَاجَةِ وَ الْمَسْكَنَةِ-  الَّذِينَ يَحِقُّ رِفْدُهُمْ وَ مَعُونَتُهُمْ-  وَ فِي اللَّهِ لِكُلٍّ سَعَةٌ-  وَ لِكُلٍّ عَلَى الْوَالِي حَقٌّ بِقَدْرِ مَا يُصْلِحُهُ-  وَ لَيْسَ يَخْرُجُ الْوَالِي-  مِنْ حَقِيقَةِ مَا أَلْزَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ-  إِلَّا بِالِاهْتِمَامِ وَ الِاسْتِعَانَةِ بِاللَّهِ-  وَ تَوْطِينِ نَفْسِهِ عَلَى لُزُومِ الْحَقِّ-  وَ الصَّبْرِ عَلَيْهِ فِيمَا خَفَّ عَلَيْهِ أَوْ ثَقُلَ قالت الحكماء الإنسان مدني بالطبع-  و معناه أنه خلق خلقة-  لا بد معها من أن يكون منضما إلى أشخاص من بني جنسه-  و متمدنا في مكان بعينه-  و ليس المراد بالمتمدن ساكن المدينة ذات السور و السوق-  بل لا بد أن يقيم في موضع ما مع قوم من البشر-  و ذلك لأن الإنسان مضطر-  إلى ما يأكله و يشربه ليقيم صورته-  و مضطر إلى ما يلبسه ليدفع عنه أذى الحر و البرد-  و إلى مسكن يسكنه ليرد عنه عادية غيره من الحيوانات-  و ليكون منزلا له ليتمكن من التصرف و الحركة عليه-  و معلوم أن الإنسان وحده-  لا يستقل بالأمور التي عددناها-  بل لا بد من جماعة يحرث بعضهم لغيره الحرث-  و ذلك الغير يحوك للحراث الثوب-  و ذلك الحائك يبني له غيره المسكن-  و ذلك البناء يحمل له‏ غيره الماء-  و ذلك السقاء يكفيه غيره أمر تحصيل الآلة-  التي يطحن بها الحب و يعجن بها الدقيق-  و يخبز بها العجين-  و ذلك المحصل لهذه الأشياء يكفيه غيره-  الاهتمام بتحصيل الزوجة-  التي تدعو إليها داعية الشبق-  فيحصل مساعدة بعض الناس لبعض-  لو لا ذلك لما قامت الدنيا-  فلهذا معنى قوله ع-  إنهم طبقات لا يصلح بعضها إلا ببعض-  و لا غناء ببعضها عن بعض- .

ثم فصلهم و قسمهم فقال-  منهم الجند و منهم الكتاب-  و منهم القضاة و منهم العمال-  و منهم أرباب الجزية من أهل الذمة-  و منهم أرباب الخراج من المسلمين-  و منهم التجار و منهم أرباب الصناعات-  و منهم ذوو الحاجات و المسكنة و هم أدون الطبقات- . ثم ذكر أعمال هذه الطبقات فقال الجند للحماية-  و الخراج يصرف إلى الجند و القضاة و العمال و الكتاب-  لما يحكمونه من المعاقد و يجمعونه من المنافع-  و لا بد لهؤلاء جميعا من التجار-  لأجل البيع و الشراء الذي لا غناء عنه-  و لا بد لكل من أرباب الصناعات-  كالحداد و النجار و البناء و أمثالهم-  ثم تلي هؤلاء الطبقة السفلى و هم أهل الفقر و الحاجة-  الذين تجب معونتهم و الإحسان إليهم- . و إنما قسمهم في هذا الفصل هذا التقسيم-  تمهيدا لما يذكره فيما بعد فإنه قد شرع بعد هذا الفصل-  فذكر طبقة طبقة و صنفا صنفا-  و أوصاه في كل طبقة و في كل صنف منهم بما يليق بحاله-  و كأنه مهد هذا التمهيد-  كالفهرست لما يأتي بعده من التفصيل‏

فَوَلِّ مِنْ جُنُودِكَ-  أَنْصَحَهُمْ فِي نَفْسِكَ لِلَّهِ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِإِمَامِكَ-  وَ أَطْهَرَهُمْ جَيْباً وَ أَفْضَلَهُمْ حِلْماً-  مِمَّنْ يُبْطِئُ عَنِ الْغَضَبِ وَ يَسْتَرِيحُ إِلَى الْعُذْرِ-  وَ يَرْأَفُ بِالضُّعَفَاءِ وَ يَنْبُو عَلَى الْأَقْوِيَاءِ-  وَ مِمَّنْ لَا يُثِيرُهُ الْعُنْفُ وَ لَا يَقْعُدُ بِهِ الضَّعْفُ-  ثُمَّ الْصَقْ بِذَوِي الْمُرُوءَاتِ وَ الْأَحْسَابِ-  وَ أَهْلِ الْبُيُوتَاتِ الصَّالِحَةِ وَ السَّوَابِقِ الْحَسَنَةِ-  ثُمَّ أَهْلِ النَّجْدَةِ وَ الشَّجَاعَةِ وَ السَّخَاءِ وَ السَّمَاحَةِ-  فَإِنَّهُمْ جِمَاعٌ مِنَ الْكَرَمِ وَ شُعَبٌ مِنَ الْعُرْفِ-  ثُمَّ تَفَقَّدْ مِنْ أُمُورِهِمْ مَا يَتَفَقَّدُ الْوَالِدَانِ مِنْ وَلَدِهِمَا-  وَ لَا يَتَفَاقَمَنَّ فِي نَفْسِكَ شَيْ‏ءٌ قَوَّيْتَهُمْ بِهِ-  وَ لَا تَحْقِرَنَّ لُطْفاً تَعَاهَدْتَهُمْ بِهِ وَ إِنْ قَلَّ-  فَإِنَّهُ دَاعِيَةٌ لَهُمْ إِلَى بَذْلِ النَّصِيحَةِ لَكَ وَ حُسْنِ الظَّنِّ بِكَ-  وَ لَا تَدَعْ تَفَقُّدَ لَطِيفِ أُمُورِهِمُ اتِّكَالًا عَلَى جَسِيمِهَا-  فَإِنَّ لِلْيَسِيرِ مِنْ لُطْفِكَ مَوْضِعاً يَنْتَفِعُونَ بِهِ-  وَ لِلْجَسِيمِ مَوْقِعاً لَا يَسْتَغْنُونَ عَنْهُ-  وَ لْيَكُنْ آثَرُ رُءُوسِ جُنْدِكَ عِنْدَكَ مَنْ وَاسَاهُمْ فِي مَعُونَتِهِ-  وَ أَفْضَلَ عَلَيْهِمْ مِنْ جِدَتِهِ-  بِمَا يَسَعُهُمْ وَ يَسَعُ مَنْ وَرَاءَهُمْ مِنْ خُلُوفِ أَهْلِيهِمْ-  حَتَّى يَكُونَ هَمُّهُمْ هَمّاً وَاحِداً فِي جِهَادِ الْعَدُوِّ-  فَإِنَّ عَطْفَكَ عَلَيْهِمْ يَعْطِفُ قُلُوبَهُمْ عَلَيْكَ-  وَ لَا تَصِحُّ نَصِيحَتُهُمْ إِلَّا بِحِيطَتِهِمْ عَلَى وُلَاةِ أُمُورِهِمْ-  وَ قِلَّةِ اسْتَثْقَالِ دُوَلِهِمْ-  وَ تَرْكِ اسْتِبْطَاءِ انْقِطَاعِ مُدَّتِهِمْ-  فَافْسَحْ فِي آمَالِهِمْ وَ وَاصِلْ مِنْ حُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ-  وَ تَعْدِيدِ مَا أَبْلَى ذَوُو الْبَلَاءِ مِنْهُمْ-  فَإِنَّ كَثْرَةَ الذِّكْرِ لِحُسْنِ فِعَالِهِمْ تَهُزُّ الشُّجَاعَ-  وَ تُحَرِّضُ النَّاكِلَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ-  ثُمَّ اعْرِفْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا أَبْلَى-  وَ لَا تَضُمَّنَّ بَلَاءَ امْرِئٍ إِلَى غَيْرِهِ-  وَ لَا تُقَصِّرَنَّ بِهِ دُونَ غَايَةِ بَلَائِهِ-  وَ لَا يَدْعُوَنَّكَ شَرَفُ امْرِئٍ-  إِلَى أَنْ تُعْظِمَ مِنْ بَلَائِهِ مَا كَانَ صَغِيراً-  وَ لَا ضَعَةُ امْرِئٍ إِلَى أَنْ تَسْتَصْغِرَ مِنْ بَلَائِهِ مَا كَانَ عَظِيماً-  وَ ارْدُدْ إِلَى اللَّهِ وَ رَسُولِهِ مَا يُضْلِعُكَ مِنَ الْخُطُوبِ-  وَ يَشْتَبِهُ عَلَيْكَ مِنَ الْأُمُورِ-  فَقَدْ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِقَوْمٍ أَحَبَّ إِرْشَادَهُمْ-  يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ-  وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ-  فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ‏ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَ الرَّسُولِ-  فَالرَّدُّ إِلَى اللَّهِ الْأَخْذُ بِمُحْكَمِ كِتَابِهِ-  وَ الرَّدُّ إِلَى الرَّسُولِ الْأَخْذُ بِسُنَّتِهِ الْجَامِعَةِ غَيْرِ الْمُفَرِّقَةِ هذا الفصل مختص بالوصاة فيما يتعلق بأمراء الجيش-  أمره أن يولى أمر الجيش من جنوده-  من كان أنصحهم لله في ظنه-  و أطهرهم جيبا أي عفيفا أمينا-  و يكنى عن العفة و الأمانة بطهارة الجيب-  لأن الذي يسرق يجعل المسروق في جيبه- .

فإن قلت و أي تعلق لهذا بولاة الجيش-  إنما ينبغي أن تكون هذه الوصية في ولاة الخراج-  قلت لا بد منها في أمراء الجيش لأجل الغنائم- . ثم وصف ذلك الأمير فقال-  ممن يبطئ عن الغضب و يستريح إلى العذر-  أي يقبل‏ أدنى عذر و يستريح إليه و يسكن عنده-  و يرؤف على الضعفاء يرفق بهم و يرحمهم-  و الرأفة الرحمة-  و ينبو عن الأقوياء يتجافى عنهم و يبعد-  أي لا يمكنهم من الظلم و التعدي على الضعفاء-  و لا يثيره العنف لا يهيج غضبه عنف و قسوة-  و لا يقعد به الضعف أي ليس عاجزا- . ثم أمره أن يلصق بذوي الأحساب و أهل البيوتات-  أي يكرمهم و يجعل معوله في ذلك عليهم-  و لا يتعداهم إلى غيرهم-  و كان يقال عليكم بذوي الأحساب-  فإن هم لم يتكرموا استحيوا- . ثم ذكر بعدهم أهل الشجاعة و السخاء-  ثم قال إنها جماع من الكرم و شعب من العرف-  من هاهنا زائدة-  و إن كانت في الإيجاب على مذهب أبي الحسن الأخفش-  أي جماع الكرم أي يجمعه-  كقول النبي ص الخمر جماع الإثم-  و العرف المعروف- . و كذلك من في قوله و شعب من العرف-  أي شعب العرف أي هي أقسامه و أجزاؤه-  و يجوز أن تكون من على حقيقتها للتبعيض-  أي هذه الخلال جملة من الكرم و أقسام المعروف-  و ذلك لأن غيرها أيضا من الكرم و المعروف-  و نحو العدل و العفة- . قوله ثم تفقد من أمورهم-  الضمير هاهنا يرجع إلى الأجناد لا إلى الأمراء-  لما سنذكره مما يدل الكلام عليه- . فإن قلت إنه لم يجر للأجناد ذكر فيما سبق-  و إنما المذكور الأمراء-  قلت كلا بل سبق ذكر الأجناد-  و هو قوله الضعفاء و الأقوياء- .

و أمره ع أن يتفقد من أمور الجيش-  ما يتفقد الوالدان من حال الولد-  و أمره ألا يعظم عنده ما يقويهم به و إن عظم-  و ألا يستحقر شيئا تعهدهم به و إن قل-  و ألا يمنعه تفقد جسيم أمورهم عن تفقد صغيرها-  و أمره أن يكون آثر رءوس جنوده عنده و أحظاهم عنده-  و أقربهم إليه من واساهم في معونته-  هذا هو الضمير الدال على أن الضمير المذكور أولا للجند-  لا لأمراء الجند-  لو لا ذلك لما انتظم الكلام- . قوله من خلوف أهليهم-  أي ممن يخلفونه من أولادهم و أهليهم- . ثم قال لا يصح نصيحة الجند لك-  إلا بحيطتهم على ولاتهم أي بتعطفهم عليهم و تحننهم-  و هي الحيطة على وزن الشيمة-  مصدر حاطه يحوطه حوطا و حياطا و حيطة أي كلأه و رعاه-  و أكثر الناس يروونها إلا بحيطتهم-  بتشديد الياء و كسرها-  و الصحيح ما ذكرناه- . قوله و قلة استثقال دولهم-  أي لا تصح نصيحة الجند لك إلا إذا أحبوا أمراءهم-  ثم لم يستثقلوا دولهم و لم يتمنوا زوالها- .

ثم أمره أن يذكر في المجالس و المحافل-  بلاء ذوي البلاء منهم-  فإن ذلك مما يرهف عزم الشجاع و يحرك الجبان- . قوله و لا تضمن بلاء امرئ إلى غيره-  أي اذكر كل من أبلى منهم مفردا-  غير مضموم ذكر بلائه إلى غيره-  كي لا يكون مغمورا في جنب ذكر غيره- . ثم قال له لا تعظم بلاء ذوي الشرف لأجل شرفهم-  و لا تحقر بلاء ذوي الضعة لضعة أنسابهم-  بل اذكر الأمور على حقائقها- . ثم أمره أن يرد إلى الله و رسوله ما يضلعه من الخطوب-  أي ما يئوده و يميله‏لثقله-  و هذه الرواية أصح من رواية من رواها بالظاء-  و إن كان لتلك وجه

رسالة الإسكندر إلى أرسطو و رد أرسطو عليه

و ينبغي أن نذكر في هذا الموضع-  رسالة أرسطو إلى الإسكندر-  في معنى المحافظة على أهل البيوتات و ذوي الأحساب-  و أن يخصهم بالرئاسة و الإمرة-  و لا يعدل عنهم إلى العامة و السفلة-  فإن في ذلك تشييدا لكلام أمير المؤمنين ع و وصيته- . لما ملك الإسكندر ايرانشهر-  و هو العراق مملكة الأكاسرة-  و قتل دارا بن دارا كتب إلى أرسطو و هو ببلاد اليونان-  عليك أيها الحكيم منا السلام-  أما بعد فإن الأفلاك الدائرة و العلل السمائية-  و إن كانت أسعدتنا بالأمور-  التي أصبح الناس لنا بها دائبين-  فإنا جد واجدين لمس الاضطرار إلى حكمتك-  غير جاحدين لفضلك و الإقرار بمنزلتك-  و الاستنامة إلى مشورتك و الاقتداء برأيك-  و الاعتماد لأمرك و نهيك-  لما بلونا من جدا ذلك علينا و ذقنا من جنا منفعته-  حتى صار ذلك بنجوعه فينا-  و ترسخه في أذهاننا و عقولنا كالغذاء لنا-  فما ننفك نعول عليه-  و نستمد منه استمداد الجداول من البحور-  و تعويل الفروع على الأصول-  و قوة الأشكال بالأشكال-  و قد كان مما سيق إلينا من النصر و الفلج-  و أتيح لنا من الظفر-  و بلغنا في العدو من النكاية و البطش-  ما يعجز القول عن وصفه-  و يقصر شكر المنعم عن موقع الإنعام به-  و كان من ذلك أنا جاوزنا أرض سورية و الجزيرة-  إلى بابل و أرض فارس-  فلما حللنا بعقوة أهلها و ساحة بلادهم-  لم يكن إلا ريثما تلقانا نفر منهم-  برأس ملكهم هدية إلينا و طلبا للحظوة عندنا-  فأمرنا بصلب من‏ جاء به و شهرته لسوء بلائه-  و قلة ارعوائه و وفائه-  ثم أمرنا بجمع من كان هناك من أولاد ملوكهم-  و أحرارهم و ذي الشرف منهم-  فرأينا رجالا عظيمة أجسامهم و أحلامهم-  حاضرة ألبابهم و أذهانهم رائعة مناظرهم و مناطقهم-  دليلا على أن ما يظهر من روائهم و منطقهم-  أن وراءه من قوة أيديهم-  و شدة نجدتهم و بأسهم ما لم يكن-  ليكون لنا سبيل إلى غلبتهم و إعطائهم بأيديهم-  لو لا أن القضاء أدالنا منهم-  و أظفرنا بهم و أظهرنا عليهم-  و لم نر بعيدا من الرأي في أمرهم أن نستأصل شأفتهم-  و نجتث أصلهم و نلحقهم بمن مضى من أسلافهم-  لتسكن القلوب بذلك الأمن إلى جرائرهم و بوائقهم-  فرأينا ألا نجعل بإسعاف بادئ الرأي في قتلهم-  دون الاستظهار عليهم بمشورتك فيهم-  فارفع إلينا رأيك فيما استشرناك فيه بعد صحته عندك-  و تقليبك إياه بجلي نظرك-  و سلام أهل السلام فليكن علينا و عليك- .

فكتب إليه أرسطو-  لملك الملوك و عظيم العظماء-  الإسكندر المؤيد بالنصر على الأعداء-  المهدي له الظفر بالملوك-  من أصغر عبيده و أقل خوله-  أرسطوطاليس البخوع بالسجود و التذلل في السلام-  و الإذعان في الطاعة-  أما بعد فإنه لا قوة بالمنطق و إن احتشد الناطق فيه-  و اجتهد في تثقيف معانيه و تأليف حروفه و مبانيه-  على الإحاطة بأقل ما تناله القدرة-  من بسطة علو الملك و سمو ارتفاعه عن كل قول-  و إبرازه على كل وصف و اغترافه بكل إطناب-  و قد كان تقرر عندي-  من مقدمات إعلام فضل الملك في صهلة سبقه-  و بروز شأوه و يمن نقيبته-  مذ أدت إلي حاسة بصري صورة شخصه-  و اضطرب في حس سمعي صوت لفظه-  و وقع وهمي‏ على تعقيب نجاح رأيه-  أيام كنت أؤدي إليه من تكلف تعليمي إياه-  ما أصبحت قاضيا على نفسي بالحاجة إلى تعلمه منه-  و مهما يكن مني إليه في ذلك- 

فإنما هو عقل مردود إلى عقله-  مستنبطة أواليه و تواليه من علمه و حكمته-  و قد جلا إلى كتاب الملك و مخاطبته إياي و مسألته لي-  عما لا يتخالجني الشك في لقاح ذلك و إنتاجه من عنده-  فعنه صدر و عليه ورد-  و أنا فيما أشير به على الملك-  و إن اجتهدت فيه و احتشدت له-  و تجاوزت حد الوسع و الطاقة مني في استنظافه و استقصائه-  كالعدم مع الوجود بل كما لا يتجزأ في جنب معظم الأشياء-  و لكني غير ممتنع من إجابة الملك إلى ما سأل-  مع علمي و يقيني بعظيم غناه عني و شدة فاقتي إليه-  و أنا راد إلى الملك ما اكتسبته منه-  و مشير عليه بما أخذته منه فقائل له-  إن لكل تربة لا محالة قسما من الفضائل-  و إن لفارس قسمها من النجدة و القوة-  و إنك إن تقتل أشرافهم تخلف الوضعاء علي أعقابهم-  و تورث سفلتهم على منازل عليتهم-  و تغلب أدنياءهم على مراتب ذوي أخطارهم-  و لم يبتل الملوك قط ببلاء هو أعظم عليهم-  و أشد توهينا لسلطانهم من غلبة السفلة و ذل الوجوه-  فاحذر الحذر كله أن تمكن تلك الطبقة من الغلبة و الحركة-  فإنه إن نجم منهم بعد اليوم على جندك و أهل بلادك ناجم-  دهمهم منه ما لا روية فيه و لا بقية معه-  فانصرف عن هذا الرأي إلى غيره-  و اعمد إلى من قبلك من أولئك العظماء و الأحرار-  فوزع بينهم مملكتهم-  و ألزم اسم الملك كل من وليته منهم ناحيته-  و اعقد التاج على رأسه و إن صغر ملكه-  فإن المتسمي بالملك لازم لاسمه-  و المعقود التاج على رأسه لا يخضع لغيره-  فليس ينشب ذلك أن يوقع كل ملك منهم-  بينه و بين صاحبه تدابرا و تقاطعا و تغالبا على الملك-  و تفاخرا بالمال و الجند-  حتى ينسوا بذلك أضغانهم عليك و أوتارهم فيك-  و يعود حربهم لك حربا بينهم-  و حنقهم عليك حنقا منهم على أنفسهم-  ثم لا يزدادون في ذلك بصيرة-  إلا أحدثوا لك بها استقامة-  إن دنوت منهم دانوا لك و إن نأيت عنهم تعززوا بك-  حتى يثب من ملك منهم على جاره باسمك و يسترهبه بجندك-  و في ذلك شاغل لهم عنك و أمان لأحداثهم بعدك-  و إن كان لا أمان للدهر و لا ثقة بالأيام- . قد أديت إلى الملك ما رأيته لي حظا و علي حقا-  من إجابتي إياه إلى ما سألني عنه-  و محضته النصيحة فيه-  و الملك أعلى عينا و أنفذ روية و أفضل رأيا-  و أبعد همة فيما استعان بي عليه-  و كلفني بتبيينه و المشورة عليه فيه-  لا زال الملك متعرفا من عوائد النعم و عواقب الصنع-  و توطيد الملك و تنفيس الأجل و درك الأمل-  ما تأتي فيه قدرته على غاية قصوى ما تناله قدرة البشر- . و السلام الذي لا انقضاء له-  و لا انتهاء و لا غاية و لا فناء-  فليكن على الملك- .

قالوا فعمل الملك برأيه-  و استخلف على ايرانشهر-  أبناء الملوك و العظماء من أهل فارس-  فهم ملوك الطوائف الذين بقوا بعده-  و المملكة موزعة بينهم-  إلى أن جاء أردشير بن بابك فانتزع الملك منهمثُمَّ اخْتَرْ لِلْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ أَفْضَلَ رَعِيَّتِكَ فِي نَفْسِكَ-  مِمَّنْ لَا تَضِيقُ بِهِ الْأُمُورُ وَ لَا تُمَحِّكُهُ الْخُصُومُ-  وَ لَا يَتَمَادَى فِي الزَّلَّةِ-  وَ لَا يَحْصَرُ مِنَ الْفَيْ‏ءِ إِلَى الْحَقِّ إِذَا عَرَفَهُ-  وَ لَا تُشْرِفُ نَفْسُهُ عَلَى طَمَعٍ-  وَ لَا يَكْتَفِي بِأَدْنَى فَهْمٍ دُونَ أَقْصَاهُ-  وَ أَوْقَفَهُمْ فِي الشُّبُهَاتِ وَ آخَذَهُمْ بِالْحُجَجِ-  وَ أَقَلَّهُمْ تَبَرُّماً بِمُرَاجَعَةِ الْخَصْمِ-  وَ أَصْبَرَهُمْ‏ عَلَى تَكَشُّفِ الْأُمُورِ-  وَ أَصْرَمَهُمْ عِنْدَ اتِّضَاحِ الْحُكْمِ-  مِمَّنْ لَا يَزْدَهِيهِ إِطْرَاءٌ وَ لَا يَسْتَمِيلُهُ إِغْرَاءٌ-  وَ أُولَئِكَ قَلِيلٌ-  ثُمَّ أَكْثِرْ تَعَاهُدَ قَضَائِهِ-  وَ أَفْسِحْ لَهُ فِي الْبَذْلِ مَا يُزِيحُ عِلَّتَهُ-  وَ تَقِلُّ مَعَهُ حَاجَتُهُ إِلَى النَّاسِ-  وَ أَعْطِهِ مِنَ الْمَنْزِلَةِ لَدَيْكَ مَا لَا يَطْمَعُ فِيهِ غَيْرُهُ مِنْ خَاصَّتِكَ-  لِيَأْمَنَ بِذَلِكَ اغْتِيَالَ الرِّجَالِ لَهُ عِنْدَكَ-  فَانْظُرْ فِي ذَلِكَ نَظَراً بَلِيغاً-  فَإِنَّ هَذَا الدِّينَ قَدْ كَانَ أَسِيراً فِي أَيْدِي الْأَشْرَارِ-  يُعْمَلُ فِيهِ بِالْهَوَى وَ تُطْلَبُ بِهِ الدُّنْيَا تمحكه الخصوم تجعله ما حكا أي لجوجا-  محك الرجل أي لج و ماحك زيد عمرا أي لاجه- . قوله و لا يتمادى في الزلة أي إن زل رجع و أناب-  و الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل- . قوله و لا يحصر من الفي‏ء هو المعنى الأول بعينه-  و الفي‏ء الرجوع إلا أن هاهنا زيادة-  و هو أنه لا يحصر أي لا يعيا في المنطق-  لأن من الناس من إذا زل حصر عن أن يرجع-  و أصابه كالفهاهة و العي خجلا- . قوله و لا تشرف نفسه أي لا تشفق-  و الإشراف الإشفاق و الخوف-  و أنشد الليث

و من مضر الحمراء إسراف أنفس
علينا و حياها علينا تمضرا

و قال عروة بن أذينة-

لقد علمت و ما الإشراف من خلقي
أن الذي هو رزقي سوف يأتيني‏

 و المعنى و لا تشفق نفسه-  و تخاف من فوت المنافع و المرافق- . ثم قال و لا يكتفى بأدنى فهم-  أي لا يكون قانعا بما يخطر له بادئ الرأي من أمر الخصوم-  بل يستقصي و يبحث أشد البحث- . قوله و أقلهم تبرما بمراجعة الخصم أي تضجرا-  و هذه الخصلة من محاسن ما شرطه ع-  فإن القلق و الضجر و التبرم قبيح-  و أقبح ما يكون من القاضي- . قوله و أصرمهم أي أقطعهم و أمضاهم-  و ازدهاه كذا أي استخفه-  و الإطراء المدح و الإغراء التحريض- . ثم أمره أن يتطلع على أحكامه و أقضيته-  و أن يفرض له عطاء واسعا يملأ عينه-  و يتعفف به عن المرافق و الرشوات-  و أن يكون قريب المكان منه كثير الاختصاص به-  ليمنع قربه من سعاية الرجال به و تقبيحهم ذكره عنده- . ثم قال إن هذا الدين قد كان أسيرا-  هذه إشارة إلى قضاة عثمان و حكامه-  و أنهم لم يكونوا يقضون بالحق عنده-  بل بالهوى لطلب الدنيا- . و أما أصحابنا فيقولون-  رحم الله عثمان فإنه كان ضعيفا و استولى عليه أهله-  قطعوا الأمور دونه فإثمهم عليهم و عثمان بري‏ء منهم‏

فصل في القضاة و ما يلزمهم و ذكر بعض نوادرهم

 قد جاء في الحديث المرفوع لا يقضي القاضي و هو غضبانو جاء في الحديث المرفوع أيضا من ابتلي بالقضاء بين المسلمين-  فليعدل بينهم في لحظه و إشارته و مجلسه و مقعده- . دخل ابن شهاب على الوليد أو سليمان فقال له-  يا ابن شهاب ما حديث يرويه أهل الشام-  قال ما هو يا أمير المؤمنين-  قال إنهم يروون أن الله تعالى إذا استرعى عبدا رعية-  كتب له الحسنات و لم يكتب عليه السيئات-  فقال كذبوا يا أمير المؤمنين-  أيما أقرب إلى الله نبي أم خليفة قال بل نبي-  قال فإنه تعالى يقول لنبيه داود-  يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ-  فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ-  وَ لا تَتَّبِعِ الْهَوى‏ فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ-  إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ-  فقال سليمان إن الناس ليغروننا عن ديننا- .

و قال بكر بن عبد الله العدوي لابن أرطاة-  و أراد أن يستقضيه و الله ما أحسن القضاء-  فإن كنت صادقا لم يحل لك أن تستقضي من لا يحسن-  و إن كنت كاذبا فقد فسقت-  و الله لا يحل أن تستقضي الفاسق- . و قال الزهري ثلاث إذا كن في القاضي فليس بقاض-  أن يكره اللائمة و يحب المحمدة و يخاف العزل- . و قال محارب بن زياد للأعمش وليت القضاء فبكى أهلي-  فلما عزلت بكى أهلي فما أدري مم ذلك-  قال لأنك وليت القضاء و أنت تكرهه و تجزع منه-فبكى أهلك لجزعك-  و عزلت عنه فكرهت العزل و جزعت فبكى أهلك لجزعك-  قال صدقت- . أتي ابن شبرمة بقوم يشهدون على قراح نخل-  فشهدوا و كانوا عدولا فامتحنهم فقال-  كم في القراح من نخلة قالوا لا نعلم فرد شهادتهم-  فقال له أحدهم-  أنت أيها القاضي تقضي في هذا المسجد منذ ثلاثين سنة-  فأعلمنا كم فيه من أسطوانة-  فسكت و أجازهم- . خرج شريك و هو على قضاء الكوفة يتلقى الخيزران-  و قد أقبلت تريد الحج-  و قد كان استقضي و هو كاره-  فأتي شاهي فأقام بها ثلاثا فلم تواف-  فخف زاده و ما كان معه-  فجعل يبله بالماء و يأكله بالملح-  فقال العلاء بن المنهال الغنوي- 

   فإن كان الذي قد قلت حقا
بأن قد أكرهوك على القضاء

فما لك موضعا في كل يوم‏
تلقى من يحج من النساء

مقيما في قرى شاهي ثلاثا
بلا زاد سوى كسر و ماء

و تقدمت كلثم بنت سريع مولى عمرو بن حريث- و كانت جميلة- و أخوها الوليد بن سريع إلى عبد الملك بن عمير- و هو قاض بالكوفة فقضى لها على أخيها- فقال هذيل الأشجعي-

أتاه وليد بالشهود يسوقهم
على ما ادعى من صامت المال و الخول‏

و جاءت إليه كلثم و كلامها
شفاء من الداء المخامر و الخبل‏

فأدلى وليد عند ذاك بحقه
و كان وليد ذا مراء و ذا جدل‏

فدلهت القبطي حتى قضى لها
بغير قضاء الله في محكم الطول‏

فلو كان من في القصر يعلم علمه
لما استعمل القبطي فينا على عمل‏

له حين يقضي للنساء تخاوص‏
و كان و ما فيه التخاوص و الحول‏

إذا ذات دل كلمته لحاجة
فهم بأن يقضي تنحنح أو سعل‏

و برق عينيه و لاك لسانه‏
يرى كل شي‏ء ما خلا وصلها جلل‏

 و كان عبد الملك بن عمير يقول لعن الله الأشجعي-  و الله لربما جاءتني السعلة و النحنحة و أنا في المتوضإ-  فأردهما لما شاع من شعره- . كتب عمر بن الخطاب إلى معاوية-  أما بعد فقد كتبت إليك في القضاء بكتاب-  لم آلك و نفسي فيه خيرا-  الزم خمس خصال يسلم لك دينك و تأخذ بأفضل حظك-  إذا تقدم إليك الخصمان-  فعليك بالبينة العادلة أو اليمين القاطعة-  و ادن الضعيف حتى يشتد قلبه و ينبسط لسانه-  و تعهد الغريب-  فإنك إن لم تتعهده ترك حقه و رجع إلى أهله-  و إنما ضيع حقه من لم يرفق به-  و آس بين الخصوم في لحظك و لفظك-  و عليك بالصلح بين الناس-  ما لم يستبن لك فصل القضاء- . و كتب عمر إلى شريح لا تسارر و لا تضارر-  و لا تبع و لا تبتع في مجلس القضاء-  و لا تقض و أنت غضبان و لا شديد الجوع-  و لا مشغول القلب- . شهد رجل عند سوار القاضي-  فقال ما صناعتك فقال مؤدب-  قال أنا لا أجيز شهادتك قال و لم-  قال لأنك تأخذ على تعليم القرآن أجرا-  قال و أنت أيضا تأخذ على القضاء بين المسلمين أجرا-  قال إنهم أكرهوني قال نعم أكرهوك على القضاء-  فهل أكرهوك على أخذ الأجر-  قال هلم شهادتك- . و دخل أبو دلامة ليشهد عند أبي ليلى-  فقال حين جلس بين يديه- 

 إذا الناس غطوني تغطيت عنهم
و إن بحثوا عني ففيهم مباحث‏

و إن حفروا بئري حفرت بئارهم
ليعلم ما تخفيه تلك النبائث‏

– . فقال بل نغطيك يا أبا دلامة و لا نبحثك-  و صرفه راضيا-  و أعطى المشهود عليه من عنده قيمة ذلك الشي‏ء- . كان عامر بن الظرب العدواني حاكم العرب و قاضيها-  فنزل به قوم يستفتونه في الخنثى و ميراثه-  فلم يدر ما يقضي فيه-  و كان له جارية اسمها خصيلة-  ربما لامها في الإبطاء عن الرعي و في الشي‏ء يجده عليها-  فقال لها يا خصيلة لقد أسرع هؤلاء القوم في غنمي-  و أطالوا المكث-  قالت و ما يكبر عليك من ذلك اتبعه مباله و خلاك ذم-  فقال لها مسي خصيل بعدها أو روحي- . و قال أعرابي لقوم يتنازعون-  هل لكم في الحق أو ما هو خير من الحق-  قيل و ما الذي هو خير من الحق-  قال التحاط و الهضم فإن أخذ الحق كله مر- . و عزل عمر بن عبد العزيز بعض قضاته-  فقال لم عزلتني-  فقال بلغني أن كلامك أكثر من كلام الخصمين-  إذا تحاكما إليك- . و دخل إياس بن معاوية الشام و هو غلام-  فقدم خصما إلى باب القاضي في أيام عبد الملك-  فقال القاضي أ ما تستحيي تخاصم و أنت غلام شيخا كبيرا-  فقال الحق أكبر منه فقال اسكت ويحك-  قال فمن ينطق بحجتي إذا-  قال ما أظنك تقول اليوم حقا حتى تقوم-  فقال لا إله إلا الله-  فقام القاضي و دخل على عبد الملك و أخبره-  فقال اقض حاجته-  و أخرجه من الشام كي لا يفسد علينا الناس- . و اختصم أعرابي و حضري إلى قاض-  فقال الأعرابي أيها القاضي إنه و إن هملج إلى الباطل-  فإنه عن الحق لعطوف- . و رد رجل جارية على رجل اشتراها منه بالحمق-  فترافعا إلى إياس بن معاوية-فقال لها إياس أي رجليك أطول فقالت هذه-  فقال أ تذكرين ليلة ولدتك أمك قالت نعم-  فقال إياس رد رد- .

و جاء في الخبر المرفوع من رواية عبد الله بن عمر لا قدست أمة لا يقضى فيها بالحقو من الحديث المرفوع من رواية أبي هريرة ليس أحد يحكم بين الناس-  إلا جي‏ء به يوم القيامة مغلولة يداه إلى عنقه-  فكه العدل و أسلمه الجور واستعدى رجل على علي بن أبي طالب ع-  عمر بن الخطاب رضي الله عنه و علي جالس-  فالتفت عمر إليه فقال-  قم يا أبا الحسن فاجلس مع خصمك-  فقام فجلس معه و تناظرا-  ثم انصرف الرجل و رجع علي ع إلى محله-  فتبين عمر التغير في وجهه-  فقال يا أبا الحسن ما لي أراك متغيرا أ كرهت ما كان-  قال نعم قال و ما ذاك-  قال كنيتني بحضرة خصمي-  هلا قلت قم يا علي فاجلس مع خصمك-  فاعتنق عمر عليا و جعل يقبل وجهه-  و قال بأبي أنتم بكم هدانا الله-  و بكم أخرجنا من الظلمة إلى النور- . أبان بن عبد الحميد اللاحقي في سوار بن عبد الله القاضي- 

   لا تقدح الظنة في حكمه
شيمته عدل و إنصاف‏

يمضي إذا لم تلقه شبهة
و في اعتراض الشك وقاف‏

كان ببغداد رجل يذكر بالصلاح و الزهد يقال له رويم-  فولي القضاء فقال الجنيد-  من أراد أن يستودع سره من لا يفشيه فعليه برويم-  فإنه كتم حب الدنيا أربعين سنة إلى أن قدر عليها- . الأشهب الكوفي

يا أهل بغداد قد قامت قيامتكم
مذ صار قاضيكم نوح بن دراج‏

لو كان حيا له الحجاج ما سلمت‏
صحيحة يده من وسم حجاج‏

و كان الحجاج يسم أيدي النبط بالمشراط و النيل- . لما وقعت فتنة ابن الزبير اعتزل شريح القضاء-  و قال لا أقضي في الفتنة-  فبقي لا يقضي تسع سنين-  ثم عاد إلى القضاء و قد كبرت سنه-  فاعترضه رجل و قد انصرف من مجلس القضاء-  فقال له أ ما حان لك أن تخاف الله-  كبرت سنك و فسد ذهنك و صارت الأمور تجوز عليك-  فقال و الله لا يقولها بعدك لي أحد-  فلزم بيته حتى مات- . قيل لأبي قلابة و قد هرب من القضاء لو أجبت-  قال أخاف الهلاك-  قيل لو اجتهدت لم يكن عليك بأس-  قال ويحكم إذا وقع السابح في البحر كم عسى أن يسبح- . دعا رجل لسليمان الشاذكوني-  فقال أرانيك الله يا أبا أيوب على قضاء أصبهان-  قال ويحك إن كان و لا بد فعلى خراجها-  فإن أخذ أموال الأغنياء أسهل من أخذ أموال الأيتام- . ارتفعت جميلة بنت عيسى بن جراد و كانت جميلة كاسمها-  مع خصم لها إلى الشعبي و هو قاضي عبد الملك فقضى لها-  فقال هذيل الأشجعي

  فتن الشعبي لما
رفع الطرف إليها

فتنته بثنايا
ها و قوسي حاجبيها

و مشت مشيا رويدا
ثم هزت منكبيها

فقضى جورا على الخصم‏
و لم يقض عليها

–  فقبض الشعبي عليه و ضربه ثلاثين سوطا- . قال ابن أبي ليلى-  ثم انصرف الشعبي يوما من مجلس القضاء-  و قد شاعت الأبيات‏و تناشدها الناس-  و نحن معه فمررنا بخادم تغسل الثياب-  و تقولفتن الشعبي لما-  و لا تحفظ تتمة البيت فوقف عليها و لقنها-  و قال رفع الطرف إليها-  ثم ضحك و قال-  أبعده الله و الله ما قضينا لها إلا بالحق- . جاءت امرأة إلى قاض فقالت-  مات بعلي و ترك أبوين و ابنا و بني عم-  فقال القاضي لأبويه الثكل و لابنه اليتم-  و لك اللائمة و لبني عمه الذلة-  و احملي المال إلينا إلى أن ترتفع الخصوم- . لقي سفيان الثوري شريكا بعد ما استقضي-  فقال له يا أبا عبد الله-  بعد الإسلام و الفقه و الصلاح تلي القضاء-  قال يا أبا عبد الله فهل للناس بد من قاض-  قال و لا بد يا أبا عبد الله للناس من شرطي- . و كان الحسن بن صالح بن حي يقول-  لما ولي شريك القضاء أي شيخ أفسدوا- .

 قال أبو ذر رضي الله عنه قال لي رسول الله ص-  يا أبا ذر اعقل ما أقول لك-  جعل يرددها على ستة أيام ثم قال لي في اليوم السابع-  أوصيك بتقوى الله في سريرتك و علانيتك-  و إذا أسأت فأحسن-  و لا تسألن أحدا شيئا و لو سقط سوطك-  و لا تتقلدن أمانة و لا تلين ولاية-  و لا تكفلن يتيما و لا تقضين بين اثنين- . أراد عثمان بن عفان أن يستقضي عبد الله بن عمر-  فقال له أ لست قد سمعت النبي ص يقول من استعاذ بالله فقد عاذ بمعاذ-  قال بلى قال فإني أعوذ بالله منك أن تستقضيني- .

و قد ذكر الفقهاء في آداب القاضي أمورا-  قالوا لا يجوز أن يقبل هدية في أيام القضاء-  إلا ممن كانت له عادة يهدي إليه قبل أيام القضاء-  و لا يجوز قبولها في أيام القضاء ممن له حكومة و خصومة-  و إن كان ممن له عادة قديمة-  و كذلك إن كانت الهدية أنفس و أرفع-  مما كانت قبل أيام القضاء لا يجوز قبولها-  و يجوز أن يحضر القاضي الولائم-  و لا يحضر عند قوم دون قوم لأن التخصيص يشعر بالميل-  و يجوز أن يعود المرضى و يشهد الجنائز-  و يأتي مقدم الغائب و يكره له مباشرة البيع و الشراء-  و لا يجوز أن يقضي و هو غضبان و لا جائع و لا عطشان-  و لا في حال الحزن الشديد و لا الفرح الشديد-  و لا يقضي و النعاس يغلبه و المرض يقلقه-  و لا و هو يدافع الأخبثين-  و لا في حر مزعج و لا في برد مزعج-  و ينبغي أن يجلس للحكم في موضع بارز يصل إليه كل أحد-  و لا يحتجب إلا لعذر-  و يستحب أن يكون مجلسه فسيحا لا يتأذى بذلك هو أيضا-  و يكره الجلوس في المساجد للقضاء-  فإن احتاج إلى وكلاء جاز أن يتخذهم-  و يوصيهم بالرفق بالخصوم-  و يستحب أن يكون له حبس-  و أن يتخذ كاتبا إن احتاج إليه-  و من شرط كاتبه أن يكون عارفا بما يكتب به عن القضاء- . و اختلف في جواز كونه ذميا و الأظهر أنه لا يجوز-  و لا يجوز أن يكون كاتبه فاسقا-  و لا يجوز أن يكون الشهود عنده قوما معينين-  بل الشهادة عامة فيمن استكمل شروطها

ثُمَّ انْظُرْ فِي أُمُورِ عُمَّالِكَ فَاسْتَعْمِلْهُمُ اخْتِيَاراً-  وَ لَا تُوَلِّهِمْ مُحَابَاةً وَ أَثَرَةً-  فَإِنَّهُمَا جِمَاعٌ مِنْ شُعَبِ الْجَوْرِ وَ الْخِيَانَةِ-  وَ تَوَخَّ مِنْهُمْ أَهْلَ التَّجْرِبَةِ وَ الْحَيَاءِ-  مِنْ أَهْلِ الْبُيُوتَاتِ الصَّالِحَةِ وَ الْقَدَمِ فِي الْإِسْلَامِ الْمُتَقَدِّمَةِ-  فَإِنَّهُمْ أَكْرَمُ أَخْلَاقاً وَ أَصَحُّ أَعْرَاضاً-  وَ أَقَلُّ فِي الْمَطَامِعِ إِشْرَافاً-  وَ أَبْلَغُ فِي عَوَاقِبِ الْأُمُورِ نَظَراً-ثُمَّ أَسْبِغْ عَلَيْهِمُ الْأَرْزَاقَ-  فَإِنَّ ذَلِكَ قُوَّةٌ لَهُمْ عَلَى اسْتِصْلَاحِ أَنْفُسِهِمْ-  وَ غِنًى لَهُمْ عَنْ تَنَاوُلِ مَا تَحْتَ أَيْدِيهِمْ-  وَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ إِنْ خَالَفُوا أَمْرَكَ أَوْ ثَلَمُوا أَمَانَتَكَ-  ثُمَّ تَفَقَّدْ أَعْمَالَهُمْ-  وَ ابْعَثِ الْعُيُونَ مِنْ أَهْلِ الصِّدْقِ وَ الْوَفَاءِ عَلَيْهِمْ-  فَإِنَّ تَعَاهُدَكَ فِي السِّرِّ لِأُمُورِهِمْ-  حَدْوَةٌ لَهُمْ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْأَمَانَةِ وَ الرِّفْقِ بِالرَّعِيَّةِ-  وَ تَحَفَّظْ مِنَ الْأَعْوَانِ-  فَإِنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بَسَطَ يَدَهُ إِلَى خِيَانَةٍ-  اجْتَمَعَتْ بِهَا عَلَيْهِ عِنْدَكَ أَخْبَارُ عُيُونِكَ-  اكْتَفَيْتَ بِذَلِكَ شَاهِداً-  فَبَسَطْتَ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةَ فِي بَدَنِهِ-  وَ أَخَذْتَهُ بِمَا أَصَابَ مِنْ عَمَلِهِ-  ثُمَّ نَصَبْتَهُ بِمَقَامِ الْمَذَلَّةِ وَ وَسَمْتَهُ بِالْخِيَانَةِ-  وَ قَلَّدْتَهُ عَارَ التُّهَمَةِ لما فرغ ع من أمر القضاء شرع في أمر العمال-  و هم عمال السواد و الصدقات و الوقوف و المصالح و غيرها-  فأمره أن يستعملهم بعد اختبارهم و تجربتهم-  و ألا يوليهم محاباة لهم و لمن يشفع فيهم-  و لا أثرة و لا إنعاما عليهم- .

كان أبو الحسن بن الفرات يقول-  الأعمال للكفاة من أصحابنا-  و قضاء الحقوق على خواص أموالنا- . و كان يحيى بن خالد يقول من تسبب إلينا بشفاعة في عمل-  فقد حل عندنا محل من ينهض بغيره-  و من لم ينهض بنفسه لم يكن للعمل أهلا- . و وقع جعفر بن يحيى في رقعة متحرم به-  هذا فتى له حرمة الأمل فامتحنه بالعمل-  فإن كان كافيا فالسلطان له دوننا-  و إن لم يكن كافيا فنحن له دون السلطان- . ثم قال ع فإنهما يعني استعمالهم للمحاباة و الأثرة-  جماع من شعب الجور و الخيانة-  و قد تقدم شرح مثل هذه اللفظة-  و المعنى أن ذلك يجمع ضروبا من الجور و الخيانة-  أما الجور-  فإنه يكون قد عدل عن المستحق إلى غير المستحق-  ففي ذلك جور على المستحق- .

و أما الخيانة-  فلأن الأمانة تقتضي تقليد الأعمال الأكفاء-  فمن لم يعتمد ذلك فقد خان من ولاه- . ثم أمره بتخير من قد جرب-  و من هو من أهل البيوتات و الأشراف-  لشدة الحرص على الشي‏ء و الخوف من فواته- . ثم أمره بإسباغ الأرزاق عليهم فإن الجائع لا أمانة له-  و لأن الحجة تكون لازمة لهم إن خانوا-  لأنهم قد كفوا مئونة أنفسهم و أهليهم-  بما فرض لهم من الأرزاق- . ثم أمره بالتطلع عليهم-  و إذكاء العيون و الأرصاد على حركاتهم- . و حدوة باعث يقال حداني هذا الأمر حدوة على كذا-  و أصله سوق الإبل-  و يقال للشمال حدواء لأنها تسوق السحاب- . ثم أمره بمؤاخذة من ثبتت خيانته و استعادة المال منه-  و قد صنع عمر كثيرا من ذلك و ذكرناه فيما تقدم- . قال بعض الأكاسرة لعامل من عماله-  كيف نومك بالليل قال أنامه كله-  قال أحسنت لو سرقت ما نمت هذا النوم: وَ تَفَقَّدْ أَمْرَ الْخَرَاجِ بِمَا يُصْلِحُ أَهْلَهُ-  فَإِنَّ فِي صَلَاحِهِ وَ صَلَاحِهِمْ صَلَاحاً لِمَنْ سِوَاهُمْ-  وَ لَا صَلَاحَ لِمَنْ سِوَاهُمْ إِلَّا بِهِمْ-  لِأَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ عِيَالٌ عَلَى الْخَرَاجِ وَ أَهْلِهِ-  وَ لْيَكُنْ نَظَرُكَ فِي عِمَارَةِ الْأَرْضِ-  أَبْلَغَ مِنْ نَظَرِكَ فِي اسْتِجْلَابِ الْخَرَاجِ-  لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُدْرَكُ إِلَّا بِالْعِمَارَةِ-  وَ مَنْ طَلَبَ الْخَرَاجَ بِغَيْرِ عِمَارَةٍ أَخْرَبَ الْبِلَادَ-  وَ أَهْلَكَ‏ الْعِبَادَ وَ لَمْ يَسْتَقِمْ أَمْرُهُ إِلَّا قَلِيلًا-  فَإِنْ شَكَوْا ثِقَلًا أَوْ عِلَّةً أَوِ انْقِطَاعَ شِرْبٍ أَوْ بَالَّةٍ-  أَوْ إِحَالَةَ أَرْضٍ اغْتَمَرَهَا غَرَقٌ-  أَوْ أَجْحَفَ بِهَا عَطَشٌ-  خَفَّفْتَ عَنْهُمْ بِمَا تَرْجُو أَنْ يَصْلُحَ بِهِ أَمْرُهُمْ-  وَ لَا يَثْقُلَنَّ عَلَيْكَ شَيْ‏ءٌ خَفَّفْتَ بِهِ الْمَئُونَةَ عَنْهُمْ-  فَإِنَّهُ ذُخْرٌ يَعُودُونَ بِهِ عَلَيْكَ فِي عِمَارَةِ بِلَادِكَ-  وَ تَزْيِينِ وِلَايَتِكَ مَعَ اسْتِجْلَابِكَ حُسْنَ ثَنَائِهِمْ-  وَ تَبَجُّحِكَ بِاسْتِفَاضَةِ الْعَدْلِ فِيهِمْ-  مُعْتَمِداً فَضْلَ قُوَّتِهِمْ-  بِمَا ذَخَرْتَ عِنْدَهُمْ مِنْ إِجْمَامِكَ لَهُمْ-  وَ الثِّقَةَ مِنْهُمْ بِمَا عَوَّدْتَهُمْ مِنْ عَدْلِكَ عَلَيْهِمْ وَ رِفْقِكَ بِهِمْ-  فَرُبَّمَا حَدَثَ مِنَ الْأُمُورِ-  مَا إِذَا عَوَّلْتَ فِيهِ عَلَيْهِمْ مِنْ بَعْدُ احْتَمَلُوهُ-  طَيِّبَةً أَنْفُسُهُمْ بِهِ-  فَإِنَّ الْعُمْرَانَ مُحْتَمِلٌ مَا حَمَّلْتَهُ-  وَ إِنَّمَا يُؤْتَى خَرَابُ الْأَرْضِ مِنْ إِعْوَازِ أَهْلِهَا-  وَ إِنَّمَا يُعْوِزُ أَهْلُهَا لِإِشْرَافِ أَنْفُسِ الْوُلَاةِ عَلَى الْجَمْعِ-  وَ سُوءِ ظَنِّهِمْ بِالْبَقَاءِ وَ قِلَّةِ انْتِفَاعِهِمْ بِالْعِبَرِ انتقل ع من ذكر العمال-  إلى ذكر أرباب الخراج و دهاقين السواد-  فقال تفقد أمرهم فإن الناس عيال عليهم-  و كان يقال استوصوا بأهل الخراج-  فإنكم لا تزالون سمانا ما سمنوا- .

و رفع إلى أنوشروان أن عامل الأهواز-  قد حمل من مال الخراج ما يزيد على العادة-  و ربما يكون ذلك قد أجحف بالرعية-  فوقع يرد هذا المال على من قد استوفى منه-  فإن تكثير الملك ماله بأموال رعيته-  بمنزلة من يحصن سطوحه بما يقتلعه من قواعد بنيانه- .

و كان على خاتم أنوشروان-  لا يكون عمران حيث يجور السلطان- . و روي استحلاب الخراج بالحاء- . ثم قال فإن شكوا ثقلا-  أي ثقل طسق الخراج المضروب عليهم-  أو ثقل وطأة العامل- . قال أو علة نحو أن يصيب الغلة آفة-  كالجراد و البرق أو البرد- . قال أو انقطاع شرب بأن ينقص الماء في النهر-  أو تتعلق أرض الشرب عنه لفقد الحفر- . قال أو بالة يعني المطر- . قال أو إحالة أرض اغتمرها غرق-  يعني أو كون الأرض قد حالت و لم يحصل منها ارتفاع-  لأن الغرق غمرها و أفسد زرعها- .

قال أو أجحف بها عطش أي أتلفها- . فإن قلت فهذا هو انقطاع الشرب-  قلت لا قد يكون الشرب غير منقطع-  و مع ذلك يجحف بها العطش-  بأن لا يكفيها الماء الموجود في الشرب- . ثم أمره أن يخفف عنهم متى لحقهم شي‏ء من ذلك-  فإن التخفيف يصلح أمورهم-  و هو و إن كان يدخل على المال نقصا في العاجل-  إلا أنه يقتضي توفير زيادة في الآجل-  فهو بمنزلة التجارة-  التي لا بد فيها من إخراج رأس المال-  و انتظار عوده و عود ربحه- .

قال و مع ذلك فإنه يفضي إلى تزين بلادك بعمارتها-  و إلى أنك تبجح بين الولاة بإفاضة العدل في رعيتك-  معتمدا فضل قوتهم-  و معتمدا منصوب على الحال من الضمير في خففت الأولى-  أي خففت عنهم معتمدا بالتخفيف فضل قوتهم- . و الإجمام الترفيه- . ثم قال له و ربما احتجت فيما بعد-  إلى تكلفهم بحادث يحدث عندك-  المساعدة بمال يقسطونه عليهم قرضا أو معونة محضة-  فإذا كانت لهم ثروة نهضوا بمثل ذلك طيبة قلوبهم به- . ثم قال ع فإن العمران محتمل ما حملته- . سمعت أبا محمد بن خليد-  و كان صاحب ديوان الخراج في أيام الناصر لدين الله-  يقول لمن قال له قد قيل عنك إن واسط و البصرة-  قد خربت لشدة العنف بأهلها في تحصيل الأموال-  فقال أبو محمد ما دام هذا الشط بحاله-  و النخل نابتا في منابته بحاله-  ما تخرب واسط و البصرة أبدا- . ثم قال ع إنما تؤتى الأرض-  أي إنما تدهى من إعواز أهلها أي من فقرهم- .

قال و الموجب لإعوازهم طمع ولاتهم في الجباية-  و جمع الأموال لأنفسهم و لسلطانهم و سوء ظنهم بالبقاء-  يحتمل أن يريد به أنهم يظنون طول البقاء-  و ينسون الموت و الزوال- . و يحتمل أن يريد به أنهم يتخيلون العزل و الصرف-  فينتهزون الفرص و يقتطعون الأموال-  و لا ينظرون في عمارة البلاد

عهد سابور بن أردشير لابنه

و قد وجدت في عهد سابور بن أردشير إلى ابنه كلاما-  يشابه كلام أمير المؤمنين ع في هذا العهد-  و هو قوله و اعلم أن قوام أمرك بدرور الخراج-  و درور الخراج بعمارة البلاد-  و بلوغ الغاية في ذلك استصلاح أهله-  بالعدل عليهم و المعونة لهم-  فإن بعض الأمور لبعض سبب و عوام الناس لخواصهم عدة-  و بكل صنف منهم إلى الآخر حاجة-  فاختر لذلك أفضل من تقدر عليه من كتابك-  و ليكونوا من أهل البصر و العفاف و الكفاية-  و استرسل إلى كل امرئ منهم شخصا يضطلع به-  و يمكنه تعجيل الفراغ منه-  فإن اطلعت على أن أحدا منهم خان أو تعدى-  فنكل به و بالغ في عقوبته-  و احذر أن تستعمل على الأرض الكثير خراجها-  إلا البعيد الصوت العظيم شرف المنزلة- . و لا تولين أحدا من قواد جندك الذين هم عدة للحرب-  و جنة من الأعداء شيئا من أمر الخراج-  فلعلك تهجم من بعضهم-  على خيانة في المال أو تضييع للعمل-  فإن سوغته المال و أغضيت له على التضييع-  كان ذلك هلاكا و إضرارا بك و برعيتك-  و داعية إلى فساد غيره-  و إن أنت كافأته فقد استفسدته و أضقت صدره-  و هذا أمر توقيه حزم و الإقدام عليه خرق-  و التقصير فيه عجز- .

و اعلم أن من أهل الخراج من يلجئ بعض أرضه و ضياعه-  إلى خاصة الملك و بطانته لأحد أمرين-  أنت حري بكراهتهما-  إما لامتناع من جور العمال و ظلم الولاة-  و تلك منزلة يظهر بها سوء أثر العمال-  و ضعف الملك و إخلاله بما تحت يده-  و إما للدفع عما يلزمهم‏ من الحق و التيسر له-  و هذه خلة تفسد بها آداب الرعية-  و تنتقص بها أموال الملك-  فاحذر ذلك و عاقب الملتجئين و الملجأ إليهمركب زياد يوما بالسوس يطوف بالضياع و الزروع-  فرأى عمارة حسنة فتعجب منها-  فخاف أهلها أن يزيد في خراجهم-  فلما نزل دعا وجوه البلد و قال بارك الله عليكم-  فقد أحسنتم العمارة و قد وضعت عنكم مائة ألف درهم-  ثم قال ما توفر علي من تهالك غيرهم على العمارة-  و أمنهم جوري أضعاف ما وضعت عن هؤلاء الآن-  و الذي وضعته بقدر ما يحصل من ذاك-  و ثواب عموم العمارة و أمن الرعية أفضل ربح: ثُمَّ انْظُرْ فِي حَالِ كُتَّابِكَ-  فَوَلِّ عَلَى أُمُورِكَ خَيْرَهُمْ-  وَ اخْصُصْ رَسَائِلَكَ الَّتِي تُدْخِلُ فِيهَا مَكَايِدَكَ وَ أَسْرَارَكَ-  بِأَجْمَعِهِمْ لِوُجُودِ صَالِحِ الْأَخْلَاقِ مِمَّنْ لَا تُبْطِرُهُ الْكَرَامَةُ-  فَيَجْتَرِئَ بِهَا عَلَيْكَ فِي خِلَافٍ لَكَ بِحَضْرَةِ مَلٍا-  وَ لَا تُقَصِّرُ بِهِ الْغَفْلَةُ عَنْ إِيرَادِ مُكَاتَبَاتِ عُمِّالِكَ عَلَيْكَ-  وَ إِصْدَارِ جَوَابَاتِهَا عَلَى الصَّوَابِ عَنْكَ-  وَ فِيمَا يَأْخُذُ لَكَ وَ يُعْطِي مِنْكَ-  وَ لَا يُضْعِفُ عَقْداً اعْتَقَدَهُ لَكَ-  وَ لَا يَعْجِزُ عَنْ إِطْلَاقِ مَا عُقِدَ عَلَيْكَ-  وَ لَا يَجْهَلُ مَبْلَغَ قَدْرِ نَفْسِهِ فِي الْأُمُورِ-  فَإِنَّ الْجَاهِلَ بِقَدْرِ نَفْسِهِ يَكُونُ بِقَدْرِ غَيْرِهِ أَجْهَلَ-  ثُمَّ لَا يَكُنِ اخْتِيَارُكَ إِيَّاهُمْ عَلَى فِرَاسَتِكَ-  وَ اسْتِنَامَتِكَ وَ حُسْنِ الظَّنِّ مِنْكَ-فَإِنَّ الرِّجَالَ يَتَعَرَّضُونَ لِفِرَاسَاتِ الْوُلَاةِ-  بِتَصَنُّعِهِمْ وَ حُسْنِ حَدِيثِهِمْ-  وَ لَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ النَّصِيحَةِ وَ الْأَمَانَةِ شَيْ‏ءٌ-  وَ لَكِنِ اخْتَبِرْهُمْ بِمَا وُلُّوا لِلصَّالِحِينَ قَبْلَكَ-  فَاعْمِدْ لِأَحْسَنِهِمْ كَانَ فِي الْعَامَّةِ أَثَراً-  وَ أَعْرَفِهِمْ بِالْأَمَانَةِ وَجْهاً-  فَإِنَّ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى نَصِيحَتِكَ لِلَّهِ وَ لِمَنْ وُلِّيتَ أَمْرَهُ-  وَ اجْعَلْ لِرَأْسِ كُلِّ أَمْرٍ مِنْ أُمُورِكَ رَأْساً مِنْهُمْ-  لَا يَقْهَرُهُ كَبِيرُهَا وَ لَا يَتَشَتَّتُ عَلَيْهِ كَثِيرُهَا-  وَ مَهْمَا كَانَ فِي كُتَّابِكَ مِنْ عَيْبٍ فَتَغَابَيْتَ عَنْهُ أُلْزِمْتَهُ

فصل فيما يجب على مصاحب الملك

لما فرغ من أمر الخراج شرع في أمر الكتاب-  الذين يلون أمر الحضرة-  و يترسلون عنه إلى عماله و أمرائه-  و إليهم معاقد التدبير و أمر الديوان-  فأمره أن يتخير الصالح منهم-  و من يوثق على الاطلاع على الأسرار و المكايد-  و الحيل و التدبيرات-  و من لا يبطره الإكرام و التقريب-  فيطمع فيجترئ على مخالفته في ملإ من الناس و الرد عليه-  ففي ذلك من الوهن للأمير و سوء الأدب-  الذي انكشف الكاتب عنه ما لا خفاء به- . قال الرشيد للكسائي يا علي بن حمزة-  قد أحللناك المحل الذي لم تكن تبلغه همتك-  فرونا من الأشعار أعفها-  و من الأحاديث أجمعها لمحاسن الأخلاق-  و ذاكرنا بآداب الفرس و الهند-  و لا تسرع علينا الرد في ملإ و لا تترك تثقيفنا في خلإ- . و في آداب ابن المقفع-  لا تكونن صحبتك للسلطان إلا بعد رياضة منك لنفسك-  على‏طاعتهم في المكروه عندك و موافقتهم فيما خالفك-  و تقدير الأمور على أهوائهم دون هواك-  فإن كنت حافظا إذا ولوك حذرا إذا قربوك-  أمينا إذا ائتمنوك-  تعلمهم و كأنك تتعلم منهم-  و تأدبهم و كأنك تتأدب بهم-  و تشكر لهم و لا تكلفهم الشكر-  ذليلا إن صرموك راضيا إن أسخطوك-  و إلا فالبعد منهم كل البعد و الحذر منهم كل الحذر-  و إن وجدت عن السلطان و صحبته غنى فاستغن عنه-  فإنه من يخدم السلطان حق خدمته-  يخلى بينه و بين لذة الدنيا و عمل الأخرى-  و من يخدمه غير حق الخدمة فقد احتمل وزر الآخرة-  و عرض نفسه للهلكة و الفضيحة في الدنيا-  فإذا صحبت السلطان-  فعليك بطول الملازمة من غير إملال-  و إذا نزلت منه بمنزلة الثقة فاعزل عنه كلام الملق-  و لا تكثر له من الدعاء-  و لا تردن عليه كلاما في حفل و إن أخطأ-  فإذا خلوت به فبصره في رفق-  و لا يكونن طلبك ما عنده بالمسألة-  و لا تستبطئه و إن أبطأ-  و لا تخبرنه أن لك عليه حقا-  و أنك تعتمد عليه ببلاء-  و إن استطعت ألا تنسى حقك و بلاءك-  بتجديد النصح و الاجتهاد فافعل-  و لا تعطينه المجهود كله من نفسك في أول صحبتك له-  و أعد موضعا للمزيد-  و إذا سأل غيرك عن شي‏ء فلا تكن المجيب- .

و اعلم أن استلابك الكلام خفة فيك-  و استخفاف منك بالسائل و المسئول-  فما أنت قائل إن قال لك السائل ما إياك سألت-  أو قال المسئول أجب بمجالسته و محادثته-  أيها المعجب بنفسه و المستخف بسلطانه- . و قال عبد الملك بن صالح لمؤدب ولده-  بعد أن اختصه بمجالسته و محادثته-  يا عبد الله كن على التماس الحظ فيك بالسكوت-  أحرص منك على التماسه بالكلام-  فإنهم قالوا إذا أعجبك الكلام فاصمت-  و إذا أعجبك الصمت فتكلم-  و اعلم أن أصعب الملوك معاملة الجبار الفطن المتفقد-  فإن ابتليت بصحبته فاحترس-  و إن عوفيت فاشكر الله على السلامة-  فإن السلامة أصل كل نعمة-  لا تساعدني على ما يقبح بي-  و لا تردن علي‏خطأ في مجلس-  و لا تكلفني جواب التشميت و التهنئة-  و دع عنك كيف أصبح الأمير و كيف أمسى-  و كلمني بقدر ما أستنطقك-  و اجعل بدل التقريظ لي صواب الاستماع مني-  و اعلم أن صواب الاستماع أحسن من صواب القول-  فإذا سمعتني أتحدث فلا يفوتنك منه شي‏ء-  و أرني فهمك إياه في طرفك و وجهك-  فما ظنك بالملك-  و قد أحلك محل المعجب بما يسمعك إياه-  و أحللته محل من لا يسمع منه-  و كل من هذا يحبط إحسانك و يسقط حق حرمتك-  و لا تستدع الزيادة من كلامي-  بما تظهر من استحسان ما يكون مني-  فمن أسوأ حالا ممن يستكد الملوك بالباطل-  و ذلك يدل على تهاونه بقدر ما أوجب الله تعالى من حقهم- 

و اعلم أني جعلتك مؤدبا بعد أن كنت معلما-  و جعلتك جليسا مقربا بعد أن كنت مع الصبيان مباعدا-  فمتى لم تعرف نقصان ما خرجت منه-  لم تعرف رجحان ما دخلت فيه-  و قد قالوا من لم يعرف سوء ما أولى-  لم يعرف حسن ما أبلىثم قال ع و ليكن كاتبك غير مقصر-  عن عرض مكتوبات عمالك عليك-  و الإجابة عنها حسن الوكالة و النيابة عنك-  فيما يحتج به لك عليهم من مكتوباتهم-  و ما يصدره عنك إليهم من الأجوبة-  فإن عقد لك عقدا قواه و أحكمه-  و إن عقد عليك عقدا اجتهد في نقضه و حله-  قال و أن يكون عارفا بنفسه-  فمن لم يعرف قدر نفسه لم يعرف قدر غيره- . ثم نهاه أن يكون مستند اختياره لهؤلاء فراسته فيهم-  و غلبة ظنه بأحوالهم-  فإن التدليس ينم في ذلك كثيرا-  و ما زال الكتاب يتصنعون للأمراء بحسن الظاهر-  و ليس وراء ذلك كثير طائل في النصيحة و المعرفة-  و لكن ينبغي أن يرجع في ذلك-  إلى ما حكمت‏به التجربة لهم و ما ولوه من قبل-  فإن كانت ولايتهم و كتابتهم حسنة مشكورة فهم هم-  و إلا فلا-  و يتعرفون لفراسات الولاة-  يجعلون أنفسهم بحيث يعرف بضروب من التصنع-  و روي يتعرضون- . ثم أمره أن يقسم فنون الكتابة و ضروبها بينهم-  نحو أن يكون أحدهم للرسائل إلى الأطراف و الأعداء-  و الآخر لأجوبة عمال السواد-  و الآخرة بحضرة الأمير في خاصته و داره و حاشيته و ثقاته- . ثم ذكر له أنه مأخوذ مع الله تعالى بما يتغابى عنه-  و يتغافل من عيوب كتابه-  فإن الدين لا يبيح الإغضاء و الغفلة عن الأعوان و الخول-  و يوجب التطلع عليهم

فصل في الكتاب و ما يلزمهم من الآداب

و اعلم أن الكاتب الذي يشير أمير المؤمنين ع إليه-  هو الذي يسمى الآن في الاصطلاح العرفي وزيرا-  لأنه صاحب تدبير حضرة الأمير و النائب عنه في أموره-  و إليه تصل مكتوبات العمال و عنه تصدر الأجوبة-  و إليه العرض على الأمير-  و هو المستدرك على العمال و المهيمن عليهم-  و هو على الحقيقة كاتب الكتاب-  و لهذا يسمونه الكاتب المطلق- . و كان يقال للكاتب على الملك ثلاث-  رفع الحجاب عنه و اتهام الوشاة عليه-  و إفشاء السر إليه- . و كان يقال صاحب السلطان نصفه و كاتبه كله-  و ينبغي لصاحب الشرطة أن يطيل الجلوس و يديم العبوس-  و يستخف بالشفاعات- .

و كان يقال إذا كان الملك ضعيفا و الوزير شرها-  و القاضي جائرا فرقوا الملك شعاعا- . و كان يقال لا تخف صولة الأمير مع رضا الكاتب-  و لا تثقن برضا الأمير مع سخط الكاتب-  و أخذ هذا المعنى أبو الفضل بن العميد فقال- 

   و زعمت أنك لست تفكر بعد ما
علقت يداك بذمة الأمراء

هيهات قد كذبتك فكرتك التي‏
قد أوهمتك غنى عن الوزراء

لم تغن عن أحد سماء لم تجد
أرضا و لا أرض بغير سماء

 و كان يقال إذا لم يشرف الملك على أموره-  صار أغش الناس إليه وزيره- . و كان يقال ليس الحرب الغشوم بأسرع في اجتياح الملك-  من تضييع مراتب الكتاب حتى يصيبها أهل النذالة-  و يزهد فيها أولو الفضل

فصل في ذكر ما نصحت به الأوائل الوزراء

و كان يقال لا شي‏ء أذهب بالدول-  من استكفاء الملك الأسرار- . و كان يقال من سعادة جد المرء-  ألا يكون في الزمان المختلط وزيرا للسلطان- . و كان يقال كما أن أشجع الرجال يحتاج إلى السلاح-  و أسبق الخيل يحتاج إلى السوط-  و أحد الشفار يحتاج إلى المسن-  كذلك أحزم الملوك و أعقلهم-  يحتاج إلى الوزير الصالح- . و كان يقال صلاح الدنيا بصلاح الملوك-  و صلاح الملوك بصلاح الوزراء-و كما لا يصلح الملك إلا بمن يستحق الملك-  كذلك لا تصلح الوزارة إلا بمن يستحق الوزارة- . و كان يقال-  الوزير الصالح لا يرى أن صلاحه في نفسه كائن صلاحا-  حتى يتصل بصلاح الملك و صلاح رعيته-  و أن تكون عنايته فيما عطف الملك على رعيته-  و فيما استعطف قلوب الرعية و العامة-  على الطاعة للملك-  و فيما فيه قوام أمر الملك من التدبير الحسن-  حتى يجمع إلى أخذ الحق تقديم عموم الأمن-  و إذا طرقت الحوادث كان للملك عدة و عتادا-  و للرعية كافيا محتاطا و من ورائها محاميا ذابا-  يعنيه من صلاحها ما لا يعنيه من صلاح نفسه دونها- . و كان يقال مثل الملك الصالح إذا كان وزيره فاسدا-  مثل الماء العذب الصافي و فيه التمساح-  لا يستطيع الإنسان و إن كان سابحا-  و إلى الماء ظامئا دخوله-  حذرا على نفسه- .

قال عمر بن عبد العزيز لمحمد بن كعب القرظي-  حين استخلف-  لو كنت كاتبي و ردءا لي على ما دفعت إليه-  قال لا أفعل و لكني سأرشدك-  أسرع الاستماع و أبطئ في التصديق-  حتى يأتيك واضح البرهان-  و لا تعملن ثبجتك فيما تكتفي فيه بلسانك-  و لا سوطك فيما تكتفي فيه بثبجتك-  و لا سيفك فيما تكتفي فيه بسوطك- . و كان يقال-  التقاط الكاتب للرشا و ضبط الملك لا يجتمعان- . و قال أبرويز لكاتبه اكتم السر و اصدق الحديث-  و اجتهد في النصيحة و عليك بالحذر-  فإن لك علي ألا أعجل عليك حتى أستأني لك-  و لا أقبل فيك قولا حتى أستيقن-  و لا أطمع فيك أحدا فتغتال- 

و اعلم أنك بمنجاة رفعة فلا تحطنها-  و في‏ظل مملكة فلا تستزيلنه-  قارب الناس مجاملة من نفسك-  و باعدهم مسامحة عن عدوك-  و اقصد إلى الجميل ازدراعا لغدك-  و تنزه بالعفاف صونا لمروءتك-  و تحسن عندي بما قدرت عليه-  احذر لا تسرعن الألسنة عليك-  و لا تقبحن الأحدوثة عنك-  و صن نفسك صون الدرة الصافية-  و أخلصها إخلاص الفضة البيضاء-  و عاتبها معاتبة الحذر المشفق-  و حصنها تحصين المدينة المنيعة-  لا تدعن أن ترفع إلى الصغير فإنه يدل على الكبير-  و لا تكتمن عني الكبير فإنه ليس بشاغل عن الصغير-  هذب أمورك ثم القني بها-  و احكم أمرك ثم راجعني فيه-  و لا تجترئن علي فأمتعض-  و لا تنقبضن مني فأتهم-  و لا تمرضن ما تلقاني به و لا تخدجنه-  و إذا أفكرت فلا تجعل و إذا كتبت فلا تعذر-  و لا تستعن بالفضول فإنها علاوة على الكفاية-  و لا تقصرن عن التحقيق فإنها هجنة بالمقالة-  و لا تلبس كلاما بكلام و لا تبعدن معنى عن معنى-  و أكرم لي كتابك عن ثلاث-  خضوع يستخفه و انتشار يهجنه و معان تعقد به-  و اجمع الكثير مما تريد في القليل مما تقول-  و ليكن بسطة كلامك على كلام السوقة كبسطة الملك-  الذي تحدثه على الملوك-  لا يكن ما نلته عظيما و ما تتكلم به صغيرا- 

فإنما كلام الكاتب على مقدار الملك-  فاجعله عاليا كعلوه و فائقا كتفوقه-  فإنما جماع الكلام كله خصال أربع-  سؤالك الشي‏ء و سؤالك عن الشي‏ء-  و أمرك بالشي‏ء و خبرك عن الشي‏ء-  فهذه الخصال دعائم المقالات-  إن التمس إليها خامس لم يوجد-  و إن نقص منها واحد لم يتم-  فإذا أمرت فاحكم و إذا سألت فأوضح-  و إذا طلبت فأسمح و إذا أخبرت فحقق-  فإنك إذا فعلت ذلك أخذت بجراثيم القول كله-  فلم يشتبه عليك واردة و لم تعجزك صادرة-  أثبت في دواوينك ما أخذت و أحص فيها ما أخرجت-  و تيقظ لما تعطي و تجرد لما تأخذ-  و لا يغلبنك النسيان عن الإحصاء-  و لا الأناة عن التقدم-  و لا تخرجن‏ وزن قيراط في غير حق-  و لا تعظمن إخراج الألوف الكثيرة في الحق-  و ليكن ذلك كله عن مؤامرتي

ثُمَّ اسْتَوْصِ بِالتُّجَّارِ وَ ذَوِي الصِّنَاعَاتِ وَ أَوْصِ بِهِمْ خَيْراً-  الْمُقِيمِ مِنْهُمْ وَ الْمُضْطَرِبِ بِمَالِهِ وَ الْمُتَرَفِّقِ بِبَدَنِهِ-  فَإِنَّهُمْ مَوَادُّ الْمَنَافِعِ وَ أَسْبَابُ الْمَرَافِقِ-  وَ جُلَّابُهَا مِنَ الْمَبَاعِدِ وَ الْمَطَارِحِ-  فِي بَرِّكَ وَ بَحْرِكَ وَ سَهْلِكَ وَ جَبَلِكَ-  وَ حَيْثُ لَا يَلْتَئِمُ النَّاسُ لِمَوَاضِعِهَا-  وَ لَا يَجْتَرِءُونَ عَلَيْهَا-  فَإِنَّهُمْ سِلْمٌ لَا تُخَافُ بَائِقَتُهُ-  وَ صُلْحٌ لَا تُخْشَى غَائِلَتُهُ-  وَ تَفَقَّدْ أُمُورَهُمْ بِحَضْرَتِكَ وَ فِي حَوَاشِي بِلَادِكَ-  وَ اعْلَمْ مَعَ ذَلِكَ أَنَّ فِي كَثِيرٍ مِنْهُمْ ضِيقاً فَاحِشاً-  وَ شُحّاً قَبِيحاً-  وَ احْتِكَاراً لِلْمَنَافِعِ وَ تَحَكُّماً فِي الْبِيَاعَاتِ-  وَ ذَلِكَ بَابُ مَضَرَّةٍ لِلْعَامَّةِ-  وَ عَيْبٌ عَلَى الْوُلَاةِ فَامْنَعْ مِنَ الِاحْتِكَارِ-  فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ص مَنَعَ مِنْهُ-  وَ لْيَكُنِ الْبَيْعُ بَيْعاً سَمْحاً بِمَوَازِينِ عَدْلٍ-  وَ أَسْعَارٍ لَا تُجْحِفُ بِالْفَرِيقَيْنِ مِنَ الْبَائِعِ وَ الْمُبْتَاعِ-  فَمَنْ قَارَفَ حُكْرَةً بَعْدَ نَهْيِكَ إِيَّاهُ فَنَكِّلْ بِهِ-  وَ عَاقِبْهُ مِنْ غَيْرِ إِسْرَافٍ خرج ع الآن إلى ذكر التجار و ذوي الصناعات-  و أمره بأن يعمل معهم الخير-  و أن يوصى غيره من أمرائه و عماله أن يعملوا معهم الخير-  و استوص بمعنى أوص‏نحو قر في المكان و استقر-  و علا قرنه و استعلاه- .

و قوله استوص بالتجار خيرا أي أوص نفسك بذلك-  و منه قول النبي ص استوصوا بالنساء خيرا-  و مفعولا استوص و أوص هاهنا محذوفان للعلم بهما-  و يجوز أن يكون استوص أي اقبل الوصية مني بهم-  و أوص بهم أنت غيرك- . ثم قسم ع الموصى بهم ثلاثة أقسام-  اثنان منها للتجار و هما المقيم-  و المضطرب يعني المسافر و الضرب السير في الأرض-  قال تعالى إِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ-  و واحد لأرباب الصناعات-  و هو قوله و المترفق ببدنه-  و روي بيديه تثنية يد- . و المطارح الأماكن البعيدة- . و حيث لا يلتئم الناس لا يجتمعون-  و روي حيث لا يلتئم بحذف الواو-  ثم قال فإنهم أولو سلم يعني التجار و الصناع-  استعطفه عليهم و استماله إليهم- .

و قال ليسوا كعمال الخراج و أمراء الأجناد-  فجانبهم ينبغي أن يراعى و حالهم يجب أن يحاط و يحمى-  إذ لا يتخوف منهم بائقة لا في مال يخونون فيه-  و لا في دولة يفسدونها-  و حواشي البلاد أطرافها- . ثم قال له قد يكون في كثير منهم نوع من الشح و البخل-  فيدعوهم ذلك إلى الاحتكار في الأقوات-  و الحيف في البياعات-  و الاحتكار ابتياع الغلات في أيام‏رخصها-  و ادخارها في المخازن إلى أيام الغلاء و القحط-  و الحيف تطفيف في الوزن و الكيل و زيادة في السعر-  و هو الذي عبر عنه بالتحكم-  و قد نهى رسول الله ص عن الاحتكار-  و أما التطفيف و زياد التسعير فمنهي عنهما في نص الكتاب- . و قارف حكرة واقعها و الحاء مضمومة-  و أمره أن يؤدب فاعل ذلك من غير إسراف-  و ذلك أنه دون المعاصي التي توجب الحدود-  فغاية أمره من التعزير الإهانة و المنع: ثُمَّ اللَّهَ اللَّهَ فِي الطَّبَقَةِ السُّفْلَى مِنَ الَّذِينَ لَا حِيلَةَ لَهُمْ-  مِنَ الْمَسَاكِينِ وَ الْمُحْتَاجِينَ وَ أَهْلِ الْبُؤْسَى وَ الزَّمْنَى-  فَإِنَّ فِي هَذِهِ الطَّبَقَةِ قَانِعاً وَ مُعْتَرّاً-  وَ احْفَظِ اللَّهَ مَا اسْتَحْفَظَكَ مِنْ حَقِّهِ فِيهِمْ-  وَ اجْعَلْ لَهُمْ قِسْماً مِنْ بَيْتِ مَالِكِ-  وَ قِسْماً مِنْ غَلَّاتِ صَوَافِي الْإِسْلَامِ فِي كُلِّ بَلَدٍ-  فَإِنَّ لِلْأَقْصَى مِنْهُمْ مِثْلَ الَّذِي لِلْأَدْنَى-  وَ كُلٌّ قَدِ اسْتُرْعِيتَ حَقَّهُ-  وَ لَا يَشْغَلَنَّكَ عَنْهُمْ بَطَرٌ-  فَإِنَّكَ لَا تُعْذَرُ بِتَضْيِيعِ التَّافِهِ لِإِحْكَامِكَ الْكَثِيرَ الْمُهِمَّ-  فَلَا تُشْخِصْ هَمَّكَ عَنْهُمْ وَ لَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لَهُمْ-  وَ تَفَقَّدْ أُمُورَ مَنْ لَا يَصِلُ إِلَيْكَ مِنْهُمْ-  مِمَّنْ تَقْتَحِمُهُ الْعُيُونُ وَ تَحْقِرُهُ الرِّجَالُ-  فَفَرِّغْ لِأُولَئِكَ ثِقَتَكَ مِنْ أَهْلِ الْخَشْيَةِ وَ التَّوَاضُعِ-  فَلْيَرْفَعْ إِلَيْكَ أُمُورَهُمْ-  ثُمَّ اعْمَلْ فِيهِمْ بِالْإِعْذَارِ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ يَوْمَ تَلْقَاهُ-  فَإِنَّ هَؤُلَاءِ مِنْ بَيْنِ الرَّعِيَّةِ أَحْوَجُ إِلَى الْإِنْصَافِ مِنْ غَيْرِهِمْ-  وَ كُلٌّ فَأَعْذِرْ إِلَى اللَّهِ فِي تَأْدِيَةِ حَقِّهِ إِلَيْهِ-وَ تَعَهَّدْ أَهْلَ الْيُتْمِ وَ ذَوِي الرِّقَّةِ فِي السِّنِّ-  مِمَّنْ لَا حِيلَةَ لَهُ وَ لَا يَنْصِبُ لِلْمَسْأَلَةِ نَفْسَهُ-  وَ ذَلِكَ عَلَى الْوُلَاةِ ثَقِيلٌ-  وَ الْحَقُّ كُلُّهُ ثَقِيلٌ وَ قَدْ يُخَفِّفُهُ اللَّهُ عَلَى أَقْوَامٍ-  طَلَبُوا الْعَاقِبَةَ فَصَبَّرُوا أَنْفُسَهُمْ-  وَ وَثِقُوا بِصِدْقِ مَوْعُودِ اللَّهِ لَهُمْ انتقل من التجار و أرباب الصناعات-  إلى ذكر فقراء الرعية و مغموريها فقال-  و أهل البؤسى و هي البؤس كالنعمى للنعيم-  و الزمنى أولو الزمانة- .

و القانع السائل و المعتر الذي يعرض لك و لا يسألك-  و هما من ألفاظ الكتاب العزيز- . و أمره أن يعطيهم من بيت مال المسلمين-  لأنهم من الأصناف المذكورين في قوله تعالى-  وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ-  وَ لِذِي الْقُرْبى‏ وَ الْيَتامى‏ وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ-  و أن يعطيهم من غلات صوافي الإسلام-  و هي الأرضون التي لم يوجف عليها بخيل و لا ركاب-  و كانت صافية لرسول الله ص-  فلما قبض صارت لفقراء المسلمين-  و لما يراه الإمام من مصالح الإسلام- .

ثم قال له فإن للأقصى منهم مثل الذي للأدنى-  أي كل فقراء المسلمين سواء في سهامهم-  ليس فيها أقصى و أدنى-  أي لا تؤثر من هو قريب إليك أو إلى أحد من خاصتك-  على من هو بعيد ليس له سبب إليك-  و لا علقة بينه و بينك-  و يمكن أن يريد به-  لا تصرف غلات ما كان من الصوافي في بعض البلاد-  إلى مساكين ذلك‏ البلد خاصة-  فإن حق البعيد عن ذلك البلد فيها-  كمثل حق المقيم في ذلك البلد- . و التافه الحقير-  و أشخصت زيدا من موضع كذا أخرجته عنه-  و فلان يصعر خده للناس أي يتكبر عليهم- . و تقتحمه العيون تزدريه و تحتقره-  و الإعذار إلى الله-  الاجتهاد و المبالغة في تأدية حقه و القيام بفرائضه- . كان بعض الأكاسرة يجلس للمظالم بنفسه-  و لا يثق إلى غيره-  و يقعد بحيث يسمع الصوت-  فإذا سمعه أدخل المتظلم فأصيب بصمم في سمعه-  فنادى مناديه أن الملك يقول أيها الرعية-  إني إن أصبت بصمم في سمعي فلم أصب في بصري-  كل ذي ظلامة فليلبس ثوبا أحمر-  ثم جلس لهم في مستشرف له- . و كان لأمير المؤمنين ع بيت سماه بيت القصص-  يلقي الناس فيه رقاعهم-  و كذلك كان فعل المهدي محمد بن هارون الواثق-  من خلفاء بني العباس: وَ اجْعَلْ لِذَوِي الْحَاجَاتِ مِنْكَ قِسْماً تُفَرِّغُ لَهُمْ فِيهِ شَخْصَكَ-  وَ تَجْلِسُ لَهُمْ مَجْلِساً عَامّاً-  فَتَتَوَاضَعُ فِيهِ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَكَ-  وَ تُقْعِدُ عَنْهُمْ جُنْدَكَ وَ أَعْوَانَكَ مِنْ أَحْرَاسِكَ وَ شُرَطِكَ-  حَتَّى يُكَلِّمَكَ مُتَكَلِّمُهُمْ غَيْرَ مُتَتَعْتِعٍ-  فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ص يَقُولُ فِي غَيْرِ مَوْطِنٍ-  لَنْ تُقَدَّسَ أُمَّةٌ لَا يُؤْخَذُ لِلضَّعِيفِ فِيهَا حَقُّهُ مِنَ الْقَوِيِّ-  غَيْرَ مُتَتَعْتِعٍ-ثُمَّ احْتَمِلِ الْخُرْقَ مِنْهُمْ وَ الْعِيَّ-  وَ نَحِّ عَنْهُمُ الضِّيقَ وَ الْأَنَفَ-  يَبْسُطِ اللَّهُ عَلَيْكَ بِذَلِكَ أَكْنَافَ رَحْمَتِهِ-  وَ يُوجِبُ لَكَ ثَوَابَ طَاعَتِهِ-  وَ أَعْطِ مَا أَعْطَيْتَ هَنِيئاً وَ امْنَعْ فِي إِجْمَالٍ وَ إِعْذَارٍ-  ثُمَّ أُمُورٌ مِنْ أُمُورِكَ لَا بُدَّ لَكَ مِنْ مُبَاشَرَتِهَا-  مِنْهَا إِجَابَةُ عُمَّالِكَ بِمَا يَعْيَا عَنْهُ كُتَّابُكَ-  وَ مِنْهَا إِصْدَارُ حَاجَاتِ النَّاسِ عِنْدَ وُرُودِهَا عَلَيْكَ-  بِمَا تَحْرَجُ بِهِ صُدُورُ أَعْوَانِكَ-  وَ أَمْضِ لِكُلِّ يَوْمٍ عَمَلَهُ فَإِنَّ لِكُلِّ يَوْمٍ مَا فِيهِ هذا الفصل من تتمة ما قبله-  و قد روي حتى يكلمك مكلمهم فاعل من كلم-  و الرواية الأولى الأحسن- . و غير متتعتع غير مزعج و لا مقلق-  و المتتعتع في الخبر النبوي-  المتردد المضطرب في كلامه عيا من خوف لحقه-  و هو راجع إلى المعنى الأول- . و الخرق الجهل- 

و روي ثم احتمل الخرق منهم و الغي-  و الغي و هو الجهل أيضا-  و الرواية الأولى أحسن- . ثم بين له ع أنه لا بد له من هذا المجلس-  لأمر آخر-  غير ما قدمه ع-  و ذلك لأنه لا بد من أن يكون في حاجات الناس-  ما يضيق به صدور أعوانه و النواب عنه-  فيتعين عليه أن يباشرها بنفسه-  و لا بد من أن يكون في كتب عماله الواردة عليه-ما يعيا كتابه عن جوابه-  فيجيب عنه بعلمه-  و يدخل في ذلك-  أن يكون فيها ما لا يجوز في حكم السياسة و مصلحة الولاية-  أن يطلع الكتاب عليه-  فيجيب أيضا عن ذلك بعلمه- .

ثم قال له لا تدخل عمل يوم في عمل يوم آخر-  فيتعبك و يكدرك-  فإن لكل يوم ما فيه من العمل: وَ اجْعَلْ لِنَفْسِكَ فِيمَا بَيْنَكَ وَ بَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى-  أَفْضَلَ تِلْكَ الْمَوَاقِيتِ وَ أَجْزَلَ تِلْكَ الْأَقْسَامِ-  وَ إِنْ كَانَتْ كُلُّهَا لِلَّهِ إِذَا صَلَحَتْ فِيهَا النِّيَّةُ-  وَ سَلِمَتْ مِنْهَا الرَّعِيَّةُ-  وَ لْيَكُنْ فِي خَاصَّةِ مَا تُخْلِصُ بِهِ لِلَّهِ دِينَكَ إِقَامَةُ فَرَائِضِهِ-  الَّتِي هِيَ لَهُ خَاصَّةً-  فَأَعْطِ اللَّهَ مِنْ بَدَنِكَ فِي لَيْلِكَ وَ نَهَارِكَ-  وَ وَفِّ مَا تَقَرَّبْتَ بِهِ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ-  مِنْ ذَلِكَ كَامِلًا غَيْرَ مَثْلُومٍ وَ لَا مَنْقُوصٍ-  بَالِغاً مِنْ بَدَنِكَ مَا بَلَغَ-  وَ إِذَا قُمْتَ فِي صَلَاتِكَ لِلنَّاسِ-  فَلَا تَكُونَنَّ مُنَفِّراً وَ لَا مُضَيِّعاً-  فَإِنَّ فِي النَّاسِ مَنْ بِهِ الْعِلَّةُ وَ لَهُ الْحَاجَةُ-  وَ قَدْ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ ص حِينَ وَجَّهَنِي إِلَى الْيَمَنِ-  كَيْفَ أُصَلِّي بِهِمْ-  فَقَالَ صَلِّ بِهِمْ كَصَلَاةِ أَضْعَفِهِمْ-  وَ كُنْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً لمافرغ ع من وصيته بأمور رعيته-  شرع في وصيته بأداء الفرائض-  التي‏افترضها الله عليه من عبادته-  و لقد أحسن ع في قوله و إن كانت كلها لله-  أي أن النظر في أمور الرعية-  مع صحة النية و سلامة الناس من الظلم-  من جملة العبادات و الفرائض أيضا- .

ثم قال له كاملا غير مثلوم-  أي لا يحملنك شغل السلطان على أن تختصر الصلاة اختصارا-  بل صلها بفرائضها و سننها و شعائرها في نهارك و ليلك-  و إن أتعبك ذلك و نال من بدنك و قوتك- . ثم أمره إذا صلى بالناس جماعة ألا يطيل فينفرهم عنها-  و ألا يخدج الصلاة و ينقصها فيضيعها- . ثم روى خبرا عن النبي ص-  و هو قوله ع له صل بهم كصلاة أضعفهم-  و قوله و كن بالمؤمنين رحيما-  يحتمل أن يكون من تتمة الخبر النبوي-  و يحتمل أن يكون من كلام أمير المؤمنين ع-  و الظاهر أنه من كلام أمير المؤمنين من الوصية للأشتر-  لأن اللفظة الأولى عند أرباب الحديث-  هي المشهور في الخبر: وَ أَمَّا بَعْدَ هَذَا فَلَا تُطَوِّلَنَّ احْتِجَابَكَ عَنْ رَعِيَّتِكَ-  فَإِنَّ احْتِجَابَ الْوُلَاةِ عَنِ الرَّعِيَّةِ شُعْبَةٌ مِنَ الضِّيقِ-  وَ قِلَّةُ عِلْمٍ بِالْأُمُورِ-  وَ الِاحْتِجَابُ مِنْهُمْ يَقْطَعُ عَنْهُمْ عِلْمَ مَا احْتَجَبُوا دُونَهُ-  فَيَصْغُرُ عِنْدَهُمُ الْكَبِيرُ وَ يَعْظُمُ الصَّغِيرُ-  وَ يَقْبُحُ الْحَسَنُ وَ يَحْسُنُ الْقَبِيحُ-  وَ يُشَابُ الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ-  وَ إِنَّمَا الْوَالِي بَشَرٌ-  لَا يَعْرِفُ مَا تَوَارَى عَنْهُ النَّاسُ بِهِ مِنَ الْأُمُورِ-  وَ لَيْسَتْ عَلَى الْحَقِّ سِمَاتٌ-  تُعْرَفُ بِهَا ضُرُوبُ الصِّدْقِ مِنَ‏ الْكَذِبِ-  وَ إِنَّمَا أَنْتَ أَحَدُ رَجُلَيْنِ-  إِمَّا امْرُؤٌ سَخَتْ نَفْسُكَ بِالْبَذْلِ فِي الْحَقِّ-  فَفِيمَ احْتِجَابُكَ مِنْ وَاجِبِ حَقٍّ تُعْطِيهِ-  أَوْ فِعْلٍ كَرِيمٍ تُسْدِيهِ أَوْ مُبْتَلًى بِالْمَنْعِ-  فَمَا أَسْرَعَ كَفَّ النَّاسِ عَنْ مَسْأَلَتِكَ-  إِذَا أَيِسُوا مِنْ بَذْلِكَ-  مَعَ أَنَّ أَكْثَرَ حَاجَاتِ النَّاسِ إِلَيْكَ-  مَا لَا مَئُونَةَ فِيهِ عَلَيْكَ-  مِنْ شَكَاةِ مَظْلِمَةٍ أَوْ طَلَبِ إِنْصَافٍ فِي مُعَامَلَةٍ نهاه عن الاحتجاب فإنه مظنة انطواء الأمور عنه-  و إذا رفع الحجاب دخل عليه كل أحد فعرف الأخبار-  و لم يخف عليه شي‏ء من أحوال عمله- .

ثم قال لم تحتجب-  فإن أكثر الناس يحتجبون كيلا يطلب منهم الرفد- . و أنت فإن كنت جوادا سمحا لم يكن لك إلى الحجاب داع-  و إن كنت ممسكا فسيعلم الناس ذلك منك-  فلا يسألك أحد شيئا- . ثم قال-  على أن أكثر ما يسأل منك ما لا مئونة عليه في ماله-  كرد ظلامة أو إنصاف من خصم

ذكر الحجاب و ما ورد فيه من الخبر و الشعر

و القول في الحجاب كثير-  حضر باب عمر جماعة من الأشراف-  منهم سهيل بن عمرو و عيينة بن حصن-  و الأقرع بن حابس-  فحجبوا ثم خرج الآذن فنادى-  أين عمار أين سلمان أين صهيب-فأدخلهم فتمعرت وجوه القوم-  فقال سهيل بن عمرو لم تتمعر وجوهكم-  دعوا و دعينا فأسرعوا و أبطأنا-  و لئن حسدتموهم على باب عمر اليوم لأنتم غدا لهم أحسد- . و استأذن أبو سفيان على عثمان فحجبه-  فقيل له حجبك-  فقال لا عدمت من أهلي من إذا شاء حجبني- . و حجب معاوية أبا الدرداء-  فقيل لأبي الدرداء حجبك معاوية-  فقال من يغش أبواب الملوك يهن و يكرم-  و من صادف بابا مغلقا عليه وجد إلى جانبه بابا مفتوحا-  إن سأل أعطي و إن دعا أجيب-  و إن يكن معاوية قد احتجب فرب معاوية لم يحتجب- .

و قال أبرويز لحاجبه لا تضعن شريفا بصعوبة حجاب-  و لا ترفعن وضيعا بسهولته-  ضع الرجال مواضع أخطارهم-  فمن كان قديما شرفه ثم ازدرعه و لم يهدمه بعد آبائه-  فقدمه على شرفه الأول و حسن رأيه الآخر-  و من كان له شرف متقدم و لم يصن ذلك حياطة له-  و لم يزدرعه تثمير المغارسة-  فألحق بآبائه من رفعة حاله ما يقتضيه سابق شرفهم-  و ألحق به في خاصته ما ألحق بنفسه-  و لا تأذن له إلا دبريا و إلا سرارا-  و لا تلحقه بطبقة الأولين-  و إذا ورد كتاب عامل من عمالي فلا تحبسه عني طرفة عين-  إلا أن أكون على حال لا تستطيع الوصول إلي فيها-  و إذا أتاك من يدعي النصيحة لنا فلتكتبها سرا-  ثم أدخله بعد أن تستأذن له-  حتى إذا كان مني بحيث أراه فادفع إلي كتابه-  فإن أحمدت قبلت و إن كرهت رفضت-  و إن أتاك عالم مشتهر بالعلم و الفضل يستأذن فأذن له-  فإن العلم شريف و شريف صاحبه-  و لا تحجبن عني أحدا من أفناء الناس-  إذا أخذت مجلسي مجلس العامة-  فإن الملك لا يحجب إلا عن ثلاث-  عي يكره أن يطلع عليه منه-  أو بخل يكره أن يدخل عليه من يسأله-  أو ريبة هو مصر عليها فيشفق من إبدائها-و وقوف الناس عليها-  و لا بد أن يحيطوا بها علما و إن اجتهد في سترها-  و قد أخذ هذا المعنى الأخير محمود الوراق فقال- 

 إذا اعتصم الوالي بإغلاق بابه
و رد ذوي الحاجات دون حجابه‏

ظننت به إحدى ثلاث و ربما
رجمت بظن واقع بصوابه‏

أقول به مس من العي ظاهر
ففي إذنه للناس إظهار ما به‏

فإن لم يكن عي اللسان فغالب‏
من البخل يحمى ماله عن طلابه‏

و إن لم يكن لا ذا و لا ذا فريبة
يكتمها مستورة بثيابه‏

أقام عبد العزيز بن زرارة الكلابي-  على باب معاوية سنة في شملة من صوف لا يأذن له-  ثم أذن له و قربه و أدناه-  و لطف محله عنده حتى ولاه مصر-  فكان يقال استأذن أقوام لعبد العزيز بن زرارة-  ثم صار يستأذن لهم-  و قال في ذلك

دخلت على معاوية بن حرب
و لكن بعد يأس من دخول‏

و ما نلت الدخول عليه حتى‏
حللت محلة الرجل الذليل‏

و أغضيت الجفون على قذاها
و لم أنظر إلى قال و قيل‏

و أدركت الذي أملت منه‏
و حرمان المنى زاد العجول‏

 و يقال إنه قال له لما دخل عليه- أمير المؤمنين دخلت إليك بالأمل- و احتملت جفوتك بالصبر- و رأيت ببابك أقواما قدمهم الحظ- و آخرين أخرهم الحرمان- فليس ينبغي للمقدم أن يأمن عواقب الأيام- و لا للمؤخر أن ييأس من عطف الزمان- . و أول المعرفة الاختبار فابل و اختبر إن رأيت- و كان يقال لم يلزم باب السلطان أحد- فصبر على ذل الحجاب و كلام البواب- و ألقى الأنف و حمل الضيم و أدام الملازمة- إلا وصل إلى حاجته أو إلى معظمها- .

قال عبد الملك لحاجبه إنك عين أنظر بها- و جنة أستلئم بها- و قد وليتك ما وراء بابي فما ذا تراك صانعا برعيتي- قال أنظر إليهم بعينك و أحملهم على قدر منازلهم عندك- و أضعهم في إبطائهم عن بابك- و لزوم خدمتك مواضع استحقاقهم- و أرتبهم حيث وضعهم ترتيبك- و أحسن إبلاغهم عنك و إبلاغك عنهم- قال لقد وفيت بما عليك و لكن إن صدقت ذلك بفعلك- و قال دعبل و قد حجب عن باب مالك بن طوق-

لعمري لئن حجبتني العبيد
لما حجبت دونك القافيه‏

سأرمي بها من وراء الحجاب‏
شنعاء تأتيك بالداهيه‏

تصم السميع و تعمي البصير
و يسأل من مثلها العافيه‏

 و قال آخر

سأترك هذا الباب ما دام إذنه
على ما أرى حتى يلين قليلا

فما خاب من لم يأته مترفعا
و لا فاز من قد رام فيه دخولا

إذا لم نجد للإذن عندك موضعا
وجدنا إلى ترك المجي‏ء سبيلا

و كتب أبو العتاهية إلى أحمد بن يوسف الكاتب و قد حجبه-

و إن عدت بعد اليوم إني لظالم
سأصرف وجهي حيث تبغي المكارم‏

متى يفلح الغادي إليك لحاجة
و نصفك محجوب و نصفك نائم‏

– يعني ليله و نهاره- . استأذن رجلان على معاوية فأذن لأحدهما- و كان أشرف منزلة من الآخر- ثم أذن للآخر فدخل فجلس فوق الأول- فقال معاوية إن الله قد ألزمنا تأديبكم-كما ألزمنا رعايتكم- و أنا لم نأذن له قبلك- و نحن نريد أن يكون مجلسه دونك- فقم لا أقام الله لك وزنا- و قال بشار

تأبى خلائق خالد و فعاله
إلا تجنب كل أمر عائب‏

و إذا أتينا الباب وقت غدائه‏
أدنى الغداء لنا برغم الحاجب‏

 و قال آخر يهجو-

يا أميرا على جريب من الأر
ض له تسعة من الحجاب‏

قاعد في الخراب يحجب عنا
ما سمعنا بحاجب في خراب‏

 و كتب بعضهم إلى جعفر بن محمد- بن القاسم بن عبيد الله بن سليمان بن وهب-

أبا جعفر إن الولاية إن تكن
منبلة قوسا فأنت لها نبل‏

فلا ترتفع عنا لأمر وليته‏
كما لم يصغر عندنا شأنك العزل‏

 و من جيد ما مدح به بشر بن مروان قول القائل-

بعيد مراد الطرف ما رد طرفه
حذار الغواشي باب دار و لا ستر

و لو شاء بشر كان من دون بابه‏
طماطم سود أو صقالبة حمر

و لكن بشرا يستر الباب للتي
يكون لها في غبها الحمد و الأجر

 و قال بشار

خليلي من كعب أعينا أخاكما
على دهره إن الكريم يعين‏

و لا تبخلا بخل ابن قرعة إنه‏
مخافة أن يرجى نداه حزين‏

إذا جئته للعرف أغلق بابه
فلم تلقه إلا و أنت كمين‏

فقل لأبي يحيى متى تدرك العلا
و في كل معروف عليك يمين‏

و قال إبراهيم بن هرمة

هش إذا نزل الوفود ببابه
سهل الحجاب مؤدب الخدام‏

و إذا رأيت صديقه و شقيقه‏
لم تدر أيهما ذوي الأرحام‏

و قال آخر

و إني لأستحيي الكريم إذا أتى
على طمع عند اللئيم يطالبه‏

و أرثي له من مجلس عند بابه‏
كمرثيتي للطرف و العلج راكبه‏

و قال عبد الله بن محمد بن عيينة-

أتيتك زائرا لقضاء حق
فحال الستر دونك و الحجاب‏

و رأيي مذهب عن كل ناء
يجانبه إذا عز الذهاب‏

و لست بساقط في قدر قوم
و إن كرهوا كما يقع الذباب‏

و قال آخر

ما ضاقت الأرض على راغب
تطلب الرزق و لا راهب‏

بل ضاقت الأرض على شاعر
أصبح يشكو جفوة الحاجب‏

قد شتم الحاجب في شعره
و إنما يقصد للصاحب‏

ثُمَّ إِنَّ لِلْوَالِي خَاصَّةً وَ بِطَانَةً-  فِيهِمُ اسْتِئْثَارٌ وَ تَطَاوُلٌ وَ قِلَّةُ إِنْصَافٍ فِي مُعَامَلَةٍ-  فَاحْسِمْ مَئُونَةَ أُولَئِكَ بِقَطْعِ أَسْبَابِ تِلْكَ الْأَحْوَالِ-  وَ لَا تُقْطِعَنَّ لِأَحَدٍ مِنْ حَاشِيَتِكَ وَ حَامَّتِكَ قَطِيعَةً-  وَ لَا يَطْمَعَنَّ مِنْكَ فِي اعْتِقَادِ عُقْدَةٍ-  تَضُرُّ بِمَنْ يَلِيهَا مِنَ النَّاسِ-  فِي‏ شِرْبٍ أَوْ عَمَلٍ مُشْتَرَكٍ-  يَحْمِلُونَ مَئُونَتَهُ عَلَى غَيْرِهِمْ-  فَيَكُونَ مَهْنَأُ ذَلِكَ لَهُمْ دُونَكَ-  وَ عَيْبُهُ عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا وَ الآْخِرَةِ-  وَ أَلْزِمِ الْحَقَّ مَنْ لَزِمَهُ مِنَ الْقَرِيبِ وَ الْبَعِيدِ-  وَ كُنْ فِي ذَلِكَ صَابِراً مُحْتَسِباً-  وَاقِعاً ذَلِكَ مِنْ قَرَابَتِكَ وَ خَوَاصِّكَ حَيْثُ وَقَعَ-  وَ ابْتَغِ عَاقِبَتَهُ بِمَا يَثْقُلُ عَلَيْكَ مِنْهُ-  فَإِنَّ مَغَبَّةَ ذَلِكَ مَحْمُودَةٌ-  وَ إِنْ ظَنَّتِ الرَّعِيَّةُ بِكَ حَيْفاً فَأَصْحِرْ لَهُمْ بِعُذْرِكَ-  وَ اعْدِلْ عَنْكَ ظُنُونَهُمْ بِإِصْحَارِكَ-  فَإِنَّ فِي ذَلِكَ إِعْذَاراً-  تَبْلُغُ بِهِ حَاجَتَكَ مِنْ تَقْوِيمِهِمْ عَلَى الْحَقِّ نهاه ع عن أن يحمل أقاربه و حاشيته و خواصه-  على رقاب الناس-  و أن يمكنهم من الاستئثار عليهم و التطاول و الإذلال-  و نهاه من أن يقطع أحدا منهم قطيعة-  أو يملكه ضيعة تضر بمن يجاورها من السادة و الدهاقين-  في شرب يتغلبون على الماء منه-  أو ضياع يضيفونها إلى ما ملكهم إياه-  و إعفاء لهم من مئونة أو حفر و غيره-  فيعفيهم الولاة منه مراقبة لهم-  فيكون مئونة ذلك الواجب عليهم قد أسقطت عنهم-  و حمل ثقلها على غيرهم- . ثم قال ع لأن منفعة ذلك في الدنيا تكون لهم دونك-  و الوزر في الآخرة عليك-  و العيب و الذم في الدنيا أيضا لاحقان بك- . ثم قال له إن اتهمتك الرعية بحيف عليهم-  أو ظنت بك جورا فاذكر لهم عذرك‏ في ذلك-  و ما عندك ظاهرا غير مستور-  فإنه الأولى و الأقرب إلى استقامتهم لك على الحق- .

و أصحرت بكذا أي كشفته-  مأخوذ من الإصحار و هو الخروج إلى الصحراء- . و حامة الرجل أقاربه و بطانته-  و اعتقدت عقدة أي ادخرت ذخيرة-  و المهنأ مصدر هنأه كذا و مغبة الشي‏ء عاقبته- . و اعدل عنك ظنونهم نحها و الإعذار إقامة العذر

طرف من أخبار عمر بن عبد العزيز و نزاهته في خلافته

رد عمر بن عبد العزيز المظالم-  التي احتقبها بنو مروان فأبغضوه و ذموه-  و قيل إنهم سموه فمات- . و روى الزبير بن بكار في الموفقيات-  أن عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز-  دخل على أبيه يوما و هو في قائلته فأيقظه-  و قال له ما يؤمنك أن تؤتى في منامك-  و قد رفعت إليك مظالم لم تقض حق الله فيها-  فقال يا بني إن نفسي مطيتي إن لم أرفق بها لم تبلغني-  إني لو أتعبت نفسي و أعواني لم يكن ذلك-  إلا قليلا حتى أسقط و يسقطوا-  و إني لأحتسب في نومتي من الأجر-  مثل الذي أحتسب في يقظتي-  إن الله جل ثناؤه لو أراد أن ينزل القرآن جملة لأنزله-  و لكنه أنزل الآية و الآيتين-  حتى استكثر الإيمان في قلوبهم- .

ثم قال يا بني مما أنا فيه آمر هو أهم إلى أهل بيتك-  هم أهل العدة و العدد و قبلهم ما قبلهم-  فلو جمعت ذلك في يوم واحد خشيت انتشارهم علي-  و لكني أنصف من الرجل‏و الاثنين-  فيبلغ ذلك من وراءهما فيكون أنجع له-  فإن يرد الله إتمام هذا الأمر أتمه-  و إن تكن الأخرى فحسب عبد-  أن يعلم الله منه أنه يحب أن ينصف جميع رعيته- . و روى جويرية بن أسماء عن إسماعيل بن أبي حكيم قال-  كنا عند عمر بن عبد العزيز فلما تفرقنا نادى مناديه-  الصلاة جامعة فجئت المسجد-  فإذا عمر على المنبر فحمد الله و أثنى عليه-  ثم قال أما بعد فإن هؤلاء يعني خلفاء بني أمية قبله-  قد كانوا أعطونا عطايا ما كان ينبغي لنا أن نأخذها منهم-  و ما كان ينبغي لهم أن يعطوناها-  و إني قد رأيت الآن أنه ليس علي في ذلك دون الله حسيب-  و قد بدأت بنفسي و الأقربين من أهل بيتي-  اقرأ يا مزاحم فجعل مزاحم يقرأ كتابا-  فيه الإقطاعات بالضياع و النواحي-  ثم يأخذه عمر بيده فيقصه بالجلم-  لم يزل كذلك حتى نودي بالظهر- .

و روى الفرات بن السائب قال-  كان عند فاطمة بنت عبد الملك بن مروان جوهر جليل-  وهبها أبوها و لم يكن لأحد مثله-  و كانت تحت عمر بن عبد العزيز-  فلما ولي الخلافة قال لها اختاري-  إما أن تردي جوهرك و حليك إلى بيت مال المسلمين-  و إما أن تأذني لي في فراقك-  فإني أكره أن اجتمع أنا و أنت و هو في بيت واحد-  فقالت بل أختارك عليه و على أضعافه لو كان لي-  و أمرت به فحمل إلى بيت المال-  فلما هلك عمر و استخلف يزيد بن عبد الملك-  قال لفاطمة أخته إن شئت رددته عليك-  قالت فإني لا أشاء ذلك-  طبت عنه نفسا في حياة عمر-  و أرجع فيه بعد موته لا و الله أبدا-  فلما رأى يزيد ذلك قسمه بين ولده و أهله- .

و روى سهيل بن يحيى المروزي عن أبيه-  عن عبد العزيز عن عمر بن عبد العزيز قال-  لما دفن سليمان صعد عمر على المنبر فقال-  إني قد خلعت ما في رقبتي من بيعتكم-  فصاح الناس صيحة واحدة قد اخترناك-  فنزل و دخل و أمر بالستور فهتكت-و الثياب التي كانت تبسط للخلفاء-  فحملت إلى بيت المال-  ثم خرج و نادى مناديه من كانت له مظلمة-  من بعيد أو قريب من أمير المؤمنين فليحضر-  فقام رجل ذمي من أهل حمص أبيض الرأس و اللحية-  فقال أسألك كتاب الله قال ما شأنك-  قال العباس بن الوليد بن عبد الملك اغتصبني ضيعتي-  و العباس جالس-  فقال عمر ما تقول يا عباس-  قال أقطعنيها أمير المؤمنين الوليد و كتب لي بها سجلا-  فقال عمر ما تقول أنت أيها الذمي-  قال يا أمير المؤمنين أسألك كتاب الله-  فقال عمر إيها لعمري إن كتاب الله لأحق أن يتبع-  من كتاب الوليد-  اردد عليه يا عباس ضيعته-  فجعل لا يدع شيئا مما كان في أيدي أهل بيته من المظالم-  إلا ردها مظلمة مظلمة- .

و روى ميمون بن مهران قال-  بعث إلي عمر بن عبد العزيز و إلى مكحول و أبي قلابة-  فقال ما ترون في هذه الأموال-  التي أخذها أهلي من الناس ظلما-  فقال مكحول قولا ضعيفا كرهه عمر-  فقال أرى أن تستأنف و تدع ما مضى-  فنظر إلي عمر كالمستغيث بي-  فقلت يا أمير المؤمنين-  أحضر ولدك عبد الملك لننظر ما يقول فحضر-  فقال ما تقول يا عبد الملك فقال ما ذا أقول أ لست تعرف مواضعها-  قال بلى و الله قال فارددها-  فإن لم تفعل كنت شريكا لمن أخذها- . و روى ابن درستويه عن يعقوب بن سفيان-  عن جويرية بن أسماء قال-  كان بيد عمر بن عبد العزيز قبل الخلافة-  ضيعته المعروفة بالسهلة و كانت باليمامة-  و كانت أمرا عظيما لها غلة عظيمة كثيرة-  إنما عيشه و عيش أهله منها-  فلما ولي الخلافة قال لمزاحم مولاه و كان فاضلا-  إني قد عزمت أن أرد السهلة إلى بيت مال المسلمين-  فقال مزاحم أ تدري كم ولدك إنهم كذا و كذا-  قال فذرفت عيناه فجعل يستدمع-  و يمسح الدمعة بإصبعه الوسطى و يقول-  أكلهم إلى الله أكلهم إلى الله-  فمضى مزاحم فدخل على عبد الملك بن عمر فقال له-  أ لا تعلم ما قد عزم عليه أبوك إنه يريد أن يرد السهلة-  قال فما قلت‏ له قال ذكرت له ولده-  فجعل يستدمع و يقول أكلهم إلى الله-  فقال عبد الملك بئس وزير الدين أنت-  ثم وثب و انطلق إلى أبيه فقال للآذن استأذن لي عليه-  فقال إنه قد وضع رأسه الساعة للقائلة-  فقال استأذن لي عليه فقال أ ما ترحمونه-  ليس له من الليل و النهار إلا هذه الساعة-  قال استأذن لي عليه لا أم لك-  فسمع عمر كلامهما فقال ائذن لعبد الملك-  فدخل فقال على ما ذا عزمت قال أرد السهلة-  قال فلا تؤخر ذلك قم الآن-  قال فجعل عمر يرفع يديه و يقول-  الحمد لله الذي جعل لي من ذريتي من يعينني على أمر ديني-  قال نعم يا بني أصلي الظهر ثم أصعد المنبر-  فأردها علانية على رءوس الناس-  قال و من لك أن تعيش إلى الظهر-  ثم من لك أن تسلم نيتك إلى الظهر إن عشت إليها-  فقام عمر فصعد المنبر فخطب الناس و رد السهلة- .

قال و كتب عمر بن الوليد بن عبد الملك-  إلى عمر بن عبد العزيز لما أخذ بني مروان-  برد المظالم كتابا أغلظ له فيه-  من جملته أنك أزريت على كل من كان قبلك-  من الخلفاء و عبتهم و سرت بغير سيرتهم-  بغضا لهم و شنآنا لمن بعدهم من أولادهم-  و قطعت ما أمر الله به أن يوصل-  و عمدت إلى أموال قريش و مواريثهم-  فأدخلتها بيت المال جورا و عدوانا-  فاتق الله يا ابن عبد العزيز و راقبه-  فإنك خصصت أهل بيتك بالظلم و الجور-  و و الذي خص محمد ص بما خصه به-  لقد ازددت من الله بعدا بولايتك هذه-  التي زعمت أنها عليك بلاء-  فأقصر عن بعض ما صنعت-  و اعلم أنك بعين جبار عزيز و في قبضته-  و لن يتركك على ما أنت عليه- .

قالوا فكتب عمر جوابه أما بعد فقد قرأت كتابك-  و سوف أجيبك بنحو منه-  أما أول أمرك يا ابن الوليد فإن أمك نباتة أمة السكون-  كانت تطوف في أسواق حمص-  و تدخل حوانيتها ثم الله أعلم بها-  اشتراها ذبيان بن ذبيان من في‏ء المسلمين-  فأهداهالأبيك فحملت بك-  فبئس الحامل و بئس المحمول-  ثم نشأت فكنت جبارا عنيدا-  و تزعم أني من الظالمين لأني حرمتك و أهل بيتك في‏ء الله-  الذي هو حق القرابة و المساكين و الأرامل-  و إن أظلم مني و أترك لعهد الله-  من استعملك صبيا سفيها على جند المسلمين-  تحكم فيهم برأيك-  و لم يكن له في ذاك نية إلا حب الوالد ولده-  فويل لك و ويل لأبيك-  ما أكثر خصماءكما يوم القيامة-  و إن أظلم مني و أترك لعهد الله-  من استعمل الحجاج بن يوسف على خمسي العرب-  يسفك الدم الحرام و يأخذ المال الحرام-  و إن أظلم مني و أترك لعهد الله-  من استعمل قرة بن شريك أعرابيا جافيا على مصر-  و أذن له في المعازف و الخمر و الشرب و اللهو-  و إن أظلم مني و أترك لعهد الله-  من استعمل عثمان بن حيان على الحجاز-  فينشد الأشعار على منبر رسول الله ص-  و من جعل للعالية البربرية سهما في الخمس-  فرويدا يا ابن نباتة-  و لو التقت حلقتا البطان و رد الفي‏ء إلى أهله-  لتفرغت لك و لأهل بيتك فوضعتكم على المحجة البيضاء-  فطالما تركتم الحق و أخذتم في بنيات الطريق-  و من وراء هذا من الفضل ما أرجو أن أعمله-  بيع رقبتك-  و قسم ثمنك بين الأرامل و اليتامى و المساكين-  فإن لكل فيك حقا-  و السلام علينا و لا ينال سلام الله الظالمين- .

و روى الأوزاعي قال-  لما قطع عمر بن عبد العزيز عن أهل بيته ما كان من قبله-  يجرونه عليهم من أرزاق الخاصة-  فتكلم في ذلك عنبسة بن سعيد فقال-  يا أمير المؤمنين إن لنا قرابة-  فقال مالي إن يتسع لكم و أما هذا المال فحقكم فيه-  كحق رجل بأقصى برك الغماد-  و لا يمنعه من أخذه إلا بعد مكانه-  و الله إني لأرى أن الأمورلو استحالت حتى يصبح أهل الأرض-  يرون مثل رأيكم لنزلت بهم بائقة من عذاب الله- . و روى الأوزاعي أيضا قال قال عمر بن عبد العزيز يوما-  و قد بلغه عن بني أمية كلام أغضبه-  إن لله في بني أمية يوما أو قال ذبحا-  و ايم الله لئن كان ذلك الذبح أو قال ذلك اليوم-  على يدي لأعذرن الله فيهم-  قال فلما بلغهم ذلك كفوا-  و كانوا يعلمون صرامته-  و إنه إذا وقع في أمر مضى فيه- .

و روى إسماعيل بن أبي حكيم قال-  قال عمر بن عبد العزيز يوما لحاجبه-  لا تدخلن علي اليوم إلا مروانيا-  فلما اجتمعوا قال يا بني مروان-  إنكم قد أعطيتم حظا و شرفا و أموالا-  إني لأحسب شطر أموال هذه الأمة أو ثلثيها في أيديكم-  فسكتوا فقال أ لا تجيبوني-  فقال رجل منهم فما بالك-  قال إني أريد أن أنتزعها منكم-  فأردها إلى بيت مال المسلمين-  فقال رجل منهم و الله لا يكون ذلك-  حتى يحال بين رءوسنا و أجسادنا-  و الله لا نكفر أسلافنا و لا نفقر أولادنا-  فقال عمر و الله لو لا أن تستعينوا علي بمن أطلب هذا الحق له-  لأضرعت خدودكم قوموا عني- . و روى مالك بن أنس قال ذكر عمر بن عبد العزيز-  من كان قبله من المروانية فعابهم-  و عنده هشام بن عبد الملك فقال يا أمير المؤمنين-  إنا و الله نكره أن تعيب آباءنا و تضع شرفنا-  فقال عمر و أي عيب أعيب مما عابه القرآن- .

و روى نوفل بن الفرات قال-  شكا بنو مروان إلى عاتكة بنت مروان بن الحكم عمر-  فقالوا إنه يعيب أسلافنا و يأخذ أموالنا-  فذكرت ذلك له و كانت عظيمة عند بني مروان-  فقال لها يا عمة إن رسول الله ص قبض-  و ترك‏الناس على نهر مورود-  فولي ذلك النهر بعده رجلان-  لم يستخصا أنفسهما و أهلهما منه بشي‏ء-  ثم وليه ثالث فكرى منه ساقية-  ثم لم تزل الناس يكرون منه السواقي-  حتى تركوه يابسا لا قطرة فيه-  و ايم الله لئن أبقاني الله لأسكرن تلك السواقي-  حتى أعيد النهر إلى مجراه الأول-  قالت فلا يسبون إذا عندك-  قال و من يسبهم إنما يرفع الرجل مظلمته فأردها عليه- .

و روى عبد الله بن محمد التيمي قال-  كان بنو أمية ينزلون عاتكة بنت مروان بن الحكم-  على أبواب قصورهم-  و كانت جليلة الموضع عندهم-  فلما ولي عمر قال لا يلي إنزالها أحد غيري-  فأدخلوها على دابتها إلى باب قبته فأنزلها-  ثم طبق لها وسادتين إحداهما على الأخرى-  ثم أنشأ يمازحها و لم يكن من شأنه و لا من شأنها المزاح-  فقال أ ما رأيت الحرس الذين على الباب-  فقالت بلى و ربما رأيتهم عند من هو خير منك-  فلما رأى الغضب لا يتحلل عنها ترك المزاح-  و سألها أن تذكر حاجتها-  فقالت إن قرابتك يشكونك-  و يزعمون أنك أخذت منهم خير غيرك-  قال ما منعتهم شيئا هو لهم-  و لا أخذت منهم حقا يستحقونه-  قالت إني أخاف أن يهيجوا عليك يوما عصيبا-  و قال كل يوم أخافه دون يوم القيامة فلا وقاني الله شره-  ثم دعا بدينار و مجمرة و جلد فألقى الدينار في النار-  و جعل ينفخ حتى احمر-  ثم تناوله بشي‏ء فأخرجه فوضعه على الجلد فنش و فتر-  فقال يا عمة أ ما تأوين لابن أخيك من مثل هذا-  فقامت فخرجت إلى بني مروان فقالت-  تزوجون في آل عمر بن الخطاب-  فإذا نزعوا إلى الشبه جزعتم اصبروا له- .

و روى وهيب بن الورد قال-  اجتمع بنو مروان على باب عمر بن عبد العزيز-  فقالوا لولد له قل لأبيك يأذن لنا-  فإن لم يأذن فأبلغ إليه عنا و سأله-  فلم يأذن لهم و قال‏ فليقولوا-  فقالوا قل له إن من كان قبلك من الخلفاء كان يعطينا-  و يعرف لنا مواضعنا-  و إن أباك قد حرمنا ما في يديه-  فدخل إلى أبيه فأبلغه عنهم-  فقال اخرج فقل لهم-  إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم و روى سعيد بن عمار عن أسماء بنت عبيد قال-  دخل عنبسة بن سعيد بن العاص على عمر بن عبد العزيز فقال-  يا أمير المؤمنين إن من كان قبلك من الخلفاء-  كانوا يعطوننا عطايا منعتناها و لي عيال و ضيعة-  فأذن لي أخرج إلى ضيعتي و ما يصلح عيالي-  فقال عمر إن أحبكم إلينا من كفانا مئونته-  فخرج عنبسة فلما صار إلى الباب ناداه أبا خالد أبا خالد-  فرجع فقال أكثر ذكر الموت-  فإن كنت في ضيق من العيش وسعه عليك-  و إن كنت في سعة من العيش ضيقه عليك- .

و روى عمر بن علي بن مقدم قال-  قال ابن صغير لسليمان بن عبد الملك لمزاحم-  إن لي حاجة إلى أمير المؤمنين عمر-  قال فاستأذنت له فأدخله-  فقال يا أمير المؤمنين لم أخذت قطيعتي-  قال معاذ الله إن آخذ قطيعة ثبتت في الإسلام-  قال فهذا كتابي بها و أخرج كتابا من كمه-  فقرأه عمر و قال لمن كانت هذه الأرض-  قال كانت للمسلمين قال فالمسلمون أولى بها-  قال فاردد علي كتابي-  قال إنك لو لم تأتني به لم أسألكه-  فأما إذ جئتني به فلست أدعك تطلب به ما ليس لك بحق-  فبكى ابن سليمان فقال مزاحم-  يا أمير المؤمنين ابن سليمان تصنع به هذا-  قال و ذلك لأن سليمان عهد إلى عمر و قدمه على إخوته-  فقال عمر ويحك يا مزاحم-  إني لأجد له من اللوط ما أجد لولدي-  و لكنها نفسي أجادل عنها- .

و روى الأوزاعي قال قال هشام بن عبد الملك-  و سعيد بن خالد بن عمر بن عثمان‏ بن عفان-  لعمر بن عبد العزيز يا أمير المؤمنين-  استأنف العمل برأيك فيما تحت يدك-  و خل بين من سبقك و بين ما ولوه عليهم كان أو لهم-  فإنك مستكف أن تدخل في خير ذلك و شره-  قال أنشدكما الله الذي إليه تعودان-  لو أن رجلا هلك و ترك بنين أصاغر و أكابر-  فغر الأكابر الأصاغر بقوتهم فأكلوا أموالهم-  ثم بلغ الأصاغر الحلم فجاءوكما بهم-  و بما صنعوا في أموالهم ما كنتما صانعين-  قالا كنا نرد عليهم حقوقهم حتى يستوفوها-  قال فإني وجدت كثيرا ممن كان قبلي من الولاة-  غر الناس بسلطانه و قوته-  و آثر بأموالهم أتباعه و أهله و رهطه و خاصته-  فلما وليت أتوني بذلك-  فلم يسعني إلا الرد على الضعيف من القوي-  و على الدني‏ء من الشريف-  فقالا يوفق الله أمير المؤمنين

وَ لَا تَدْفَعَنَّ صُلْحاً دَعَاكَ إِلَيْهِ عَدُوُّكَ لِلَّهِ فِيهِ رِضًا-  فَإِنَّ فِي الصُّلْحِ دَعَةً لِجُنُودِكَ-  وَ رَاحَةً مِنْ هُمُومِكَ وَ أَمْناً لِبِلَادِكَ-  وَ لَكِنِ الْحَذَرَ كُلَّ الْحَذَرِ مِنْ عَدُوِّكَ بَعْدَ صُلْحِهِ-  فَإِنَّ الْعَدُوَّ رُبَّمَا قَارَبَ لِيَتَغَفَّلَ-  فَخُذْ بِالْحَزْمِ وَ اتَّهِمْ فِي ذَلِكَ حُسْنَ الظَّنِّ-  وَ إِنْ عَقَدْتَ بَيْنَكَ وَ بَيْنَ عَدُوٍّ لَكَ عُقْدَةً-  أَوْ أَلْبَسْتَهُ مِنْكَ ذِمَّةً-  فَحُطْ عَهْدَكَ بِالْوَفَاءِ وَ ارْعَ ذِمَّتَكَ بِالْأَمَانَةِ-  وَ اجْعَلْ نَفْسَكَ جُنَّةً دُونَ مَا أَعْطَيْتَ-  فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ شَيْ‏ءٌ-  النَّاسُ أَشَدُّ عَلَيْهِ اجْتِمَاعاً مَعَ تَفَرُّقِ أَهْوَائِهِمْ-  وَ تَشَتُّتِ آرَائِهِمْ-  مِنْ تَعْظِيمِ الْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ-  وَ قَدْ لَزِمَ ذَلِكَ الْمُشْرِكُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ دُونَ الْمُسْلِمِينَ-  لِمَا اسْتَوْبَلُوا مِنْ عَوَاقِبِ الْغَدْرِ-  فَلَا تَغْدِرَنَّ بِذِمَّتِكَ وَ لَا تَخِيسَنَّ بِعَهْدِكَ-  وَ لَا تَخْتِلَنَّ عَدُوَّكَ-  فَإِنَّهُ لَا يَجْتَرِئُ عَلَى اللَّهِ إِلَّا جَاهِلٌ شَقِيٌّ-  وَ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ عَهْدَهُ وَ ذِمَّتَهُ أَمْناً أَفْضَاهُ بَيْنَ الْعِبَادِ بِرَحْمَتِهِ-وَ حَرِيماً يَسْكُنُونَ إِلَى مَنَعَتِهِ وَ يَسْتَفِيضُونَ إِلَى جِوَارِهِ-  فَلَا إِدْغَالَ وَ لَا مُدَالَسَةَ وَ لَا خِدَاعَ فِيهِ-  وَ لَا تَعْقِدْهُ عَقْداً تُجَوِّزُ فِيهِ الْعِلَلَ-  وَ لَا تُعَوِّلَنَّ عَلَى لَحْنِ الْقَوْلِ بَعْدَ التَّأْكِيدِ وَ التَّوْثِقَةِ-  وَ لَا يَدْعُوَنَّكَ ضِيقُ أَمْرٍ-  لَزِمَكَ فِيهِ عَهْدُ اللَّهِ إِلَى طَلَبِ انْفِسَاخِهِ بِغَيْرِ الْحَقِّ-  فَإِنَّ صَبْرَكَ عَلَى ضِيقِ أَمْرٍ تَرْجُو انْفِرَاجَهُ وَ فَضْلَ عَاقِبَتِهِ-  خَيْرٌ مِنْ غَدْرٍ تَخَافُ تَبِعَتَهُ-  وَ أَنْ تُحِيطَ بِكَ مِنَ اللَّهِ طِلْبَةٌ-  لَا تَسْتَقِيلُ فِيهَا دُنْيَاكَ وَ لَا آخِرَتَكَ أمره أن يقبل السلم و الصلح إذا دعي إليه-  لما فيه من دعة الجنود-  و الراحة من الهم و الأمن للبلاد-  و لكن ينبغي أن يحذر بعد الصلح من غائلة العدو و كيده-  فإنه ربما قارب بالصلح ليتغفل أي يطلب غفلتك-  فخذ بالحزم و اتهم حسن ظنك-  لا تثق و لا تسكن إلى حسن ظنك بالعدو-  و كن كالطائر الحذر- .

ثم أمره بالوفاء بالعهود-  قال و اجعل نفسك جنة دون ما أعطيت-  أي و لو ذهبت نفسك فلا تغدر- . و قال الراوندي الناس مبتدأ و أشد مبتدأ ثان-  و من تعظيم الوفاء خبره-  و هذا المبتدأ الثاني مع خبره خبر المبتدإ الأول-  و محل الجملة نصب لأنها خبر ليس-  و محل ليس مع اسمه و خبره رفع لأنه خبر-  فإنه و شي‏ء اسم ليس و من فرائض الله حال-  و لو تأخر لكان صفة لشي‏ء-  و الصواب أن شي‏ء اسم ليس-  و جاز ذلك و إن كان نكرة لاعتماده على النفي-  و لأن الجار و المجرور قبله في موضع الحال كالصفة-  فتخصص بذلك و قرب من المعرفة-  و الناس مبتدأ و أشد خبره-  و هذه الجملة المركبة من مبتدإ

و خبر في موضع رفع-  لأنها صفة شي‏ء-  و أما خبر المبتدإ الذي هو شي‏ء فمحذوف-  و تقديره في الوجود كما حذف الخبر في قولنا-  لا إله إلا الله أي في الوجود-  و ليس يصح ما قال الراوندي من أن أشد مبتدأ ثان-  و من تعظيم الوفاء خبره-  لأن حرف الجر إذا كان خبرا لمبتدإ تعلق بمحذوف-  و هاهنا هو متعلق بأشد نفسه فكيف يكون خبرا عنه-  و أيضا فإنه لا يجوز أن يكون أشد من تعظيم الوفاء-  خبرا عن الناس-  كما زعم الراوندي لأن ذلك كلام غير مفيد-  أ لا ترى أنك إذا أردت أن تخبر بهذا الكلام عن المبتدإ-  الذي هو الناس لم يقم من ذلك صورة محصلة تفيدك شيئا-  بل يكون كلاما مضطربا- . و يمكن أيضا أن يكون من فرائض الله في موضع رفع-  لأنه خبر المبتدإ و قد قدم عليه-  و يكون موضع الناس و ما بعده رفع-  لأنه خبر المبتدإ الذي هو شي‏ء كما قلناه أولا-  و ليس يمتنع أيضا أن يكون من فرائض الله-  منصوب الموضع لأنه حال-  و يكون موضع الناس أشد رفعا-  لأنه خبر المبتدإ الذي هو شي‏ء- .

ثم قال له ع-  و قد لزم المشركون مع شركهم الوفاء بالعهود-  و صار ذلك لهم شريعة و بينهم سنة-  فالإسلام أولى باللزوم و الوفاء- . و استوبلوا وجدوه وبيلا أي ثقيلا-  استوبلت البلد أي استوخمته و استثقلته-  و لم يوافق مزاجك- . و لا تخيسن بعهدك أي لا تغدرن-  خاس فلان بذمته أي غدر و نكث- . قوله و لا تختلن عدوك أي لا تمكرن به-  ختلته أي خدعته- . و قوله أفضاه بين عباده جعله مشتركا بينهم-  لا يختص به فريق دون فريق- .

قال و يستفيضون إلى جواره-  أي ينتشرون في طلب حاجاتهم و مآربهم-  ساكنين إلى جواره-  فإلى هاهنا متعلقة بمحذوف مقدر-  كقوله تعالى فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى‏ فِرْعَوْنَ أي مرسلا-  قال فلا إدغال أي لا إفساد-  و الدغل الفساد-  و لا مدالسة أي لا خديعة-  يقال فلان لا يوالس و لا يدالس أي لا يخادع و لا يخون-  و أصل الدلس الظلمة-  و التدليس في البيع كتمان عيب السلعة عن المشتري- . ثم نهاه عن أن يعقد عقدا يمكن فيه التأويلات-  و العلل و طلب المخارج-  و نهاه إذا عقد العقد بينه و بين العدو أن ينقضه-  معولا على تأويل خفي أو فحوى قول-  أو يقول إنما عنيت كذا-  و لم أعن ظاهر اللفظة-  فإن العقود إنما تعقد على ما هو ظاهر في الاستعمال-  متداول في الاصطلاح و العرف لا على ما في الباطن- . و روي انفساحه بالحاء المهملة أي سعته

فصل فيما جاء في الحذر من كيد العدو

قد جاء في الحذر من كيد العدو-  و النهي عن التفريط في الرأي السكون-  إلى ظاهر السلم أشياء كثيرة-  و كذا في النهي عن الغدر و النهي عن طلب تأويلات العهود-  و فسخها بغير الحق- . فرط عبد الله بن طاهر في أيام أبيه في أمر-  أشرف فيه على العطب و نجا بعد لأي-  فكتب إليه أبوه أتاني يا بني من خبر تفريطك-  ما كان أكبر عندي من نعيك لو ورد-  لأني لم أرج قط ألا تموت-  و قد كنت أرجو ألا تفتضح بترك الحزم و التيقظ- .

و روى ابن الكلبي أن قيس بن زهير-  لما قتل حذيفة بن بدر و من معه بجفر الهباءة-خرج حتى لحق بالنمر بن قاسط و قال-  لا تنظر في وجهي غطفانية بعد اليوم-  فقال يا معاخرج حتى لحق بالنمر بن قاسط و قال-  لا تنظر في وجهي غطفانية بعد اليوم-  فقال يا معاشر النمر أنا قيس بن زهير-  غريب حريب طريد شريد موتور-  فانظروا لي امرأة قد أدبها الغني و أذلها الفقر-  فزوجوه بامرأة منهم-  فقال لهم إني لا أقيم فيكم حتى أخبركم بأخلاقي-  أنا فخور غيور أنف و لست أفخر حتى أبتلى-  و لا أغار حتى أرى و لا آنف حتى أظلم-  فرضوا أخلاقه فأقام فيهم حتى ولد له-  ثم أراد أن يتحول عنهم-  فقال يا معشر النمر إن لكم حقا علي في مصاهرتي فيكم-  و مقامي بين أظهركم-  و إني موصيكم بخصال آمركم بها و أنهاكم عن خصال-  عليكم بالأناة فإن بها تدرك الحاجة و تنال الفرصة-  و تسويد من لا تعابون بتسويده-  و الوفاء بالعهود فإن به يعيش الناس-  و إعطاء ما تريدون إعطاءه قبل المسألة-  و منع ما تريدون منعه قبل الإنعام-  و إجارة الجار على الدهر-  و تنفيس البيوت عن منازل الأيامى-  و خلط الضيف بالعيال-  و أنهاكم عن الغدر فإنه عار الدهر-  و عن الرهان فإن به ثكلت مالكا أخي-  و عن البغي فإن به صرع زهير أبي-  و عن السرف في الدماء-  فإن قتلي أهل الهباءة أورثني العار-  و لا تعطوا في الفضول فتعجزوا عن الحقوق-  و أنكحوا الأيامى الأكفاء-  فإن لم تصيبوا بهن الأكفاء فخير بيوتهن القبور- 

و اعلموا أني أصبحت ظالما و مظلوما-  ظلمني بنو بدر بقتلهم مالكا-  و ظلمتهم بقتلي من لا ذنب له-  ثم رحل عنهم إلى غمار فتنصر بها-  و عف عن المآكل حتى أكل الحنظل إلى أن ماتإِيَّاكَ وَ الدِّمَاءَ وَ سَفْكَهَا بِغَيْرِ حِلِّهَا-  فَإِنَّهُ لَيْسَ شَيْ‏ءٌ أَدْعَى لِنِقْمَةٍ وَ لَا أَعْظَمَ‏لِتَبِعَةٍ-  وَ لَا أَحْرَى بِزَوَالِ نِعْمَةٍ وَ انْقِطَاعِ مُدَّةٍ-  مِنْ سَفْكِ الدِّمَاءِ بِغَيْرِ حَقِّهَا-  وَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مُبْتَدِئٌ بِالْحُكْمِ بَيْنَ الْعِبَادِ-  فِيمَا تَسَافَكُوا مِنَ الدِّمَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ-  فَلَا تُقَوِّيَنَّ سُلْطَانَكَ بِسَفْكِ دَمٍ حَرَامٍ-  فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُضْعِفُهُ وَ يُوهِنُهُ بَلْ يُزِيلُهُ وَ يَنْقُلُهُ-  وَ لَا عُذْرَ لَكَ عِنْدَ اللَّهِ وَ لَا عِنْدِي فِي قَتْلِ الْعَمْدِ-  لِأَنَّ فِيهِ قَوَدَ الْبَدَنِ-  وَ إِنِ ابْتُلِيتَ بِخَطَإٍ-  وَ أَفْرَطَ عَلَيْكَ سَوْطُكَ أَوْ يَدُكَ بِالْعُقُوبَةِ-  فَإِنَّ فِي الْوَكْزَةِ فَمَا فَوْقَهَا مَقْتَلَةً-  فَلَا تَطْمَحَنَّ بِكَ نَخْوَةُ سُلْطَانِكَ-  عَنْ أَنْ تُؤَدِّيَ إِلَى أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ حَقَّهُمْ قد ذكرنا في وصية قيس بن زهير آنفا-  النهي عن الإسراف في الدماء-  و تلك وصية مبنية على شريعة الجاهلية-  مع حميتها و تهالكها على القتل و القتال-  و وصية أمير المؤمنين ع مبنية على الشريعة الإسلامية-  و النهي عن القتل و العدوان الذي لا يسيغه الدين-  و قد ورد في الخبر المرفوع أن أول ما يقضي الله به يوم القيامة بين العباد-  أمر الدماء-  قال إنه ليس شي‏ء أدعى إلى حلول النقم-  و زوال النعم و انتقال الدول-  من سفك الدم الحرام-  و إنك إن ظننت أنك تقوي سلطانك بذلك-  فليس الأمر كما ظننت-  بل تضعفه بل تعدمه بالكلية- . ثم عرفه أن قتل العمد يوجب القود-  و قال له قود البدن أي يجب عليك هدم صورتك-  كما هدمت صورة المقتول-  و المراد إرهابه بهذه اللفظة-  أنها أبلغ من أن يقول له فإن فيه القود- .

ثم قال إن قتلت خطأ أو شبه عمد-  كالضرب بالسوط فعليك الدية-  و قد اختلف‏الفقهاء في هذه المسألة-  فقال أبو حنيفة و أصحابه القتل على خمسة أوجه-  عمد و شبه عمد و خطأ-  و ما أجري مجرى الخطإ و قتل بسبب- . فالعمد ما تعمد به ضرب الإنسان بسلاح-  أو ما يجري مجرى السلاح كالمحدد من الخشب و ليطة القصب-  و المروءة المحددة و النار و موجب ذلك المأثم و القود-  إلا أن يعفو الأولياء و لا كفارة فيه- . و شبه العمد أن يتعمد الضرب بما ليس بسلاح-  و لا أجري مجرى السلاح كالحجر العظيم-  و الخشبة العظيمة-  و موجب ذلك المأثم و الكفارة و لا قود فيه-  و فيه الدية مغلظة على العاقلة- . و الخطأ على وجهين خطأ في القصد-  و هو أن يرمي شخصا يظنه صيدا فإذا هو آدمي-  و خطأ في الفعل و هو أن يرمي غرضا فيصيب آدميا-  و موجب النوعين جميعا الكفارة و الدية على العاقلة-  و لا مأثم فيه- . و ما أجري مجرى الخطإ-  مثل النائم يتقلب على رجل فيقتله-  فحكمه حكم الخطإ-  و أما القتل بسبب-  فحافر البئر و واضع الحجر في غير ملكه-  و موجبه إذا تلف فيه إنسان الدية على العاقلة-  و لا كفارة فيه- . فهذا قول أبي حنيفة و من تابعه-  و قد خالفه صاحباه أبو يوسف و محمد في شبه العمد-  و قالا إذا ضربه بحجر عظيم أو خشبة غليظة فهو عمد-  قال و شبه العمد أن يتعمد ضربه بما لا يقتل به غالبا-  كالعصا الصغيرة و السوط-  و بهذا القول قال الشافعي- . و كلام أمير المؤمنين ع يدل-  على أن المؤدب من الولاة-  إذا تلف تحت‏ يده إنسان في التأديب فعليه الدية-  و قال لي قوم من فقهاء الإمامية أن مذهبنا أن لا دية عليه-  و هو خلاف ما يقتضيه كلام أمير المؤمنين ع: وَ إِيَّاكَ وَ الْإِعْجَابَ بِنَفْسِكَ-  وَ الثِّقَةَ بِمَا يُعْجِبُكَ مِنْهَا وَ حُبَّ الْإِطْرَاءِ-  فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ أَوْثَقِ فُرَصِ الشَّيْطَانِ فِي نَفْسِهِ-  لِيَمْحَقَ مَا يَكُونُ مِنْ إِحْسَانِ الْمُحْسِنِينَ-  وَ إِيَّاكَ وَ الْمَنَّ عَلَى رَعِيَّتِكَ بِإِحْسَانِكَ-  أَوِ التَّزَيُّدَ فِيمَا كَانَ مِنْ فِعْلِكَ-  أَوْ أَنْ تَعِدَهُمْ فَتُتْبِعَ مَوْعِدَكَ بِخُلْفِكَ-  فَإِنَّ الْمَنَّ يُبْطِلُ الْإِحْسَانَ وَ التَّزَيُّدَ يَذْهَبُ بِنُورِ الْحَقِّ-  وَ الْخُلْفَ يُوجِبُ الْمَقْتَ عِنْدَ اللَّهِ وَ النَّاسِ-  قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى-  كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ-  وَ إِيَّاكَ وَ الْعَجَلَةَ بِالْأُمُورِ قَبْلَ أَوَانِهَا-  أَوِ التَّسَاقُطَ فِيهَا عِنْدَ إِمْكَانِهَا-  أَوِ اللَّجَاجَةَ فِيهَا إِذَا تَنَكَّرَتْ-  أَوِ الْوَهْنَ عَنْهَا إِذَا اسْتَوْضَحَتْ-  فَضَعْ كُلَّ أَمْرٍ مَوْضِعَهُ وَ أَوْقِعْ كُلَّ عَمَلٍ مَوْقِعَهُ-  وَ إِيَّاكَ وَ الِاسْتِئْثَارَ بِمَا النَّاسُ فِيهِ أُسْوَةٌ-  وَ التَّغَابِيَ عَمَّا تُعْنَى بِهِ مِمَّا قَدْ وَضَحَ لِلْعُيُونِ-  فَإِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْكَ لِغَيْرِكَ-  وَ عَمَّا قَلِيلٍ تَنْكَشِفُ عَنْكَ أَغْطِيَةُ الْأُمُورِ-  وَ يُنْتَصَفُ مِنْكَ لِلْمَظْلُومِ-  امْلِكْ حَمِيَّةَ أَنْفِكَ وَ سَوْرَةَ حَدِّكَ-  وَ سَطْوَةَ يَدِكَ وَ غَرْبَ لِسَانِكَ-  وَ احْتَرِسْ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ بِكَفِّ الْبَادِرَةِ وَ تَأْخِيرِ السَّطْوَةِ-  حَتَّى يَسْكُنَ غَضَبُكَ فَتَمْلِكَ الِاخْتِيَارَ-  وَ لَنْ تَحْكُمَ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِكَ-  حَتَّى تُكْثِرَ هُمُومَكَ بِذِكْرِ الْمَعَادِ إِلَى رَبِّكَ-وَ الْوَاجِبُ عَلَيْكَ أَنْ تَتَذَكَّرَ مَا مَضَى لِمَنْ تَقَدَّمَكَ-  مِنْ حُكُومَةٍ عَادِلَةٍ أَوْ سُنَّةٍ فَاضِلَةٍ-  أَوْ أَثَرٍ عَنْ نَبِيِّنَا ص أَوْ فَرِيضَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ-  فَتَقْتَدِيَ بِمَا شَاهَدْتَ مِمَّا عَمِلْنَا بِهِ فِيهَا-  وَ تَجْتَهِدَ لِنَفْسِكَ فِي اتِّبَاعِ مَا عَهِدْتُ إِلَيْكَ فِي عَهْدِي هَذَا-  وَ اسْتَوْثَقْتُ بِهِ مِنَ الْحُجَّةِ لِنَفْسِي عَلَيْكَ-  لِكَيْلَا تَكُونَ لَكَ عِلَّةٌ عِنْدَ تَسَرُّعِ نَفْسِكَ إِلَى هَوَاهَا قد اشتمل هذا الفصل على وصايا نحن شارحوها-  منها قوله ع إياك و ما يعجبك من نفسك-  و الثقة بما يعجبك منها- 

 قد ورد في الخبر ثلاث مهلكات شح مطاع و هوى متبع و إعجاب المرء بنفسهو في الخبر أيضا لا وحشة أشد من العجبو في الخبر الناس لآدم و آدم من تراب-  فما لابن آدم و الفخر و العجبو في الخبر الجار ثوبه خيلاء لا ينظر الله إليه يوم القيامةو في الخبر و قد رأى أبا دجانة-  يتبختر-  إنها لمشية يبغضها الله إلا بين الصفين- .

و منها قوله و حب الإطراء-  ناظر المأمون محمد بن القاسم النوشجاني المتكلم-  فجعل يصدقه و يطريه و يستحسن قوله-  فقال المأمون يا محمد-  أراك تنقاد إلى ما تظن أنه يسرني-  قبل وجوب الحجة لي عليك-  و تطريني بما لست أحب أن أطري به-  و تستخذي لي في المقام-  الذي ينبغي أن تكون فيه مقاوما لي و محتجا علي-  و لو شئت أن أقسر الأمور بفضل بيان و طول لسان-  و أغتصب الحجة بقوة الخلافة-  و أبهة الرئاسة لصدقت و إن كنت كاذبا-  و عدلت و إن كنت جائرا و صوبت و إن كنت مخطئا-لكني لا أرضى إلا بغلبة الحجة و دفع الشبهة-  و إن أنقص الملوك عقلا و أسخفهم رأيا-  من رضي بقولهم صدق الأمير- . و أثنى رجل على رجل فقال الحمد لله الذي سترني عنك-  و كان بعض الصالحين يقول إذا أطراه إنسان-  ليسألك الله عن حسن ظنك- . و منها قوله و إياك و المن-  قال الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا-  لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَ الْأَذى‏-  و كان يقال المن محبة للنفس مفسدة للصنع- .

و منها نهيه إياه عن التزيد في فعله-  قال ع إنه يذهب بنور الحق-  و ذلك لأنه محض الكذب-  مثل أن يسدي ثلاثة أجزاء من الجميل-  فيدعي في المجالس و المحافل أنه أسدى عشرة-  و إذا خالط الحق الكذب أذهب نوره- . و منها نهيه إياه عن خلف الوعد-  قد مدح الله نبيا من الأنبياء-  و هو إسماعيل بن إبراهيم ع بصدق الوعد-  و كان يقال وعد الكريم نقد و تعجيل-  و وعد اللئيم مطل و تعطيل-  و كتب بعض الكتاب و حق لمن أزهر بقول أن يثمر بفعل-  و قال أبو مقاتل الضرير قلت لأعرابي-  قد أكثر الناس في المواعيد فما قولك فيها-  فقال بئس الشي‏ء الوعد مشغلة للقلب الفارغ-  متعبة للبدن الخافض خيره غائب و شره حاضر-  و في الحديث المرفوع عدة المؤمن كأخذ باليد-  فأما أمير المؤمنين ع فقال إنه يوجب المقت-  و استشهد عليه بالآية-  و المقت البغض- . و منها نهيه عن العجلة و كان يقال-  أصاب متثبت أو كاد و أخطأ عجل أو كاد-  و في المثل رب عجلة تهب ريثا-  و ذمها الله تعالى فقال خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ- .

و منها نهيه عن التساقط في الشي‏ء الممكن عند حضوره-  و هذا عبارة عن النهي عن الحرص و الجشع-  قال الشنفري

 و إن مدت الأيدي إلى الزاد لم أكن
بأعجلهم إذ أجشع القوم أعجل‏

و منها نهيه عن اللجاجة في الحاجة إذا تعذرت- كان يقال من لاج الله فقد جعله خصما- و من كان الله خصمه فهو مخصوم- قال الغزي

دعها سماوية تجري على قدر
لا تفسدنها برأي منك معكوس‏

و منها نهيه له عن الوهن فيها إذا استوضحت- أي وضحت و انكشفت- و يروى و استوضحت فعل ما لم يسم فاعله- و الوهن فيها إهمالها و ترك انتهاز الفرصة فيها- قال الشاعر

فإذا أمكنت فبادر إليها
حذرا من تعذر الإمكان‏

و منها نهيه عن الاستئثار و هذا هو الخلق النبوي-  غنم رسول الله ص غنائم خيبر و كانت مل‏ء الأرض نعما-  فلما ركب راحلته و سار تبعه الناس-  يطلبون الغنائم و قسمها و هو ساكت لا يكلمهم-  و قد أكثروا عليه إلحاحا و سؤالا-  فمر بشجرة فخطفت رداءه فالتفت فقال-  ردوا علي ردائي-  فلو ملكت بعدد رمل تهامة مغنما-  لقسمته بينكم عن آخره-  ثم لا تجدونني بخيلا و لا جبانا-  و نزل و قسم ذلك المال عن آخره عليهم كله-  لم يأخذ لنفسه منه وبرة- . و منها نهيه له عن التغابي-  و صورة ذلك أن الأمير يومئ إليه-  أن فلانا من خاصته يفعل كذا-  و يفعل كذا من الأمور المنكرة و يرتكبها سرا-  فيتغابى عنه و يتغافل-  نهاه ع عن ذلك و قال-  إنك مأخوذ منك لغيرك أي معاقب-  تقول اللهم خذ لي من فلان بحقي-  أي اللهم انتقم لي منه- .

و منها نهيه إياه عن الغضب-  و عن الحكم بما تقتضيه قوته الغضبية حتى يسكن غضبه-  قد جاء في الخبر المرفوع لا يقضي القاضي و هو غضبان-  فإذا كان قد نهي أن يقضي القاضي-  و هو غضبان على غير صاحب الخصومة-  فبالأولى أن ينهى الأمير عن أن يسطو على إنسان-  و هو غضبان عليه- . و كان لكسرى أنوشروان صاحب قد رتبه و نصبه لهذا المعنى-  يقف على رأس الملك يوم جلوسه-  فإذا غضب على إنسان و أمر به-  قرع سلسلة تاجه بقضيب في يده و قال له-  إنما أنت بشر-  فارحم من في الأرض يرحمك من في السماء: وَ مِنْ هَذَا الْعَهْدِ وَ هُوَ آخِرُهُ-  وَ أَنَا أَسْأَلُ اللَّهَ بِسَعَةِ رَحْمَتِهِ-  وَ عَظِيمِ قُدْرَتِهِ عَلَى إِعْطَاءِ كُلِّ رَغْبَةٍ-  أَنْ يُوَفِّقَنِي وَ إِيَّاكَ لِمَا فِيهِ رِضَاهُ-  مِنَ الْإِقَامَةِ عَلَى الْعُذْرِ الْوَاضِحِ إِلَيْهِ وَ إِلَى خَلْقِهِ-  مِنْ حُسْنِ الثَّنَاءِ فِي الْعِبَادِ وَ جَمِيلِ الْأَثَرِ فِي الْبِلَادِ-  وَ تَمَامِ النِّعْمَةِ وَ تَضْعِيفِ الْكَرَامَةِ-  وَ أَنْ يَخْتِمَ لِي وَ لَكَ بِالسَّعَادَةِ وَ الشَّهَادَةِ-  إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ-  وَ السَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ-  صَلَّى اللَّهِ عَلَيْهِ وَ عَلَى آلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ روي كل رغيبة و الرغيبة ما يرغب فيه-  فأما الرغبة فمصدر رغب في كذا-  كأنه قال القادر على إعطاء كل سؤال-  أي إعطاء كل سائل ما سأله- .

و معنى قوله من الإقامة على العذر-  أي أسأل الله أن يوفقني للإقامة على الاجتهاد-  و بذل الوسع في الطاعة-  و ذلك لأنه إذا بذل جهده فقد أعذر-  ثم فسر اجتهاده في ذلك في رضا الخلق-  و لم يفسر اجتهاده في رضا الخالق لأنه معلوم-  فقال هو حسن الثناء في العباد و جميل الأثر في البلاد- . فإن قلت فقوله و تمام النعمة على ما ذا تعطفه-  قلت هو معطوف على ما من قوله لما فيه-  كأنه قال أسأل الله توفيقي لذا و لتمام النعمة-  أي و لتمام نعمته علي و تضاعف كرامته لدي-  و توفيقه لهما هو توفيقه للأعمال الصالحة-  التي يستوجبهما بها

فصل في ذكر بعض وصايا العرب

و ينبغي أن يذكر في هذا الموضع وصايا-  من كلام قوم من رؤساء العرب-  أوصوا بها أولادهم و رهطهم-  فيها آداب حسان و كلام فصيح-  و هي مناسبة لعهد أمير المؤمنين ع هذا-  و وصاياه المودعة فيه-  و إن كان كلام أمير المؤمنين ع أجل و أعلى-  من أن يناسبه كلام-  لأنه قبس من نور الكلام الإلهي-  و فرع من دوحة المنطق النبوي- .

روى ابن الكلبي قال-  لما حضرت الوفاة أوس بن حارثة أخا الخزرج-  لم يكن له ولد غير مالك بن الأوس-  و كان لأخيه الخزرج خمسة-  قيل له كنا نأمرك بأن تتزوج في شبابك-  فلم تفعل حتى حضرك الموت-  و لا ولد لك إلا مالك-  فقال لم يهلك هالك ترك مثل مالك-  و إن كان الخزرج ذا عدد و ليس لمالك ولد-  فلعل الذي استخرج‏ العذق من الجريمة و النار من الوثيمة-  أن يجعل لمالك نسلا و رجالا بسلا-  و كلنا إلى الموت-  يا مالك المنية و لا الدنية-  و العتاب قبل العقاب و التجلد لا التبلد-  و اعلم أن القبر خير من الفقر-  و من لم يعط قاعدا حرم قائما-  و شر الشرب الاشتفاف و شر الطعم الاقتفاف-  و ذهاب البصر خير من كثير من النظر-  و من كرم الكريم الدفع عن الحريم-  و من قل ذل-  و خير الغنى القناعة و شر الفقر الخضوع-  الدهر صرفان صرف رخاء و صرف بلاء-  و اليوم يومان يوم لك و يوم عليك-  فإذا كان لك فلا تبطر و إذا كان عليك فاصطبر-  و كلاهما سينحسر و كيف بالسلامة لمن ليست له إقامة-  و حياك ربك- .

و أوصى الحارث بن كعب بنيه فقال-  يا بني قد أتت علي مائة و ستون سنة-  ما صافحت يميني يمين غادر-  و لا قنعت لنفسي بخلة فاجر-  و لا صبوت بابنة عم و لا كنة و لا بحت لصديق بسر-  و لا طرحت عن مومسة قناعا-  و لا بقي على دين عيسى ابن مريم-  و قد روي على دين شعيب-  من العرب غيري و غير تميم بن مر بن أسد بن خزيمة-  فموتوا على شريعتي و احفظوا علي وصيتي-  و إلهكم فاتقوا يكفكم ما أهمكم و يصلح لكم حالكم-  و إياكم و معصيته فيحل بكم الدمار-  و يوحش منكم الديار-  كونوا جميعا و لا تفرقوا فتكنوا شيعا-  و بزوا قبل أن تبزوا-  فموت‏ في عز خير من حياة في ذل و عجز-  و كل ما هو كائن كائن و كل جمع إلى تباين-  و الدهر صرفان صرف بلاء و صرف رخاء-  و اليوم يومان يوم حبرة و يوم عبرة-  و الناس رجلان رجل لك و رجل عليك-  زوجوا النساء الأكفاء و إلا فانتظروا بهن القضاء-  و ليكن أطيب طيبهم الماء-  و إياكم و الورهاء فإنها أدوأ الداء-  و إن ولدها إلى أفن يكون-  لا راحة لقاطع القرابة-  و إذا اختلف القوم أمكنوا عدوهم-  و آفة العدد اختلاف الكلمة-  و التفضل بالحسنة يقي السيئة-  و المكافأة بالسيئة دخول فيها-  و عمل السوء يزيل النعماء-  و قطيعة الرحم تورث الهم-  و انتهاك الحرمة يزيل النعمة-  و عقوق الوالدين يعقب النكد و يخرب البلد-  و يمحق العدد-  و الإسراف في النصيحة هو الفضيحة-  و الحقد منع الرفد-  و لزوم الخطيئة يعقب البلية-  و سوء الدعة يقطع أسباب المنفعة-  و الضغائن تدعو إلى التباين-  يا بني إني قد أكلت مع أقوام و شربت-  فذهبوا و غبرت و كأني بهم قد لحقت-  ثم قال

أكلت شبابي فأفنيته
و أبليت بعد دهور دهورا

ثلاثة أهلين صاحبتهم‏
فبادروا و أصبحت شيخا كبيرا

قليل الطعام عسير القيام
قد ترك الدهر خطوي قصيرا

أبيت أراعي نجوم السماء
أقلب أمري بطونا ظهورا

وصى أكثم بن صيفي بنيه و رهطه فقال-  يا بني تميم لا يفوتنكم وعظي إن فاتكم الدهر بنفسي-  إن بين حيزومي و صدري لكلاما لا أجد له مواقع-  إلا أسماعكم و لا مقار إلا قلوبكم-  فتلقوه بأسماع مصغية و قلوب دواعية-  تحمدوا مغبته الهوى‏ يقظان و العقل راقد-  و الشهوات مطلقة و الحزم معقول-  و النفس مهملة و الروية مقيدة-  و من جهة التواني و ترك الروية يتلف الحزم-  و لن يعدم المشاور مرشدا-  و المستبد برأيه موقوف على مداحض الزلل-  و من سمع سمع به-  و مصارع الرجال تحت بروق الطمع-  و لو اعتبرت مواقع المحن ما وجدت-  إلا في مقاتل الكرام-  و على الاعتبار طريق الرشاد-  و من سلك الجدد أمن العثار-  و لن يعدم الحسود أن يتعب قلبه و يشغل فكره-  و يورث غيظه و لا تجاوز مضرته نفسه-  يا بني تميم-  الصبر على جرع الحلم أعذب من جنا ثمر الندامة-  و من جعل عرضه دون ماله استهدف للذم-  و كلم اللسان أنكى من كلم السنان-  و الكلمة مرهونة ما لم تنجم من الفم-  فإذا نجمت مزجت-  فهي أسد محرب أو نار تلهب-  و رأي الناصح اللبيب دليل لا يجوز-  و نفاذ الرأي في الحرب أجدى من الطعن و الضرب- . و أوصى يزيد بن المهلب ابنه مخلدا-  حين استخلفه على جرجان-  فقال له يا بني قد استخلفتك على هذه البلاد-  فانظر هذا الحي من اليمن فكن لهم كما قال الشاعر- 

 إذا كنت مرتاد الرجال لنفعهم
فرش و اصطنع عند الذين بهم ترمي‏

و انظر هذا الحي من ربيعة-  فإنهم شيعتك و أنصارك فاقض حقوقهم-  و انظر هذا الحي من تميم فأمطرهم و لا تزه لهم-  و لا تدنهم فيطمعوا و لا تقصهم فيقطعوا-  و انظر هذا الحي من قيس-  فإنهم أكفاء قومك في الجاهلية-  و مناصفوهم المآثر في الإسلام و رضاهم منك البشر-  يا بني إن لأبيك صنائع فلا تفسدها-  فإنه كفى بالمرء نقصا أن يهدم ما بنى أبوه-  و إياك و الدماء فإنه لا تقية معها-  و إياك و شتم الأعراض-  فإن الحر لا يرضيه عن عرضه عوض-  و إياك و ضرب الأبشار فإنه عار باق و وتر مطلوب-  و استعمل على النجدة و الفضل دون الهوى-  و لا تعزل إلا عن عجز أو خيانة-  و لا يمنعك من اصطناع الرجل-  أن يكون غيرك قد سبقك إليه-  فإنك إنما تصطنع الرجال لفضلها-  و ليكن صنيعك عند من يكافئك عنه العشائر-  احمل الناس على أحسن أدبك يكفوك أنفسهم-  و إذا كتبت كتابا فأكثر النظر فيه-  و ليكن رسولك فيما بيني و بينك من يفقه عني و عنك-  فإن كتاب الرجل موضع عقله و رسوله موضع سره-  و أستودعك الله فلا بد للمودع أن يسكت-  و للمشيع أن يرجع-  و ما عف من المنطق و قل من الخطيئة أحب إلى أبيك- . و أوصى قيس بن عاصم المنقري بنيه فقال-  يا بني خذوا عني فلا أحد أنصح لكم مني-  إذا دفنتموني فانصرفوا إلى رحالكم-  فسودوا أكبركم-  فإن القوم إذا سودوا أكبرهم خلفوا أباهم-  و إذا سودوا أصغرهم أزرى ذلك بهم في أكفائهم-  و إياكم و معصية الله و قطيعة الرحم-  و تمسكوا بطاعة أمرائكم فإنهم من رفعوا ارتفع-  و من وضعوا اتضع-  و عليكم بهذا المال فأصلحوه-  فإنه منبهة للكريم و جنة لعرض اللئيم-  و إياكم و المسألة فإنها آخر كسب الرجل-  و إن أحدا لم يسأل إلا ترك الكسب-  و إياكم و النياحة فإني سمعت رسول الله ص ينهى عنها-  و ادفنوني في ثيابي التي كنت أصلي فيها و أصوم-  و لا يعلم بكر بن وائل بمدفني-  فقد كانت بيني و بينهم-  مشاحنات في الجاهلية و الإسلام-  و أخاف أن يدخلوا عليكم بي عارا-  و خذوا عني ثلاث خصال-  إياكم و كل عرق لئيم أن تلابسوه-  فإنه إن يسرركم اليوم يسؤكم غدا-  و اكظموا الغيظ-  و احذروا بني أعداء آبائكم فإنهم على منهاج آبائهم-  ثم قال‏

   أحيا الضغائن آباء لنا سلفوا
فلن تبيد و للآباء أبناء

 قال ابن الكلبي فيحكي الناس هذا البيت سابقا للزبير-  و ما هو إلا لقيس بن عاصم- . و أوصى عمرو بن كلثوم التغلبي بنيه فقال-  يا بني إني قد بلغت من العمر-  ما لم يبلغ أحد من آبائي و أجدادي-  و لا بد من أمر مقتبل-  و أن ينزل بي ما نزل بالآباء-  و الأجداد و الأمهات و الأولاد-  فاحفظوا عني ما أوصيكم به-  إني و الله ما عيرت رجلا قط أمرا إلا عيرني مثله-  إن حقا فحق و إن باطلا فباطل-  و من سب سب-  فكفوا عن الشتم فإنه أسلم لأعراضكم-  و صلوا أرحامكم تعمر داركم-  و أكرموا جاركم بحسن ثنائكم-  و زوجوا بنات العم بني العم-  فإن تعديتم بهن إلى الغرباء فلا تألوا بهن عن الأكفاء-  و أبعدوا بيوت النساء من بيوت الرجال-  فإنه أغض للبصر و أعف للذكر-  و متى كانت المعاينة و اللقاء-  ففي ذلك داء من الأدواء-  و لا خير فيمن لا يغار لغيره كما يغار لنفسه-  و قل من انتهك حرمة لغيره إلا انتهكت حرمته-  و امنعوا القريب من ظلم الغريب-  فإنك تدل على قريبك و لا يجمل بك ذل غريبك-  و إذا تنازعتم في الدماء فلا يكن حقكم الكفاء-  فرب رجل خير من ألف و ود خير من خلف-  و إذا حدثتم فعوا و إذا حدثتم فأوجزوا-  فإن مع الإكثار يكون الإهذار-  و موت عاجل خير من ضنى آجل-  و ما بكيت من زمان إلا دهاني بعده زمان-  و ربما شجاني من لم يكن أمره‏ عناني-  و ما عجبت من أحدوثة إلا رأيت بعدها أعجوبة-  و اعلموا أن أشجع القوم العطوف-  و خير الموت تحت ظلال السيوف-  و لا خير فيمن لا روية له عند الغضب-  و لا فيمن إذا عوتب لم يعتب-  و من الناس من لا يرجى خيره و لا يخاف شره-  فبكوؤه خير من دره و عقوقه خير من بره-  و لا تبرحوا في حبكم-  فإن من أبرح في حب آل ذلك إلى قبيح بغض-  و كم قد زارني إنسان و زرته فانقلب الدهر بنا فقبرته-  و اعلموا أن الحليم سليم و أن السفيه كليم-  أني لم أمت و لكن هرمت و دخلتني ذلة فسكت-  و ضعف قلبي فأهترت-  سلمكم ربكم و حياكم- .

و من كتاب أردشير بن بابك إلى بنيه-  و الملوك من بعده-  رشاد الوالي خير للرعية من خصب الزمان-  الملك و الدين توأمان لا قوام لأحدهما إلا بصاحبه-  فالدين أس الملك و عماده-  ثم صار الملك حارس الدين-  فلا بد للملك من أسه و لا بد للدين من حارسه-  فأما ما لا حارس له فضائع و ما لا أس له فمهدوم-  إن رأس ما أخاف عليكم مبادرة السفلة-  إياكم إلى دراسة الدين و تأويله و التفقه فيه-  فتحملكم الثقة بقوة الملك على التهاون بهم-  فتحدث في الدين رئاسات منتشرات سرا-  فيمن قد وترتم و جفوتم و حرمتم و أخفتم-  و صغرتم من سفلة الناس و الرعية و حشو العامة-  ثم لا تنشب تلك الرئاسات-  أن تحدث خرقا في الملك و وهنا في الدولة-  و اعلموا أن سلطانكم إنما هو على أجسادكم الرعية-  لا على قلوبها-  و إن غلبتم الناس على ما في أيديهم-  فلن تغلبوهم على ما في عقولهم و آرائهم و مكايدهم-  و اعلموا أن العاقل المحروم سال عليكم لسانه-  و هو أقطع سيفيه-  و إن أشد ما يضر بكم من لسانه-  ما صرف الحيلة فيه إلى الدين-  فكان للدنيا يحتج و للدين فيما يظهر يتعصب-  فيكون‏ للدين بكاؤه و إليه دعاؤه-  ثم هو أوحد للتابعين و المصدقين-  و المناصحين و المؤازرين-  لأن تعصب الناس موكل بالملوك-  و رحمتهم و محبتهم موكلة بالضعفاء المغلوبين-  فاحذروا هذا المعنى كل الحذر و اعلموا أنه ليس ينبغي للملك أن يعرف للعباد و النساك-  بأن يكونوا أولى بالدين منه-  و لا أحدب عليه و لا أغضب له-  و لا ينبغي له أن يخلي النساك و العباد-  من الأمر و النهي في نسكهم و دينهم-  فإن خروج النساك و غيرهم من الأمر و النهي-  عيب على الملوك و على المملكة-  و ثلمة بينة الضرر على الملك و على من بعده- .

و اعلموا أنه قد مضى قبلنا من أسلافنا ملوك-  كان الملك منهم يتعهد الحماية بالتفتيش-  و الجماعة بالتفضيل و الفراغ بالاشتغال-  كتعهده جسده بقص فضول الشعر و الظفر-  و غسل الدرن و الغمر-  و مداواة ما ظهر من الأدواء و ما بطن-  و قد كان من أولئك الملوك-  من صحة ملكه أحب إليه من صحة جسده-  فتتابعت تلك الأملاك بذلك كأنهم ملك واحد-  و كان أرواحهم روح واحدة-  يمكن أولهم لآخرهم و يصدق آخرهم أولهم-  يجتمع أبناء أسلافهم و مواريث آرائهم-  و ثمرات عقولهم عند الباقي منهم بعدهم-  و كأنهم جلوس معه يحدثونه و يشاورونه-  حتى كأن على رأس دارا بن دارا-  ما كان من غلبة الإسكندر الرومي-  على ما غلب عليه من ملكه-  و كان إفساده أمرنا و تفرقته جماعتنا-  و تخريبه عمران مملكتنا-  أبلغ له فيما أراد من سفك دمائنا-  فلما أذن الله عز و جل في جمع مملكتنا و إعادة أمرنا-  كان من بعثه إيانا ما كان-  و بالاعتبار يتقى العثار-  و التجارب الماضية دستور-  يرجع إليه من الحوادث الآتية- .

و اعلموا أن طباع الملوك-  على غير طباع الرعية و السوقة-  فإن الملك يطيف به العز-  و الأمن و السرور و القدرة على ما يريد-  و الأنفة و الجرأة و العبث و البطر-  و كلما ازدادفي العمر تنفسا-  و في الملك سلامة ازداد من هذه الطبائع و الأخلاق-  حتى يسلمه ذلك إلى سكر السلطان-  الذي هو أشد من سكر الشراب-  فينسى النكبات و العثرات و الغير و الدوائر-  و فحش تسلط الأيام و لؤم غلبة الدهر-  فيرسل يده بالفعل و لسانه بالقول-  و عند حسن الظن بالأيام تحدث الغير و تزول النعم-  و قد كان من أسلافنا و قدماء ملوكنا-  من يذكره عزه الذل و أمنه الخوف-  و سروره الكآبة و قدرته المعجزة-  و ذلك هو الرجل الكامل قد جمع بهجة الملوك-  و فكرة السوقة-  و لا كمال إلا في جمعها- .

و اعلموا أنكم ستبلون على الملك-  بالأزواج و الأولاد و القرباء و الوزراء و الأخدان-  و الأنصار و الأعوان و المتقربين و الندماء و المضحكين-  و كل هؤلاء إلا قليلا-  أن يأخذ لنفسه أحب إليه من أن يعطي منها عمله-  و إنما عمله سوق ليومه و ذخيرة لغده-  فنصيحته للملوك فضل نصيحته لنفسه-  و غاية الصلاح عنده صلاح نفسه-  و غاية الفساد عنده فسادها-  يقيم للسلطان سوق المودة-  ما أقام له سوق الأرباح و المنافع-  إذا استوحش الملك من ثقاته أطبقت عليه ظلم الجهالة-  أخوف ما يكون العامة آمن ما يكون الوزراء-  و آمن ما يكون العامة أخوف ما يكون الوزراء- . و اعلموا أن كثيرا من وزراء الملوك-  من يحاول استبقاء دولته و أيامه بإيقاع الاضطراب-  و الخبط في أطراف مملكة الملك-  ليحتاج الملك إلى رأيه و تدبيره-  فإذا عرفتم هذا من وزير من وزرائكم فاعزلوه-  فإنه يدخل الوهن و النقص على الملك و الرعية-  لصلاح حال نفسه-  و لا تقوم نفسه بهذه النفوس كلها- .

و اعلموا أن بدء ذهاب الدولة-  ينشأ من قبل إهمال الرعية بغير أشغال معروفة-  و لا أعمال معلومة-  فإذا نشأ الفراغ تولد منه النظر في الأمور-  و الفكر في الفروع و الأصول- . فإذا نظروا في ذلك نظروا فيه بطبائع مختلفة-  فتختلف بهم المذاهب-  و يتولد من اختلاف مذاهبهم تعاديهم و تضاغنهم-  و هم مع اختلافهم هذا متفقون و مجتمعون على بغض الملوك-  فكل صنف منهم إنما يجري إلى فجيعة الملك بملكه-  و لكنهم لا يجدون سلما إلى‏ ذلك-  أوثق من الدين و الناموس-  ثم يتولد من تعاديهم-  أن الملك لا يستطيع جمعهم على هوى واحد-  فإن انفرد باختصاص بعضهم صار عدو بقيتهم-  ولى طباع العامة استثقال الولاة و ملالهم-  و النفاسة عليهم و الحسد لهم-  و في الرعية المحروم و المضروب-  و المقام عليه الحدود-  و يتولد من كثرتهم مع عداوتهم-  أن يجبن الملك عن الإقدام عليهم-  فإن في إقدام الملك على الرعية-  كلها كافة تغريرا بملكه-  و يتولد من جبن الملك عن الرعية استعجالهم عليه-  و هم أقوى عدو له و أخلقه بالظفر-  لأنه حاضر مع الملك في دار ملكه-  فمن أفضى إليه الملك بعدي-  فلا يكونن بإصلاح جسده أشد اهتماما منه بهذه الحال-  و لا تكونن لشي‏ء من الأشياء-  أكره و أنكر لرأس صار ذنبا-  و ذنب صار رأسا و يد مشغولة صارت فارغة-  أو غني صار فقيرا أو عامل مصروف أو أمير معزول- .

و اعلموا أن سياسة الملك و حراسته-  ألا يكون ابن الكاتب إلا كاتبا-  و ابن الجندي إلا جنديا و ابن التاجر إلا تاجرا-  و هكذا في جميع الطبقات-  فإنه يتولد من تنقل الناس عن حالاتهم-  أن يلتمس كل امرئ منهم فوق مرتبته-  فإذا انتقل أوشك أن يرى شيئا أرفع مما انتقل إليه-  فيحسد أو ينافس-  و في ذلك من الضرر المتولد ما لا خفاء به-  فإن عجز ملك منكم عن إصلاح رعيته كما أوصيناه-  فلا يكون للقميص القمل أصرع خلعا منه-  لما لبس من قميص ذلك الملك- .

و اعلموا أنه ليس ملك إلا و هو كثير الذكر-  لمن يلي الأمر بعده-  و من فساد أمر الملك نشر ذكره ولاة العهود-  فإن في ذلك ضروبا من الضرر-  و أن ذلك دخول عداوة بين الملك و ولي عهده-  لأنه تطمح عينه إلى الملك-  و يصير له أحباب و أخدان يمنونه ذلك-  و يستبطئون موت الملك-  ثم إن الملك يستوحش منه-  و تنساق الأمور إلى هلاك أحدهما-  و لكن لينظر الوالي منكم لله تعالى-  ثم لنفسه ثم للرعية-  و لينتخب وليا للعهد من بعده‏ و لا يعلمه ذلك-  و لا أحد من الخلق قريبا كان منه أو بعيدا-  ثم يكتب اسمه في أربع صحائف و يختمها بخاتمه-  و يضعها عند أربعة نفر من أعيان أهل المملكة-  ثم لا يكون منه في سره و علانيته أمر-  يستدل به على ولي عهده من هؤلاء-  في إدناء و تقريب يعرف به-  و لا في إقصاء و أعراض يستراب له-  و ليتق ذلك في اللحظة و الكلمة-  فإذا هلك الملك جمعت تلك الصحائف إلى النسخة-  التي تكون في خزانة الملك-  فتفض جميعا ثم ينوه حينئذ باسم ذلك الرجل-  فيلقي الملك إذا لنية بحداثة عهده بحال السوقة-  و يلبسه إذا لبسه ببصر السوقة و سمعها-  فإن في معرفته بحاله قبل إفضاء الملك إليه سكرا-  تحدثه عنده ولاية العهد-  ثم يلقاه الملك فيزيده سكرا إلى سكره-  فيعمي و يصم-  هذا مع ما لا بد أن يلقاه أيام ولاية العهد من حيل العتاة-  و بغي الكذابين و ترقية النمامين-  و إيغار صدره و إفساد قلبه على كثير من رعيته-  و خواص دولته-  و ليس ذلك بمحمود و لا صالح- .

و اعلموا أنه ليس للملك أن يحلف-  لأنه لا يقدر أحد استكراهه-  و ليس له أن يغضب لأنه قادر-  و الغضب لقاح الشر و الندامة-  و ليس له أن يعبث و يلعب-  لأن اللعب و العبث من عمل الفراغ-  و ليس له أن يفرغ لأن الفراغ من أمر السوقة-  و ليس للملك أن يحسد أحدا إلا على حسن التدبير-  و ليس له أن يخاف لأنه لا يد فوق يده- .

و اعلموا أنكم لن تقدروا على أن تختموا أفواه الناس-  من الطعن و الإزراء عليكم-  و لا قدرة لكم على أن تجعلوا القبيح من أفعالكم حسنا-  فاجتهدوا في أن تحسن أفعالكم كلها-  و إلا تجعلوا للعامة إلى الطعن عليكم سبيلا- . و اعلموا أن لباس الملك و مطعمه و مشربه-  مقارب للباس السوقة و مطعمهم-  و ليس‏ فضل الملك على السوقة-  إلا بقدرته على اقتناء المحامد و استفادة المكارم-  فإن الملك إذا شاء أحسن و ليس كذلك السوقة- . و اعلموا أن لكل ملك بطانة-  و لكل رجل من بطانته بطانة-  ثم إن لكل امرئ من بطانة البطانة بطانة-  حتى يجتمع من ذلك أهل المملكة-  فإذا أقام الملك بطانته على حال الصواب فيهم-  أقام كل امرئ منهم بطانته على مثل ذلك-  حتى يجتمع على الصلاح عامة الرعية- . احذروا بابا واحدا طالما أمنته فضرني-  و حذرته فنفعني-  احذروا إفشاء السر بحضرة الصغار من أهليكم و خدمكم-  فإنه ليس يصغر واحد منهم عن حمل ذلك السر كاملا-  لا يترك منه شيئا حتى يضعه حيث تكرهون-  إما سقطا أو غشا- .

و اعلموا أن في الرعية صنفا-  أتوا الملك من قبل النصائح له-  و التمسوا إصلاح منازلهم بإفساد منازل الناس-  فأولئك أعداء الناس و أعداء الملوك-  و من عادى الملوك و الناس كلهم فقد عادى نفسه- .

و اعلموا أن الدهر حاملكم على طبقات-  فمنها حال السخاء حتى يدنو أحدكم من السرف-  و منها حال التبذير حتى يدنو من البخل-  و منها حال الأناة حتى يدنو من البلادة-  و منها حال انتهاز الفرصة حتى يدنو من الخفة-  و منها حال الطلاقة في اللسان حتى يدنو من الهذر-  و منها حال الأخذ بحكمة الصمت حتى يدنو من العي-  فالملك منكم جدير-  أن يبلغ من كل طبقة في محاسنها حدها-  فإذا وقف عليه ألجم نفسه عما وراءها- . و اعلموا أن ابن الملك و أخاه و ابن عمه يقول-  كدت أن أكون ملكا و بالحري ألا أموت حتى أكون ملكا-  فإذا قال ذلك قال ما لا يسر الملك-  و إن كتمه فالداء في كل مكتوم-  و إذا تمنى ذلك جعل الفساد سلما إلى الصلاح-  و لم يكن الفساد سلما إلى صلاح قط-  و قد رسمت لكم في ذلك مثالا-  اجعلوا الملك لا ينبغي إلا لأبناء الملوك-  من بنات عمومتهم-  و لا يصلح من أولاد بنات العم إلا كامل غير سخيف العقل-  و لا عازب الرأي و لا ناقص الجوارح-  و لا مطعون عليه في الدين-  فإنكم إذا فعلتم ذلك قل طلاب الملك-  و إذا قل طلابه استراح كل امرئ إلى ما يليه-  و نزع إلى حد يليه و عرف حاله-  و رضي معيشته و استطاب زمانه- . فقد ذكرنا وصايا قوم من العرب-  و وصايا أكثر ملوك الفرس و أعظمهم-  حكمة لتضم إلى وصايا أمير المؤمنين-  فيحصل منها وصايا الدين و الدنيا-  فإن وصايا أمير المؤمنين ع الدين عليها أغلب-  و وصايا هؤلاء الدنيا عليها أغلب-  فإذا أخذ من أخذ التوفيق بيده بمجموع ذلك فقد سعد-  و لا سعيد إلا من أسعده الله

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 17

دیدگاه‌ها

دیدگاهتان را بنویسید

نشانی ایمیل شما منتشر نخواهد شد. بخش‌های موردنیاز علامت‌گذاری شده‌اند *

این سایت از اکیسمت برای کاهش هرزنامه استفاده می کند. بیاموزید که چگونه اطلاعات دیدگاه های شما پردازش می‌شوند.